زوجاته وأولاده

تزوج مسلم ـ عليه السلام ـ رقية بنت أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فولدت له عبدالله وعليا (1) ، ومحمد من أم ولد (2) ، وأما مسلم وعبدالعزيز لم يعيّن ابن قتيبة أمهما ، وله بنت اسمها حميدة أمها أم كلثوم الصغرى بنت أمير المؤمنين (3) ، وحيث لا يصح الجمع بن الاختين فلابد من فراق احداهما أو موتها ، وتزوج حميدة ابن عمها وابن خالتها عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، وأمه زينب الصغرى بنت أميرالمؤمنين ، وكان شيخا جليلا محدثا فقيها عده الشيخ الطوسي من رجال الامام الصادق ـ عليه السلام ـ وجزم الترمذي بصدقه ووثاقته ، وخرّج حديثه في جامعه ، كما احتج به أحمد بن حنبل والبخاري وأبو داود وابن ماجة القزويني مات سنة 142 (4) وولدت حميدة محمدا أعقب من خمسة القاسم وعقيل وعلي وطاهر وابراهيم(5).
فأولاد مسلم الذكور خمسة ؛ عبدالله ومحمد استشهدا يوم الطف ، واثنان قتلا بالكوفة ، ولم نقف على شيء من أمر الخامس.
وكان من حديث المقتولين بالكوفة ما يحدث به الشيخ الصدوق عن رجاله قال : اسر طفلان من عسكر الحسين ، فجيء بهما الى ابن زياد ، فدفعهما الى رجل ، وأوصاه
____________
1) المعارف ص88.
2) مقاتل أبي الفرج ص37 ط ايران.
3) عمدة الطالب ص16 ط نجف.
4) تهذيب التهذيب ج6 ص15.
5) عمدة الطالب ص17.

( 158 )

بالتضييق عليهما حتى في الطعام والشراب ، فمكثا في الحبس سنة فقال أحدهما للآخر : لقد طال الحبس بنا ويوشك أن تفنى أعمارنا ، فاذا جاء الشيخ ، فأعلمه بمكاننا من رسول الله لعله يوسّع علينا.
ولما جاء الرجل سألاه هل تعرف محمد بن عبدالله ؟ قال : هو نبيي . ثم سألاه عن جعفر الطيار ، قال : إنه الذي أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة . فسألاه عن علي بن أبي طالب ، قال : إنه ابن عم رسول الله.
فقالا له : نحن من عترة رسول الله نبيك ، ومن أولاد مسلم بن عقيل وقد ضيّقت علينا حتى في الطعام والشراب.
فانكبّ الرجل عليهما يقبّلهما ، ويعتذر من التقصير معهما مع مالهما من المنزلة من رسول الله ، ثم قال لهما : اذا جنّ الليل أفتح لكما باب السجن ، وخذا أيّ طريق شئتما ، ولما أن جاء الليل أخرجهما وقال : سيرا في الليل ، واكمنا في النهار حتى يجعل الله لكما من أمره فرجا.
فهرب الغلامان ، ولما أن جن عليهما الليل انتهيا الى عجوز كانت واقفة على باب دارها تنتظر ختنا لها ، فوقفا عليها وعرفاها بأنهما غريبان من عترة رسول الله لا يهتديان الى الطريق واستضافاها سواد هذه الليلة.
فأدخلتهما البيت وقدّمت لهما الطعام والشراب فأكلام وشربا وباتا راجيين للسلامة ، واعتنق أحدهما الآخر وناما ، وفي تلك الليلة أقبل ختن العجوز وقد أجهده الطلب للغلامين وقص على العجوز هرب الغلامين من سجن ابن زياد ، وانه نادى عسكره من أتاه برأسيهما فله ألفا درهم.
فحذّرته العجوز من العذاب الأليم ، ومخاصمة جدهما محمد ، وأنه لافائدة في دنيا ولاآخرة معها ، فارتاب الرجل من هذا الوعظ ، وظن الغلامين عندها ، ولما ألح على أن تخبره بما عندها وهي كاتمة عليه أمرهما أخذ يفحص البيت عنهما فوجدهما نائمين ، فقال لهما : من أنتما ؟ قالا : إن صدقناك فلنا الأمان ؟ قال : نعم ، فأخذا عليه أمان الله وأمان رسوله ثم جعلا الله عليه شهيدا ووكيلا فأوقفاه على حالهما.
وعند الصباح أمر غلاما له أسود أن يأخذهما الى شاطئ الفرات ويذبحهما ويأتيه برأسيهما.
فلما أخذهما الغلام قالا له : يا أسود ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول


( 159 )

الله أتقتلنا ونحن عترة نبيك ، وقصّا عليه قصّتهما في السجن وما لاقياه من النصب حتى أضافتهما العجوز.
فرقّ الغلام لهما واعتذر منهما ورمى السيف وألقى نفسه في الفرات وعبر الى الجانب الآخر فصاح به مولاه : عصيتني ؟ فأجابه : أنا في طاعتك ما دمت لا تعصي الله فاذا عصيت الله فأنا بريء منك.
فلم يتّعظ الرجل ولا رقّت لهما بل دعا ابنه وقال له : إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك ، والدنيا محرص عليها فاضرب عنقي الغلامين لأحضى برأسيهما عند ابن زياد ، ولما وقف عليهما الولد قالا له : يا شاب أما تخاف على شبابك من نار جهنم ونحن عترة رسول الله محمد . فرقّ الولد لهما وفعل مثل العبد.
فقال الرجل : أنا أتولى ذبحكما ، فقالا له الغلامان : إن كنت تريد الال فانطلق الى السوق وبعنا ولا تكن ممن يخاصمك محمد في عترته ، فما ارعوى عن غيّة ، قالا له : انطلق بنا الى ابن زياد ليرى فينا رأيه ، فأبى . قالا : ألم ترع حرمة رسول الله في آله ، فأنكر قرابتهما من النبي ، فاستعطفاه لصغر سنهما فلم يرقّ قلبه.
فطلبا منه أن يصليا لربهما سبحانه فقال : صليا إن نفعتكما الصلاة ، وبعد أن فرغا رفعا أيديهما الى الله سبحانه وهما يقولان : يا حي يا حليم يا أحكم الحاكمين إحكم بيننا وبينه بالحق.
فقدّم الأكبر وذبحه فتمرّغ الأصغر بدمه وقال : هكذا ألقى رسول الله وأنا مخضّب بدم أخي ، ثم ضرب عنقه ورمى ببدنهما في الفرات وأقبل بالرأسين الى ابن زياد وقصّ عليه ما شاهده منهما.
فاستجاب الله تعالى دعاءهما وحرمه الدنيا والآخرة إذ قال ابن زياد له : إن أحكم الحاكمين حكم بقتلك ، وأمر به فأخذ الىالموضع الذي قتل فيه الغلامين فضربت عنقه ونصب رأسه على قناة والصبيان يرمونه بالحجارة ويقولون : هذا قاتل ذرية رسول الله (6).
وحكى في رياض الأحزان ص3 عن المناقب أنهما من ولد جعفر الطيار اسم أحدهما محمد والآخر ابراهيم.
____________
6) أمالي الصدوق ص51 مجلس 19.
( 160 )

وإن السيرة بين الشيعة علىالمثول بمشهدهما الواقع بالقرب من « المسيب » تفيد القطع به ، وبناء على ما أفادته الرواية من القاء بدنهما في الفرات يكون هذا الموضع أما محل القتل وأما انهما فدفنا هناك.
والتأمل في الرواية يفيد بأنهما لم يأتيا دار العجوز في الليلة التي هربا فيها من السجن ، فإن غاية ما تنص عليه أن ختن العجوز قال لها : ان ابن زياد نادى في عسكره يهرب الغلامين ، وجعل لمن أتاه برأسيهما ألفي درهم ، وقطعا لم يعلم ابن زياد يهربهما في تلك الليلة فلابد أن يكون في صاحبها ، كما لم يعلم مجيء ختن العجوز الى الدار هل هو في الليلة الثانية أو بعدها لأنه كان بصدد التفتيش عنهما ، فالتشكيك في الرواية من جهة بعد الموضع الذي قتلا فيه عن الكوفة التي هي محل حبسهما إنما يتجه لو فرض قبض الرجل عليهما في الليلة التي هربا فيها ، وأما احتمال عثوره عليهما فيما بعها بأكثر فلا.
ثم أن الرواية لم تنص أيضا على كون الحبس في نفس البلد فاحتمال بعض العلماء على أن يكون ابن زياد دفعهما الى الرجل على أن يحبسهما ولو في بيته الخارج عن الكوفة وانه لم يكن بعيدا عن موضع قتلهما بكثير متجه.
ولو انا ماشينا من ينكر هذه الرواية لبعض الاحتمالات فلا نوافقه على الإلتزام ببطلان نسبة هذا المشهد الى ولدي مسلم ـ عليه السلام ـ ، فإن سيرة الشيعة ، والشهرة بينهم تحقق كون المشهد المعروف لولدي مسلم على الاجمال ولم يحصل الشك في أدوارهم اتباعا للخلف على طريقة السلف حتى كثرت زرافات الزائرين لهما تقربا الى الله تعالى مع النذور المهداة إليهما ، والعمارة المتجددة حول القبرين على نحو غير واحد من المشاهد المحقق ثبوتها ، وكل هذا بمشهد من العلماء فلا يعتنى حينئذ بمن تأخذه الوسوسة الى مناحي ممقوتة كما هو شأنه في جملة من المظاهر والمشاعر.


