171
الحقيقة قد أرهف أذنيه ليسجل كل ما يقال ..
    قال الامام وهو يشير اليه :
    ـ هذا ليس منكم فأحذروه فإن في ثيابه سجلاً يكتب فيه الى السلطان ما تقولونه ..
    فارت الدماء في عروق أحد السجناء وجره من تلابيبه وعندما قام بتفتيشه وجد تقريراً خطيراً جاء فيه ان السجناء يفكّرون بحفر نفق للفرار من السجن اضافة الى اتهامات أخرى خطيرة (161).
    أشاع وجود الامام دفءً بين السجناء باستثناء جعفر الذي كان يتصرّف بطريقة لاتليق به كإنسان نشأ في بيت طاهر ..
    أمر عجيب أمر جعفر أبوه امام وأخوه امام .. وهاهو شبيه في سلوكه ابن نوح! ففي زمن مرير مثل هذا الزمن حيث أمواج الحياة الصاخبة تغرق كل الأشياء الجميلة ترى جعفر يسبح بعيداً عن سفينة الانقاذ متجهاً الى جبل من سراب ليعصمه من خطر الأمواج المتلاطمة!
    وفي المدينة المنورة كانت والدة الأمام تخرج كل يوم الى الجبل تتنسّم اخبار العراق.
    وفي مطلع شهر صفر يصلها خبر اعتقال ولدها (162) فتعود أدراجها الى المنزل وتحتضن حفيدها ذكرى ولدها الغالي وأملها الباقي ..
    حدثت في السجن ضوضاء بعد أن تناهى الى الجميع


172
حضور الخليفة شخصياً للقاء الامام .. ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى كان المعتمد يقف وجهاً لوجه أمام سجينه العظيم قال الخليفة بلهجة فيها استغاثة :
    ـ أدرك امة جدك رسول الله قبل أن تهلك !
    ما الذي حدث لكي يحضر الخليفة مستنجداً بالامام ؟!
    الجفاف لذيضرب أطنابه والقحط دفع الناس الى اقامة صلاة الاستسقاء..
    ثلاثة أيام كل يوم كانوا يخرجون و يصلّي الخليفة ويدعو لكن دون جدوى لكن هذا ليس بشيء ذي بال .. ان الفتنة حدثت عندما خرج راهب نصراني و معه جموع النصارى للدعاء فكلّما رفع الراهب كفّيه الى السما تحشّدت الغيوم و امطرت السماء غيثاً ..
    و افتتن المسلمون بمنظر الراهب .. يغمره المطر بل أن بعضهم شكك في الاسلام ، و قام مسلم ضعيف الايمان بالانضمام الى صفوف النصارى ...
    من أجل هذا شعر الخليفة بالخطر .. إنّ موقعه كخليفة للدولة الاسلامية الكبرى أصبح في مهب الأعصار فجاء يستنجد بالامام وارث النبوّات والأمين على رسالة جدّه الأخيرة .
    قال الذي عنده علم الكتاب بثقة المؤمن .
    ـ غداً أزيل الشك إن شاء الله .
    و أصدر الخليفة تعليمات لاطلاق سراحه غداً فقال الإمام


173
و أصحابي أيضاً يخرجون .
    قال الخليفة موجهاً حديثه لمسؤول السجن :
    ـ و أصحابه أيضاًً !
    و في صباح اليوم التالي خرج الناس للاستسقاء وانبرى الراهب .. ظلّت السماء زرقاء صافية و ما أن بسط كفيه للسماء حتى تحشدت الغيوم قال الامام وقد اكتشف السرّ :
    ـ أمسكوا بيده !!
    و فوجئ الخليفة بعظم انسان .
    قال الامام للراهب :
    ـ استسق الآن !
    رفع الراهب كفيه للسماء و قد فرّت الغيوم تلاشت من جديد .. تسائَلَ الخليفة :
    ما هذا يا أبا محمد ؟
    قال الذي مسّته السماء :
    ـ هذا عظم نبي ظفر به الراهب من بعض القبور ، و ما كُشف عظم نبي تحت السماء إلّا هطلت بالمطر ..
    و قام الخليفة بكشف العظم قبال السماء و فوجئ بالغيوم تنبثق قادمة من الأفق البعيد .
    أوصى الامام بدفن رفات النبي احتراماً و اجلالاً و انقشعت سحب الفتنة التي زعرت عقائد الناس وكادت تعصف بما تبقى من


