صدق الله ، وصدق رسوله ، وصدقت ابنته ، أنتِ معدن الحكمة ،
وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، لا أُبعد صوابك ، ولا أُنكر خطابك ،
هؤلاء المسلمون بيني وبينك ، قلّدوني ما تقلّدت ، وباتفاق منهم أخذت
ما أخذت ، غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود .
فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى الناس وقالت : « معاشر الناس المسرعة إلى قيل
الباطل ، المغضية على الفعل القبيح الخاسر ( أفلا يتدبرون القرآن أم على
قلوبٍ أقفالها ) (1) كلا بل ران على قلوبهم ، ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ
بسمعكم وأبصاركم ، لبئس ما تأوّلتم ، وساء ما به أشرتم ، وشرّ ما منه
اعتضتم ، لتجدنّ والله محمله ثقيلاً ، وغبّه (2) وبيلاً ، إذا كشف لكم الغطاء ،
وبان ما وراء الضَّراء (3) وبدا لكم من ربّكم مالم تكونوا تحتسبون ، وخسر
هنالك المبطلون » (4) .
=
ثمّ عطفت على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالت : =
قال الراوي : ثمّ ذهبت فتبعها رافع بن رفاعة الزرقي ، فقال لها : يا سيدة
النساء ، لو كان أبو الحسن تكلّم في هذا الأمر ، وذكر للناس قبل أن يجري
هذا العقد ، ما عدلنا به أحداً . فقالت عليها السلام : « إليك عنّي ، فما جعل الله لاَحدٍ
بعد غدير خمٍّ من حجّة ولا عذر » .
قال : فما رأينا يوماً كان أكثر باكياً ولا باكية من ذلك اليوم (1) ، وارتجّت
المدينة ، وهاج الناس ، وارتفعت الأصوات (2) .
كان لخطبة الزهراء عليها السلام أثر بالغ ومحرّك لنفوس الناس ، سيّما الأنصار منهم ،
لما تحمله تلك الخطبة من الواقعية والصدق والاستناد إلى أُسس متينة
قوامها الكتاب الكريم والسُنّة النبوية المباركة ، في بيان مظلوميتها وفي
إشادتها بفضل أمير المؤمنين علي عليه السلام وأحقيته في خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،
ممّا جعل الأنصار يهتفون باسم علي عليه السلام ، فاستشعر رجال السقيفة الخطر
من هذه البادرة ، فنادى أبوبكر الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فأرعد وأبرق .
روى الجوهري عن جعفر بن محمد بن عمارة بعدة طرق ، قال : لما سمع
أبو بكر خطبتها شقّ عليه مقالتها ، فصعد المنبر وقال : أيُّها الناس ، ما هذه
ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت ، ولو قلت لبحت ، وإنّي ساكت ما تُركِت .
ثم التفت إلى الأنصار فقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم ،
فو الله إنّ أحقّ الناس بلزوم عهد رسول الله أنتم ، فقد جاءكم فآويتم
ونصرتم ، وأنتم اليوم أحقُّ من لزم عهده ، ومع ذلك فاغدوا على
أُعطياتكم ، فإنّي لست كاشفاً قناعاً ، ولا باسطاً ذراعاً ولا لساناً إلاّ على من
استحقّ ذلك والسلام؛ ثم نزل فانصرفت فاطمة عليها السلام إلى منزلها (3) .
قال ابن أبي الحديد : قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر
ابن يحيى بن أبي زيد البصري ، وقلت له : بمن يعرّض؟ فقال : بل يصرّح .
قلت : لو صرّح لم أسألك ، فضحك وقال : بعلي بن أبي طالب عليه السلام . قلت :
هذا الكلام كلّه لعليّ يقوله! قال : نعم ، إنّه الملك يا بني . قلت : فما مقالة
الأنصار؟ قال : هتفوا بذكر علي عليه السلام فخاف من اضطراب الأمر عليهم
فنهاهم (4) .
