صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: 316 ـ 330
(316)
يحرضهم على لعن علي ، فمن أبى عرضه على السيف !! (1) ».
     وأما في البصرة. فانه استعمل عليها بسر بن أرطاة « فكان يخطب على منبرها فيشتم علياً ، ويقول : ناشدت اللّه رجلاً علم أني صادق الا صدقني أو كاذب الا كذبني ». قال الطبري في تاريخه : « فقال له أبو بكرة : اللهم انا لا نعلمك الا كاذباً ! ، قال : فأمر به فخنق ، ثم أنقذوه منه !! (2) ».
     واما في المدينة ، وواليه عليها مروان بن الحكم ، فكان لا يدع سب علي عليه السلام على المنبر كل جمعة. قال ابن حجر المكي : « وكان الحسن يعلم ذلك ولا يدخل المسجد الا عند الاقامة ، فلم يرض بذلك مروان ، حتى أرسل الى الحسن في بيته بالسب البليغ لابيه وله !! (3) ».
     « ولما حج معاوية ـ بعد الصلح ـ طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقاص ، فلما فرغ انصرف معاوية الى دار الندوة ، فأجلسه معه على سريره ، ووقع معاوية في علي وشرع في سبه ، فزحف سعد ، ثم قال : أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي !. واللّه لأن يكون فيَّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحبّ اليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس !. واللّه لأن اكون صهر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، لي من الولد ما لعلي ، أحب اليَّ من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس !. وللّه لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لي ما قاله يوم خيبر : لاعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبه اللّه ورسوله ويحب اللّه ورسوله ، ليس بفرّار ، يفتح اللّه على يديه ، أحب اليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس !. واللّه لأن يكون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لي ما قاله له في غزوة تبوك : ألا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي ، أحب اليَّ من ان يكون لي ما طلعت عليه الشمس ! ، وايم اللّه
1 ـ المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 99 ).
2 ـ الطبري ( ج 6 ص 96 ) وابن الاثير ( ج 3 ص 105 ).
3 ـ يراجع النصائح الكافية ( ص 73 الطبعة الاولى ).


(317)
لادخلت لك داراً ما بقيت (1) ».
     وروى المسعودي من جواب معاوية لسعد ، ما نربأ بقلمنا عن التصريح به لقبحه ، ولكنه على كل حال دليل جديد على مبلغ اسفاف الرجل في خلقه وفي آدابه وفي مجاملاته ..
4
الوفاء بالشرط الرابع
    قال الطبري ( ج 6 ص 95 ) : « وحال أهل البصرة بينه ـ يعني بين الحسن ـ وبين خراج دارابجرد ، وقالوا : فيئُنا ».
     وقال ابن الاثير ( ج 3 ص 162 ) : « وكان منعهم ـ يعني منع أهل البصرة ـ بأمر من معاوية ايضاً !! ».
5
الوفاء بالشرط الخامس
    وكان الشرط ـ كما علمت ـ هو العهد بالامان العام ، والامان لشيعة علي على الخصوص ، وأن لا يبغي للحسنين عليهما السلام وأهل بيتهما غائلة سراً ولا جهراً.
     وللمؤرخين فيما يرجع الى موضوع هذا الشرط نصوص كثيرة ، بعضها وصف للكوارث الداجية التي جوبه بها الشيعة من الحكام الامويين في عهد معاوية ، وبعضها قضايا فردية فيما نكب به معاوية الشخصيات الممتازة من أصحاب أمير المؤمنين ، وبعضها خيانته تجاه الحسن والحسين خاصة. وليكن عرضنا لهذه النصوص هنا على الترتيب المذكور ايضاً.
1 ـ المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 ص 81 ـ 82 ).

(318)

(319)


