21
    ـ لم تراه أحضرنا ؟!
    قال المؤيد الذي أدرك ما يجري :
    ـ يا شقي للخلع .
    ـ لا أظنه يفعل ذلك !
    ـ يا شقي هو نعم . . ولكن هؤلاء الاتراك !
    في الاثناء فتحت الباب ليدخل مبعوث رسمي من قبل البلاط ومعه كاتب لضبط وتدوين ميثاق التنازل عن ولاية العهد .
    بادر المؤيد للموافقة فوراً :
    ـ السمع والطاعة .
    ولكن المعتز قال :
    ـ لن أفعل ذلك !
    لكزه المؤيد قائلاً :
    ـ انه القتل اذا لم تفعل !
    قال المعتز مخاطباً :
    ـ ابلغه بذلك .
    ـ اشار المبعوث الرسمي الى جلاوزته ، فانقضوا على المعتز وجره ليوضع في حجرة أخرى . .
    سمع المؤيد بكاءً ـ يأتي من الحجرة التي أودع فيها أخوه فصاح بالشرطة :
    ـ ماذا تفعلون يا كلاب ؟! دعوني اكلمه .


22
    وجاءت الموافقة على اللقاء ، فدخل المؤيد على أخيه وربت على كتفه فكف عن البكاء . . قال المؤيد :
    ـ يا جاهل لماذا تقتل نفسك . . اتظنهم لا يفعلون ذلك وقد قتلوا اباك وهو هو . . .
    ـ وماذا تريدني أفعل ؟! اخلع نفسي وقد انتشر ذلك في الآفاق ؟ !
    ـ الخلع أفضل من القتل .
    سكت لحظات ثم استطرد قائلاً :
    ـ اذا كان الله قد كتب لك أن تكون خليفة فستكون نصيبك .
    استسلم المعتز .
    تم ضبط محضر في تنازل الاميرين اللذين أمرا بتسليم وثيقة التنازل الى الخليفة في حضور القادة الاتراك .
    قال المؤيد :
    ـ نجدد ثيابنا ؟
    قال الموظف المسؤول :
    ـ ولم لا . . ولكن هنا . . سوف نحضر ما تطلبان من ثياب !
    تم اللقاء في جو متوتراً نسبياً ، سلم الاميران على الخليفة الذي رحب بأخويه . .
    تساءل المنتصر :
    ـ هذا كتابكما ؟ !


23
    سكت المعتز فقال المؤيد مستدركاً الوضع :
    ـ نعم يا أمير المؤمنين .
    والتفت الى أخيه قائلاً :
    تكلم :
    غمغم المعتز :
    ـ نعم يا أمير المؤمنين . . كتابي وتوقيعي :
    قال المنتصر بشجاعة :
    ـ اتظنان انني خلعتكما طمعاً في أعيش حتى يكبر ولدي ؟ !
    لا والله .. ولكن هؤلاء ..
    وأشار الى الاتراك مستأنفاً :
    ـ الحوا عليّ في خلعكما .. فخفت أن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة فيأتي عليكما ..
    وأدرك الأخوان أن المنتصر لا يعرف الخداع ولذا بادرا الى تقبيل يديه لكنه ضمهما الى صدره بحبّ .
    وقام رئيس الوزراء الذي كان يبتسم بارتياح بتحرير (7) وثيقة التنازل لتعميمها على جميع ولايات الدولة الاسلامية المترامية الأطراف .


24
3
    سيطرت حمى الهواجس على القصر حيث يقيم الخليفة الذي مضت على حكمه خمسة أشهر ، وما زالت روحه المعذبة مثقلة بمشاعر الاثم .. وبدأت لقاءات الاتراك تتخذ طابع التوجس من اجراءات الخليفة الذي قد ينقض عليهم في لحظة ما ..
    ومن يرى القائدين « وصيف » و « بغا الشرابي » لابد وأن يدرك انهما ما يزالان يحكمان بقبضة حديدية على مصير البلاد ، كما أنه سيكتشف من لقاءاتهما المستمرة أنهما بدءا يتوجسان من « المنتصر » الذي لا يمكن السيطرة عليه .
    وكان يثير خوفهما أنه لا يمكن اغتياله فلقد كان « مهيباً » شجاعاً ، فطناً متحرزاً (8) ولذا بدأوا يفكرون بوسائل أخرى (9) .
    الرواق الذي اتخذه المنتصر مجلساً له كان مقفراً فقد انطلق الخليفة المعذب ينهب ميدان الخيل بحصانه امعاناً في الفرار .. كان بغا ووصيف يتمشيان خلال أروقة القصر عندما صادفهما موظف في القصر يعمل كاتباً في ديوان جيش الشاكرية (10).
    قال الموظف وكان يتقن الفارسية :


25
    ـ ألم يجد الفراش بساطاً غير هذا ليفرشه تحت أمير المؤمنين ؟
    قال وصيف :
    ـ لماذا ؟!
    ـ فيه صورة شيروية قاتل أبيه « أبرويز »
    وتبادل القائدان نظرات ذات معنى ، قال بغا بعدها :
    ـ يجب أن يحرق حالاً !
    لف البساط بسرعة وقبل أن يعود المنتصر ليحرق في حضرة القائدين ، وكانا ينظران الى وهج النار والى الذهب قد بدأ يسيل براقاً تحت السنة النار والدخان (11) .
    عاد « المنتصر » من رحلته اليومية منهمكاً ولفت نظره وهو يلج الرواق وجود بساط جديد ..
    فاستدعى الفرّاش قائلاً :
    ـ أريد أن تفرش نفس البساط :
    قال الفرّاش :
    ـ ومن أين آتي به ؟!
    قال المنتصر :
    ـ وماذا حصل له ؟
    ـ ان وصيفاً وبغا أمراني بإحراقه .
    سكت المنتصر وانطوى على جراح لا تندمل .


26
    وبدا واضحاً خلال تلك الفترة العاصفة ان بغا الشرابي أو بغا الصغير هو الحاكم الحقيقي بالرغم من استبسال المنتصر في استعادة قدرة الحكم ..
    وكانت الأمور تجري وفقاً لأهواء القادة الاتراك الذين كانوا يلاحقون شخصيات العهد البائد ..
    وكان بعض الاشخاص يختفون في ظروف غامضة ولا يعرف أحد عن مصيرهم حتى « محبوبة » جارية المتوكل الأثيرة لم تسلم من التصفيات فقد استدعيت للغناء فرفضت فاجبرت على ذلك لكنها غنت بلحن حزين وذكرت ليلة اغتيال سيدها ، فأصدر وصيف أمراً بسجنها .
    وانقطعت اخبارها من ذلك الوقت (12) !
    وفي تلك المدينة التي نسى أهلها الله كان الامام الهادي ينظر الى الأفق البعيد ويرى حمرة الشفق الملتهب .. ويرى سحباً داكنة قادمة .. سوف تغمر الظلمات الأرض .. وقوافل البشر الحائرة وقد تاهت بها السبل .. وفيما كانت أصوات الغناء والموسيقى تتسرب من نوافذ القصور .. كانت تمتمات الدعاء تتعالى من منزل في « درب الحصا » حيث يقطن الامام منذ خمسة عشر عاماً .
    عاد كافور الخادم متعباً وقد دفعته نفحات الهواء البارد في تلك الليلة التي اشتد فيها هبوب الرياح الشمالية ، الى أن يدس نفسه في الفراش ..


27
    يتوجب عليه في هذا الوقت أن يأتي بسطل من الماء من السرداب واعداد الوضوء لسيده الذي يتهيأ عادة في مثل هذا الوقت لأداء صلاة الليل ..
    لكن دفء الفراش وأمنه عقوبة السيد كانا يدفعانه الى تناسي مهمته الأخيرة ..
    لم يكن قد أغمض عينيه عندما تناهت اليه خطى تتجه الى حجرته ..
    قال الامام بلهجة فيها عتب .
    ـ ألا تعرف رسمي ؟ .. أنني لا اتطهر إلا بماء بارد فلم سخنت لي ماء ؟!
    فوجىء كافور وقال بدهشة :
    ـ ولكن يا سيدي لم آت بالماء أصلاً !!
    نظر الامام عبر الباب المشرعة الى السماء وقال :
    ـ الحمد لله .. والله ما تركنا رخصة ولا رددنا منحة ..
    الحمد لله الذي جعلنا من أهل طاعته ووفقنا للعون على طاعته .
    وامتلأت نفس كافور اجلالاً لهذا الانسان الطاهر الذي عبد الله وحده فأكرمه الله بماء دافىء تحمله الملائكة (13) !
    مضت ساعة من الليل وتناهت طرقات متواليات على باب المنزل الغارق في سكينة الليل ..


28
    كان الطارق « يونس النقاش » .. يرتجف ولكن ليس بسبب البرد افسح كافور الخادم ليدخل المنزل .. لابد وأن الأمر جدّ خطير !
    قال يونس وهو يرتجف :
    ـ يا سيدي أوصيك بأهلي خيراً !
    قال الامام :
    ـ وما الخبر ؟
    ـ عزمت على الرحيل .
    مبتسماً قال الامام :
    ـ ولم يا يونس ؟
    ـ وجه بغا الصغير اليّ بفص ثمين لا تعرف له قيمة وطلب مني أن انقشه فانكسر نصفين .. والموعد غداً وهو من تعرف ياسيدي !! إما ألف سوط أو القتل .
    قال الامام مهدئاً :
    ـ امض الى منزلك الى غدٍ فما يكون إلا خيراً .
    ـ وماذا أقول لرسوله ؟!
    ـ اسمع ما يخبرك به ، فلن يكون إلا خيراً .
    ابتسامة الامام وعيناه اللتان تتألقان بنور شفاف بعثت الدفء في قلب الرجل الخائف الذي انقلب الى أهله .. انه يعرف الامام يعرفه من سنين طويلة .. رجل مبارك كلما التقاه في الطريق .. يتفتح في قلبه الأمل في الحياة .. ما تزال الدنيا في خير ..


29
وما يزال هناك قلب ينبض بحب الناس جميعاً .
    وفي صباح اليوم التالي .
    كان يونس منطلق الوجه قال لكافور وقد استفسره عما حصل :
    ـ جاءني الرسول يقول : ياسيدي .. الجواري اختصمن ، فهل يمكنك أن تجعله نصفين ونضاعف لك الأجرة ؟
    ـ وبماذا اجبته ؟
    ـ قلت له : أمهلني حتى أتأمل كيف أعمله (14) .
    وضحكا معاً ، وكان ينبوع يتدفق حباً للإمام .


30
4
    الجواسيس المبثوثون في القصر وخارجه وهم يعملون لحساب القائد « وصيف » كونوا صورة مخيفة عن « المنتصر » .. هناك خطط مبيته للخليفة تستهدف تمزيق الاتراك في أول فرصة ، وما زاد هذه المخاوف أن المنتصر ربما تحدث ذلك علناً وربما تفجر غضبه المخزون في نظرة شزراء يلقيها كلما رأى قائداً تركياً مرموقاً (15) .
    ولذا كان الأتراك قد بدأوا يفكرون في اغتيال المنتصر والفتك به قبل أن يفتك بهم .. ولكن كيف ؟!
    سؤال صعب جوابه على الاتراك فالمنتصر من اليقظة والشجاعة ما يصعب فيه اغتياله ولكن هناك نقطة ضعف يمكن استغلالها ان المنتصر يعيش حالة مدمرة من الندم واليأس ولم يكن ينظر الى المستقبل بأمل ، لكن بركان الغضب الذي انفجر في تلك الليلة العاصفة خمد فجأة استحال الى رماد تذروه الرياح .. أنه يعاني حالة مريرة من الندم وهذا ما جعل القادة الاتراك يتوجسون منه .. لكنه لم يفكر في تكوين حرس خاص وكانت سياسته المالية