صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: 361 ـ 374
(361)


(362)
    وبقي بين فجوات هذه الاحداث خلاء ملحوظ في التاريخ ، لم تملأه المصادر التي بين أيدينا بالعروض التي تناسب تلك الاحداث.
     رأينا ـ الى هنا ـ مبلغ وفاء معاوية بما أخذه على نفسه من شروط.
     وعلمنا ـ الى هنا ـ ان المعاهدة بأبوابها الخمس ، لم تلق من الرجل أية رعاية تناسب تلك العهود والمواثيق والايمان التي قطعها على نفسه. فلا هو حين تسلم الحكم عمل على كتاب اللّه وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين. ولا ترك الامر من بعده للشورى ، أو لصاحب الحق فيه. ولا أقلع عن شتم علي عليه السلام. ولكنه زاد حتى ملأ منابر الاسلام سباباً وشتماً. ولا وفى بخراج. ولا سلم من غوائله شيعة علي وأصحابه. ولكنه ـ وبالرغم من كل هذه الشروط والعهود ـ طالعهم بالاوليات البكر والافاعيل النكر من بوائقه :
     فكان أول رأس يطاف به في الاسلام منهم ، وبأمره يطاف به.
     وكان أول انسان يدفن حياً في الاسلام منهم ، وبأمره يفعل به ذلك.
     وكانت اول امرأة تسجن في الاسلام منهم ، وهو الآمر بسجنها.
     وكان أول شهداء يقتلون صبراً في الاسلام منهم ، وهو الذي قتلهم.
     واستقصى معاوية بنود المعاهدة كلها بالخلف !!.
     فاستقصى أيمانه المغلظة بالحنث ، ومواثيقه المؤكدة التي واثق اللّه تعالى عليها بالنقض !! ..
     فأين هي الخلافة الدينية يا ترى ؟؟ ..


(363)
    وبقيت آخر فقرة من المعاهدة ، تحاماها معاوية لانها كانت ادق شروطها حساسية وأروعها وقعاً. وكان عليه اذا اساء الصنيع بهذه الفقرة ان يتحدى القرآن صراحة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مباشرة.
     فصبر عليها ثماني سنين ، ثم ضاق بها ذرعاً ، وثارت به أمويته التي كان لا يزال يصارع لصاقتها ، بأمثال هذه الافاعيل ، ليعود بها أموية صريحة تشهد لهند بالبراءة من قالة الناس وشهادات المؤرخين ، وليكون ابن أبي سفيان حقاً !.
     فما لابن أبي سفيان ولرسول اللّه ؟. وما لابن هند وكتاب اللّه ؟.
     وكانت مطفئة الرضف التي أنست الناس الرزايا قبلها.
     ثم هي أول ذل دخل على العرب ـ كما قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه ـ.
     بل أول ذل دخل على الناس ـ كما قال أبو اسحق السبيعي رحمه اللّه ـ.
     وكانت بطبيعتها ، أبعد مواد المعاهدة عن الخيانة ، كما كانت بظروفها وملابساتها أجدرها بالرعاية. وكانت بعد نزع السلاح ولف اللواء والالتزام من الخصم بالوفاء ، أفظع جريمة في تاريخ معاوية الحافل بالجرائم.
     وما في المدينة ـ موطن الحسن عليه السلام ـ ولا في أهل البيت ، ولا في شيعة الحسن ، ولا في جميع ما يمت الى الحسن بسبب أو نسب ، أي موجب يستدعي الوهم ، أو يوقظ الريبة ، أو يثير الظنون بأمر يخشاه معاوية على دنياه.
     اذاً ، فما هذا الغَدر وما هو العُذر ؟ ..
     وأين تلك العهود والعقود والايمان التي لا تبلغ قواميس اللغة أشد منها الفاظاً غلاظاً وتأكيداً شديداً ؟.
     ترى ، فهل نعتذر عن معاوية بما اعتذر به الاغرار المنسوبون الى الاسلام عن ابنه يزيد في قتله الحسين ابن رسول اللّه عليه وعلى جده أفضل الصلاة والسلام ، فقالوا : « شاب مغرور ، الهته القرود وغلبت عليه الخمور والفجور ؟. ».