(320)
    كانت السياسة الاموية التي وضعها معاوية ثم تبعه عليها الامراء الامويون من بعده ، هي أن يخلقوا من أنفسهم سادة يستأثرون بكل محمدة في الناس ، فما الكرم ولا الحلم ولا الدهاء ولا الشجاعة ولا الفصاحة الا بعض هباتهم الخاصة التي احتجزوها من دون الناس جميعاً ، وقد وضعوا في سبيل تركيز هذه السياسة المتعمدة ، التاريخ الزائف الذي ظل يفيض بسلسلة من الاحاديث الموضوعة ، والقصص المصطنع ، والاكاذيب المنوعة ، والادعاء الفارغ ، وأمروا الوّعاظ المأجورين ، ومعلمي الكتاتيب في سائر بلدان المملكة الاسلامية ، بدراسة الامالي الاموية بما فيها من مدح زائف أو قدح كاذب ، وعملوا كل ما كان بوسعهم أن يعملوه ليثيروا في قلوب الناشئة من أولاد الناس الغرور بحبهم ، والانقياد المطلق لدهائهم ، فاذا بهذه الناشئة بعد لأي جنود لامية يتخاصمون بدمائهم البريئة لاهدافها ، واذا بسيول الدماء تصبغ بقاع الارض لتستقيم صفوف الخدم والحشم والوكلاء والمقدمين في بلاد الاسياد المتغلبين.
     ولم يكن ثمة هدف آخر غير هدف الاستئثار بالسيادة والملك والثراء واللذات الدنيوية الرخيصة ، وهو ما كان يضيق به المعنيون بدينهم من آل محمد صلى اللّه عليه وآله ، ومن المسلمين الثابتين على الاخلاص للّه في اسلاميتهم ، ومن هنا كان مبعث الشقاق المتواصل الحلقات بين هذه الطبقة من أموية الاسلام ، وتلك الفئة من حملة تراث الاسلام ودعاته المخلصين.
     جاء في تاريخ الطبري ( ج 7 ص 104 ) استطراد مقتضب يرفعه الى زيد بن أنس عن الوضع العام الذي كان يرزح تحته معاشر الشيعة في أيام معاوية ، وكان فيما يقوله أحدهم وهو يخاطبهم : « انكم كنتم تقتلون


(321)
وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم !! ».
     والحديث على اقتضابه تفصيل غريب ومعرض رهيب لم يحدثنا المسعودي الا بطرف منه فيما نقلناه عنه قريباً.
     أما المدائني المتوفى سنة 225 ، وسليم بن قيس المتوفي سنة 70 ، فانهما عرضا صورة كاملة من هذه المعارض الرهيبة والمآسي الكئيبة ، وكان سليم بن قيس أحد شهودها المروّعين بها ، لانه عاش معاصراً لمعاوية ومات بعده بعشر سنين ، ولا شاهد كشاهد عيان ، ولذلك فلنؤثر لفظه ، وان كان المدائني يكاد لا يختلف عنه في قليل ولا كثير ، قال :
     « قدم معاوية حاجاً ـ في خلافته ـ بعدما قتل أمير المؤمنين وصالح الحسن .. واستقبله أهل المدينة وفيهم قيس بن سعد ـ وكان سيد الانصار وابن سيدهم ـ فدار بينهما الحديث حتى انتهيا الى [ الخلافة ] . فقال قيس : ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لاحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي وولده من بعده. فغضب معاوية .. ونادى مناديه وكتب بذلك نسخة واحدة الى عماله : ( ألا برئت الذمة ممن روى حديثاً في مناقب علي وأهل بيته !! ). وقامت الخطباء في كل كورة ومكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب والبراءة منه ، والوقيعة في أهل بيته ، واللعنة لهم بما ليس فيهم. ثم ان معاوية مرّ بحلقة من قريش ، فلما رأوه قاموا اليه غير عبد اللّه بن عباس ، فقال له : يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك الا لموجدة عليّ بقتالي اياكم يوم صفين ، يا ابن عباس ان ابن عمي عثمان قتل مظلوماً ، قال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوماً فسلم الامر الى ولده ، وهذا ابنه. قال : ان عمر قتله مشرك ، قال ابن عباس : فمن قتل عثمان ؟ قال : قتله المسلمون ، قال : فذلك أدحض لحجتك ، ان كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس الا بحق ، قال : فانا كتبنا الى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ وأهل بيته ، فكف


