71
وأمه لي الشفاء .
    قال الجد ، وقد تمثلت في ذكراته محنة الأسرى يوم أعدم منهم اثنا عشر ألف أسير بأوامر من تيدورا :
    ـ أعدك بذلك يا عزيزتي !
    شاعت البهجة في قلب مليكا .. وتماسكت لتتناول قدراً يسيراً من الطعام ..
    مرت ثلاث ليال ومليكا اعماقها تضطرم تحت تأثير الرؤيا .. ما تزال صورة الفتى العربي الاسمر تتألق في ذكراتها .. لكأنها رأته حقيقة لا في عالم الخيال .. والاحلام .
    قبيل الغروب وقد غابت الشمس خلف ذرى الاشجار ظهرت العذراء مريم .. لم تكن وحدها كانت معها سيدة وجهها يزهو نوراً على رأسها اكليل من اثني عشر كوكباً ، وقد اشرقت فوق رأسها شمس بهية وقمر منير (54) تحفها حوريات الجنة قالت مريم : هذه سيدة نساء العالمين .. فاطيما .. أم زوجك .. مليكا تهب ترمي بنفسها في احضان السيدة الكريمة .. آه أنه لا يزورني .
    قالت السيدة : لأنك لم تدخلي دينه ..
    ـ وماذا أفعل يا سيدة النساء ؟
    تشهدين بأن الله واحد لا إله إلاّ هو وتصدقين رسالة أحمد الذي بشر به المسيح .
    عندما استيقظت من النوم كان اسم أحمد على شفتيها ..


72
    جففت حبات عرق انبجست فوق جبينها الملتهب .. ما تزال مليكا محمومة .. تستغرقها الرؤيا العجيبة لقد تعلمت العربية منذ صباها .. منذ أن شهدت مذبحة الأسرى المسلمين الذين رفضوا اعتناق النصرانية واختاروا الموت (55) .
    لقد اتقنت العربية لكنها لم تتحدث بها الى أحد .. الرؤيا العجيبة .. تحير ذهنها .. تجعل قلبها فارغاً ، والوجه الأسمر .. ذلك الفتى العربي من أين جاء ؟! وهل ستلتقيه في عالم الحقيقة ؟ أم سيبقى كل شيء رهن الخيال ؟!
    السفينة تشق أمواج دجلة صوب الشمال ، وتيار الذكريات المشتعلة كبروق سماوية ما يزال يستغرق وعي مليكا التي اختارت اسماً جديداً تختبىء وراءه قصتها العجيبة ..
    في كل ليلة كانت ترى ذلك الفتى الأسمر صدقت أنها زوجته وكانت روحها الظامئة تشتاق الى رؤيته ..
    عيناه الواسعتان تختصران العالم ..
    عندما سمعت ذات يوم أن القصر يفكر بارسال جيش ومهاجمة ديار الاسلام تحفزت كل خلية في كيانها ، أن روحها تضطرم .. سوف تلتحق بالجيش بحجة التمريض وتنضم الى الوصائف اللائي يقمن بهذه الخدمة ..
    لم تضع وقتها .. لكأنها مستسلمة لقدر عجيب .. شيء لا يمكن وقوعه الا في عالم الخيال أو عالم آخر مجهول !


73
    تنكرت في زي الخدم .. وغادرت القصر لتختفي الى الأبد .. سوف يبحثون عنها .. في كل مكان دون جدوى سوف يبقى سرها مكنوناً وقد تستحيل الى قديسة في المستقبل !
    قدرها أن ترافق طلائع الجيش الرومي (56) ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء ..
    وعلى الحدود وقعت اشتباكات محدودة هزمت فيها طلائع الروم ووقعت مليكا في أسر المسلمين فكانت في سهم شيخ مسلم سألها عن اسمها فقالت على الفور :
    ـ نرجس .
    قال الشيخ :
    ـ اسم الجواري .
    وعندما وصلت بغداد طالعها عن بعد تمثال الفارس الذي يتربع فوق قبة قصر الذهب في قلب بغداد .. بيده رمح طويل يشير به الى جهة الشرق ..
    مليكا في بغداد جارية في سوق الرقيق .. سرّها مكنون كلؤلؤة في صدفة في اعماق بحيرة تغفو بسلام .. حكايتها حكاية عجيبة أغرب من الاساطير ..
    كم انتابتها الهواجس طوال الأيام الماضية كيف تستلم للرؤيا وهل يسلم المرء نفسه للأحلام ؟ ولكن تلك الرؤيا ليست اضغاث أحلام .. إنها اكثر اشراقاً من كثير من الوقائع لقد استغرقت