174
إيمانهم بالاسلام رسالة الله الأخيرة (163).
    انتابت الخليفة هو اجس الخطر مرّة أخرى بعد أن سطعت كرامة الامام الحسن أمام الجماهير فأعيد الامام الى السجن مرّة أخرى. ريثما يعثر على مخرج هذه الأزمة.
    لقد شهد بنفسه كرامة الامام .. انه رجل مبارك وله شأن عند الله.. ظلت حادثه الراهب تتفاعل في وجدان الناس الذين انتبهوا الى وجود الامام ، وكأنهم قد استيقظوا من سبات طويل ..
    اضطر الخليفة لاستدعاء مدير السجن « علي بن جرين » وإستجوابه حول سلوك الامام خلال مدّة اعتقاله..
    ـ كيف رأيته يابن جرين؟
    ـ ماذا أقول يا سيدي عن رجل صائم في النهار ، فإذا حل المساء يتناول لقيمات ثم ينهض لصلاة طويلة .
    ـ وأخاه جعفر كيف رأيت أخاه ؟
    ـ إنه أخوه في النسب فقط .. وما عدا ذلك فشاب قصاف كما يعرفه الجميع .
    أراد الخليفة أن يقول له : أتدري أنه يتجسس على أخيه ؟
    قرر الخليفة أن يوجه الى خصمه آخر سهامه سوف يطلق سراحه ويستمر في اعتقال جعفر وعندها سوف يتحدث الناس عن الحسن وأن له علاقة ما مع الخليفة فقال لمدير السجن :


175
ـ أبلغه سلامي وقل له ينصرف الى منزله !
    انطلق ابن جرين عائداً الى السجن ومعه أمر باطلاق سراح الحسن .. عندما وصل باب السجن وقعت عيناه على حمار مسرج ! وكأنه ينتظر من يركبه !
    فتحت أبواب السجن في وجه مدير السجن الذي اتجه بخطى صارمة الى باب الزنزانة ، فوجد الامام قد ارتدى حلة الخروج .. أمر عجيب من الذي أخبره بأن الخليفة أمر بإطلاق سراحه ؟!
    نهض الامام واستمع بأدب الانبياء الى رسالة الخليفة ، ثم اتجه الى الحمار المسرج فاستوى عليه وظل واقفاً ..
    قال مدير السجن بلهجة فيها تعجب :
    ـ ما وقوفك يا سيدي ؟
    قال الامام بثقة مطلقة :
    ـ حتى يخرج جعفر !
    قال ابن جرين معتذراً :
    ـ لقد أمرني باطلاقك دونه !!
    قال الامام بحزم :
    ـ ترجع اليه فتقول له : خرجنا معاً من دار واحدة فإذا رجعت الى المنزل وليس هو معي .. كان في ذلك ما لا يخفى عليك ..
    وعلى وجه السرعة انطلق ابن جرين لحل هذه الأزمة


176
الجديدة ان هناك فيما يبدو اصراراً على اطلاق سراح جعفر .. وسرعان ما جاء الجواب ايجابياً عندما قال ابن جرين للامام :
    ـ يقول لك الخليفة : قد اطلقت جعفراً من أجلك لأني قد حبسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلم به !
    وعاد الامام الى منزله يرافقه أخوه الذي لم يتقدم الى شقيقه ولو بكلمة فيها شعور بالامتنان أو عرفان بالجميل !


177
24
    فيما كانت غابات الشمال في ايران تستحيل الى مسرح رهيب لمعارك دامية بين جيوش يعقوب بن الليث الصفار وقوات الحسن بن زيد العلوي مؤسس دولة طبرستان (164)..
    وفيما كان الطاعون يجتاح الشمال الافريقي والاندلس ، والأعراب يشنون غاراتهم على اقليم حمص ، والموصل تعيش القلاقل بسبب انتهاكات العسكر لأعراض الناس .. والغلاء الفاحش يهدّد السكان في العراق والحجاز بالموت جوعاً..
    وفيما كان الروم يجتاحون بعض قلاع الإسلام فيسقط حصن لؤلؤة في قبضتهم .. وفيما كانت المعارك جنوب البصرة ما تزال مستمرة وثورة الزنوج ما تزال تهدد أمن البلاد.. أشيع في الأوساط العلمية عن انهماك الفيلسوف الكندي في تأليف كتاب حول « تناقضات القرآن » .. وقد أقلق هذا الخبر بال الامام الحسن لأن السكوت عن هذا سوف يزعزع ايمان الناس بالقرآن الكريم.. القاعدة الكبرى والوحيدة للاسلام..
    الناس ما يزالون يتذكرون بأسى فتنة « خلق القرآن » التي