(364)
    فأين ـ اذاً ـ حنكة معاوية ودهاؤه المزعوم ؟. وأين سنّه الطاعنة وتجاربه في الامور ؟.
     ان بائقة الاب هذه ، كانت هي السبب الذي بعث روح القدوة في طموح الابن. فليشتركا ـ متضامنين ـ في انجاز أعظم جريمة في تاريخ الاسلام ، تلك هي قتل سيدي شباب أهل الجنة الاحدين الذين لا ثالث لهما. وليتعاونا معاً ، على قطع « الواسطة الوحيدة » التي انحصر بها نسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. والجريمة ـ بهذا المعنى ـ قتل مباشر لحياة رسول الله بامتدادها التاريخي !!.
     نعم ، والقاتلان ـ مع ذلك ـ هما الخليفتان في الاسلام !! ..
     فوا ضيعة الاسلام ان كان خلفاؤه من هذه النماذج !! ..
    وكان الدهاء المزعوم لمعاوية هو الذي زين له أسلوباً من القتل قصّر عنه ابنه يزيد. فكان هذا « الشاب المغرور » ـ وكان ذاك « الداهية المحنك في تصريف الامور » !! ..
     ولو تنفس العمر بأبى سفيان الى عهد ولديه هذين ، لايقن انهما قد أجادا اللعبة التي كان يتمناها لبني ابيه.
     فاستعمل معاوية مروان بن الحكم (1) ، على اقناع جعدة بنت الاشعث
1 ـ وروى المسعودي هامش ابن الاثير ( ج 5 ص 198 ) والبيهقي ( ج 1 ص 64 ) سعيى الحسن عليه السلام بالامان لمروان يوم الجمل ، وكان قد أخذ أسيراً ، وقيل كان مختفياً في بيت امرأة في البصرة.
     وقال الشريف الرضي في النهج ( ج 1 ص 121 ) قالوا : « أخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل ، فاستشفع الحسن والحسين عليهما السلام الى أمير المؤمنين عليه السلام ، فكلماه فيه فخلى سبيله ، فقالا له : يبايعك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام : أَوَلم يبايعني بعد قتل عثمان ، لا حاجة لي في بيعته ، انها كف يهودية ، لو بايعني بكفه لغدر بسبته. اما ان له امرة كلعقة الكلب أنفه. وهو أبو الاكبش الاربعة. وستلقى الامة منه ومن ولده يوماً أحمر ! ». أقول : وجزى مروان سعي الحسن له بالامان بسعيه الى جعدة بقتله « وكل اناء بالذي فيه ينضح ».


(365)
ابن قيس الكندي ـ وكانت من زوجات الحسن عليه السلام ـ بأن تسقي الحسن السم [ وكان شربة من العسل بماء رومة ] . فان هو قضى نحبه زوجها بيزيد ، وأعطاها مائة الف درهم.
     وكانت جعدة هذه بحكم بنوتها للاشعث بن قيس ـ المنافق المعروف ـ الذي اسلم مرتين ، بينهما ردة منكرة ، أقرب الناس روحاً الى قبول هذه المعاملة النكراء.
     قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : « ان الاشعث شرك في دم امير المؤمنين عليه السلام ، وابنته جعدة سمت الحسن ، وابنه محمد شرك في دم الحسين ».
     أقول : وهكذا تمَّ لمعاوية ما أراد.
     وحكم بفعلته هذه على مصير أمة بكاملها ، فأغرقها بالنكبات ، وأغرق نفسه وبنيه بالذحول والحروب والانقلابات.
     وتم له بذلك نقض المعاهدة الى آخر سطر فيها.
     وقال الحسن عليه السلام وقد حضرته الوفاة : « لقد حاقت شربته وبلغ أمنيته ، واللّه ما وفى بما وعد ، ولا صدق فيما قال (1) ».
    وورد بريد مروان الى معاوية ، بتنفيذ الخطة المسمومة ، فقال : « يا عجباً من الحسن شرب شربة من العسل بماء رومة فقضى نحبه (2) ».
     ثم لم يملك نفسه من اظهار السرور بموت الحسن عليه السلام.
     « وكان بالخضراء ، فكبر ، وكبر معه أهل الخضراء ، ثم كبر اهل المسجد بتكبير أهل الخضراء ، فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف [ زوج معاوية ] من خوخة (3) لها ، فقالت : « سرك
1 ـ المسعودي هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 55 ـ 56 ).
2 ـ ابن عبد البر.
3 ـ هي الكوة التي تؤدي الضوء الى البيت ، والباب الصغير في الباب الكبير.


