في بيت هاني

كان هاني بن عروة بن نمران بن عمرو بن قعاص يغوث بن مخدش بن عصر بن غنم بن مالك بن عوف بن منبه بن عطيف المرادي العطيفي (1) من أشراف الكوفة (2) ، وقرائها (3) ، وله منزلة في المصر ، ولبيته في العشيرة منعة ، (4) وله الزعامة الكبرى في مراد ، يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل ، فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألفا (5) ولازم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاستفاد منه آدابا ، (6) وحضر معه في حروبه الثلاثة وأبلى بلاء حسنا (7) وفي يوم الجمل كان يرتجز :

يا لك حرب حشّها جمالها * قائدة ينقصــها ضلالها
هذا علي حوله أقيالها (8)

وأدرك النبي (9) وله يوم قتله بضع وتسعون سنة (10).
____________
1) الاصابة بترجمة عروة المرادي.
2) الأخبار الطوال ص235.
3) الأغاني ج14 ص95.
4) الطبري ج6 ص213.
5) مروج الذهب ج2 ص89.
6) تاريخ ابن عساكر.
7) ذخيرة الدارين ص278.
8) مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص614.
9) الإصابة بترجمة هاني.
10) الإصابة لابن حجر بترجمته.

( 110 )

ولسيدنا بحر العلوم الطباطبائي كلام ضاف في ترجمته في « رجاله » وقد أغرق نزعا في إثبات جلالته والدفاع عنه ، والجواب عما قيل فيه ، وتابعه على رأيه السديد السيد المحقق الأعرجي في « عدة الرجال » وكل من تعرض له من علماء الرجال ، ذكره مترحما ومترضيا عليه ، وبالغ شيخنا الحجة الشيخ عبدالله المامقاني في « تنقيح المقال » بترجمته في مدحه والثناء عليه ، ووافقه المحقق الشيخ عباس القمي في نفس المهموم ص62.
وذكر محمد بن المشهدي من أعيان القرن السادس ، والشريف النقيب رضي الدين ابن طاووس في مزاريهما زيارة خاصة تزار في مشهده ، وفيها وصفه « بالعبد الصالح الناصح لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ » والشهادة بأنه قتل مظلوما وأنه لقسا لله تعالى وهو راض عنه بما فعل ونصح ، وأنه بلغ درجة الشهداء السعداء بما نصح لله تعالى ولرسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ مجتهدا وبذل نفسه في ذات الله ومرضاته ثم الترحم عليه ».
ثم ذكرا بعد الزيارة صلوتها ودعاء الوداع ، وزاد ابن المشهدي « تقبيل القبر ».
وحيث أنهما ذكرا في مزاريهما أن ما أودعاه في كتابيهما على الوجة الذي ظهر لهما من الروايات يتجلّي لنا أن هاتيك الآداب مأثورة عن أهل بيت العصمة ، وجلالة هذين العلمين تفيدنا القطع بعثورهما على أثر حاكم بذلك العمل الخاص حتى لو لم ينصّا في الكتاب على ما حصل لديهما من جهة الرواية وإلا لتسرّب الى نقلهما شبة البدعة في الدين ، وهؤلاء الأعلام في المذهب لا يتورّطون في البدعة التي لا تقال عثرتها . إذا ففي قولهما الحجة البالغة.
ولو سلمنا عدم الورود فلا أقل من أن يكون كلامهما في حقه كشهادة من تقدم من علماء الرجال من أن الرجل متحلي بتلكم الفضائل ، ولو كان لهما كتب في الرجال لاتخذها العلماء من الأصول المسلّمة التي يعوّل عليها في هذا العلم إذ لم يقصر قولهما عن سائر الكتب في تمييز الرجال وبيان الممدوح والثقة منهم كما أن وقولهما في غير هذا العلم حجة قوية يركن اليه ويستشهد به.
ثم يكفينا في القناعة بفضل الرجل وجلالة مقامه عند آل الرسول ترحم سيد الشهداء عليه فإنه ـ عليه السلام ـ لما نزل « الثعلبية » ممسيا أخبر بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وأنهما سُحبا من أرجلهما في الأسواق قال ـ عليه السلام ـ : « إنا لله وإنا إليه


( 111 )

