إنّ ما تعرّضت له وحيدة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وحبيبته وأعزّ الناس عليه بعد
رحيله إلى رضوان ربه ورحمته ، يعتبر الحلقة الاُولى من مسلسل التآمر
على عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتمثل في اغتصاب حقّهم ـ الذي سطّرته السماء
لهم ، باعتبارهم ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياءه وولاة الأمر من بعده ـ والاستغناء
عنهم في المشورة ، مع شدّة الوطأة عليهم في أمر البيعة ، واهتضام
حقوقهم سواءً كانت نحلةً أو إرثاً أو فيئاً أو خمساً ، وسوقهم مع سائر
الرعايا بعصا واحدة ، هذا والجرح لمّا يندمل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا يجفّ تراب
رمسه الشريف المطهّر .
ولم تنته تلك المؤامرة بقتل الحسن والحسين عليهما السلام سيدي شباب أهل
الجنة ، وقتل أولادهم وسبي ذراريهم ، وتتبّع شيعتهم ومحبيهم وأتباعهم
تحت كل حجر ومدر ، بل لازالت متواصلة الفصول تفعل فعلتها في
استهداف الخطّ الرسالي الأصيل وعزله عن أداء دوره في بناء الإنسان
والمجتمع .
ولقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحصول كلّ هذا من بعده فقال : « إن أهل بيتي
فليته يرى بضعته الصديقة الطاهرة وسيدة عترته ، كيف تعرضت
لموت بطيء وهي مكلومة الفؤاد قريحة العين منهدّة القوى ، قد أغار
أصحابه على منزلها يحشّون الحطب ويذكون النار في بابها ، وهي تبكي
وتستغيث : « يا أبتِ يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن
أبي قحافة » (4) .
ولم يقف الأمر إلى هذا الحدّ ، بل إنّهم سلبوها نحلتها ومنعوها إرثها
وإرث عميد بيتها أمير المؤمنين عليه السلام وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه وولي
المؤمنين من بعده ، حتى ودّعت الحياة وهي غضبى على أُمّة تكالبت
على تراث محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المحتضر ، متجاهلة كلّ نصّ ووصية ،
متنكرةً لتعاليم السماء ووحيها ووصايا نبيها . وهكذا انقلبت على عقبيها
كما يرشدنا إلى ذلك قول الله العظيم : ( وما محمد إلاّ رسول قد خلت من
قبله الرسل أفان مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن
يضر الله شيئاً ) (5) .
ولاريب أنّ موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس موتاً لمبادئه ووصاياه ، فمن ينقلب
ولقد سجّل بعض الصحابة أرقاماً فاقت حدّ التصور في الإحداث
والانقلاب بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا مصاديق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ليردنّ عليّ
الحوض رجالٌ ممّن صحبني ورآني ، حتى إذا رفعوا إليّ ورأيتهم اختلجوا
دوني ، فلاَقولنّ : ربّ أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، انهم
ارتدوا على أعقابهم القهقري » ، وفي لفظ آخر : « فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا
مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم » (1) .
ويؤكد انقلابهم على أعقابهم ما أخرجه الواقدي ومالك من حديثه صلى الله عليه وآله وسلم
حين صلّى على شهداء أُحد فقال : « أنا على هؤلاء شهيد » . فقال أبو بكر :
ألسنا يا رسول الله بإخوانهم ، أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « بلى ، ولكن لا أدري ما تُحدِثون بعدي » (2) .
وهكذا كان عميد البيت النبوي وسيدته سيدة نساء العالمين عليهما السلام
الضحية الاُولى لاُولئك المُحدِثين والمنقلبين ، لاَنّهما القطب الذي تدور
عليه المعارضة والوجه الذي يحاكي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خُلقاً وأخلاقاً ومنطقاً
وهدياً ، ويذكّر الاُمّة بسنته وكتاب ربّه ، فضلاً عن أنّ الزهراء عليها السلام تمثل
أحد الجناحين اللذين يطير بهما وصي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام وأحد
عن جابر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي عليه السلام قبل موته
بثلاث : « سلام الله عليك يا أبا الريحانتين ، أوصيك بريحانتي من الدنيا
خيراً ، فعن قليل ينهدّ ركناك ، والله خليفتي عليك » .