(322)
لسانك يا ابن عباس. قال : فتنهانا عن قراءة القرآن ؟ قال : لا ، قال : فتنهانا عن تأويله ؟ قال : نعم ، قال : فنقرأه ولا نسأل عما عنى اللّه به ؟ قال : نعم ، قال : فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به ؟ قال : العمل به ، قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى اللّه بما أنزل علينا ؟ قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك ، قال : انما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط ؟! قال : فاقرأوا القرآن ولا ترووا شيئاً مما أنزل اللّه فيكم ومما قال رسول اللّه ، وارووا ما سوى ذلك! قال ابن عباس : قال اللّه تعالى : يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. قال معاوية : يا ابن عباس اكفني نفسك وكف عني لسانك ، وان كنت لابد فاعلاً فليكن سراً ولا تسمعه أحداً علانية ! ـ ثم رجع الى منزله واشتد البلاء بالامصار كلها على شيعة علي وأهل بيته ، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة ، واستعمل عليها زياداً ، وجمع له العراقين ، وكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عالم ، لأنه كان منهم ، فقتلهم تحت كل كوكب ، وتحت كل حجر ومدر واحلأهم وأخافهم ، وقطع الايدي والارجل منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشردهم ، وكتب معاوية الى قضاته وولاته في الامصار أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه شهادة !! وكتب الى عماله ، انظروا من قبلكم من شيعة عثمان الذين يروون فضله ويتحدثون بمناقبه فأكرموهم وشرّفوهم ، واكتبوا الي بما يروي كل واحد منهم فيه باسمه واسم أبيه ، وبعث اليهم بالصلات والكُسا ، وأكثر القطائع للعرب والموالي فكثروا ، وتنافسوا في المنازل والضياع ، واتسعت عليهم الدنيا ، ثم كتب الى عماله : ان الحديث قد كثر في عثمان فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوهم الى الرواية في أبي بكر وعمر ، فقرأ كل قاض وأمير كتابه على الناس ، وأخذ الناس في الروايات فيهم وفي مناقبهم ، ثم كتب نسخة جمع فيها جميع ما روي فيهم من المناقب ، وأنفذها الى عماله ، وأمرهم بقراءتها على المنابر. وفي كل


(323)
كورة ، وفي كل مسجد ، وأمرهم أن ينفذوا الى معلمي الكتاتيب أن يعلموها صبيانهم حتى يرووها ويتعلموها كما يتعلمون القرآن حتى علموها بناتهم ونساءهم وخدمهم ـ ثم كتب الى عماله نسخة واحدة : ( انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ) ، ثم كتب كتاباً آخر : ( من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة فاقتلوه !! ) فقتلوهم على التهم والظن والشبه تحت كل كوكب ، حتى لقد كان الرجل يسقط بالكلمة فتضرب عنقه!!. وجعل الامر لا يزداد الا شدة ، وكثر عددهم ، وأظهروا أحاديثهم الكاذبة فنشأ الناس على ذلك ، لا يتعلمون الا منهم. وكان أعظم الناس في ذلك القرّاء المراؤون المتصنعون الذين يظهرون الحزن والخشوع والنسك ويكذبون ، ليحظوا عند ولاتهم ، ويصيبوا بذلك الاموال والقطائع والمنازل. حتى صارت أحاديثهم في أيدي من يحسب انها حق فرووها وعلموها. وصارت في أيدي المتدينين الذين لا يستحلون الكذب ، فقبلوها وهم يرون أنها حق ، ولو علموا انها باطل لم يرووها ولم يتدينوا بها ، فلما مات الحسن بن علي عليه السلام. لم تزل الفتنة والبلاء يعظمان ويشتدان ».
     اقول : وروى مثل ذلك بكامله ابو الحسن المدائني فيما أخذه عنه ابن أبي الحديد ( ج 3 ص 15 ـ 16 ) وقال في آخره :
     « فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام ، فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الارض ».
     وكان هذا أسلوباً من الحوادث تستسيغه المحاكمة في ظروف الفريقين ، ويصدقه التناسق التاريخي في تسلسل الاحداث. ولا يضيره اغفال المؤرخين الآخرين لأنهم ـ ولنعذرهم ـ انما كانوا يكتبون للسياسة القائمة ، أو لما لا يضيرها على الاقل.
     وتقدم أن الطبري والمسعودي ألمحا الى كل ذلك باختصار. وعلى


(324)
هذا فمصادر هذه المادة : سليم بن قيس ، المدائني ، ابن ابي الحديد ، الطبري ، المسعودي.
     وفي سبيل اللّه أشلاء مضرجة ، وشمل شتيت ، وحطام من مساكن يشرد أهلها أو يساقون الى الجزر سوق القطيع! فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
     وتلك هي تعبئة معاوية لاقتناص الخلافة في الاسلام له ولبنيه !.
     وتلك هي طريقته البكر في وفائه بعهود اللّه ومواثيقه !.
    وزاد سليم بن قيس بعد ذلك فقال :
     « ولما كان قبل موت معاوية بسنة ، حج الحسين بن علي وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر فجمع الحسين بني هاشم ، ثم رجالهم ونساءهم ومواليهم ومن حج منهم من الانصار ، ممن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل بيته ، ثم أرسل رسلاً : لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله المعروفين بالصلاح والنسك الا اجمعوهم لي ، فاجتمع اليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل ، وهم في سرادقه ، عامتهم من التابعين ، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. فقام فيهم خطيباً.
     « فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فان هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم. واني أريد أن اسألكم عن شيء فان صدقت فصدقوني وان كذبت فكذبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا الى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس ، ووثقتم به فادعوهم الى ما تعلمون من حقنا. فاني أتخوف أن يدرس هذا الامر ويذهب الحق ويغلب ، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون.
     « وما ترك شيئاً مما أنزله اللّه فيهم من القرآن الا تلاه وفسره ، ولا


(325)
شيئاً مما قاله رسول اللّه صلى الله عليه وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته الا رواه .. وكل ذلك يقول أصحابه ، اللهم نعم وقد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللهم قد حدثني به من أصدقه وأئتمنه من الصحابة. فقال : أنشدكم اللّه الا حدثتم به من تثقون به وبدينه ».
    معاوية وزعماء الشيعة
    وكان موقف معاوية من زعماء الشيعة بعد صلحه مع الحسن موقف المنتقم الحاقد الذي لا تأخذه بهم رأفة ولا ذمة ولا « عهد » ، وكان لخوفه من الدعاوة الفعالة التي يحملها هؤلاء السادة من زعماء الشيعة أثره فيما توفر عليه من القصد الى ايذائهم واقصائهم وقتلهم والتنكيل بهم. ولسنا الآن بسبيل استقصاء ما عمله معاوية تجاه هؤلاء الشيعة ، ولا استقصاء ما كان ينويه بهم من خطط بعيدة الاهداف. ولكننا ـ لندل على مدى وفاء هذا الاموي بشروطه وأيمانه ـ سنورد في هذا الفصل بعض أعماله تجاههم وبعض نواياه بهم. وفي قليل من هذه الامثلة كفاية عن الكثير آثرنا تركه أو خفي علينا علمه.
     وقد خسر تاريخ هؤلاء الشيعة انصاف المؤرخين بعد ذلك ، ولعب التعصب الذميم دوره المهم في طمس معالم هذا التاريخ أحفل ما يكون بالقضايا البارزة التي كان من حقها أن تأخذ مكانها من عبرة الاجيال. وكان للسلطات الحاكمة عملها في توجيه ما يكتب للتاريخ أو يملى للحديث ، حتى فيما يتناول أئمة الشيعة فضلاً عن زعمائهم أو سوادهم.
     « روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا .. قال : ان اكثر الاحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً اليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم !.
     « وقال المدائني عن عصر معاوية : وظهر حديث كثير موضوع ،


(326)
وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان اعظم الناس في ذلك بليةً القراء المراؤون ، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الاحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقرّبوا مجلسهم ، ويصيبوا به الاموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الاخبار والاحاديث الى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها ، وهم يظنون انها حق ، ولو علموا انها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها (1) ».
     وقال ابن أبي الحديد : « وذكر شيخنا أبو جعفر الاسكافي .. أن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام ، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه. منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة. ومن التابعين عروة بن الزبير (2) ».
     اقول : وشيء قليل من حيدة في النظر ودقة في الاستنتاج يكفينا للقناعة بألوان التصرفات الكيفية الواسعة النطاق التي نكب بها كل من حديث الاسلام وتاريخ أحداثه معاً. حتى لقد يعز على المتتبع في ماجريات الحوادث الاسلامية الاولى ان لا يجد قضية من مهمات القضايا الاسلامية يومئذ سلمت في تناسقها التاريخي من الاصطدام بالمفارقات البعيدة التي تغمرها بالشك ، ثم لا تزال تأخذ بها بين التيارات المتعاكسة ذات اليمين وذات الشمال.
     ولا حاجة بنا بعد ذلك الى جمع الشهادات والتصريحات على شيوع الوضع (3) وكثرة الوضاعين ، لان خير شهود كل شيء ما كان منه مباشرة.
     وكانت قضية الحسن بن علي عليهما السلام بملابساتها وذيولها احدى
1 ـ و 2 ـ ابن أبي الحديد ( ج 3 ص 16 ) و ( ج 1 ص 358 ).
3 ـ وللعلامة الاميني النجفي في « كتاب الغدير » ( ج 5 من ص 185 الى 329 ) بحثه القيم عن الوضاعين الكذابين جمع فيه ستمائة وعشرين كذاباً وضاعاً ممن سلكهم القوم في رواة الحديث والتاريخ. فليراجع.