(366)
اللّه يا أمير المؤمنين ، ما هذا الذي بلغك فسررت به ؟ ». قال : « موت الحسن بن علي » ، فقالت : « انا للّه وانا اليه راجعون » ، ثم بكت وقالت : « مات سيد المسلمين ، وابن بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم » فقال معاوية : « نعما واللّه ما فعلت ، انه كان كذلك ، أهل ان يبكى عليه ».
     وزاد ابن قتيبة على هذا بقوله : « فلما أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتى سجد وسجد من كان معه ، وبلغ ذلك عبد اللّه بن عباس ـ وكان بالشام يومئذ ـ فدخل على معاوية فلما جلس ، قال معاوية : يا ابن عباس ، هلك الحسن بن علي. فقال ابن عباس : نعم هلك انا للّه وانا اليه راجعون ترجيعاً مكرراً. وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته. أما واللّه ما سد جسده حفرتك ، ولا زاد نقصان أجله في عمرك. ولقد مات وهو خير منك. ولئن أصبنا به ، لقد أصبنا بمن كان خيراً منه ، جده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فجبر اللّه مصيبته وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة.
     « ثم شهق ابن عباس وبكى من حضر في المجلس ، وبكى معاوية. قال الراوي : فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم. فقال معاوية : كم اتى له من العمر ؟ فقال ابن عباس : امر الحسن أعظم من ان يجهل أحد مولده. قال : فسكت معاوية يسيراً ثم قال : يا ابن عباس ، أصبحت سيد قومك من بعده. فقال ابن عباس : أما ما أبقى اللّه أبا عبد اللّه الحسين فلا (1) ».
    وعرض اليعقوبي ( ج 2 ص 203 ) صورة عن الاثر العظيم الذي قوبل به نبأ وفاة الحسن عليه السلام في الكوفة ، وما اجتمع عليه زعماء الشيعة هناك في دار كبيرهم ( سليمان بن صرد ) وتعزيتهم الحسين عليه السلام بكتاب مفتجع بليغ.
1 ـ ابن قتيبة المتوفى سنة 276 ( ص 159 ـ 160 ) وذكر مثله أو قريباً منه اليعقوبي والمسعودي أيضاً.

(367)
    وبلغ نعيه البصرة ـ وعليها زياد بن سمية ـ فبكى الناس وعلا الضجيج فسمعه أبو بكرة [ أخو زياد لامه ] ـ وهو اذ ذاك مريض في بيته ـ فقال : « أراحه اللّه من شر كثير ، وفقد الناس بموته خيراً كثيراً يرحم اللّه حسناً (1) ».
     وأبنّه أخوه محمد بن الحنفية ، وقد وقف على جثمانه الشريف ، واليك نص تأبينه :
     « رحمك اللّه أبا محمد ، فواللّه لئن عزت حياتك ، لقد هدت وفاتك. ونعم الروح روح عمر به بدنك ، ونعم البدن بدن ضمه كفنك ، ولم لا تكون كذلك ، وأنت سليل الهدى ، وحلف أهل التقوى ، وخامس أصحاب الكساء. غذتك كف الحق ، وربيت في حجر الاسلام ، وأرضعتك ثدياً الايمان. فطب حياً وميتاً ، فعليك السلام ورحمة اللّه ، وان كانت أنفسنا غير قالية لحياتك ، ولا شاكة في الخيار لك (2) ».
    والنصوص على اغتيال معاوية الحسن بالسم متضافرة كاوضح قضية في التاريخ.
     ذكرها صاحب الاستيعاب ، والاصابة ، والارشاد ، وتذكرة الخواص ودلائل الامامة (3). ومقاتل الطالبيين ، والشعبي ، واليعقوبي ، وابن سعد في الطبقات ، والمدائني ، وابن عساكر ، والواقدي ، وابن الاثير ، والمسعودي ، وابن أبي الحديد ، والمرتضى في تنزيه الانبياء. والطوسي في أماليه ، والشريف الرضي في ديوانه ، والحاكم في المستدرك ، وغيرهم.
     وقال في « البدء والختام » : « وتوفي الحسن سنة 49 للهجرة. سمته جعدة بنت الاشعث بما دسه معاوية اليها ، ومناها بزواج ولده يزيد ، ثم
1 ـ ابن أبي الحديد ( ج 4 ص 4 ).
2 ـ اليعقوبي ( ج 2 ص 200 ) والمسعودي هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 57 ) بتفاوت قليل في بعض الكلمات.
3 ـ للطبري.