قال : فلمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال علي عليه السلام : « هذا أحد ركني الذي قال
لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » فلمّا ماتت فاطمة عليها السلام قال علي عليه السلام : « هذا الركن الثاني
الذي قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » (1) .
ومن هنا نجد في الروايات أنّه ما بايع أمير المؤمنين عليه السلام حتى ماتت
فاطمة عليها السلام ، وكان له وجه في الناس طيلة حياتها ، روى الزهري عن
عائشة ، أنها قالت : كان لعلي عليه السلام من الناس وجه في حياة فاطمة عليها السلام ،
فلمّا توفيت فاطمة عليها السلام انصرفت وجوه الناس عنه عند ذلك .
وقيل للزهري : فلم يبايعه عليّ حتى ماتت فاطمة عليها السلام ؟ قال : ولا أحد
من بني هاشم حتى بايعه علي عليه السلام (2) .
ولقد شاءت الارادة الالهية أن تكون مظلومية الزهراء عليها السلام مصداقاً حيّاً
وناطقاً إلى الأبد لذلك الانقلاب الخطير الذي تغشّى الاُمّة بعد وفاة
قالت عليها السلام وهي تندب أباها صلى الله عليه وآله وسلم :
وفي ما يلي ثلاثة مباحث تعكس لنا صوراً من حياة الزهراء عليها السلام
ومواقفها منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى وفاتها سلام الله عليها :
لقد سجّل بعض الصحابة أول بادرة للانقلاب في حياة الرسول
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وكان يوم الخميس ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجّىً قد اشتدّ به الوجع ،
فكانت الرزية ، قال ابن عباس رضي الله عنه : لمّا اشتد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مرضه الذي مات
فيه قال صلى الله عليه وآله وسلم : « ائتوني بدواةٍ وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي » .
فقال عمر : إنّ رسول الله قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله ـ وفي لفظ آخر :
ما شأنه أهجر ، استفهموه! ـ فاختلف القوم واختصموا ، فمنهم من يقول :
القول ما قال رسول الله ، ومنهم من يقول : القول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا
اللغط والاختلاف عنده صلى الله عليه وآله وسلم غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم : « قوموا عني ،
لا ينبغي عندي التنازع » .
قال ابن عباس : الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن
يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم (1) .
فقدموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال تعالى : ( يا أيُّها الذين آمنوا لا
تقدموا بين يدي الله ورسوله ) (2) وأكثروا اللغط في حضرته وقد قال
وعصوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم جهرة ، والله تعالى يقول : ( ومن يعصِ الله
ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينا ) (2) .
وهكذا انشغلت الاُمّة عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم بمجرد إحساسها بفقده ، لتدخل
في صراعات كان بامكانهم تجنبها لو استمعوا لما يكتب لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
وهو في المحتضر ، وكان ذلك الانقلاب يمثل حجر الزاوية لكلِّ مظلمة
حدثت على طول التاريخ .
في محتضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أحنت الزهراء عليها السلام على أبيها صلى الله عليه وآله وسلم ،
ارتسمت على شفتيها ابتسامة عقيب بكاءٍ هزّ كيانها ، ممّا أثار الدهشة
والتساؤل عند البعض حتى فسّرت لهم سرّ ذلك بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم .
روي عن ابن عباس وعائشة أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا فاطمة عليها السلام في شكواه
التي قُبض فيها ، فسارّها بشيءٍ فبكت ، ثمّ دعاها فسارّها فضحكت ،
فسئلت عن ذلك ، فقالت بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم : « سارّني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرني أنّه
يُقبض في وجعه الذي تُوفّي فيه فبكيت ، ثم سارّني فأخبرني أنّي أول من
يتبعه من أهل بيته فضحكت » (3) .
=
قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام : « مكثت فاطمة عليها السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة
أشهر ، وما رؤيت ضاحكة بعده » (2) .
وكانت عليها السلام تعبّر بتلك الدموع عن مرارة الألم لفراق أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وشدة
الحزن لفقده ، وتحكي مظلوميتها واغتصاب حقّ الوصيّ وحقّها ، وما
يعتلج بصدرها من معاناة لم تجد إلى بثّها سبيلاً إلاّ بالدموع .