راجعون رحمة الله عليهما » ردد ذلك مرارا (11).
واذا كان ترحم الإمام الحجة الواقف على نفسيات الرجال ومقادير أعمالهم على شخص يعد تزكية له وشهادة منه في نزاهته وطهارته ، وأنه مضى محمود الطريقة متبعا للحنيفية البيضاء فأي رجل مثل هاني بن عروة يقرنه سيد شباب أهل الجنة بنائبه الخاص وخليفته في ذلك المصر المثبت له في صك الولاية شرف الأخوّة له والوثاقة في الأمور وأنه مفضّل عنده من أهل بيته ويترحّم عليه كما ترحم على ابن عمه وداعيته.
ان هذا الترحم من أبي عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ وشهادة أولئك الأعلام تنم عن أن « ابن عروة » كان على أرفع منصّة من الإيمان ومن الراسخين في ولاء العترة الطاهرة ، وأن ما قام به من إتمام البيعة لمسلم ـ عليه السلام ـ في داره وجمع العتاد والأخذ بالتدابير اللازمة لحافز ديني وإيمان بأجر الرسالة المرغوب فيه لسيد النبيين وخاتم الرُسل أجمع.
ولم يزل يلاقي في ذلك المحن والكوارث حتى أودي به شهيدا في سبيل نصرة ابن عم رسول الله ، وهو الذي شارك شريك الأعور في التدبير لقمع جذور الفساد بقتل الدعي ابن مرجانة لكن القدر حال دون ما يريدون.
ومن أمعن النظر في سيرته من كتب التواريخ والمقاتل ولا سيما في رجال آية الله لسيد بحر العلوم الطباطبائي يزداد بصيرة فيما قلناه. وهناك تعرف أن ما تشدّق به ابن أبي الحديد من حكاية أخذه البيعة « ليزيد » من الأقاصيص التي لانعرف سندها ولامن جاء بها ، أراد به تشويه مقام هذا الرجل العظيم الناصح لأهل البيت حتى آخر نفس لفظه ، ومما يزيد في وهنه إعراض أرباب الفن من المنقبين في الآثار عن ذلك والقصة بمرأى منهم.
وكان السبب في انتقال مسلم الى داره أنه لما بلغه خطبة ابن زياد ووعيده ، وظهر له حال الناس ، وفرقهم من ابن زياد خاف أن يؤخذ غيلة فخرج من دار المختار بعد العتمة الى هذا الزعيم الكبير لعلمه بمكانته في المصر وشرفه في العشيرة ، وأنه مهاب الجانب أكثر من المختار مع ولائه الصميم وعقيدته الراسخة ونصرته الصادقة ، فلاقاه هاني بكل ترحيب ، وعلم أن تشريف ابن عقيل محله يعود عليه بأسمى السعادتين اما حياة
____________
11) الطبري ج6 ص225.
( 112 )

مع ابن المصطفة أو شهادة طيبة ودرجات عالية مع النبي الأقدس.
وستعرف في الفصل الآتي من حفظ الجوار المراد من قوله لابن مرجانة آتيك بضيفي وجاري ـ الخ.
ونزل مع مسلم في دار هاني شريك (12) بن عبدالله (13) الأعور الحارثي الهمداني البصري وكان من كبار شيعة علي ـ عليه السلام ـ بالبصرة جليل القدر من أصحابنا (14) شهد معه صفين ، وقاتل مع عمار بن ياسر (15) ولشرفه وجاهه ولآه معاوية كرمان (16) وكانت له مواصلة مع هاني.
ولشريك محاورة مع معاوية تنم عن قوة جنان وذرب لسان ، وان المال مهما تكثر من معاوية لايغويه ، فيخضع له ؛ دخل على معاوية وكان ذميما فقال له معاوية : إنك لذميم والجميل خير من الذميم ، وإنك لشريك وليس لله شريك ، وإنك لأعور والصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك ؟
فقال له شريك : وإنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت لها الكلاب ، وإنك ابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنك ابن صخر والسهل خير الصخر ، وانك ابن أمية وأمية غلا أمة صغّرت فكيف صرت أميرالمؤمنين ، وخرج منه يقول (17) :

أيشتمُني معاوية بن حـرب * وسيفي صـارم ومعي لساني
وحولي من بني يزين ليوث * ضراغمـة تهش الى الطعان
يعير بالدمامة مـن سفــاه * وربّـات الخدور من الغواني
ذوات الحسن والرئبال جُهم * شتيـم وجهـه ماضي الجنان

مسلم لا يغدر :
الفتك من الغدر ولا يوصم به مؤمن يعرف أن شريعة الإسلام جاءت لتحلية
____________
12) الإصابة بترجمة هاني.
13) أنساب الاشراف للبلاذري ج4 قسم ثاني.
14) مثير الأحزان لابن نما ص14.
15) تاريخ الطبري ج6 ص203.
16) النجوم الزاهرة لابن تغربردي ج1 ص143 وابن الأثير ج3 ص206 والأغاني ج17 ص70.
17) ربيع الأبرار للزمخشري في باب الأجوبة المسكتة.