(368)
    نقض عهدها ».
     وقال ابن سعد في طبقاته : « سمه معاوية مراراً ».
     وقال المدائني : « سقي الحسن السم أربع مرات ».
     وقال الحاكم في مستدركه (1) : « ان الحسن بن علي سمَّ مراراً. كل ذلك يسلم حتى كانت المرة الاخيرة التي مات فيها ، فانه رمى كبده ».
     وقال اليعقوبي : « ولما حضرته الوفاة قال لاخيه الحسين : يا أخي ان هذه آخر ثلاث مرات سقيت فيها السم ، ولم أسقه مثل مرّتي هذه ، وانا ميت من يومي. فاذا أنا متُّ فادفني مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فما أحد أولى بقربه مني ، الا أن تمنع من ذلك ، فلا تسفك فيه محجمة دم ! ».
     وقال ابن عبد البر : « دخل الحسين على الحسن ، فقال : يا أخي اني سقيت السم ثلاث مرات ، ولم اسق مثل هذه المرة. اني لأضع كبدي. فقال الحسين : من سقاك يا أخي ؟. قال : ما سؤالك عن هذا ؟ أتريد أن تقاتلهم ؟ كلهم الى اللّه ».
     وقال الطبري في دلائل الامامة (2) : « وكان سبب وفاته أن معاوية سمه سبعين مرة فلم يعمل فيه السم ، فأرسل الى امرأته جعدة بنت محمد ( كذا ) بن الاشعث بن قيس الكندي وبذل لها عشرين الف دينار واقطاع عشر ضياع من شعب السواد ، سواد الكوفة ، وضمن لها أن يزوجها يزيد ابنه. فسقت الحسن السم في برادة من الذهب في السويق المقنّد ».
    وقال اللّه عزّ من قائل : « فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم. اولئك الذين لعنهم اللّه فأصمهم وأعمى ابصارهم ».
1 ـ ( ج 6 ص 5 ) طبع باريس.
2 ـ ص 61.


(369)


(370)
    ورأى كثير من الناس ، ان الشمم الهاشمي الذي اعتاد ان يكون دائماً في الشواهق ، كان اليق بموقف الحسين عليه السلام ، منه بموقف الحسن عليه السلام.
     وهذه هي النظرة البدائية التي تفقد العمق ولا تستوعب الدقة.
     فما كان الحسن في سائر مواقفه ، الا الهاشمي الشامخ المجد ، الذي واكب في مجادته مُثُلَ أبيه وأخيه معاً ، فاذا هم جميعاً امثولة المصلحين المبدئيين في التاريخ. ولكل ـ بعد ذلك ـ جهاده ، ورسالته ، ومواقفه التي يستمليها من صميم ظروفه القائمة بين يديه ، وكلها الصور البكر في الجهاد ، وفي المجد ، وفي الانتصار للحق المهتضم المغصوب.
    وكان احتساء الموت ـ قتلاً ـ في ظرف الحسين ، والاحتفاظ بالحياة ـ صلحاً ـ في ظرف الحسن ، بما مهدا به ـ عن طريق هاتين الوسيلتين ـ لضمان حياة المبدأ ، وللبرهنة على ادانة الخصوم ، هو الحل المنطقي الذي لا معدى عنه ، لمشاكل كل من الظرفين ، وهو الوسيلة الفضلى الى اللّه تعالى ، وان لم يكن الوسيلة الى الدنيا. وهو الظفر الحقيقي المتدرج مع التاريخ وان كان فيه الحرمان حالاً ، وخسارة السلطان ظاهراً.
     وكانت التضحيتان : تضحية الحسين بالنفس ، وتضحية الحسن بالسلطان ، هما قصارى ما يسمو اليه الزعماء المبدئيون في مواقفهم الانسانية المجاهدة.
     وكانت عوامل الزمن التي صاحبت كلاً من الحسن والحسين في زعامته ، هي التي خلقت لكل منهما ظرفاً من أصدقائه ، وظرفاً من أعدائه ،