تظافرت الروايات عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام وعبدالله
ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والدلالة ،
ومهبط الروح الأمين ، والطَّبين (5) بأمور الدنيا والدين؟! ( ألا ذلك هو
الخسران المبين ) (6) .
وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا منه والله نكير سيفه ، وقلّة مبالاته
بحتفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله عزَّ وجل .
وتالله لو تكافّوا عن زمامٍ نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاعتقله (1) ثمّ لسار بهم
سيراً سُجحاً (2) ، لا يُكلم خشاشه ، ولا يكلّ سائره ، ولا يملّ راكبه ، ولاَوردهم
منهلاً نميراً صافياً رويّاً فضفاضاً ، تطفح ضفتاه ، ولا يترنّق (3) جانباه ،
ولاَصدرهم بطاناً ، ونصح لهم سراً وإعلاناً ، ولم يكن يتحلّى من الغنى
بطائل (4) ، ولا يحظى من الدنيا بنائل ، غير ريّ الناهل ، وشبعة الكافل ، ولبان
لهم الزاهد من الراغب ، والصادق من الكاذب ( ولو أنّ أهل القرى آمنوا
لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا
يكسبون والذين ظلموا ) من هؤلاء ( سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم
بمعجزين ) (5) .
ألا هلم فاستمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب فعجب قولهم .
ليت شعري إلى أيّ لَجأ لجأوا ، وإلى أيّ سناد استندوا ، وعلى أي عماد
اعتمدوا ، وبأيّ عروة تمسكوا ، وعلى أيّ ذريّة قدّموا واحتنكوا (6) ! (لبئس
المولى ولبئس العشير ) (7) وبئس للظالمين بدلاً .
استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قومٍ
أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملء القَعب دماً
عبيطاً ، وذعافاً مبيداً ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبّ ما أسس
الأولون ، ثم طيبوا عن دنياكم نفساً ، واطمئنّوا للفتنة جأشاً (4) ، وابشروا
بسيف صارم ، وسطوة معتدٍ غاشم ، وبهرج دائمٍ شاملٍ ، واستبدادٍ من
الظالمين ، يدع فيأكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً . فيا حسرتى لكم ، وأنّى بكم
وقد عميت عليكم؟! ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) (5) » .
قال سويد بن غفلة : فأعادت النساء قولها على رجالهنّ ، فجاء إليها قوم
من المهاجرين والأنصار معتذرين ، وقالوا : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن
ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يُبرَم العهد ويُحكَم العقد ، لما عدلنا إلى غيره .
فقالت عليها السلام : « إليكم عنّي ، فلا عذر بعد تعذيركم ، ولا أمر بعد
تقصيركم » (6) .
لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونال الزهراء عليها السلام ما نالها من القوم ، لزمت
الفراش ، ونحل جسمها ومرضت مرضاً شديداً (1) ومكثت أربعين ليلة
في مرضها إلى أن توفيت (صلوات الله عليها) (2) وكان أمير المؤمنين عليه السلام
يمرضها بنفسه ، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس (3) .
فلمّا نعيت إليها نفسها ، أوصت أمير المؤمنين عليه السلام أن يتزوج بابنة أُختها أُمامة
بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحبّها لاَولادها ، وأن يتخذ لها نعشاً وصفته
له ، وأن لا يدع أحداً يشهد جنازتها ممن ظلمها ، ولا يصلي عليها أحد منهم ،
وأن يتولى أمرها بنفسه ، ويدفنها في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار (4) .
وروي أنّ أسماء بنت عميس هي التي وصفت صورة النعش لفاطمة عليها السلام
قال ابن عباس رضي الله عنه : فقبضت فاطمة عليها السلام فارتجّت المدينة بالبكاء من
، الرجال والنساء ، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2)
واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخن صرخة واحدة ، كادت
المدينة تتزعزع من صراخهن ، وهن يقلن : يا سيدتاه ، يا بنت رسول الله ،
وأقبل الناس إلى علي عليه السلام مثل عرف الفرس وهو جالس ، والحسن
والحسين عليهم السلام بين يديه يبكيان ، فبكى الناس لبكائهما .