( 113 )

النفوس بالفضائل وتخليتها عن الرذائل ولم يرد الشارع لمن اعتنق دينه القويم إلا أن يكونوا في الغارب والسنام من كل فضيلة رابية فيسلكوا سبل السلام في أعراق طاهرة ومآز عفة ، وقلوب نزيهة ، وجوارح مؤدبة بآداب الله تعالى ، وجوانح ممرّتة بالقداسة.
وجاء في وصية رسول الله لأمير المؤمنين : « إياك والغدر بعهد الله والاخفار لذمته فإن الله جعل عهده وذمته أمانا أمضاه بين العباد برحمته والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره وتبعاته وسوء عاقبته (18) فان كل غادر يأتي يوم القيامة مائلا شدقه (19) وله لواء يعرف به فيقال هذه غدرة فلان (20) ».





وقال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : « الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جنة أوفى منه وما يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيّسا ، ونسبهم أهل الجهل الى حُسن الحيلة ، ما لهم قاتلهم الله . قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لاحريجة له في الدين (21) ».





وقال على منبر الكوفة : « ايها الناس لولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس ألا ان لكل غدرة فجرة ، ولكل فجرة كفرة ، ألا وان الغدر والفجوز والخيانة في النار (22) ».




والغدر لايأتلف مع شيء من المآثر الفاضلة لأنه ينم عن خسّة في الطبع ودناءة في العنصر وعدم المبالات بالنواميس الدينية والبخس لحقوق المسلمين ويشب منه تفريق الكلمة وملاشاة الإلفة واحتدام البغضاء . وان الشريعة المطهرة حاولت ببيانها
____________
18) دعائم الاسلام للقاضي نعمان المصري.
19) الوسائل ج2 ض425 عين الدولة.
20) نهاية الارب للنويري ج3 ص371.
21) شرح النهج ج1 ص216.
22) الوسائل ج2 ص245.

( 114 )

الأوفى بث روح التحابب بين الجامعة البشرية . والغادر يبغضه كل من مسه غدره وكل من عرف شيئا من ذلك ، وكلما اتسعت الدائرة بمرور الزمن ازداد التباغض واشتدت عوامله.
ومن هنا ضربوا المثل بغدرة آل الأشعث وقالوا : أعرق العرب في الغدر آل الأشعث فان عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث غدر بأهل سجستان ، وغدر أبوه محمد بأهل طبرستان ، فإنه عقد بينهم وبينه عهدا فغزاهم فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبابكر وفضحوه ، وغدر الأشعث ببني الحارث بن كعب وكان بينه وبينهم عهد فغزاهم وأسروه ففدى بمائتي فلوس فأدّى مائة وعجز عن البقية ، ولما أسلم أهدره الاسلام ، وغدر قيس ابو الأشعث ببني مراد فإنه كان بينه وبينهم عهد الى أجل وآخره يوم الجمعة فغزاهم يوم الجمعة قالوا له : لم ينته الأجل فكان جوابه أنه لا يحل لي القتال يوم السبت لأنه يهودي فقتلوه وهزموا جيشه ، وغدر معديكرب أبوقيس ببني مهرة وقد كان بينهم صلح فغزاهم غادراً بالعهد فقتلوه وشقوا بطنه وملأوه حصى وقالوا : اشبع لاشبعت يا ابن بغايا ضريه (23).
فالغدر ضامن العثرة ، قاطع ليد النصرة ، والغالب بالغدر مغلول ولا عذر لغادر ، وفي ذلك يقول الشاعر (24) :

أخلق بمن رضي الخيانة شيمة * ألا يُــرى إلا صريـع حوادث
ما زالت الأرزاء تُلحق بؤسها * أبداً بغادر زمّــة أو ناكــث

وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحافلة بالناس للتعريف بغدرة الغادر فتشهره ليتجنبه الناس (25).
وغدرة خالد بن الوليد ببني جذيمة أعقبت ندما ، وجرت له الخزي حين تبرأ النبي من فعلته وغدرته وذلك أنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أرسله هم داعيا لا مقاتلا وكانت بينه وبينهم إحنة فإنهم في الجاهلية قتلوا عمه الفاكهة ، فلما نزل على ماء لهم أخذوا السلام فرقا منه فصاح بهم : ضعفوا السلاح فإن الناس أسلموا فلما وضعوا السلاح آمنين
____________
23) المحبر لابن حبيب النسابة ص244 ، وشرح الصفدي على لأمية العجم ج2 ص201 ، ونهاية الأرب للنويري ج3 ص373.
24) نهاية الأرب للنويري ج3 ص372.
25) شرح الصفدي على لأمية العجم ج2 ص201.