( 161 )

الاحتفال بأمر مسلم

ان الاشادة بذكر عظماء الرجال مما جرى عليه العقلاء شكرا لجميلهم الذي أسدوه الى الأمة وتنشيطا لمن بعدهم وتشويقا لهم على أن ينهضوا بمثل أعمالهم ، وحتى يكون ذلك فاتحة لنشر تعاليهمهم ، وتلقي علومهم ، واقتفاء آثارهم في الأخلاق والحكمة والتذكير بمبادئهم الملائمة للإصلاح ، وتوطيد السلام والوئام ، وما فيه جمام النفس وهدوء المجتمع ، وسعادة البشر دنيا وآخرة.
ولو علم الناس ما في الأخذ بالتعاليم الأحمدية ، وأن الاحتذاء على أثر آل محمد يعود عليهم بالزلفى المباركة لسروا اليهم ، وانسابوا الى ساحتهم ولو حبواً على الركب فإن عندهم المثل العليا ، والحكم البالغة ، والغرائز الكريمة والتعاليم الكافلة لرقي الجامعة الإسلامية ، وتهذيب أفراد المجتمع الحافظ لها عن الملاشاة والتقهقر ، ولعادت أمة الإسلام أرقى الأمم ، وأطولها باعا ، وأبسطها يدا ، غير أن خسة الطباع ، وقصر النظر وضؤولة التفكير وقفت بهم عن السعادة في الحياة.
وغير خفيّ أن داعية الحسين مسلم بن عقيل من أولئك الرجال الذين يجيب أن يخلّد ذكرهم ويقتصّ أثرهم فهو صريخة هاشم ، وسريّ من سروات المجد من آل محمد ، وقد استصلحه سيد الشهداء للنيابة عنه في الكوفة ثقة منه بعلمه وتقواه وعقله وبسالته وكرمه ، فأقبل ـ عليه السلام ـ ناشرا لواء العدل ليكتسح الجور ويكبح جماح الضلال بيد أن نزعات الباطل حالت دون إقامته الأمت وتثقيفه الإود ، فاستشهد دون إكمال رسالته ، ولكنه خلف من بعده هتافا عاليا يسمع الصخر الأصم ، وعقيرته مرتفعة بين لابتي العالم تعيها إذن واعية بأن الحق في دعوة سيد الشهداء ، وأن الباطل فيمن ناوأه ،


( 162 )

وأن مبدأ صحيحا كهذا يجب أن يضحى دونه النفس والنفيس ، ويرخص في سبيله ذلك الدم الغالي الزاكي « دم مسلم بن عقيل » ومن يحذو حذوه من المجاهدين أعضاد الحفاظ الديني وراود الصالح المدني.