وخرجت أُمّ كلثوم عليها السلام وعليها برقعها تجرّ ذيلها ، متجلّلة برداء عليها
تسحبه ، وهي تقول : يا أبتاه ، يا رسول الله ، الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاء
بعده أبداً (3) .
وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام وقع على وجهه وهو يقول : « بمن العزاء يا
بنت محمد ، كنت بك أتعزّى ، ففيم العزاء من بعدك؟ » (1) .
واجتمع الناس وهم يرجون أن تخرج جنازة الزهراء عليها السلام فيصلّوا عليها ،
فخرج أبو ذر رضي الله عنه وقال : انصرفوا ، فإنّ ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أُخّر إخراجها
في هذه العشية ، فقام الناس وانصرفوا (2) .
لمّا توفيت فاطمة عليها السلام قام أمير المؤمنين عليه السلام بجميع ما أوصته ، فتولى
غسلها بنفسه (3) ، وكفّنها في سبعة أثواب (4) . وقيل : أعانته على غسلها
أسماء بنت عميس بوصية من الزهراء عليها السلام (5) ، وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام
أمر الحسن والحسين عليهما السلام يدخلان الماء (6) ، وكانت أسماء تصبّ عليه (7) .
ولم يحضرها إلاّ الحسن ، والحسين ، وزينب ، وأُمّ كلثوم ، وفضة
جاريتها ، وأسماء بنت عميس (1) .
وعن أُمّ سلمة ، وسلمى امرأة أبي رافع ، وعبدالله بن محمد بن عقيل ،
قالوا : إنّ الزهراء عليها السلام اغتسلت قبل مماتها كأحسن ما كانت تغتسل ،
وتحنّطت ولبست ثيابها الجدد ، واستقبلت القبلة ، وقالت : « إنّي مقبوضة
فلا أكشفن ، فاني قد اغتسلت » فتوفّيت عليها السلام وحملها علي عليه السلام بغُسلها (2) .
وهذا الخبر معارض بما تقدّم من وصيتها بالغُسل ، وأنّ أمير
المؤمنين عليه السلام تولّى غسلها ، كما أنّ الحكم على خلافه ، إذ لا يجوز الدفن إلاّ
بعد الغسل سوى في مواضع ليس هذا منها .
وأوّل العلاّمة المجلسي رحمه الله هذا الخبر بكونها عليها السلام لم تنه عن الغسل ، بل
نهت عن كشف بدنها لغرض التنظيف (3) ، فجمع بين الخبرين ، مستدلاً
برواية ورقة بن عبدالله الأزدي ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : « والله لقد
أخذت في أمرها ، وغسلتها في قميصها ، ولم أكشفه عنها ، فوالله لقد كانت
ميمونة
وقال سبط ابن الجوزي : قد تكون مخصوصة بذلك (2) ، وبنحوه قال
علي ابن عيسى الاربلي (3) .
وقال السيوطي : هذا حديث غريب ، وإسناده جيد ... فإن صحّت هذه
القصة ، عُدّ ذلك في خصائصها (4) .
تولّى أمير المؤمنين عليه السلام الصلاة على فاطمة عليها السلام وكبر خمساً (5) ، وكان
معه الحسن والحسين عليهما السلام (6) ونفر من بني هاشم ومن خواصه عليه السلام ، منهم
العباس عمه ، وعقيل ، والفضل بن العباس ، وأبو ذر ، وسلمان ، والمقداد ،
وحذيفة ، وعبدالله بن مسعود ، وعمّار ، والزبير ، وبريدة (7) .
وقد وضع البعض رواية شاذة نادرة ، مفادها أن أبا بكر صلّى على
فاطمة عليها السلام وكبّر أربعاً (8) . والهدف من وضع هذه الرواية واضح ، هو الدلالة
قال سلامة الموصلي :
لمّا جنّ الليل ومضى شطره ونامت العيون ، أخرجها أمير المؤمنين
وسُئل ابن عباس : متى دفنتم فاطمة عليها السلام ؟ فقال : دفناها بليلٍ بعد هدأة .