( 115 )

من غدر المسلم أمر جماعته فكتفوهم وقتل منهم مقتلة عظيمة فلما بلغ رسول الله هذا المنكر ساءه ورفع يديه مبتهلا الى الله تعالى : « اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد »



ثم أرسل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ومعه مال ليؤدّي بني جذيمة حتى ميلغة الكلب (26).
على أن الغادر لا يرى للنفوس والأموال والأغراض المحترمة شرعا حرمة فمتى ثارت فيه هذه الخصلة الخسيسة يكون من السهل عليه وأد النفوس ونهب الأموال والنيل من الأعراض ، وكله نقض لغرض المولى سبحانه ، فقد شاء لعباده أن يكونوا متحابّين ليقيموا عمد الحق ، ويرفعوا راية الهدى ، ويتم بهم الاجتماع والتعاون على مناجح الحياة من غير منافة بينهم . وما ذكرناه من تبعات الغدر أعني النفاق والمباغتة والإغتيال لا تخلو من وصمة على المجتمع البشريّ كما توجب منقصة في مروءة الغادر ودرن ردائه والغمز في حسبه.
وهذا في امراء المسلمين وولاة أمرهم أشد من غيرهم لكونهم مرقومون في النفسيات الحميدة قبل أفراد الرعية ، وأن الامم تحتج بملكات ولاتهم وغرائزهم وأعمالهم ، ويكون ما يتصفون به من نواميس المذهب حجة لازمة فإذا تخلوا الأمراء عن هذه الملكات عاد الطعن على المبدأ الديني ، فالواجب على أمير المسلمين ووالى شؤونهم أن يثابر على الشدائد مهما بلغت ، ويقاسي النكبات وان تراكمت ، ولا يغدر ولا يفتك ليكون ذكره بريئا من كل وصمة.
على أن ولاة الأمور حيث كانوا قدوة لجيلهم يكونون اسوة لمن يأتي بعدهم . فيعرف الناس في المستقبل الكشّاف الذي يميط الستار عن نواياهم الحسنة ، وأعمالهم الصالحة ، ومساعيهم المشكورة فاللازم على الوالي أن يرتكب خطة تسير على أثره الرعية في غاياتهم المرموق اليها.
واذا وضح هذا فلا يرتاب أحد في الغاية لمسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ في جوابه لشريك لما لم يقتل ابن زياد.
وذلك أن شريك بن الأعور نزل في دار هاني بن عروة لمواصلة بينهما ولما مرض
____________
26) صحيح البخاري ج3 ص47 في كتاب المغازي ، والإستيعاب بترجمة خالد ، وتاريخ الطبري ج3 ص123 ، وكامل ابن الأثير ج2 ص97 حوادث سنة 8.
( 116 )

أرسل إليه ابن زياد اني عائد لك فاخذ شريك يحرّض مسلم بنعقيل على الفتك بابن زياد وقال له : ان غايتك وغاية شيعتك هلاكه فأقم في الخزانة حتى اذا اطمأن عندي أخرج إليه واقتله وأنا أكفيك أمره بالكوفة معا العافية (27).
وبينا هم على هذا إذ قيل : الأمير على الباب ، فدخل مسلم الخزانة ودخل عبيدالله فلما استبطأ شريك خروج مسلم أخذ عمامته من على رأسه ، ووضعها على الأرض ثم وضعها على رأسه فعل ذلك مرارا ونادى بصوت عال يسمع مسلما :

ما الانتظار بسلمـي لا تحيوهـا * حيوا سليمى وحيوا من يحيهـا
هل شربة عذبة أسقى على ظماء * ولـو تلفت وكانت منيتـي فيها
وإن تخشّيت من سلمى مراقبـة * فلست تأمن يوما مـن دواهيهـا

وما زال يكرّره (28) وعينه رامقة الى الخزانة ثم صاح بصوت رفيع إسقونيها ولو كان فيها حتفي فالتفت عبيدالله إلى هاني وقال : إن ابن عمك يخلط في علته ؟ فقال هاني : ان شريكا يهجر منذ وقع في علته وإنه ليتكلم بما لا يعلم (29) فلما ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك : ما منعك منه ؟ قال ـ عليه السلام ـ : منعني خلتان الأولى حديث عليّ ـ عليه السلام ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن (30) والثانية امرأة هاني فإنها تعلقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي ، فقال هاني : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فرّت منه وقعت فيه (31).
ولبث شريك بعد ذلك ثلاثة أيام وما فصلى عليه ابن زياد ، ودفن
____________
27) مثير الاحزان ص14.
28) رياض المصائب ص60.
29) ابن نما ص14.
30) الطبري ج6 ص204 ، وابن الأثير ج4 ص11 ، والأخبار الطوال ص236 ـ وهذا الحديث تكرر ذكره في الجوامع ، رواه أحمد بن حنبل في المسند ج1 ص166 ، وفي منتخب كنز العمال بهامش المسند لأحمد ج1 ص57 ، والجامع الصغير للسيوطي ج1 ص123 ، وكنوز الحقائق بهامشه ج1 ص95 ، ونص عليه من علمائنا ابن شهر آشوب في المناقب ج2 ص318 ، والبحار في معاجز الصادق ج11 ، وفي وقائع الأيام عن الشهاب في الحكم والآداب.
31) مثير الأحزان لابن نما ص14.

( 117 )

« بالثوية » (32).
ولما وضح لابن زياد أن شريكا يحرض على قتله قال : والله لا أصلى على جنازة عراقي أبدا ، ولولا قبر زاد فيهم لنبشت شريكا (33).
إن القارئ جد عليم بأن الأمة اذا بلغها عن ممثل سيد الشهداء « مسلم بن عقيل » بأنه آثر انتكاث الأمر عليه ، وقدم تضحيته على الفتك بان مرجانة فلم يقدم على اغتياله والغدر به تكريما لنفسه القدسية عن ارتكاب هذه الخصلة الذميمة التي نهى الشارع الأقدس عن ارتكابها ، فلا يقال رسول الحسين وداعيته الى مناهج الرشاد باغت صاحبه في حين لو أجهز عليه لقضى على فاجر فاسق ولكنه ـ عليه السلام ـ ترك ذلك وعرض بنفسه للهلاك تعليما للأمة على اتخاذ مقدسات الأحكام طريقا لاحبا للفوز بالرضوان ، فلا يتجرأ الناس على الملة الحقة ، ولا يباغت الرجل من دونه في غايات طفيفة تسف إليها الطبقات الواطئة.
فالأمة اذا بلغها أن هذا الداعي الى الحق ضحى نفسه ونفيسه دون الفتك والغدر ، وذهب ضحية السؤدد والخطر ، ضحية المجد والكرامة ، كان هذا دليلا للتأسّي به ؛ فإن للشيعة نفوسا نزّاعة الى اقتصاص أثر أهل البيت والإستنارة بضوء تعاليمهم ، ولا محالة تنعقد ضمائرهم على القيام بمثله أو ما يشبه كما تسعه نفوسهم وتنضح به آنيتهم.
فمسلم ـ عليه السلام ـ كبقية رجالات أهل هذا البيت الرفيع أراد بفعله هذا وبقية أعماله أن يفيض على الأمة دروسا أخلاقية لا تعدوه الأمة في التجنب عن رذيلة الفتك والغدر فتستفيد به كما استفادت من كل فرد من شهداء الطف إباء ونخوة وحمية دون القويم.
فهذه الكلمة « الإيمان قيد الفتك » التي أفاضها عالم آل أبي طالب وخليفة الإمام الحجة في الدينيات أوقفتنا على سر من أسرار الشريعة وهو مبغوضية
____________
32) في المعجم مما استعجم ج1 ص350 الثوية موضع وراء الحيرة كان سجنا بناء تبّع وفي معجم البلدان ج1 ص28 كان النعمان يحبس فيه فيقال للمحبوس : ثوي ، فسمي الموضع به ، وهو قريب من الكوفة ودفن فيه المغيرة وأبو موسى الأشعري وزياد وضبطها بالثاء المثلثة مفتوحة بعدها واو مكسورة ثم ياء مشددة بعدها هاء وفي تاج العروس أنها كسمية.
33) ابن الأثير ج4 ص11.

( 118 )

الغدر ، وإن النفوس الطاهرة تأبى للضيف أن يدخل بمن استضافهم ما يكرهون.
وهناك سرّ آخر لتأخر مسلم ـ عليه السلام ـ عن الفتك بابن مرجانة لم تكن الظروف تساعده على كشفه نعرفه من نظائر ما صدر عن المعصومين ؛ فإن أمير المؤمنين لما أتاه ابن ملجم يبايع له وولّى نه قال : « من أراد أن ينظر الى قاتلي فلينظر الى هذا ». فقيل له : ألا تقتله ؟ قال ـ عليه السلام ـ : « يا عجباه تريدون أن أقتل قاتلي (24) ».