المأتم :
فمن الاحتفال بأمره الكاشف عن الخضوع لخطّته والمصافقة على ارتياد مبدئه عقد المأتم له ، وتذكار ما تلفع به من مكارم الأخلاق ، وما جرى عليه من الكوارث على حد فضله الكثار ، وقد قابل تلكم المحن بالصبر والثبات فلم يعط سرىّ هاشم وليث أبي طالب المقادة عن ذلة ، ولا نكص على عقبه فرقا ، ولم يفتأ مكافحا كما شاء له الحفاظ حتى أمسى رافلا بحلة الشهادة بين ذلك الجيل القدسي الزاهر.
فعلى مثل مسلم فليبك الباكون ، وليضجّ الضاجون ، كيف لا وقد بكى عليه الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ قبل أن يُقتل وعد البكاء عليه من علائم الإيمان كما في حديث ابن عباس : أن أميرالمؤمنين عليا ـ عليه السلام ـ قال لرسول الله : « أتحب عقيلا ؟ » قال :
« اي والله أحبه حبين حبا له وحبا لحب أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك تدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون » ثم بكى رسول الله وقال : « الى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي (1) ».






وهذا النص كاف في رجحان البكاء عليه لمن يتطلبه بالخصوص فإن إخبار النبي عن بكاء المؤمنين عليه وارد لبيان كونه محبوبا له لأنه رتّبه على شهادة مسلم المسببة عن محبة الحسين ، ثم قرن البكاء بصلاة الملائكة المقربين ، وهل يصح القول بأن صلاة الملائكة عليه غير محبوبة لله سبحانه ؟ فإذا بكاء المؤمنين وصلاة الملائكة على مسلم المترتّان على شهادته مما يرغب فيه الرسول وهو محبوب لله سبحانه.
ولفظ الحديث وان لم يذكر فيه مسلم صريحا لكنا نعلمه من أفراد لفظ القتل في قوله « وان ولده لمقتول » ولو كان يريد أولاد أجمع لقال : « وان ولده لمقتولون » ثم
____________
1) المجالس ، مجلس 77 ص27.
( 163 )

تعقيبه بالضمائر المفردة شاهد آخر.
على أن النبي بكى عليه قبل شهادته وبكاؤه حجة في الرجحان ولو لم يقترن براجح آخر ، فكيف وقد قرنه بالشكوى الى الله تعالى مما تلقاه عترته من بعده.
ثم أن الأحاديث العامة في البكاء لمن تذكّر مصابهم وما جرى عليهم من الظلم كافية في رجحان البكاء عليه ؛ ففي بعضها عن الصادق ـ عليه السلام ـ : « من دمعت عينه فينا دمعة لدم سُفك لنا أو حق لنا نقصناه ، أو عرض انتهك منا أو لأحد من شيعتنا بوّأه الله بها في الجنة حقبا. »




وفي حديث الأربعمائة أن أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ قال : « إن الله تعالى اطلع الى الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ، يبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا والينا. »




ومن هذا العموم نستفيد رجحان البكاء على أولاد المعصومين أيضا ممن كانت نهضته وهتافه بين الأمة لإحياء أمر الأئمة والدعوة اليهم حتى جرى عليهم من الظلم بازهاق النفوس والتنكيل بالحبوس ما تسيخ له الجبال . فاستدرار الدموع لمظلومية هؤلاء المتسببة عن مظلومية أهل البيت يكون مشمولا لهذه الأحاديث قطعا.

الزيارة :
ومن الإحتفال بأمر مسلم ـ عليه السلام ـ قصد مشهده بالزيارة خصوصا يوم مقتله وهو التاسع من ذي الحجة وتلاوة ألفاظ الزيارة المأثورة التي نص عليها العلماء الثقات كابن المشهدي الذي هو من أعيان القرن السادس ، والشريف النقيب رضي الدين ابن طاووس الذي هو من أعيان القرن السابع . فقد ذكر الأول في « المزار الكبير » والثاني في « مصباح الزائر » اذنا للدخول في الحرم المطهر وأوله : « الحمدلله الملك الحق المبين ، المتصاغر لعظمته جبابرة الطاغين ، المعترف بربوبيته جميع أهل السموات والأرضين ، المقر بتوحيده سائر





( 164 )

الخلق أجمعين ، وصلى الله على سيد الأنام وأهل بيته الكرام صلاة تقرّبها أعينهم ، ويرغم بها أنف شانئهم من الإنس والجن أجمعين.
سلام الله العلي العظيم ، وسلام ملائكته المقربين ، وأنبيائه المرسلين ، وأئمته المنتجبين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصديقين والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح عليك يا مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، ـ الى قوله ـ : قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن.