(327)
هاتيك القضايا التي لعبت الاهواء في التحدث عنها وضعاً ورفعاً وجمعاً وتفريقاً ، وفقدت تحت تأثير هذا التلاعب المؤسف الذي لم يكن كله مقصوداً ، كما لم يكن كله غير مقصود ، روعة واقعها الاول. وكان من طبيعة هذا الوضع أن تختلف عليه الافهام ، ويكثر حوله النقض والابرام. وما هي الا كنموذج واحد من قضايا كثيرة في تاريخ الاسلام ظلمها التاريخ وجللها بالظلام.
     وانهم ليعرفون ، وهم يؤرخون الحسن ، مكانة الحسن في التاريخ ويعلمون أنهم انما يكتبون عن « أحد الاحدين » في العالم الاسلامي كله.
     فكيف بهم اذا جاوزوا فيما يؤرخون مثل هذه النقطة المركزة ، الى نقاط لا تبلغ في موضوعها خطورة امام ؟.
     لذلك يجب أن لا نطمع في موضوع [ معاوية وزعماء الشيعة ] بالحصول على الحقائق الكافية التي تملأ نهم البحث ، ولا بالوقوف على الاحصاءات الصحيحة التي تسدّ نطاق الموضوع ، بما يتناسب وحديث المدائني ، وتفاصيل سليم بن قيس.
     ذلك لأن كل شيء من هذا القبيل ، وكل شيء من تاريخ الشيعة الصحيح ، قد طغت عليه التصرفات المعارضة ، وأكلته الاكاذيب المأجورة على طول التاريخ.
     وليس لنا الآن ، الا أن نعود فنتسقط الاخبار من هنا ومن هنالك لنعرض شيئاً له صورته التاريخية التي نعتقد أنها ـ على فظاعتها ـ قليل من كثير ، وبعض من كل.
     واليك الآن القائمة المحزونة التي تحمل أسماء هؤلاء بما فيهم من صحابة وتابعين ، ولندرس على ضوء هذه القائمة جواب معاوية على الشرط الخامس من شروط معاهدة الصلح. ثم لنتدرج مع فقرات هذا الشرط فيما نأتي عليه من فصول.


(328)
أ ـ الشهداء المقتولون صبراً
    1 ـ حجر بن عدي الكندي :
    يعرف بحجر الخير ، ويكنى بأبي عبد الرحمن بن عدي بن الحرث بن عمرو بن حجر المقلب بآكل المرار [ ملك الكنديين ] . وقيل هو ابن عدي بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الاكرمين من كندة (1) ، ومن ذؤابتها العليا.
     صحابي من أعيان أصحاب علي وابنه الحسن عليهما السلام ، وسيد من سادات المسلمين في الكوفة ومن أبدالها.
     وفد هو وأخوه هانئ بن عدي على النبي صلى اللّه عليه وآله ، قال في الاستيعاب : « كان حجر من فضلاء الصحابة ، وصغر سنه عن كبارهم » ، وذكره بمثل ذلك في أسد الغابة ، ووصفه الحاكم في المستدرك بأنه : « راهب
1 ـ وكندة هي من بني كهلان ، وبلادهم في اليمن ، ثم كان من كبرائهم في العراق ـ وكهلان وحمير ابنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وسبأ اسم يجمع القبيلتين كلتيهما. وكان يقال : ان العرب تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف بعد بيت هاشم بن عبد مناف أربعة بيوت : بيت قيس الفزاري ، والدارميين ، وبني شيبان ، وبيت اليمن من بني الحارث بن كعب ـ واما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات انما كانوا ملوكاً. ومنهم « الملك الضليل ـ امرؤ القيس » وكان لهم ملك باليمن وبالحجاز ـ وبقي لكندة مجدها في الاسلام ، فمن كندة من كان له ذكر في الفتوح والثورات ، ومنهم من ولي الولايات ، ومنهم من تقلد القضاء كحسين بن حسن الحجري ، ومنهم الشعراء كجعفر بن عفان المكفوف شاعر الشيعة ، وكان هانئ بن الجعد بن عدي ـ ابن أخي حجر ـ من أشراف الكوفة ، وكان جعفر بن الاشعث وابنه العباس بن جعفر من شيعة الامام ابي الحسن موسى بن جعفر وابنه الرضا عليهما السلام. اما الاشعث بن قيس الكندي فكان اكبر منافقي الكوفة. أسلم ثم ارتد بعد النبي ثم أسلم وقبل أبو بكر اسلامه ، وزوجه أخته وهي أم محمد بن الاشعث ، وتزوج الامام الحسن ابنته ، وهي التي سقته السم باغراء معاوية اياها.