(371)
لا يشبه ظرف أخيه منهما ، فكان من طبيعة اختلاف الظرفين اختلاف شكل الجهادين ، واختلاف النهايتين اخيراً.
     1 ـ ظروفهما من انصارهما
    ومثلت خيانة الاصدقاء الكوفيين ، بالنسبة الى الحسين عليه السلام خطوته الموفقة في سبيل التمهيد لنجاحه المطرد في التاريخ ، ولكنها كانت بالنسبة الى أخيه الحسن عليه السلام ـ يوم مسكن والمدائن ـ عقبته الكؤود التي شلت ميدانه عن تطبيق عملية الجهاد. ذلك لان حوادث نقض بيعة الحسين كانت قد سبقت تعبئته للحرب ، فجاء جيشه الصغير يوم وقف به للقتال ، منخولاً من كل شائبة تضيره كجيش امام له أهدافه المثلى.
     أما الجيش الذي أخذ مواقعه من صفوف الحسن ، ثم فر ثلثاه ونفرت به الدسائس المعادية ، فاذا هو رهن الفوضى والانتقاض والثورة ، فذلك هو الجيش الذي خسر به الحسن كل أمل من نجاح هذه الحرب.
     ومن هنا ظهر أن هؤلاء الاصدقاء الذين بايعوا الحسن وصحبوه الى معسكراته كمجاهدين ، ثم نكثوا بيعتهم وفروا الى عدوهم أو ثاروا بامامهم ، كانوا شراً من اولئك الذين نكثوا بيعة الحسين قبل ان يواجهوه.
     وهكذا مهد الحسين لحربه ـ بعد أن نخلت حوادث الخيانة انصاره ـ جيشاً من أروع جيوش التاريخ اخلاصاً في غايته وتفاديا في طاعته وان قل عدداً.
     أما الحسن فلم يعد بامكانه أن يستبقي حتى من شيعته المخلصين انصاراً يطمئن الى جمعهم وتوجيه حركاتهم ، لان الفوضى التى انتشرت عدواها في جنوده كانت قد أفقدت الموقف قابلية الاستمرار على العمل ، كما أشير اليه سابقاً.
     وأيّ فرق أعظم من هذا الفرق بين ظرفيهما من أنصارهما ؟.


(372)
    2 ـ ظروفهما من اعدائهما
    وكان عدو الحسن هو معاوية ، وعدو الحسين هو يزيد بن معاوية. وللفرق بين معاوية ويزيد ما طفح به التاريخ ، من قصة البلادة السافرة في « الابن ». والنظرة البعيدة العمق التي زعم الناس لها الدهاء في « الاب ».
     وما كان لعداوة هذين العدوين ظرفها المرتجل مع الحسن والحسين ، ولكنها الخصومة التاريخية التي أكل عليها الدهر وشرب بين بني هاشم وبني أمية.
     ولم تكن الاموية يوماً من الايام كفواً للهاشمية (1). وانما كانت عدوتها التي تخافها على سلطانها ، وتناوئها ـ دون هوادة ـ. وكان هذا هو سر ذكرها بازائها في أفواه الناس وعلى أسلات اقلام المؤرخين. والا فأين سورة الهوى من مثُل الكمال ؟ واين انساب الخنا من المطهرين في الكتاب ؟. وأين شهوة الغلب ، وحب الاثرة ، والوان الفجور ، من شتيت المزايا في ملكات العقل ، وسمو الاخلاق ، وطهارة العنصر ، وآفاق العلوم التي تعاونت على تغذية الفكر الانساني في مختلف مناحي الثقافات العالية ، فأضافت الى ذخائره ثروة لا تطاول ؟. أولئك هم بنو هاشم الطالعون بالنور.
     واين هؤلاء من أولئك ؟.
     ولم يكن من الاحتمال البعيد ما قدره الحسن بن علي احتمالاً قريباً ، ـ فيما لو اشتبك مع عدوه التاريخي معاوية بن أبي سفيان بن حرب في
1 ـ قال أمير المؤمنين عليه السلام فيما كتبه الى معاوية جواباً : « ولم يمنعنا قديم عزنا ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وانكحنا فعل الاكفاء ، ولستم هناك ، وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب ، ومنا أسد اللّه ومنكم أسد الاحلاف ، ومنا سيدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار ، ومنا سيدة نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب ، الى كثير مما لنا وعليكم ».

(373)
حرب يائسة مثل هذه الحرب ـ أن تجر الحرب بذيولها أكبر كارثة على الاسلام ، وأن تبيد بمكائدها آخر نسمة تنبض بفكرة التشيع لاهل البيت عليهم السلام. ولمعاوية قابلياته الممتازة لتنفيذ هذه الخطة وتصفية الحساب الطويل في التاريخ ، وهو هو في عدائه الصريح لعلي ولاولاده ولشيعتهم.
     وفيما مرَّ من الكلام على هذا الموضوع كفاية عن الاعادة.
     أما الحسين فقد كفي مثل هذا الاحتمال حين كان خصمه الغلام المترف الذي لا يحسن قيادة المشاكل ، ولا تعبئة التيارات ، ولا حياكة الخطط ، ثم هو لا يعنيه من الامر الا ان يكون الملك ذا الخزائن ، حتى ولو واجهه الاخطل الشاعر بقوله ـ على رواية البيهقي ـ :
« ودينك حقاً كدين الحمار بل أنت اكفر من هرمز »
     وكفى الحسين هذا الاحتمال ، بما ضمنه سيف الارهاب الذي طارد الشيعة تحت كل حجر ومدر في الكوفة وما اليها ، والذي حفظ في غيابات السجون والمهاجر وكهوف الجبال سيلاً من السادة الذين كانوا يحملون مبادئ أهل البيت ، وكانوا يؤتمنون على ايصال هذه المبادئ الى الاجيال بعدهم.
     فرأى ان يمضي في تصميمه مطمئناً على خطته وعلى أهدافه وعلى مستقبلهما من أعدائه.
     أما الحسن فلم يكن له أن يطمئن على مخلفاته المعنوية طمأنينة اخيه وفي أعدائه معاوية وثالوثه المخيف وخططهم الناصبة الحقود التي لا حد لفظاعتها في العداوة والحقد.
    وأخيراً فقد أفاد الحسين من غلطات معاوية في غاراته على بلاد اللّه الآمنة المطمئنة ، وفي موقفه من شروط صلح الحسن ، وفي قتله الحسن بالسم ، وفي بيعته لابنه يزيد وفي أشياء كثيرة أخرى ، بما زاد حركته في


(374)
وجه الاموية قوة ومعنوية وانطباقاً صريحاً على وجهة النظر الاسلامي في الرأي العام.
     وأفاد ـ الى ذلك ـ من مزالق الشاب المأخوذ بالقرود والخمور « خليفة معاوية » ، فكانت كلها عوامل تتصرف معه في تنفيذ أهدافه.
     وكانت ظروفه من أعدائه وظروفه من أصدقائه تتفقان معاً على تأييد حركته ، وانجاز مهمته ، والاخذ به الى النصر المجنح الذي فاز به في اللّه وفي التاريخ.
     أما الحسن فقد أعيته ـ كما بينا سابقاً ـ طروفه من أصدقائه فحالت بينه وبين الشهادة ، وظروفه من أعدائه فحالت بينه وبين مناجزتهم الحرب التي كان معناها الحكم على مبادئه « بالاعدام ».
     لذلك رأى لزاماً ان يطوّر طريقة جهاده ، وان يفتتح ميدانه من طريق الصلح.
     وما كانت الالغام التي وضعها الحسن في الشروط التي أخذها على معاوية الا وسائله الدقيقة التي حكمت على معاوية وحزبه بالفشل الذريع في التاريخ.
     ومن الصعب حقاً أن نميز ـ بعد هذا ـ أي الاخوين عليهما السلام كان أكبر أثراً في جهاده ، وأشد نفوذاً الى أهدافه ، وأبعد امعاناً في النكاية بأعدائه.
     ولم يبق مخفياً أن تاريخ نكبات أمية بعد عملية الحسن في الصلح كان متصلاً بالحسن ، مرهوناً بخططه ، خاضعاً لتوجيهه. وأن حادثاً واحداً من أحداث تلك النكبات لم يكن ليقع كما وقع ، لولا هذه العملية الناجحة التي كان من طبيعة ظروفها أن تستأثر بالنجاح ، وكان من طبيعة خصومها أن يكونوا أعواناً على نجاحها من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
صلح الحسن ( عليه السلام ) ::: فهرس