وليس مراده ـ عليه السلام ـ بيان عدم جواز القصاص قبل الجناية كما ظنه من لا خبرة له وإنما اراد بيان ما ثبت لديه من أن الله سبحانه قدّر شهادته على يد أشر بريته وأنه عنده كعاقر ناقة صالح ، وقد علم أمير المؤمنين بما أودع الله تعالى فيهم من القوة النورانية التي بها يدركون ما في الكون من حوادث وملاحم كما هو الحق الذي لا محيص عنه ان هذه الشهادة على يد ابن ملجم من القضاء الذي لا مردّ له ، فيكون المعنى كيف أقدر أن أنقض ما أبرمه المولى الجليل عز شأنه من هذه الشهادة.
والى هذا أوعز ـ عليه السلام ـ في كلامه مع ابن ملجم حين مر عليه ورآه نائما على وجهه فعرّفه بأن نومته تلك يمقتها الله تعالى ثم قال له : « لقد هممت بشيء تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك (35) ».




على أن أمير المؤمنين لو فرضنا علمه بتأخر شهادته ذلك الحين لم يقدم على قتل ابن ملجم لأنه به تتجرّى الناس على الفتك بمن يحتملون أنه يريد الإجهاز عليهم ، بل قد يكون العداء فيما بينهم والضغائن التي تحملها جوانحهم حاملا لهم على إزهاق النفوس معتمدين على دعوى العلم أو الظن بذلك فيكثر الهرج وينتشر الفساد.
وعلى ذلك الإساس يكون جواب الحسين لام سلمة حين قالت له : « لا تخزني بخروجك الى العراق فإني سمعت جدك رسول الله يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق يقال لها : كربلا ، وعندي تربتك في قارورة دفعها إليّ النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ.
فقال الحسين :





____________
34) بصائر الدرجات للصفار ص6.
35) البحار ج9 عن أبي الحسن البكري.

( 119 )

« يا أماه وأنا أعلم مقتول مذبوح ظلما وعدوانا ، وقد شاء ربي أن يرى حرمي ورهطي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا. »
قالت أم سلمة : واعجباه فأنى تذهب وأنت مقتول ؟ فقال الحسين :
« يا اماه ان لم أذهب اليوم ذهبت غدا ، وإن لم أذهب في غد ذهبت بعد غد ، وهل من الموت والله بدّ ، واني لأعرف اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أقتل فيها ، والحفرة التي أدفن فيها كما أعرفك ، وأنظر إليها كما أنظر إليك ، وان أحببت يا أماه أن أريك مضجعي ومكان أصحابي »
فطلب منه ذلك ، فأراها تربته وتربة أصحابه (36).
ثم أعطاها من تلك التربة وأمرها أن تحتفظ بها في قارورة فاذا رأتها تفور دما تيقّنت قتله ، وفي اليوم العاشر بعد الظهر نظرت الى القارورتين فاذا هما يفوران دما (37).










وعلى هذا فمن الجائز الممكن أن مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ كان على يقين من شهادته ومحل تربته وانها تكون على يد الدعي ابن الدعي ابن مرجانة ، استفاد ممن أودع عندهم هذا العلم المكنون وهو سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ.
وعلم المعصومين وان كان « صعب مستصعب لا يتحمّله إلا ملك مقرب ، أو نبي مرسل ، أو مؤمن امتحن الله قلبه للايمان » لكنهم ـ عليهم السلام ـ اذا علموا قابليّة من اشرقت عليه أنوار ولايتهم لتحمل تلك الأسرار ، يوقفونهم عليها ، كما أخبر أميرالمؤمنين ميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وعمر بن الحمق ، ورشيد الهجري الى أمثالهم بقتلهم ، وعلى يد من تكون الشهادة ، والوقت الذي يقتلون فيه ، وكما أخبر سيد الشهداء من ثبت معه على التضحية والمفادات.
ومسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ كان في الغارب والسنام من الايمان واليقين والبصيرة النافذة من اولئك الأفذاذ فأي مانع من أن يوقفه أبو عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ على ما يجري عليه من كوارث ومحن حرفا حرفا
____________
36) مدينة المعاجز ص224.
37) الخرايج للراوندي في باب معجزات الحسين.

( 120 )

ثم ان الفتك الذي هو قيد الايمان كما في نص الحديث شامل باطلاقه لكل من أراد الوقعية بالمؤمن سواء من ناحية الإجهاز عليه ، أو من جهة اغتيابه وإظهار عيوبه للناس ، أو من جهة النميمة المثيرة للاحن والبغضاء الموجبة لملاشاة الأخوة بين المؤمنين ، أو من جهة اشاعة الفاحشة التي يقول فيها سبحانه وتعالى : « الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة »
فان في كل ذلك وردت الشريعة المحذّرة عنه ، الحاكمة على مرتكب هذه الجهات بالخروج عن ربقة الإيمان.

حفظ الجوار :
حماية الجار من عادات العرب الفاضلة ولهم في ذلك أيام بيض وصحائف ناصعة وإن تطرّق فيها بعضهم فخرج إلى الرعونة (38) لكنها في الجملة مما يمدحون بها ، ولم يبرحوا متهالكين عليها ، فكانت تراق على ذلك الدماء ، وتقوم الحرب العوان على أشدها لأنها من ولائد الحفاظ والشهامة والغيرة على الأحساب وفيها الابقاء على المستجيرين من عادية المرجفين وجلب ودّهم وودّ ذويهم وقبائلهم ، وسيادة الإلفة وتوارث المحبة ، وظهور الأبهة وبروز المنعة ، واخماد الفتن ودحض الفوضى ، ولعل العداء يعود حنانا بارجاء الفتك لأجل الإستجارة الى التفاهم ، أو تبيين أغراض النمامين المثيرين للعداء أو بالمعاذير المقبولة.
وقد حفظ المؤرخون من قضاياهم في هذه الخصلة التي تتفق مع العقل نأتي على بعضها :
منها قصة « أوفى بن مطر المازني » مع رجل جاوره وعنده امرأة أعجبت أخاه قيسا فلم يصل اليها مع زوجها فقتله غيلة وبلغ ذلك « أوفى » فقتل أخاه قيسا بجاره وقال :

إني ابنة العمريّ لا ثوب فاجـر * لبســت ولا من غدرة أتقنّـع
سعيت على قيس بذمة جــاره * لأمنع عرضي إن عرضي ممنّعُ

____________
38) في غرر الخصائص للوطواط ص16 ، كان حارثة بن مر يسمى مجير الجراد لأنه حمى جرادا لأنه حمى جرادا حط يفنائه ، وكان ثور بن شحمة الضبيّ يسمى مجير الطير فلا تصاد بأرضه ، وحمى زياد الأعجم حمامة تصوت على شجرة فقتلها حبيب وشكاه زياد الى الملهب فالزم حبيبا دية الحر وأعطى زيادا الف دينار.
( 121 )

ومرت سنة مجدبة على بني تيم الله بن ثعلبة فقصد جماعة منهم وهم مالك وعامر وحليحة مجاورة « بدر بن حمران الضبي » فوق لهم حتى أحيوا ورجعوا مسرورين الى وطنهم مكرمين ، وقصد جماعة منهم « مساورا » فجعل يفخر بنسائهم فقال بدر بن حمران :

وفيتُ وفاء لــم ير الناس مثله * بتعشــار إذ تحنو إليّ الأكابـر
ومن يك مبنيا به عـرس جـاره * فإني امرؤ عن عرس جاري جافر

واستجار امرؤ القيس بن حجر الكندي بعامر بن جوين الطائي ثم الجرمي ، فقبّل عامر امرأة امرئ القيس فأعلمته بذلك فارتحل عنه ، واستجار « بأبي حنبل جارية بن مر الطائي ثم الثعلبي » فلم يصادفه فقال له ابن جارية : أنا أجيرك من الناس كلهم إلا من أبي حنبل يعني أباه فرضي امرؤ القيس وتحول إليه ، ولما قدم أبو حنبل رأى كثرة اموال امرئ القيس ، وأعمله ابنه بما شرط له في الجوار فاستشار أهله بذلك فقالوا له : لا ذمة له عندك ، فخرج أبو حنبل الى الوادي ونادى : ألا ان أبا حنبل غادر ، فأجابه الصدى من الجبل بذلك ، ثم نادى : ألا ان أبا حنبل واف ، وأجابه الصدى بذلك ، فقال : الثانية أحسن ثم أتى منزله وحلب جذعة من غنم امرئ القيس وشرب لبنها ومسح بطنه وقال : « اغدر وقد كفاني لبن جذعة » ثم قال :

لقد آليت أغدر في جـذاع * ولو منّيت أمت الربـاع
لان الغدر في الأقوام عار * وان اُلحر يجزأ بالكـراع

ثم عقد له وأعلمه امرؤ القيس فعلة عامر بن جوين بامرأته ، فركب أبو حنبل في أسرته حتى أتى منزل عامر بن جوين ومعه امرؤ القيس فقال له : قبّل امرأة عامر كما قبّل امرأتك ، ففعل (39).
الى غير ذلك من قضاياهم الكثيرة في حفظ الجوار وحماية النزيل ، ولا يشفقون في الدفاع عمن استجار بهم وان كان فيه ذهاب أنفسهم وعشائرهم وأموالهم أو يحصلون على أغراضهم.
وقد جاءت الشريعة المطهرة الحافلة بمكارم الأخلاق الحاثة على السلام والوئام فأقرت تلك الفضيلة ، وأدخلت التحسينات فيها حتى أجازت الإجارة للمشركين قصدا للتأليف ، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى : « وان أحد من المشركين استجارك فأجره » فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : « المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم » وفسّره
____________
39) هذه القضايا في المحبر لابن حبيب ص348 الى ص355.
( 122 )

الامام الصادق ـ عليه السلام ـ بأن جيش المسلمين اذا حاصر قوما من المشركين فأشرف رجل وقال : اعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم واناظره ، فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به (40).
وقام الأئمة من أبنائه ـ عليه السلام ـ بالمحافظة على هذه النواميس التي فيها الإبقاء على الجامعة ، فما زالوا يوصون شيعتهم بحرمة الجوار وان كان المجير عبدا أو امرأة ن وتناهوا فيه حتىعدّوا الإيماء بالأمان لازم الوفاء به ، وان من أعطى الأمان بأي لغة فلا تخفر ذمته ووجب الوفاء به (41).
وانت اذا عرفت ما هتفت به العادة من حُسن حماية الجوار والذبّ عن النزيل ، وما أيّته الشريعة الإلهية تعرف أن ما قام به « هاني بن عروة » من هذه المأثرة في حماية ابن عقيل ـ عليه السلام ـ واجارته مما يمدح عليه في حد ذاته ، لكن في الحقيقة ان ما قام به « هاني » منبعث عما هو أرقى من تلك الناحية وهو جهة دينية وعقيدة راسخة بأن الحسين ـ عليه السلام ـ هو الإمام المفترض طاعته ، وحيث ان « مسلما » ممثل حجة الله على الخلق كان الواجب الأخذ بعضده والدفاع عنه ، وكلاءته عن عادية الشقي وأنه من أداء أجر الرسالة.
وان صبّه في مجلس ابن زياد في قالب التقليد والعادة فقال : إني ما دعوته الى منزلي حتى رأيته على باب داري ، وسألني النزول فاستحييت من ردّه ودخلني من ذلك ذمام ، فأدخلته داري وضيّفته وآويته ـ الخ.
فان هانيا لم يسعه في ذلك الموقف الحرج إلا أن يعتذر بما يقتضيه الحفاظ والغيرة. كيف لا وهوبين ناب الدعيّ ومخلبه مغلوب على أمره فحسب أنه سوف يجديه اخفاء أمر مسلم لكنه لم ينتفع بهذه المعاذير بعد قيام « معقل » جاسوس ابن مرجانة ، وقد أعلم ابن زياد بكل ما وقف عليه من أمر مسلم في دار هاني.
وعلى هذا فما ذكره ابن جرير الطبري من قول هاني لمسلم : لقد كلّفتني شططاً ولولا دخولك داري لسألتك الخروج عنّي غير إنّي يأخذني من ذلك ذمام وليس يردّ مثلي على مثلك عن جهل ، ثم آواه ، وكذا ما ذكره من أن هانيا قال لشريك : لا أحبّ أن يقتل
____________
40) الوسائل ج2 ص425 عين الدولة.
41) المستدرك للنوري ج2 ص250.

( 123 )

ابن زياد في داري (42) ، لا يعبؤبه ؛ لأن ولاء هاني لأهل هذا البيت واعتقاده بكون مناصرتهم واجبه الديني لا يرتاب فيه من يقرأ حياته المفعمة بالمآثر والمفاخر.
ومما يشهد له أن هانيا لو كانت اجارته لمسلم لمحض وقوفه على باب داره ودخوله عليه ، فما الذي ألزمه بادخال الشيعة على مسلم وقد اعترف به ابن جرير حيث قال : « وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني بن عروة » (43).
وكان يهيّء له الأمور يدبر الشؤون يرتّب العساكر ويجمع المال والعتاد (44) ، وفي وسعه أن يقول لمسلم : ادخل أنت وحدك ولا تهج عليّ امرا ساكنا ولا يدخل عليك أحد.
ثم أن المؤامرة الواقعة بين شريك الأعور وبين مسلم بالفتك بابن زياد كانت بمشهد من هاني فلم يمنع منها ، حتى أن مسلما لما اعتذر عن الفتك بأن امرأة هاني سألته أن لا يفعله في دارهم ، قال هاني : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها والذي فرت منه وقعت فيه.
أليس هذا يشفّ عن مرضاة هاني بالفتك بابن مرجانة لما رسخ بين جنبيه من وجوب التنكيل بأعداء آل الرسول ؟ ومن هنا قال لمسلم : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا (45).
____________
42) الطبري ج6 ص204 وص203.
43) الطبري ج6 ص203 ، والاخبار الطوال ص235.
44) الاخبار الطوال ص235.
45) تاريخ الطبري ج6 ص204 وابن الأثير ج4 ص11.