قيل : فمن صلّى عليها؟ قال : علي عليه السلام (3) .
قال الشيخ كاظم الاُزري رحمه الله : :
وعن الأصبغ بن نباته ، أنه سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن علّة دفنه لفاطمة
وعن علي بن أبي حمزة ، قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام لاَيّ علّة دُفِنت
فاطمة بالليل ، ولم تدفن بالنهار؟ فقال عليه السلام : « لاَنّها أوصت أن لا يصلي
عليها رجال » (2) .
وهكذا يغيّب قبر أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعزّهم عليه في
مجتمع لم يبل فيه قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فحُرِمت الاُمّة من قدس
الزهراء عليها السلام وثواب زيارة بقعتها حتى قيام الساعة .
لقد عبّرت الزهراء عليها السلام في وصيتها بتغييب قبرها عن مظلوميتها
واغتصاب حقوقها ، فجعلت ذلك موضع تساؤل عبر الأجيال يحكي قصة
ظلامة الزهراء عليها السلام وهضم حقوقها والاعتداء عليها ، وقد بانت آثار ذلك
منذ صبيحة الليلة التي دفنت فيها .
روى محمد بن همام باسناده عن رجاله ، قال : إنّ المسلمين لما علموا
وفاة فاطمة عليها السلام جاءوا إلى البقيع ، فوجدوا فيه أربعين قبراً ، فأشكل عليهم
قبرها من سائر القبور ، فضجّ الناس ، ولام بعضهم بعضاً ، وقالوا : لم يخلف
نبيكم إلاّ بنتاً واحدة ، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها ولا دفنها ولا
الصلاة عليها ، ولا تعرفوا قبرها؟! (3) .
وعبّر أمير المؤمنين عليه السلام عن تلك المظلومية حينما فرغ من دفن
الزهراء عليها السلام ، حيث هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خديه ، وحوّل
وجهه إلى قبر أخيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « السلام عليك يا رسول الله ، عنّي
وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والبائنة في الثرى ببقعتك ، والمختار الله لها
سرعة اللحاق بك .
إلى أن قال : وإلى الله أشكو ، وستنبئك ابنتك بتضافر أُمتك على هضمها ،
فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها لم تجد
إلى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين .
إلى أن قال : واهاً واهاً! والصبر أيمن وأجمل ، ولولا غلبة المستولين
لجعلت المقام واللبث عندك لزاماً معكوفاً ، ولاَعولت إعوال الثكلى على
جليل الرزية ، فبعين الله تُدفَن ابنتك سرّاً ، ويُهضَم حقّها قهراً ، ويُمنَع إرثها
جهراً ، ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر ، فإلى الله يا رسول الله
المشتكى ، وفيك يا رسول الله أجمل العزاء ، صلّى الله عليك وعليها السلام
والرضوان (1) .
وقام عليه السلام على شفير القبر فقال :
ثم قال عليه السلام : اللهمَّ إني راضٍ عن ابنة نبيك ، اللهمَّ إنّها قد أُوحشت فآنسها ،
اللهمَّ إنّها قد هُجرت فصِلها ، اللهمَّ إنّها قد ظُلمت فاحكم لها ، وأنت خير
الحاكمين » (2) .
قال الشيخ الصدوق رحمه الله : اختلفت الروايات في موضع قبر فاطمة سيدة
نساء العالمين عليها السلام ، فمنهم من روى أنّها دفنت في البقيع ، ومنهم من روى
أنّها دفنت بين القبر والمنبر ، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنّما قال : « ما بين قبري ومنبري
روضة من رياض الجنة » لاَنّ قبرها عليها السلام بين القبر والمنبر ، ومنهم من روى
أنّها دفنت في بيتها ، فلمّا زادت بنو أُمية في المسجد ، صارت في
المسجد ، وهذا هو الصحيح عندي (3) .