74
    شعورها وسيطرت على مشاعرها .
    ووجدت نفسها تسير نحو قدر ينتظرها في مكان ما وفي لحظة ما .. ولكن عندما وقعت عيناها على الرسالة المكتوبة بلغتها أدركت أن القدر قد اختارها ، ورسم مصيرها وما عليها سوى التسليم ..
    وعادت مليكا الى نفسها عندما اقتربت السفينة من مشارف « سامراء » من بعيد طالعها ذلك البناء الحلزوني وحدست في نفسها أنه منارة مسجد كبير .
    رست السفينة مرسى « الخليج » وانتقل المسافرون الى الشاطىء حيث المدرجات التي تؤدي الى شارع الخليج ..


75
10
    التوتر يسود سامراء ، وقد بدا واضحاً أن الطغمة التي كانت متنفذة في زمن المتوكل قد عادت الى الحكم كأشرس ما تكون كما أن تعيين ابن أبي الشوارب رئيسا لسلطة القضاء (57) قد جاء ليعكس سياسة الدولة ازاء العلويين فابن أبي الشوارب معروف بولائه الاموي !
    وفي هذه الفترة تم القاء القبض على كثير من العلويين كما اخمدت ثوراتهم بقسوة ووحشية ورحل كثير من زعاماتهم الى سامراء لوضعهم تحت رقابة مشددة أو توقيفهم (58) وكان منزل الامام الهادي يخضع هو الآخر للرقابة حتى أن بعض وكلائه يتظاهرون بحرف وأعمال تغطية لدورهم في تعزيز الاتصال بين الامام وقواعده الشعبية (59) .
    وكان لكثرة الاضطرابات والقلاقل في أنحاء الدولة وفساد الطغمة الحاكمة ونهبها لأموال الأمة قد جعل من سامراء على فوهة بركان سرعان ما يثور ويحيل كل شيء الى خرائب وحمامات دم ..


76
    وكان الصراع بين القادة الاتراك على أشده ، وبدا بغا الشرابي يحاول المستحيل لاقناع المعتز بالرحيل الى بغداد لكن دون جدوى (60) فانصرف الى التنسيق مع صالح بن وصيف للقيام بحركة عسكرية والاطاحة بالمعتز (61) والقضاء على قوات الحرس من المغاربة .
    وقبيل الغروب وصل بشر النخاس « درب الحصا » حيث يوجد منزل الامام وكانت الجارية الرومية تتبعه وعيناها تشرقان بالأمل .
    احتفى الامام الهادي بالفتاة التي وصلت على قدر .. كان المنزل تغمره سكينة الغروب الحسن قد أوى الى السرداب كعادته يعبد الله ، وجعفر (62) لم يعد الى المنزل بعد .. التفت الامام الى كافور قائلاً :
    ـ أدعُ لي اختي حكيمة .
    كانت حكيمة قد تحدثت مع شقيقها حول زواج الحسن الذي جاوز العشرين ولم يتخذ زوجة له ، ولاسباب مستورة بحجب الغيب في المديات البعيدة فضل الامام الهادي أن يقرن ابنه بفتاة تتحمل هموم المصير .. تنجب له الصبي الموعود الذي بشرت به الرسالات ويحقق أحلام الانبياء يعيد للحياة الانسانية كرامتها وللأرض خضرتها والربيع ..
    وصبي كهذا ينبغي أن تكون والدته سيدة لا يعرفها أحد