قال أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن نفض يديه من تراب قبرها عليها السلام وهو
يناجي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « وستنبئك ابنتك بتضافر أُمّتك على هضمها ،
فأحِفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليلٍ معتلج بصدرها لم تجد
إلى بثّه سبيلاً » (3) .
الهجوم على دار الزهراء عليها السلام وما ترتب عليه :
مضى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلى سقيفة بني ساعدة ، ولم يبق حول
فارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللغط بين المهاجرين والأنصار ،
ثم إن عمر بن الخطاب ضرب على يد أبي بكر فبايعه الناس ، ثم أتوا به
المسجد يبايعونه ، فسمع العباس وعلي عليهما السلام التكبير في المسجد ولم
يفرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) .
وكان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّاً عليه السلام هو صاحب
الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3) ، فتخلّف قوم من المهاجرين والأنصار
وجمهور الهاشميين عن بيعة أبي بكر ، وكان منهم : العباس بن
عبدالمطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد ،
والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ،
والبرّاء بن عازب ، وأُبي بن كعب ، وعتبة بن أبي لهب ، وغيرهم (4) ،
وروي أنّهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليّاً عليه السلام (5) .
وكان أمير المؤمنين عليه السلام قد اعتزل الناس بعد أن فرغ من جهاز رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وعكف على جمع القرآن الكريم بعهدٍ من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ،
وروي أنّه عليه السلام قال : « لا أرتدي حتى أجمعه » ، وقالوا : إنّه لم يرتدِ إلاّ
للصلاة حتى جمعه (1) .
وفي تلك الاثناء بلغ أبو بكر أن جماعة منهم العباس قد اجتمعوا مع
علي ابن أبي طالب عليه السلام في منزل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث إليهم
عمر بن الخطاب ، وخالد بن الوليد في رجالٍ من الأنصار ونفرٍ من
المهاجرين أرسلهم أبو بكر رِدءاً لهما ، كزياد بن لبيد الأنصاري ، وعبد
الرحمن بن عوف ، وأُسيد بن حُضير ، ومسلمة بن سلامة بن وقش ،
ومحمد بن مسلمة ، وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي ، وسلمة بن
أسلم (2) ، والمغيرة بن شعبة ، وسالم مولى أبي حذيفة (3) .
فجاء عمر بن الخطاب فناداهم وهم في دار علي عليه السلام : لتخرجنّ إلى
البيعة أو لاُحرقنّها على من فيها! فقيل له : يا أبا حفص؟ إنّ فيها فاطمة!
فقال : وإن (4) !! .
فلمّا سمعت فاطمة عليها السلام أصواتهم نادت بأعلى صوتها : « يا أبتِ يا رسول
الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟! » فلمّا سمع القوم
وخرج إليهم الزبير مصلتاً سيفه ، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل
آخر ، فندر السيف من يده ، فضرب به عمر الحجر فكسره (4) ، ثم
أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقاً عنيفاً (5) .
وروي أنّهم قالوا : ليس عندنا معصية ولا خلاف . . وإنما اجتمعنا لنؤلف
القرآن في مصحف واحد ، ثم بايعوا أبا بكر (6) .
واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال ، ورأت
فاطمة عليها السلام ما صنع عمر ، فصرخت وولولت ، واجتمع معها نساء كثيرة من
الهاشميات وغيرهنّ ، فخرجت إلى بابها ، وقالت : « يا أبا بكر ، ما أسرع
ما أغرتم على أهل بيت رسول الله! والله لا أُكلّم عمر حتى ألقى الله » (7) .
وقالت عليها السلام : « لا عهد لي بقومٍ حضروا أسوأ محضرٍ منكم ، تركتم رسول
الله جنازةً بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم تروا (1) لنا
حقاً (2) ، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خمّ ، والله لقد عقد له يومئذ
الولاء ، ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم
وبين نبيكم ، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة » (3) .
وأخرجوا عليّاً عليه السلام ومضوا به إلى أبي بكر ، فقال له عمر : بايع . فقال عليه السلام :
« إن أنا لم أفعل فمه ؟ » قال عمر : إذن والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك !
فقال : « إذن تقتلون عبد الله وأخو رسوله » . قال عمر : أما عبدالله فنعم ،
وأما أخو رسوله فلا (4) ، وأبو بكر ساكت . فقال له عمر : ألا تأمر فيه
بأمرك؟ فقال : لا أُكرهه على شيءٍ ما كانت فاطمة إلى جنبه (5) .
ولم يبايع عليٌّ أبا بكر حتى ماتت فاطمة عليها السلام بعد ستة أشهر ، فلمّا
ماتت عليها السلام ضرع إلى صلح أبي بكر (6) .
اندفع القوم إلى بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرعوا لها حرمة ،
ولا لاَبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ذمّة ، وقد رافق الهجوم على الدار بعض
الأحداث المخالفة للشرع والدين والضمير والوجدان والأعراف والسجايا
الانسانية ، وكلّها مصاديق تحكي قصة الانقلاب على الأعقاب والإحداث
بعد غياب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن تلك الأحداث :
ثبت إحراق البيت المقدس من طريق الفريقين ، فقد روي أنّهم جمعوا
الحطب الجزل حول بيت الزهراء عليها السلام ، وأضرموا النار في بابه ، حتى
أخذت النار في خشب الباب (1) .
وروى الثقفي بالاسناد عن حمران بن أعين ، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه
قال : « والله ما بايع علي حتى رأى الدخان قد دخل بيته » (2) .
وقال المسعودي : فأقام أمير المؤمنين عليه السلام ومن معه من شيعته في
منزله بما عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوجّهوا إلى منزله ، فهجموا عليه
وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كُرهاً (3) .
وقد بلغ من اشتهار هذا الأمر أن سجّله كثير من الشعراء منذ القرون
الأولى وإلى اليوم ، ومنهم عبدالله بن عمار البرقي ت 245 هـ حيث قال :
وقال علاء الدين الحلي المقتول سنة 786 هـ :
ووردت الأخبار بهذا المضمون من طرق العامة أيضاً ، فقد ذكر السيد
المرتضى رضي الله عنه أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة ممن لايتهم على
القوم (3) ، وفي ما يلي بعض رواياتهم :
روى البلاذري عن سليمان التيمي وعبدالله بن عون أنهما قالا : إنّ أبا
بكر أرسل إلى علي عليه السلام يريد البيعة ، فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة ،
فتلقّته فاطمة عليها السلام على الباب . فقالت فاطمة عليها السلام : يابن الخطاب ، أتراك
محرقاً عليّ بابي؟ قال : نعم ، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك (4) .
وذكر ابن عبد ربه الذين تخلفوا عن البيعة لاَبي بكر : علي عليه السلام والعباس ،
والزبير ، وسعد بن عبادة ، قال : فأمّا علي عليه السلام والعباس والزبير ، فقعدوا في
وقد سجّل شاعر النيل حافظ إبراهيم هذه المكرمة لعمر بن الخطاب
حيث قال :
وليته لم يَفُه بها ، فإنّها كانت سُبّة له وموبقة عظيمة لا تفارقه أبداً ، حتّى
يلقى الله تعالى وبنت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم غضبى عليه ، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم حرب
عليه ، لاَنّه صلى الله عليه وآله وسلم حربٌ لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم (3) .
وظنّ شاعر النيل أنّ ذلك كان من شجاعة عمر ، وفات عنه أنّه لم تثبت لعمر
قدم في المقامات المشهورة كما لم تروَ له صولة ولم تعرف عنه جولة ،
كما فات عنه أنّ صبر أمير المؤمنين عليه السلام على القوم ما كان إلاّ بعهدٍ من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بالصبر عند خذلان الاُمّة (3) ، وأنّه عليه السلام كان يقول واصفاً
حاله بعد البيعة : « فنظرتُ فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي ، فضننتُ بهم عن
الموت ، وأغضيتُ على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ
الكظم وعلى أمرّ من طعم العلقم » (4) .
وقال عليه السلام : « وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء ، أو أصبر على
طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن
حتى يلقى ربه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرتُ وفي العين
قذىً ، وفي الحلق شجىً ، أرى تراثي نهباً . . . » (5) .