(329)
أصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ».
     وبلغ من عبادته أنه ما أحدث الا توضأ وما توضأ الا صلى. وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وكان ظاهر الزهد ، مجاب الدعوة (1) ، ثقة من الثقات المصطفين ، اختار الآخرة على الدنيا حتى سلم نفسه للقتل دون البراءة من امامه ، وانه مقام تزل فيه الاقدام وتزيغ الاحلام.
     كان في الجيش الذي فتح الشام ، وفي الجيش الذي فتح القادسية ، وشهد الجمل مع علي ، وكان أمير كندة يوم صفين ، وأمير الميسرة يوم النهروان ، وهو الشجاع المطرق الذي قهر الضحاك بن قيس في غربي تدمر. وهو القائل : « نحن بنو الحرب وأهلها ، نلقحها وننتجها ، قد ضارستنا وضارسناها ».
     ثم كان أول من قتل صبراً في الاسلام.
     قتله وستة من أصحابه معاوية بن أبي سفيان سنة 51 في « مرج عذراء » بغوطة دمشق على بعد 12 ميلاً منها. وقبره الى اليوم ظاهر مشهور ، وعليه قبة محكمة تظهر عليها آثار القدم في جانب مسجد واسع ، ومعه في ضريحه أصحابه المقتولون معه وسنأتي على ذكرهم.
     وهدم زياد ابن أبيه دار حجر في الكوفة.
    السبب في قتله
    أنه كان يرد على المغيرة وزياد حين يشتمان علياً عليه السلام ، ويقول : « أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ، ومن تزكون أولى بالذم ، وكان
1 ـ قال في الاصابة ( ج 1 ص 329 ) : « أصابته جنابة ـ وهو أسير ـ فقال للموكل به أعطني شرابي أتطهر به ، ولا تعطني غداً شيئاً ، فقال : أخاف ان تموت عطشاً فيقتلني معاوية. قال : فدعا اللّه فانسكبت له سحابة بالماء ، فأخذ منها الذي احتاج اليه فقال له أصحابه : ادع اللّه أن يخلصنا ، فقال : اللهم خر لنا ».

(330)
اذا جهر بكلمته هذه ، وافقه أكثر من ثلثي الناس ، وقالوا : « صدق واللّه حجر وبر ».
     أما المغيرة بن شعبة فقد قدر المعنويات التي تعزز حجراً كصحابي فاضل ، وكرأس من رجالات علي في الكوفة ، وكأمير عربي يرث تاج الكنديين من أقرباء الجدود ، وسمع بأذنيه تأييد الناس دعوته غير آبهين بالقوة ، ولا خائفين نقمة السلطان ، فرأى أن يتمهل في أمره وأن يعتذر الى ذوي مشورته الذين كانوا يحرضونه على التنكيل به. ثم قال لهم : « اني قد قتلته ». قالوا : « وكيف ذلك؟ » قال : « انه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه ، فيأخذه عند اول وهلة فيقتله شر قتلة ». وكان المغيرة في موقفه من حجر المنافق الحكيم ، وكذلك كان فيما أجاب به صعصعة بن صوحان يوم فتنة المستورد بن علفة الخارجي سنة 43 قال له : « واياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئاً من فضل علي علانية ، فانك لست بذاكر من فضل علي شيئاً أجهله ، بل أنا أعلم بذلك !!. ولكن هذا السلطان ـ يعني معاوية ـ قد ظهر ، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس ، فنحن ندع كثيراً مما أمرنا به ، ونذكر الشيء الذي لا نجد من ذكره بداً ، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية (1) ».
     وولي ابن سمية الكوفة بعد هلاك المغيرة سنة 50 أو 51 ، فرأى أن يخدم أمويته « المزعومة » بقتل حجر بن عدي ليريحها من أكبر المشاغبين عليها. ولكنه جهل أن دم حجر سيظل يشاغب على تاريخ أمية ما عرف الناس هذين الاسمين.
     وأطال الوالي الجديد خطبته يوم الجمعة حتى ضاق وقت الصلاة ـ ولصلاة الجمعة وقتها المحدود ـ فقال حجر ـ وكان لا يفارق جمعتهم وجماعتهم ـ : « الصلاة ! » فمضى زياد في خطبته. فقال ثانياً : « الصلاة ! » فمضى في خطبته. وخشي حجر فوت الفريضة فضرب بيده الى كف من
1 ـ الطبري ( ج 6 ص 108 ).
صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: فهرس