77
قادمة من صقع بعيد .. فيها خصال من « يوكابد » أم موسى ومن مريم ابنة عمران .. لأن الوليد سيحمل غضب موسى ، ومعجزات المسيح عيسى بن مريم ..
    من أجل هذا اختار القدر الالهي « مليكا » لتشد الرحال وتخوض الاهوال لتصل على قدر منزلاً في درب الحصا .. هاهي جالسة في حضرة الرجل الذي بلغ الاربعين من عمره وقد اشتعل رأسه شيبا .. لشدما يشبه فتى الاحلام (63) .
    وصلت حكيمة متلهفة لرؤية الفتاة وعندما سمعت شقيقها يقول مشيراً اليها :
    ـ ها هي !
    حتى هبت لاعتناقها آه أنها فتاة كاملة ..
    انحنت مليكا وقبلت يد السيدة المباركة ..
    وطوال الوقت كانت حكيمة لا تنفك تنظر الى الفتاة .. ذات الوجه المضيء وقد تورد الحياء فوق وجنتيها ..
    قال الامام مخاطباً الفتاة :
    ـ كيف أراك الله عز الاسلام وذل النصرانية ؟ (64)
    قالت الفتاة بأدب :
    ـ كيف أصف لك يا بن رسول الله ما أنت أعلم به مني .
    قال الامام وهو يغمرها بحنانه :
    ـ أريد أن اكرمك .. فأيما احب اليك : عشرة آلاف درهم ؟ أم


78
بشرى لك بشرف الأبد ؟
    ـ بل البشرى يا سيدي !
    قال الامام وهو يبشر بميلاد الطفل الموعود :
    ـ فابشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً .. ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .
    قالت الفتاة وقد غمرتها روح مهيمنة :
    ـ ممن ؟
    ـ قال الامام بلغة رومية :
    ـ ممن خطبك رسول الله له .
    توهجت في أعماقها مشاهد ذلك اليوم عندما انهارت الصلبان والاعمدة .. ويوم رأت المسيح يعانق النبي العربي .. وليلة رأت مريم ومعها سيدة متسربلة بالشمس والقمر ، وعلى رأسها اكليل مرصع بكواكب درية ..
    لاذت بالصمت وبدت في جلستها الهادئة حورية قادمة من جنة ما ..
    قال الامام مخاطباً اخته :
    ـ يا بنت رسول الله خذيها الى منزلك .. وعلميها الفرائض والسنن .
    كانت الغيوم تحجب الشمس ولكنها ما تزال تبعث بدفئها ونورها الشفاف يغمر الأرض ..


79
    ونهضت حكيمة مصطحبة معها الفتاة الكريمة التي ستدعى بعدة اسماء .. فهي « ريحانه » و « سوسن » و « نرجس » وحديثة .. اما اسمها الحقيقي « مليكا » فسيبقى مستوراً مع جذورها وسرها المكنون ..
    إنها في الظاهر جارية لا فرق بينها وبين « ماريا » و « نسيم » (65) ولكنها في الحقيقة « سيدة الاماء » (66) .
    وانتقلت مليكا الى منزل امرأة صالحة هي ابنة إمام واخت إمام وعمة إمام وسيقدر لها ذات يوم أن تشهد ميلاد المعجزة .
    وتدور الأيام .. وسامراء غارقة في المؤامرات وقد استيقظ الشيطان .. ذر قرنيه وراح يعربد في كل مكان ..
    وفيما كانت الاشياء تهتز بعنف تحت سنابك خيل الاتراك كانت هناك نقطة مغمورة بالسلام .. في منزل هادىء بدرب الحصا ..
    هناك انسان ينظر الى الافق البعيدة الى قوافل قادمة من المستقبل .. من أجل هذا راح يبشر بإطلاله الفجر الخالد .. سيولد الطفل .. سيولد الفارس الأخضر سيولد الذي ينقذ الانسانية المعذبة ..
    سيولد بشارة الرسالات القديمة .. ومن يصلي خلفه عيسى بن مريم .. سيولد الذي يصارع التنين (67) ..


80
    سيولد بشارة الرسول والكوكب الدري (68) .. والذي بشر بميلاده علي صوت العدالة والانسانية وحفيد علي الهادي الذي بدأ يخطط لبزوغ الأمل الاخير والشمس المستورة وراء حجب الغيوم ..