وخلاصة القول إنّه عليه السلام آثر بقاء الإسلام الذي نذر حياته وخاض الغمرات
لاَجله ، فنراه في أحرج المواقف التي واجهته بعد البيعة كان يقول :
الاحراق ذريعة للظلم :
إنّ إحضار الحطب حول بيت القدس والطهارة من قبل رجال الخلافة
وإذكاء النار في بابه لانتزاع البيعة من أمير المؤمنين عليه السلام قد صار ذريعة
للظالمين وسُنّة لطواغيت الاُمّة على طول التاريخ ، فقد روى المؤرخون
أنّ عروة بن الزبير كان يعذر أخاه عبدالله في حصر بني هاشم في الشعب ،
وجمعه الحطب ليحرقهم ، وكان يقول : إنّما أراد بذلك ألاّ تنتشر الكلمة ،
ولا يختلف المسلمون ، وأن يدخلوا في الطاعة ، فتكون الكلمة واحدة ،
كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر ، فانّه
أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار (2) .
2 ـ إيذاء الزهراء عليها السلام بالضرب والاسقاط :
وكان من امتدادات ذلك الهجوم أن تعرّض القوم لفاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بالضرب ممّا أدى إلى إسقاط جنينها ، فشكت من أثر ذلك الضرب
حتى التحقت بربها شهيدة مظلومة ، وقد استفاضت الروايات بذلك
وثبت عند أعلام الطائفة .
قال الشيخ الطوسي رضي الله عنه : وقد روي أنّهم ضربوها بالسياط ، والمشهور
الذي لا خلاف فيه بين الشيعة أن عمر ضرب على بطنها حتى أسقطت ،
ونقل الشيخ ابن شهرآشوب عن (المعارف) لابن قتيبة أنّ المحسن
سقط من زخم (4) قنفذ العدوي (5) الذي أمره عمر بضرب الزهراء عليها السلام .
وكان من آثار ذلك الضرب أن مرضت الزهراء عليها السلام ولازمت فراشها حتى
التحقت بربها ، كما أخبر بذلك أولاد الزهراء عليهم السلام (6) ، وقد أطبقت كلمتهم
وذكره العامّة أيضاً وقالوا : انّه مات صغيراً . راجع : تاريخ الطبري 5 : 153 . والكامل | ابن الأثير
3 : 397 . وأنساب الأشراف | البلاذري 2 : 411 . والإصابة 3 : 471 . وميزان الاعتدال |
الذهبي 1 : 139 . ولسان الميزان | ابن حجر 1 : 268 .
ومما يدلّ على شيوع هذا الأمر وشهرته هو أن تناوله الشعراء مندّدين به
مزرين على فاعله ، وذلك منذ القرون الاُولى وإلى اليوم ، قال السيد
الحميري المتوفى 173 هـ :
وقال القاضي النعمان المتوفى سنة 363 هـ في أرجوزته المختارة :
إلى أن قال :
وقال الأمير علي بن مقرب الاحسائي المتوفّى سنة 629 هـ :
إلى أن قال :
ونقل ذلك من غير طرق الشيعة ، فعن محمد بن أحمد بن حماد
الكوفي الحافظ ، في ترجمة أحمد بن محمد السري بن يحيى بن السري
ابن أبي دارم ، قال : كان مستقيم الأمر عامة دهره ، ثمّ في آخر أيامه كان أكثر
مايقرأ عليه المثالب ، حضرته ورجل يقرأ عليه أنّ عمر رفس فاطمة عليها السلام
حتى أسقطت محسناً (3) .
وعن إبراهيم بن سيار النظام ، قال : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة
ونقل البغدادي والمقريزي عن النظام أنه قال : إنّ عمر ضرب فاطمة
ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنع ميراث العترة (3) .
ولا ندري كيف يجعل مرتكب مثل هذه الاُمور الفضيعة نفسه إماماً
للاُمّة ، وفي موقع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويؤتمن على الدين والإنسان والأخلاق
وأموال الناس وأعراضهم ، ويوفّر لهم الكرامة والعزّة ، ويربّي الناس على
الفضيلة والدين والأخلاق؟!