وأما الزيارة في داخل الحرم فأولها : السلام عليك أيها العبد الصالح ، المطيع لله ولرسوله ولأميرالمؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام ، الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله ، ـ الى قوله ـ : فجمع الله بيننا وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين فإنه أرحم الراحمين.





وبعد الفراغ من الزيارة يصلي ركعتين ويهديهما له . ويقول بعد الفراغ منهما : اللهم صل على محمد وآل محمد ، ولا تدع لي ذنبا إلا غفرته ـ الى قوله ـ : إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.




وعند وداعه يقف على القبر ويقول : أستودعك الله وأسترعيك ، وأقرأ عليك السلام ـ الى قوله ـ : فإني قد رضيت بذلك يا رب العالمين.



وقد اتفق هذان العالمان على هذه الآداب والسنن في مزاريهما اللذين لم يزالا مخطوطين حتى اليوم ، إلا في إبتداء سلام الإذن فقد ابتدأ ابن المشهدي من قوله : سلام الله العلي العظيم وسلام ملائكته المقربين.
ومن أراد الوقوف عليهما فلينظر مزار البحار للمجلسي ـ أعلا الله مقامه ـ فقد طابقنا « المزارين » مع ما نقله عنهما فلم يكن فيه تغيير (2).
وإن في ذلك من التّنوية بمقامه الرفيع وموقفه الشامخ وفضله الجم ، ومصائبه المؤلمة ما يلين الأفئدة ويستدرّ الدموع ، ويوصل إلى ما وصفناه من الغايات الكريمة ، وظاهر تلكم الآداب والسنن كونها مأثورة لأن سردها مرتّبة كما في زيارات المعصومين ـ عليهم السلام ـ لا يمكن صدوره من علماء الدين بلا تخريج عن الأئمة بحيث يكون
____________
2) تقدم في العنوان المتعلق بهاني بن عروة ما ذكراه من الزيارة المتعلقة به والصلاة بعدها.
( 165 )

الداعي الى ترتيب تلك الآداب محض الإستحسان والمناسبة ، لأن في الإقدام على هذا بعنوان أنه من الشريعة يستلزم الوقوع في ورطة البدعة التي لا تقال عثرتها ، وحاشا علماء المذهب الصحيح ارتكاب ما لم يرد من الشرع ؛ كيف وهم يقرؤون ليلهم ونهارهم قول الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ : « كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. »



ومما يشهد لذلك أن الشيخ الكليني يقول في خطبة كتاب « الكافي » : وقلت أنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع جميع فنون الدين بالآثار الصحيحة عن الصادقين ـ عليهم السلام ـ ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنة نبيه ، وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت.
وقال الشيخ الصدوق في أول « من لا يحصره الفقيه » : إني لم أقصد قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه بل قصدت الى ايراد ما أفتى به ، وأحكم بصحته ، وأعتقد أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع.
وقال ابن الشمهديّ في أول « المزار الكبير » : إني جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهدة ، وما ورد من الترغيب في المساجد المباركة والأدعية المختارة ، وما يدعى به عقيب الصلوات ، وما يناجى به القديم تعالى من لذيذ الدعوات ، وما يلجأ اليه من الأدعية عند المهمات مما اتصلت به من ثقات الرواة الى السادات الأطهار ـ عليهم السلام ـ.
وقال الشريف النقيب ابن طاووس في آخر « مصباح الزائر » : ان ما وقع اختياره عليه في الكتاب وصل على الوجه الذي استحسنته وأعتمد عليه من جهة الرواية.
وان ما ذكرناه في ترجمة الشريف المطبوعة في كتابه « الملاحم » تفيد القارئ معرفة بجلالته وسعة اطلاعه ومقامه عند العلماء ، واما ابن المشهدي فهو أبو عبدالله محمد ابن جعفر بن جعفر المشهدي الحائري ، ووصفه بهما صاحب المعالم في إجازته الكبيرة ، كان ـ أعلا الله مقامه ـ جليلا في الطائفة ، متبحّزا في أخبار أهل البيت ، واسع الرواية ، عظيم المنزلة بين العلماء ، متكرر الذكر في الإجازات.
روى عن جماعة يزيدون على اثنين وعشرين منهم يحيى بن البطريق ، والشيخ


( 166 )