178
أثارها المعتزلة وامتحن الناس بها وتسببت في اراقة دماء الكثير من الابرياء..
    هل وقع الكندي في فخ ظاهر المفردات القرآنية ، أوانه غرق في بحر الفلسفة التي هي في رأية علم بالحقيقة وأن التنكر للفلسفة كفر؟ ثم وجد تناقضاً بين الافكار الفلسفية وآيات القرآن ، فانطلق يبحث عن تناقضات القرآن مدافعاً عن الفلسفة‍‍‍‌‌‍!!
    غافلاً عن حقائق كبرى تتضمنها لغة من اشتراك المفردة في اكثر من معنى ، وقصور الفهم البشري عن استيعاب المفردة القرآنية .. وادراك المعنى الحقيقي من المجازي..
    والتقى الامام تلميذاً من تلامذة الكندي فقال له وهو يحاوره: ـ أما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟
    قال التلميذ:
    ـ وكيف يمكن لتلامذته الاعتراض عليه في هذا وفي غيره ؟!
    قال الامام وهو يفتح له آفاق المعرفة:
    ـ أتؤدي اليه ما ألقيه عليك؟
    قال التلميذ مرحّباً:
    ـ نعم يا سيدي!
    قال الإمام:


179
    ـ إذهب اليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ماهو بسبيله فاذا وقعت الأنسة فقل :
    « قد حضرتني مسألة أسألك عنها ؟
    وعندها سيقول لك ماهي؟
    فقل له : إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن ، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها وذهبت اليها ؟
    سيقول لك : إنه من الجائز لأنه رجل يفهم إذا سمع .
    فإن أجابك بالإيجاب ، فقل له : فما يدريك لعله أراد غير هذا الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغيره معانيه ..
    وانطلق الرجل الى منزل الكندي وراح الفيلسوف العربي يصغي بانتباه الى كلمات تنسف مبانيه نسفاً فتجعلها قاعاً صفصفاً !
    قال الفيلسوف وكأنه صحا من وقع الصدمة المباغتة :
    ـ اقسم عليك أن تخبرني من أين لك هذه الكلمات ؟!
    قال التلميذ :
    ـ انه اشكال عرض في قلبي .
    قال الفيلسوف بإصرار :
    ـ كلا ! انك أعجز من ذلك .. عرّفني من أين لك هذا ؟
    قال التلميذ مستسلماً :
    ـ أمرني بذلك الامام أبو محمد !


180
    قال الفيلسوف وقد خشع قلبه لإهل البيت :
    ـ الآن جئت بالحق .. وما كان ليخرج مثل إلاّ من ذلك البيت !
    وعلى الفور ألقى الكندي أوراقه الصفر في موقد النار (165) وراح ينظر الى السنة اللهب المتصاعدة فيما تشهد أعماقه ميلاد أفكار جديدة (166) .
    وتنفس الامام الحسن الصعداء بعد أن تناهى اليه موقف الفيلسوف الكندي ..
    وشهد شارع « درب الحصا » ذلك اليوم حركة غير عادية اثر قيام الخليفة المعتمد بزيارة مفاجئة للامام في منزله !
    الهواجس وحدها وراء هذه الزيارة .. . فالمعتمد لم يكن واثقاً من استمراره في الحكم .. وكان اليأس يملأ قلبه بعد أن عمّت الاضطرابات والقلاقل أرجاء البلاد .. ولكنه لا يشعر بالخطر الجاد إلاّ ازاء تنامي نفوذ أخيه الموفق القائد العام للجيوش العباسية والحاكم العسكري العام ..
    لقد فكر المعتمد بطريقة تمكّنه من بسط نفوذه وتعزيز مركزه ولكن دون جدوى ، فالاجواء من الارتباك بحيث يصعب الركون الى شيء أو التكهن بشيء ..
    من أجل هذا قصد زيارة الامام والاجتماع به على انفراد ..
    لقد اثارت هذه الزيارة دهشة الكثيرين وستبقى علامة