ثم إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحبّ من يبغض فاطمة ، ولو بكلمة واحدة ،
فلماذا يُلام محبّو فاطمة عليها السلام على بغض قاتلها؟
اعتراف أبي بكر بالهجوم :
إنّ التجاوز على حرمة بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإدخال الرجال
فيه ، وهتك حرمته المقدسة ، قد صرّح به أبو بكر في لحظاته الأخيرة ، وفي
ذلك دلالة قاطعة على حدوث هذا الهجوم وما رافقه من أحداث أليمة ،
وعلى خطأ أبي بكر في الايعاز إلى جنده بقيادة ابن الخطاب للقيام بذلك
العمل المنافي لاَبسط حقوق الزهراء ، والمؤدي إلى غضب الله تعالى
ورسوله الكريم وصالح المؤمنين .
عن عبدالرحمن بن عوف : أنّه سمع أبا بكر يقول في مرضه الذي توفي
فيه : وددت أني لم أكن فتّشت بيت فاطمة وأدخلته الرجال ، ولو كان أُغلق
على حرب . وفي رواية : ليتني لم أكن كشفت بيت فاطمة عن شيءٍ ، وتركته
ولو أُغلق على حرب (1) .
البيعة تأصيل للغدر وذريعة للظلم :
إنّ البيعة التي لاَجلها كان الهجوم على دار الزهراء عليها السلام مغرس الإسلام
ومهبط الوحي ، هي مصداق للانقلاب والإحداث في الإسلام وتجسيد
لنزعة الغدر والعدوان في هذه الاُمّة ، وهذا ما أعلم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيَّه
أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد روى الجوهري بالاسناد عن حبيب بن ثعلبة ، قال :
سمعت عليّاً عليه السلام يقول : « أما وربّ السماء والأرض ـ ثلاثاً ـ إنّه لعهد النبي
الاُمي صلى الله عليه وآله وسلم إليّ : لتغدرنّ بك الاُمّة من بعدي » (2) .
فالبيعة لا تمتلك أدنى المقومات الشرعية ، ولم تتحصّن بأيّ سبب معقول
أو منقول ، بل كانت كما وصفها أبو بكر (3) وعمر (4) : فلتةً وقى الله شرّها ،
والحقّ أنّ شرها كان مستطيراً ، فهي حجر الزاوية لكلِّ مظلمة حدثت
فالبيعة إذن كانت اتفاقاً سرياً ، فعلى الرغم من أنهم كانوا يعرفون فضل
أمير المؤمنين عليه السلام وحقه لازماً عليهم ، لكنهم اتفقوا واتسقوا على أن
يبتزّوه حقه ويخالفوه على أمره .
روى الجوهري عن ابن عباس أن عمر قال له ليلة الجابية : إنّ أول من
ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر ، إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة
والنبوة . قال : قلت : لمَ ذاك يا أمير المؤمنين؟ ألم نُنِلهُم خيراً؟! قال : بلى ،
وذلك الاتفاق يهدف إلى إقصاء عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أداء دورهم
الرسالي ، وهضم حقوقهم ، والاستيلاء على الملك ، مهما كانت الوسائل ،
وحتى لو انتهت بقتل أمير المؤمنين عليه السلام (وأرادا به العظيم) (2) كما قتلوا
سعد ابن عبادة ، الذي ذهب إلى الشام مهاجراً ومغاضباً لاَصحاب
السقيفة بعد أن هتف عمر أمام المهاجرين والأنصار : اقتلوه قتله الله ، فإنّه
صاحب فتنة (3) ، ثم بعث رجلاً إلى الشام ، فرماه بسهم فقتله (4) .
وما كان اهتمام عمر بانتزاع البيعة بشتى الوسائل ، وإن أدى إلى القتل
والتحريق ، إلاّ إمضاءً لذلك الاتفاق وحرصاً على تحقيق كامل أهدافه .
عن ابن عباس ، قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي عليه السلام حين
قعد في بيته ، وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلمّا أتاه جرى بينهما كلام ،
فقال علي عليه السلام : احلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم
إلاّ ليؤمّرك غداً (5) . وفي رواية : أشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غداً (6) .
ولهذا كشفت الزهراء عليها السلام عن موقفها من سلطة السقيفة أمام الملأ حينما