ومستند الشيخ الصدوق رحمه الله في تصحيحه ما رواه عن أبيه بالاسناد عن
أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال : سألت أبا الحسن علي بن
موسى
وذكر الشيخ الطوسي رحمه الله والعلاّمة الطبرسي الأقوال الثلاثة التي ذكرها
الشيخ الصدوق رحمه الله واستبعدا الأول منها ، واستصوبا القولين الأخيرين .
قال الشيخ الطوسي رحمه الله : الأصوب أنها مدفونة في دارها ، أو في
الروضة (3) ، وهاتان الروايتان كالمتقاربتين ، والأفضل عندي أن يزور
الإنسان من الموضعين جميعاً ، فإنّه لا يضرّه ذلك ، ويحوز به أجراً عظيماً ،
وأمّا من قال إنّها دفنت بالبقيع ، فبعيد عن الصواب (4) .
وقال العلاّمة الطبرسي رحمه الله : القول الأول بعيد ـ أي كونها عليها السلام مدفونة
بالبقيع ـ والقولان الآخران أشبه وأقرب إلى الصواب ، فمن استعمل
الاحتياط في زيارتها ، زارها في المواضع الثلاثة (5) .
ورجّح السيد ابن طاووس كونها عليها السلام مدفونة في بيتها (6) ، وكذلك
عبدالعزيز بن عمران ، وقال : إنها دفنت في بيتها ، وصنع بها ما صنع برسول
وقيل أيضاً : إنّها عليها السلام دفنت بالمسجد المنسوب إليها في البقيع ، وهو
المعروف ببيت الحزن ، أو بيت الأحزان ، الذي آوت إليه والتزمت الحزن
فيه عند وفاة أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم (2) ، والله العالم بحقيقة الحال .
قال الشاعر :
وقال ديك الجنّ :
المشهور أن وفاتها عليها السلام كانت في الثالث من جمادى الآخرة (5) ، يوم
=
وفي رواية : لعشر بقين من جمادى الآخرة (2) ، وقيل : لثلاث عشرة ليلة
خلت من ربيع الآخر ليلة الأحد (3) .
وعن ابن عياش : في الحادي والعشرين من رجب (4) .
وقال المدائني والواقدي وابن عبدالبرّ : إنّها توفّيت ليلة الثلاثاء لثلاث
خلون من شهر رمضان (5) .
يختلف مقدار عمر الزهراء عليها السلام بحسب اختلاف الرواية في تاريخ
ولادتها عليها السلام ، وقد قدّمنا ذلك في الفصل الأول ، فعلى ما روي بأنّها عليها السلام
ولدت بعد المبعث بخمس سنين ، يكون عمرها عليها السلام لمّا توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ثماني عشرة سنة ، وهو المشهور (6) .
=
وعلى القول بأنها عليها السلام ولدت قبل المبعث بخمس سنين ، يكون
عمرها عليها السلام عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثماني وعشرين أو تسعاً وعشرين سنة ،
وهو قول أكثر العامّة (1) ، وهناك أقوال اُخرى كثيرة مختلفة في تقدير عمر
الزهراء عليها السلام يوم وفاتها ، سببها الاختلاف في تاريخ ولادتها ومدّة بقائها بعد
أبيها صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد قيل : إنّ عمرها الشريف يوم وفاتها عليها السلام كان اثنتين وعشرين
سنة ، وقيل : ثلاث وعشرون ، وأربع وعشرون ، وستّ وعشرون ، وسبع
وعشرون ، وتسع وعشرون ، وثلاثون ، وثلاث وثلاثون ، وخمس
وثلاثون (2) .