ورام صاخب « تنبيه الخاطر » ، وهبة الله بن نما الحلي ، والسيد عز الدين ابن زهرة ، وشاذان بن جبرئيل القمي الى غيرهم.
وروى عنه محمد بن جعفر بن هبة الله بن نما بن علي بن حمدون الحلي المعروف بابن نما على الإطلاق ، وذكر أن والده أجاز له أن يروي كتاب المقنعة للشيخ المفيد عنه ، عن محمد بن جعفر بن المشهدي ، وكان ابن المشهدي يقول : قرأتها ولم أبلغ العشرين على الشيخ ابي منصور محمد بن الحسن بن منصور النقاش الموصلي ، وهو طاعن في السن وأخبره : أنه قرأها في أول عمره على الشريف النقيب المحمدي الموصلي وهو طاعن في السن ، وأخبره : أنه قرأها في أول عمره على المصنف الشيخ المفيد ـ أعلا الله مقامه ـ.
ولم نقف على تحديد عمر ابن المشهديّ بالتحقيق غير أنه أرّخ سماعه في مجلس عماد الدين الطبري بسنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في مشهد أميرالمؤمنين ، وإجازته من ابن الحمد النحوي في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ، وقراءته على الشيخ عربي بن مسافر ، وهبة الله بن نما بن علي بن حمد في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة في ربيع الأول فهو من علماء القرن السادس.
له كتاب المصباح وايضاح المناسك والمزار الكبير الذي ينقل عنه السيد ابن طاووس في كتبه ، والسيد عبدالكريم في « فرحة الغريّ » ، وصاحب المزار القديم وهو من مصادر « بحار الأنوار » لشيخنا المجلسي ـ أعلا الله مقامه ـ. (3)

الشعر :
ومن الاحتفال بأمر مسلم ـ عليه السلام ـ تأبينه بسرد مآثره وبث فوادحه لتكون خالدة مع الدهر يرتل سطور نهضته الجديدان ، وتسير بها الركبان وتضمها طيّات الكتب وصحائف المجاميع ، وتشدو بها خطباء المنابر ، وتصيخ إليها الأسماع ، وتعيها إذن واعية ، فتتأثر بها النفوس ، وترقّ لها القلوب ، وبها يكون الولاء لمسلم ـ عليه السلام ـ مزيج روحية الملأ المستتبع لتحرّي مبادئه الصحيحة التي ضحّى نفسه لانتشارها ، وتمهيد الطريق اليها ، وأول من وقفنا عليه مما رُثي به قول شاعره :
____________
3) المستدرك للنوري ج3 ص365 وص477 وإجازة صاحب المعالم الكبيرة في البحار ج25 كتاب الإجازات.
( 167 )

فإن كنتَ لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانــىء في السوقَ وابن عقيلَ
إلى بطـل قــد هشّم السيـف أنفهُ * وآخر يهـوي من طمــار قتيــل
أصابهما أمر الأميــر فأصبحــا * أحاديث من يســري بكل سبيــل
ترى جســدا قد غيّـر الموت لونه * ونضح دم قـد ســال كــل مسيل
فتــى هـو أحيــا من فتاة حييّة * وأقطـع من ذي شفرتيــن قتيــل
أيركب أسمـاء الهماليــج آمنــا * وقـد طلبـتــه مذحـج بذحــول
تطوف حوالـيــه مــراد وكلهم * على رقبــة من سائــل ومسـولِ
فإن أنتــم لم تثــأروا بأخيكــم * فكونوا بغايـا أرضيــت بقليــل

وهذه الأبيات نسبها في رياض المصائب ص268 الى الفرزدق ، وفي اللهوف ص32 صيدا ، وكامل ابن الاثير ج4 ص15 قيل : أنها للفرزدق ، وزاد في اللهوف : أن بعضهم يراها لسليمان الحنفي ، ونسبها الدينوري في الأخبار الطوال ص242 الى عبدالرحمن بن عبدالله الأسدي ، وفي البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص157 نسبها إلى الشاعر ، وفي نقله أنها قصيدة ولكنه ذكر منها خمسة أبيات ، وعند ابن الأثير في الكامل ، وأبي الفرج في المقاتل ، والشيخ المفيد ، وابن نما : أنها لعبد الله بن الزبير الأسدي (4).
ولكن في نص الأغاني ج13 ص31 : أن عبدالله بن الزبير من شيعة بني أمية وذي الهوى فيهم والتعصب والنصرة على عدوهم ،وأنه لايمالئ أحدا عليهم ولا على عمالهم ، وكان عبيدالله بن زياد يصله ويكرمه ويقضي ديونه وله فيه مدائح منها :

اليك عبيدالله تهـوى ركابنـــا * تعسّف مجهــول الفلاة وتدأب
وقد ضمرت حتى كــأن عيونها * نطاف فـلاة ماؤهــا متصبّب
فقلت لهــا لا تشتكي الأين أنه * أمامك قرم من أميــة مصعب
إذا ذكروا فضل امرئ كان قبلـه * ففضل عبيدالله أثــرى وأطيب
وإنك لو نشفي بك القـرح لم يعد * وأنت على الأعداء ناب ومخلب
تصافى عبيدالله والمجـد صفـوة * الحليفين ما أرسى ثبيـر ويثرب
وأنت إلى الخيـرات أول سابـق * فأبشر فقد أدركت ما كنت تطلب

____________
4) في كامل ابن الأثير ج4 ص15 الزبير بفتح الزاء المعجمة وكسر الباء الموحدة.
( 168 )

ويقول في مدح اسماء بن خارجة وكان يكرمه ويصله :

فمن مثل أسماء بن حصن اذا عدتْ * شآبيبه أم أي شـــيء يعادلــه
وكنـت إذا لاقيت منهم حطيطــة * لقيت ابا حســان تنـدى أصائله
تضيّفه غسـان يرجــون سيبـه * وذو يـمــن اجيوشـهُ ومقاولـه
فتى لا يزال الدهر ما عاش مخضبا * ولو كان بالموتــان يجدي رواحله
فأصبح ما في الأرضِ خلـق علمتِه * من الناسِ إلا باعُ أسمــاء طائُلـه
تــراهُ اذا ماجئتَــه متـهــلّلاً * كأنّك تعطيهِ الــذي أنتَ نائلُــه
ولوْ لمْ يكنْ في كفّهِ غيــرُ روحهِ * لجادَ بهــا فَلْيتّقِ الله سـائـلــه
ترى الجندَ والأعـرابَ يغشونَ بابَهُ * كما وردتْ مـاء الكلاب نواهلــهُ
اذا ما أتوا أبوابَــهُ قالَ مرحبــاً * لجوا البابَ حتّى يقتلَ الجوعَ قاتلُـه
ترىَ البازلَ البختى فوقَ خوانِــه * مقطّعــةً أعضـاؤهُ ومفاصلُــه
إذا ما أتوا أسمــاءَ كـان هوَ الذي * تحلّبُ كفــاهُ الندَى وأناملُــه (6)

وهل يستطيع أحد بعد مدائحه وعقيدته وتزعته الأموية أن ينسب الأبيات إليه خصوصا ، وقد ذكر أبو الفرج أن أسماء بن خارجة له ذكر قبيح عند الشيعة يعدّونه في قتلة الحسين ، ومعاوناً لعبيدالله بن زياد على هاني بن عروة حتى قتله ، ونصره على مسلم بن عقيل وذكر ذلك شاعرهم فقال (7) :

أيركب أسماء الهماليج آمنا * وقد طلبتـه مذحج بقتيــل

فنسب هذا البيت وهو في جملة تلك الأبيات الى شاعر الشيعة وقد عرفت أن عبدالله بن الزبير أموي الرأي ومادحا ليزيد بن معاوية وليس من شيعة آل علي.
نعم ، نسبة تلك الأبيات الىالفرزدق قريبة جدا لتشيّعه وموالاته الأكيدة لآل علي ـ عليه السلام ـ والذّب عنهم وهجاء من عاداهم ، وكونه حاجّا بأمه سنة ستين لا يدفع نسبتها إليه ؛ إذ من القريب أنه أنشأها بعد رجوعه من الحج وقد بلغه فعل الدعي ابن مرجانة بعترة الرسول ومن آواهم ولبّى دعوتهم.
____________
5) الجيشان لقب عبدالرحمن بن حجر بن ذي رعين واليه ينسب الجيشانيون والمقاول جمع مقول كثير يقال لملك اليمين أو ملوك حمير خاصة : القاموس وتاج العروس.
6) الأغاني ج13 ص33 وص37.
7) الأغاني ج13 ص35.