اختلفت الروايات وتضاربت الأقوال في تحديد المدة التي مكثتها
الزهراء عليها السلام فقيل أنّه كان : خمسة عشر يوماً ، أربعين يوماً ، خمسة
وأربعين ، شهرين ، ستين يوماً ، سبعين ، اثنتين وسبعين ، خمسة وسبعين ،
خمسة وثمانين ، ثلاثة أشهر ، تسعين يوماً ، خمسة وتسعين ، مائة يوم ،
أربعة أشهر ، ستة أشهر ، ستة أشهر إلاّ ليلتين ، ثمانية أشهر ، فلم يقل أحد
بأقل من خمسة
وتدلّ أكثر الروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام أنها مكثت بعد
أبيها صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وسبعين يوماً (2) ، وعلى المشهور عند الإمامية من أنّ وفاة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت في الثامن والعشرين من صفر ، تكون وفاتها عليها السلام في نحو
الثالث عشر من جمادى الاُولى ، لا في الثالث من جمادى الآخرة وكما هو
المشهور في وفاتها عليها السلام ، وعلى المشهور عند العامّة من أن وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في الثاني عشر من ربيع الأول ، تكون وفاتها في أواخر جمادى الاُولى .
والذي يقتضيه الجمع بين ماهو مشهور من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الثامن
والعشرين من صفر ، ووفاتها عليها السلام في الثالث من جمادى الآخرة ، هو ما
روي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام من أن فاطمة عليها السلام بقيت بعد وفاة
أبيها صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وتسعين يوماً (3) ، فيرتفع بذلك التنافي .
ورجّح ذلك أبو الفرج الأصفهاني حيث قال : كانت وفاة فاطمة عليها السلام بعد
ويؤيده أيضاً ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : « بدؤ مرض
فاطمة عليها السلام بعد خمسين ليلة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » (3) وما روي من
أنّها عليها السلام مرضت مرضاً شديداً ، ومكثت أربعين ليلة في مرضها إلى أن
توفيت (4) . فيكون المجموع تسعين يوماً ، مع عدم التعرض للاَيام الزائدة ،
تسامحاً في الكسور لقلتها ، والله العالم بحقيقة الحال .
ونكتفي بهذا القدر من الكلام في الحديث عن الزهراء عليها السلام النموذج
المتكامل والمثل الأعلى في العطاء والتضحية والصبر والعبادة والذوبان
في ذات الله عزّ وجلّ ، والوقوف بكلِّ بسالة وشجاعة بوجه الباطل
وتعريته تماماً ، مؤكدين أخيراً بان موقف الزهراء عليها السلام وقصة رحيلها إلى
العالم الآخر يعدّ من أكثر الوثائق الحاسمة في التاريخ قدرة على كشف
الكثير من الحقائق التي طالما خفيت على الأجيال .
وذلك باعتبار أن الزهراء عليها السلام ميزان عدل لفهم الحق ، ومن خلال ماثبت
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » (2) وقد
ثبت بما قدّمناه عن كتب الصحاح أن فاطمة عليها السلام ماتت وهي ساخطة على
أبي بكر وعمر ، وأوصت أن لا يحضرا جنازتها ، ولا يصليا عليها ، وأن
عليّاً عليه السلام دفنها ليلاً ، ولم يؤذن بها أبا بكر وعمر .
فان كانت إمامة أبي بكر حقيقة شرعية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإننا
سنكون أمام احتمالين لا ثالث لهما بشأن الزهراء صلوات الله عليها .
الأول : أن تكون قد ماتت على ضلالة ولم تدخل الجنة ـ والعياذ بالله ـ
لاَنها لم تعرف أبا بكر إماماً لزمانها .
الثاني : أن تكون قد ماتت على الإيمان ، وعلى هذا يكون الإمام الحق
غير أبي بكر وعمر .
والاحتمال الأول باطل وغير صحيح ، لما ثبت في كتب الفريقين أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « فاطمة سيدة نساء أهل الجنة » (3) .
ومن هنا نعلم بأنّ سيدة نساء العالمين عليها السلام كانت على يقين من معرفة
الإمام الحق الذي من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية ، ألا وهو من قالت
نعم ، ذلك هو الإمام الحق الذي عرفته الزهراء عليها السلام وبقيت تدافع عن
حقّه السليب حتى النفس الأخير من حياتها المقدسة ، فسلام عليهما من
أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .