أ ـ محاربة الفقر والفساد :

قبيل الحكم الجمهوري وفي عهد الاحتلال البريطاني عاش الناس فقراً مدقعاً وحياة شظف ونكد لم يكن الفرد يجد لقمة الخبز التي تقيم أوده وتحفظ رمقه. ولم يكن الفقر آنذاك قاصراً على طبقة دون اخرى بل كان شائعاً بين أوسع طبقات المجتمع بلا استثناء.
وقد تناول الشاعر في كثير من قصائده مأساة الفقر وما كان يعانيه الشعب من بؤس وحرمان نتيجة العوز وضيق اليد. ومن هذه القصائد قصيدة « اليتيم » التي صور فيها جانباً من حياة الفقر والشقاء التي كان يعيشها الناس في تلك الآونة :

طفل يتيم أقضّ الجـوعُ مضجعه * ملوّع القلب قد أودى به الخور (1)
قـد مات والـده فـاظلمّ مكتئباً * أفـق الرجاء عليـه مذخبـا القمر

إلى أن يقول :

والهفتـاه لـه مـن ضـارعٍ سغب * قد طأطأ الرأس منه الفقر والصغر (2)
أودى به البؤس من جوع ومن شعث * فاغبـرّ منه المحيـا الطلـق والشعر
يستعطـف الناس ممّـا قـد ألمّ بـه * وليس فيهـم لصـوت الحـق منتصر
ويسـأل القـوم إسعـافاً وحـاجتُه * قرصٌ يكـافح فيـه الجـوع أو كسر
وليس فـي القوم مـن يصغي لندبته * وهـي الحزينـة لـولا أنهـم صـور
يمـدّ إحـدى يديــه سائـلاً ويـدٌ * يصـون فيهـا محيّاً شأنـه الخفر (3)
معطـل الجيــد لـولا أن جبهتـه * تنـدى حيـاً فتحلـي جيـده الـدرر

____________
1 ـ الخَوَر : الضعف. ( لسان العرب ، ج4 ، ص242 ).
2 ـ الضارع : الضعيف الذليل. ( لسان العرب ، ج8 ، ص53 ).
3 ـ الخَفَر : شِدَّةُ الحياء. ( لسان العرب ، ج4 ، ص152 ).

(183)

لا يسأل النـاس إلحـافاً بحـاجته * ولس ينقم إن صدوا وإن بطروا (1)
مطأطئ الرأس في رجليه قد جمدت * دماه من طول ما يرجو وينتظر (2)

والشاعر نفسه لم يكن بمنأى عن هذه المأساة ، فطالما مرّ بظروف قاسية يوم كان طالباً دينياً لا يصله من الحقوق الشرعية إلاّ النزر القليل حيث لم يكن يكفيه لسد حاجاته وادارة شؤونه.
وقد حاول الشاعر مراراً معالجة هذه الظاهرة الخطيرة في قصائد عديدة من شعره ، منها قصيدة « قادة العلم » التي أرسلها صرخة مدوية يستنهض بها همم الولاة والقادة لدرء هذا الخطر المحدق بحياة الناس وخاصة حياة طلاب العلم :

يا قـادة العلم والاصـلاح مجدكـم * والـدين مجدٌ عظيـمٌ ثُـلَّ وأنثلمـا
... هذي الأزاهير وهي الغرس بعدكم * وكنتُـم قبلُ غـرساً نـاشئـاً فنمـا
تسد بـالترب أفـواها قـد التقطت * مسامـع الفضل منهـا الدر منتظمـا
وتستقي مـن سراب اليـأس ظامئة * لأنـفس فجـرت أحشـاؤها حكمـا
وترتـدي الخشن البـالي وتلحـدها * مـن البيوت سجـون طبقت ظلمـا
لا تبتغـي رغداً فـي ظل نـاعمة * مـن الحيـاة تـدر الخيـر والنعمـا
ولا روىً مـن أبـاريـق لطـائشةٍ * مـن اللذائـذ اضحـت تعبـد النغما
ولا قصـوراً هي الفـردوس غارقةً * مـن النعيم تضم الحـور والخـدما
لكنهـا تبتغـي قـوتـاً الى رمـقٍ * على الجهاد بـه تقوى وقد عُدما (3)

وكان الشاعر في كثير من الأحيان يتوجه في محاولاته الاصلاحية لظاهرة الفقر ، الى الأغنياء والموسرين ليستدر عطفهم ويجلب اهتمامهم تجاه الفقراء
____________
1 ـ البَطَر : الطُّغيان في النعمة. ( لسان العرب ، ج1 ، ص429 ).
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص169 ـ 171.
3 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص277 ، 278.

(184)

والمعوزين ، على أمل أن يحيا الناس حياة يسيرة لا يشوبها الفقر والعوز :

تعطّف يـا غنيّ علـى الفقير * بمـا أُوتيتَ مـن خيـر كثير
وجـد فيما تجـود به عليـه * ولو فـي قرص قمح أو شعير
لقـد أفنـاه بؤس ليس يفنـى * فأصبح فـي عداد ذوي القبور
فخـذ بيديـه إسعـافاً لتُحيي * بقـايـا ذلـك القلب الكسيـر
ولـو انصفتـه لفـديت نفساً * لـه تفديك بـالنفس الأخيـر
الا يـدعـوك نبلُ النفس يوماً * الـى إسعاف خيـر أخ غيور
الا تدعـوك نفسُـك للمعـالي * كما تـدعوه للشـرف الخطير
الا يدعـوك للإنصاف صوت * ينـاجيـه بـاعماق الضميـر
فجـد للبـائس العافـي بشيٍَ * كثير من حطامك أو يسير (1)

وقد هالت الشاعر مظاهر الفساد والترف التي خلفتها الطبقية الظالمة نتيجة انعدام العدالة الاجتماعية ، والفوضى الأقتصادية السائدة آنذاك. ففي الوقت الذي لم يكن عامة الشعب يجد قوت يومه كانت الأقلية من المتمولين والأقطاعيين تنعم في قصورها ومسارح لهوها غير آبهة بمعاناة البؤساء وشقاء المعوزين والفقراء.
وقد عزّ على الشاعر أن يرى هذه الصور الأليمة والمناظر المريعة دون أن يقف موقفاً حاسماً يسدد من خلاله نقداته اللاذعة تجاه الوضع الاجتماعي المتأزم ، والتدهور الاقتصادي المتفاقم :

يـا موطناً عزّت عليه حماته * وهـم بنوه الـذادة الأطهـار
وقضت عليه سياسة مسمومة * هو جاء قد حفت بها الأخطار

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص172.

(185)

بالـرغم أن تهنـى لديك مـوارد * يحلـوبهـا الايـراد والاصــدار
وينعـم المستعمــرون بظلّهــا * وبهـا لهــم تستعـذب الأوطـار
هـاتـيك دجـلةُ وهـي امٌ بـرّة * ولهــا بنــون مثلهــا أبـرار
تتـدفق الخيـرات مـن أخـلافها * حتـى تضيـق بـدرهـا أقطـار
هي جنـة طاف السـلام مرفـرفاً * فيهـا وقـرَّ مـن النعيـم قـرار
لكـن يسوؤك أن تـرى أبنـاءها * حـرموا قليـل الخير وهـو كثار
ولقـد أثرن لي الشجون بـواعث * للشاعـرين بهـا الشجــون تثار
دنياً مـن اللـذات ما فـي عيشها * نكـد ولا فـي صفـوهـا أكـدار
للمغـريــات بـها دواع جمـة * وبهـا لـرواد الهنــا أوطــار
تتسـابق الأحـلام فيهـا والمنـى * والحــب واللـذات والأسمــار
والعـزف تهبط بـالنفوس وترتقي * أنغـامُــه ان حُـرّك المـزمـار
... أفهكـذا بـذخٌ الثـراء بـأهله * يطغـى فتعشـو منهـم الأبصـار
فـي حيـن أحرار البلاد قضوا بها * سغبـاً وهـم أبنـاؤهـا الأحـرار
... بعداً لأنظمة مـراض صححت * ظلــمَ الفقيــرٍ وليتهـا تنهـار
وتهـدمت اسس العدالـة ان قضت * أن لا تعيش بظلّهـا الأحـرار (1)

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص237 ـ 241.

(186)

ب ـ مكافحة الجهل والأمية :

حرص الشيخ الفرطوسي على معالجة ظاهرة الأمية التي كانت متفشية بين أصناف مختلفة من المجتمع من خلال دعوته الى بناء المدارس ونشر التعليم والنظر بعين الاعتبار الى تثقيف الناشئة وصيانتهم من عدوى الجهل والأمية :

ثقافـة الجيل فـرض أين عـامله * كيما يقوم ولو في بعض مـا وجبا
ضلت عقول فلم تبصر هدى وطغا * ريب فما وجدت مـن يذهب الريبا
وأجدبت مـن حقول الفضل ناشئة * اذ لم تجـد منهلاً تـروى به عذبا
واُرهقـت عـاطفات بـرة قتلت * صبـراً ولا راحـم يحنو بها حدبا
وحكم الجهل في الأوضاع وانقلبت * منـا الأمـور فساء الوضع منقلبا
فمـن يسير بهـذا الركـب أخّره * انّ المسيّـر ألقـى اللجـم والقتبا
وأين من يصلح الأوضـاع أفسدها * أنّ المربي لها لم يحسن الأدبا (1)

وكثيراً ما كان الشيخ يضيق ذرعاً بالجهل المستشري بين عامة الناس ، والخمول المطبق على أبناء مجتمعه ممن كان يأمل بهم رقي البلاد واعتلاء الوطن من خلال اكتسابهم العلوم والفنون ، وسعيهم وراء الثقافة والمعرفة :

الـى متى نبقـى على خمولنا * يغري بنا الجهلُ ويلهينا اللعب
ونحـن بيـن أمـم راقيــة * كيانُها العلـم ودينهـا الأدب
تعلـم أنّ أمّهــا مـدرسـة * الاداب حقّاً ولها العرفان أب
قـد حشـدت أنديـةً حـافلةً * بمـا لديها من قصيد وخطب
قد طبّق الكونَ صدى عرفانها * فكلّ سمـع وبـه منـه لجب

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص174.

(187)

ومعشري علـى الجمود عاكف * لم يتخـذ الـى رقيـه سبـب
من شيبة المصاب قد سرت الى * شبابـه الخامل حكـةُ الجرب
وهل بـدون العلم تُهـدى أمة * الى صوابها وتدرك الأرب (1)

ولم يكن التعليم حينئذٍ بمستوى جيد ومناسب بحيث يعول عليه في تنشأة الجيل وتربية النشء. فالمناهج التعليمية كانت سقيمة وغير صالحة ، والمعلمون أنفسهم كانوا بحاجة الى تعليم وتثقيف.
وقد تناول الشاعر هذه المشكلة في مواضع مختلفة من شعره ، منها قصيدة « السعادة » حيث اشار الى هذا الموضوع قائلاً :
وقصـدت المدارس اللاء فيها * قـد غـرسنـا قلوبنـا للنّماء
فـاذا بـي مـن الحنان أراها * كضلـوع تعطفت بـانحنـاء
واذا النشء كـالأزاهير ينمو * وهـي تزهو كـروضة غنّاء
... فتيقّنت من صميم اعتقادي * أنّ فيهـا سعــادةَ الأبنــاء
واذا بـي ارى خيـالاً كـثيفاً * مطبقاً فـوق أرضهـا والسماء

فيقول الخيال :

أنـا ظلّ الجهل المخيم فيهـا * لـم أزل عـاكفاً وهـذا خبائي
كيف يوحـي لها الكمال مرَبّ * نـاقص لـيس فيـه أيُّ غناء
كيف ينمو النشء الوديع وفيها * لقّنـوه الـدروسَ كـالببّغـاء
كيف تـوحي سعادة العلم فيها * لبنينـا مـن أنفس الجهلاء (2)

ومن هنا تعيّن على الشاعر أن يتوجه بخطابه الى رجال التعليم ليذكرهم
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص324 ، 325.
2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص134 ، 135.

(188)

بواجباتهم تجاه تعليم الجيل وتثقيفه تثقيفاً صحيحاً وسليماً يستطيع من خلاله بلوغ الكمال ونيل الرقي :

يا رجال التعليم فـي المنشئات * أنتــم للعقـول خيـرُ بنـاة
هـذه المنشئات وهـي حقول * زاهرات والنشء كـالزهرات
أنتـم منبـع الفضيلـة فيهـا * وعقـول البنين شبـه النبـات
أحسنوا الغرس في ثراها لكيما * يجتنـى منه أحسـنُ الثمرات
وأجيـدوا رعـاية النشء فيها * يا رعاةَ العقول والعاطفات (1)

وثمة موضوع هام وحساس في مجال التعليم تناوله الشاعر كثيراً في شعره وهو تعليم المرأة وتثقيفها. فبالرغم من ردود الفعل المتباينة التي صدرت من قبل علماء الدين في النجف بشأن تعليم المرأة فانّ موقف الشيخ كان موقفاً واضحاً وصريحاً في هذا الخصوص :

أَفيقوا يـا بني وطنـي عجالا * فما يجـدي الرقـادُ النـائمينا
وهبّـوا فيـه للاصلاح كيمـا * نـراكم للتمـدن نـاهضينـا
أليس ثقـافة الجنسين فـرضاً * تقوم بـه الرجال المصلحونـا
وفـي نور المعارف خير هادٍ * طـريق يقتفيـه السـالكونـا
جمـال الشعب يوماً أن نـراه * يسيـر الـى الثقافـة مستبينا
وان ثقـافـة الأحـلام نـورٌ * به يُهدى الشبابُ الواثبونا (2)

وقد تركزت دعوة الشيخ الى تعليم المرأة على أساس العقيدة الاسلامية الأكيدة والتعاليم الدينية الصريحة. ففي الوقت الذي حث الشيخ الناس على
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص273.
2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص229.

(189)

ارسال فتياتهم الى دور التعليم ، دعا الى الفصل بين الجنسين في المدارس احترازاً من الفساد والانحطاط الخلقي الذي قد ينتجه الاختلاط :

يـا قـادة التعليـم أخـلاقُ الفتـى * مرآة مـا فـي النفس مـن أسـرار
صونوا المنـاهج بالعقـائد تجتنـوا * مـن غـرس هـذا الحقل خير ثمار
هذا الشذوذ علـى العقيدة قـد طغى * فمضـى بهـا فــي لُجـة التيـار
هذي الخلاعـةُ حفرةٌ وئـدت بـها * روحُ الكـرامـة فـي يـد الاقبـار
والبنـت ام والفتـى بعـــد أبٌ * وهمــا الصعيــد لهـذه الانـوار
وثقـافـة الجنسين فـرض يلتقـي * بثقـافـة الاســلام فـي مضمـار
والجمـع بينهمـا بصـف واحــدٍ * فــي المنشـأت مضنـة لشنــار
انـا لنـأمـل مـن مـربي نشئنـا * وهــم البنـاة لهــذه الأفكــار
أن يغرسـوا حب الفضيلـة والحيا * بيـد العقيدة فـي ثـرى الأزهـار
ليـرف فـوق سماء جيـل مسلـم * للـديـن والاخـلاق خيـرُ شعـار
فتصـان عصمة ( يوسف ) في دينه * وتصـان عفـةُ ( مريم ) بأزار (1)

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص77 ، 78.

(190)

ج ـ تعميم العلاج والخدمات الصحية :

لم تكن الخدمات الصحية في عهد الاحتلال بأحسن حالاً من التعليم. فقد كانت هي الاخرى تتخبط في جهالة عمياء وتنوء تحت التخلف والانعدام. وقد شهد العراق في تلك الفترة شيوع الأوبئة والأمراض الخطيرة بسبب انعدام الخدمات الصحية المناسبة وعدم توفر الأطباء المعالجين وقلة الأدوية المكافحة للأمراض.
وموضوع الصحة من المواضيع الرئيسية التي تناولها الشاعر في شعره الاجتماعي لارتباطها الوثيق بسلامة المجتمع وسلامة أفراده. فكان يتأثر تأثراً شديداً لتدهور الوضع الصحي العام ، ويتفجر أسىً وألماً حين يرى أبناء وطنه يفقدون حياتهم نتيجة الجهل وانعدام العلاج الصحيح :

فيـا عصر التقدم قـد رجعنا * فأصبحانا نسير الـى الوراء
أنخبط في ظلام الجهل خبطاً * ونحن بظل عصـر الكهرباء
فأيـن الاكتشافُ وقـد علمنا * بـه أسـرار ذرّاتِ الهباء (1)
أيقصـر عـن مكافحـة لداءٍ * يسيـر بنـا الـى دنيا الفناء
فقـد ذهبـت ملايين الضحايا * قـرابينـاً لـديه بـلا فـداء
وكـم شقيت نفـوسٌ بائساتٌ * بـه نُكبت فباتت فـي شقـاء
فمـن طفل وديع كـان ينمو * بأحضـان الطفولة بـازدهاء
ذوى فتسـاقطت منه ذبـولاً * رؤىً نثرت كمنثور الغُثاء (2)
وأم فيه قـد فجعت فأضحت * تـودّعُـه حنـوّاً بـالبكـاء

____________
1 ـ الهباء : دقائق الغبار. ( لسان العرب ، ج15 ، ص23 ).
2 ـ الغُثاء : البالي من ورق الشجر. ( لسان العرب ، ج10 ، ص20 ).

(191)

وكـم مـن نـابهٍ كـانت تُرينا * شمـائــله نبــوغَ الأذكيـاء
ومـوهوب علـى عينيـه يبدو * ذكـاء العبقـري لكـل رائـي
... فمن للبائسين وقـد تلاشت * نفـوس البـائسين مـن البـلاء
فسعياً يـا ذوي الاصلاح سعياً * لانقـاذ الحيـاة مــن الفنـاء
واشفـاقاً علـى الجنسين منّـا * فقـد عاثت بنـا كفّ العَفاء (1)
وأين مضت يـد الاسعاف عنّا * فقد غلب القنوط على الرجاء (2)

ومن أجل سلامة الناس واستتباب الخدمات الصحيه في البلاد طالب الشاعر في مواضع كثيرة من شعره برفع مستوى الطب والعلاج في البلاد من خلال تأسيس معاهد طبية حديثة ، وبناء مستشفيات صالحة للعلاج تضمن حياة المريض وسلامته :

يا اسرة الطب الكريمة قدّسي * فـن الطبابة تُـرفعي اكـراما
ان الطبيب من القداسة راهب * متبتـل يستعظــم الآثـامـا

الى أن يقول :

إنّـا نـروم معـاهـداً طبيّـةً * يمسي لهـا العلم الحديث قـواما
تثـرى بـأجهزة تشق حقـائقاً * فتـزيل هذا الفقـر والأوهـاما
ونريـد تثقيف الأُساة معـارفاً * وتجـاربـاً لتنور الأفهامـا (3)
لم تُبن هـذي المنشئات قواعداً * حربيـة حتـى تُشـاد ضخامـا
لكنهـا بُـنيت لأهـداف متى * قد حُققت أضحت بها أعلاما (4)

____________
1 ـ العَفاء : الهلاك. ( لسان العرب ، ج9 ، ص298 ).
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص185 ، 186.
3 ـ الأساة : جمع آسي ، الطبيب. ( لسان العرب ، ج1 ، ص147 ).
4 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص169 ، 170.

(192)

د ـ اصلاح النظام الزراعي :

عانى العراق في ظل الحكم الملكي مشكلة الأقطاع الزراعي التى تأصلت في هذا البلد منذ غابر الأزمان. وقد تجرع الفلاح من غصص الأقطاع ما تجرع. فالأرض التى يدأب في حرثها وزرعها وريّها وحصادها يسلب نتاجها عنوة من قبل الجباة ، فلا يصله منها إلاّ النزر القليل.
وقد أشار الشيخ الفرطوسي الى نظام الاقطاع الجائر في قصائد عديدة ، منها قصيدة « ابن القرية » التي خاطب فيها الفلاح قائلاً :

وافـى الحصاد إليـك فـاعقد مأتماً * للحـزن واندب قلبـك المفجـوعـا
قد كان عنـدك قبل يوم حصـادها * أمـلٌ تـرجيـه بهـا فـاضيعــا
وأتتك تـزدحـم الجبـاة ولا أرى * لك مـا يسـد عتّـوها المـدفوعـا
الـزرع والبقـرات قوتـك بعتهـا * إثـر الشياه ولـم تف المجمـوعـا
وأراك اجلـدَ مـن صفـاة بينهـم * وأرى سواك على الرخاء جزوعا (1)
مـاذا بكوخك مـن حطام يـرتجى * مـن أجلـه تتجّشــمُ التقـريعـا
فاخرج من الكوخ الحقير الى العرا * واخلـع لـديهم ثـوبك المرقوعـا
فعسى يفـي بقيا الضريبـة منهما * ثمن يصـون جبينـك المصفوعـا
أشبالك الغرثـى بطونـاً روّعـوا * قلـب العفـرنـى بالبكـاء فريعـا
ضجوا وقد فزعوا إليك من الطوى * هل فـي عيابك مـا يسد الجوعـا
أتـراهُمُ يتهـافتون علـى النـوى * شبـه الفـراش إذا أحس سطـوعا
واذا هـوت كسر الرغيـف تدافعوا * وتسـابقوا طـربـاً لهـا وولوعـا
سـودُ الجسـوم عـراتها فكـأنما * نسجت لهم كف الهجير دروعـا (2)

____________
1 ـ الصَّفاة : صخرة ملساء. ( لسان العرب ، ج7 ، ص371 ).
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص155 ، 156.

(193)

وقد صور الشاعر في كثير من قصائده حال الفلاح وهو يرزح تحت وطأة الاقطاعيين دون رحمة ، في محاولة منه لاصلاح النظام الزراعي ، وتحسين وضع الفلاح الذي طالما عانى من الاقطاع ونظامه التعسفي. ومن هذه القصائد قصيدة « بنت الريف » التي نظمها عام 1945م حيث صور فيها جانباً من معاناة الفلاح في الريف وهي صور منبثقة من واقع الحياة آنذاك :

وهنـاك شمرَّ كـادح عـن ساعد * كحسـامه مـاضي الغـرار رهيف
يضرى علـى التعب الممض كأنه * ليثٌ أُهيـج وحقلـه كغـريف (1)
ويخف بـالعبء الثقيـل سنامـه * متجلـداً والعـبءُ غيـرُ خفيـف
ويصـارع الآلامَ منــه بمهجـة * فتكت بهـا الآلام ذات قـروف (2)
يـروي الحقول بمقلة تُسقـى بها * عن مدمـع شبه العهاد وكـوف (3)
وبأختهـا يرعـى فراخـاً جوعا * جـرداً كأنهـم غصـون خـريف
يتضـورون ويكتفـون قنـاعـةً * ان اطعمـوا فـي كسـرة ورغيف
ويعللـون نفوسهـم فـي بـارق * مـن خلب شبه السـراب خطوف
أن سوف نشبع حين ينضج زرعنا * وسنكتسي بنسيج هـذا الصوف (4)

____________
1 ـ الغريف : الأجمة. ( لسان العرب ، ج10 ، ص54 ).
2 ـ القروف : القشور. ( لسان العرب ، ج11 ، ص127 ).
3 ـ العِهاد : المطر. ( لسان العرب ، ج9 ، ص45 ). وكوف : سائل. ( لسان العرب ، ج15 ، ص385 ).
4 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص306.

(194)

3 ـ الشعر الولائي :

يشكل شعر الولاء لأهل البيت عليهم السلام محوراً هاماً في الابداع الأدبي للشيخ الفرطوسي. فقد عرف الشيخ بشاعر أهل البيت لكثرة ما نظم في مناقبهم وسجاياهم الكريمة. ومردّ هذا الحب والولاء انمّا يعود الى عمق تمسك الشاعر بالدين الاسلامي القويم ، وتفانيه في محبة أهل البيت عليهم السلام باعتبار ذلك معلماً من معالم التقرب الى الله تعالى ، ومنجاةً في يوم الحشر العظيم.
لقد كان الشيخ الفرطوسي « الإنسان الذي عاش الإسلام ، فاكتشف عظمة أهل البيت من خلال الإسلام ورأى من خلال خطهم الفكري والروحي والعملي.. غنى الفكر الاسلامي وروحيته ومشاريع الإسلام للإنسان والحياة.. فالتزم بهم خط ولاءٍ ومحبة لا يقترب من الغلو ، بل يتوازن في القاعدة الإسلامية المثلى ، لما هو الحب للأشخاص على أساس أفكارهم وأعمالهم ، لا على أساس أشخاصهم ، والتزم بنهجهم لأنه رأى فيه النهج الذي يستمد كل ملامح الفكر والشريعة والأسلوب من كتاب الله وسنة نبيّة من أقرب طريق » (1)
ولشدة ولائه وفرط تعلقه بآل البيت عليهم السلام دأب الشاعر في أن يفتتح ديوانه بقصائد في مدح النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام. وقد اتخذ من قصيدة « الباب الذهبي » التي مدح فيها الأمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مطلعاً لديوانه ، حيث قال في أبياتها الأولى :

نشيـدي وأنت لـه مطلعٌ * من الشمس يعنو له مطلعُ
وقـدرك أرفعُ إنّ الثنـاءَ * وإن جلَّ قـدراً به يرفع

____________
1 ـ محمد حسين فضل الله ، من كلمة له في تقديم الجزء الثامن من ملحمة أهل البيت عليهم السلام ، ص4.

(195)

ومجدك جاوز أفقَ الخلود * سمـواً ونـفسك لا تقنـع
فقصّر عنه رفيفُ الطموح * وكـادت قوادمـه تنـزع
وأرجـع باليـأس روّاده * وفي مثل مجدك من يطمع
وأنّـى يطاول نجم عـلي * ختـامُ الخلود بـه يشرع
ومجـدُ الامامةِ وترٌ يضم * لمجـد النبوة إذ يشفع (1)

وأبيات الأهداء التي قدّم بها الشاعر ديوانه الى الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام تفصح هي الاخرى عن مدى اهتمام الشيخ الفرطوسي بشعر الولاء لأهل البيت عليهم السلام :

أمير اللّغى منك بَدءُ البيان * وفي غير نهجك لـم يختم
ومهد العدالة حيث الحقوق * بغير قضـائكَ لـم تحتـم
إلَه العـواطف انّ الشعور * تفجّر بـركانه مـن فمـي
وبقيا فـؤادي وبقيا الفؤاد * جروح تُشقّ مـن البلسـم
شفعت بها أدمعي والزفير * وما رفّ منها على مبسمي
فكانت نشيد الهنا والأسى * يوقّع فـي العُرس والمأتم
وها أنـا أرفع ألـواحها * إليك ملّونة مـن دمي (2)

ولم يترك الشيخ الفرطوسي مناسبة لتكريم أهل البيت عليهم السلام إلاّ وشارك فيها مشاركة فعالة رغبة منه في إحياء ذكرهم عليهم السلام والاشادة بفضلهم وعلمهم ، والإبانة عن مواقفهم الرسالية الخالدة .
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص33 ، 34.
2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص4.

(196)

وما يزال النجفيون يحفظون روائع الشيخ الولائية ، ويرددونها في مختلف المناسبات الدينية. ومن أشهر تلك الروائع قصيدة « مولد الأنوار » التي نظمها الفرطوسي عام 1963م ، في ذكرى مولد الامام الحسين عليه السلام حيث قال في مطلعها :

قـرآن فضلك فيـه يفتتـح الفـمُ * حمداً وبـالاخلاص ذكـرك يـختم
وبأفق مهدك مـن جهادك أشرقت * للفتـح آيـاتٌ بـوجهك تُـرسـم
أنت الحسينُ ودون مجدك في العلا * مجـد المسيـح ودونَ امك مـريم
فلقـد ولـدت مطهـراً فـي بردةٍ * من طهر فـاطمة تحـاك وتُلحـم
ولقـد قُتلت بمصـرع يسمـو به * مجـد الممات علـى الحياة ويعظم
والحـق مـن عينيك ينبع نـوره * والصدق فـي شفتيك جمرٌ مضرم
وضحى جبينك وهو فرقان الهدى * بـدم الشهـادةِ والسعـادة يُوسَـم

الى أن يقول :

يا مـولد الأنوار مهـدك للهدى * أفـقٌ تمـوج بصفحتيه الأنجـم
مثلت شخصـك صـورة قدسية * فـي القلب يطبعها الولاء فترسم
وجلوت طلعتها وأنت خـواطـر * فـي مهدها بـرؤى الامامة تحلم
فتحـرقت شفتاي وقـداً مـن دم * حـر علـى شفتيك قبلـه الفـم
ولمحت فـي شفق الجبين غمامة * منهـا علـى عينيـك ظل معتم
ولمست من روح البطولة والابى * شممـا يثــور وعـزة تتقحـم
وقـرأت للفتح المبـارك سـورة * بالسهم فـي صفحات قلبك تـرقم
فخضبت نـاصيتي بمـذبح جثة * فـي نحرها الدامي يحـزُّ المخذم


(197)

وعلمت انـك هـديُ آل محمـد * وعريش مهدك يوم خلقك مأتم (1)

ومن رائع شعر الفرطوسي في أهل البيت عليهم السلام قصيدة « مولد الزكي » التي نظمها في مولد الامام الحسن المجتبى عليه السلام وهي من أجمل قصائده الولائية وأروعها ديباجةً وبياناً. يقول في مطلعها :

سموت بفكـري فالتقطت الدراريا * ونسقتها فـي سلك شعـري قوافيـا
وقطعـت أوتـار الفؤاد نـوابضاً * ولطفتهـا حتى استحـالت أغـانيـا
وأسرجت من روحي ذبال عواطف * أطلّت علـى الدنيا شموعـاً زواهيا
هنـالك بعثـرت الدراري فتـارةً * أرصـع ثغر الـدهر فيهـا أمانيـا
وطـوراً أزف العاطفات عـرائساً * وأجعلهـا بـاسم الـولاء نثـاريـا
ورحت لهاتيك الأغاريد مـن فمي * وقـد عطّرته مـن شذاها غـواليا
أوقعهـا لحناً مـن القلب خـالصاً * واسكبهـا خمراً مـن الحب صافيا
وأنثرهـا في مـولد السبط بهجـةً * لآلـي أفـراحٍ تنيــر الليـاليــا
أزف بهـا للمرتضى خالص الولا * وأحمـل للزهـراء فيها التهـانيـا

ثم يحلّق الشاعر في عالم خياله وسماء فكره ليواصل تسجيل عواطفه الجياشية ، وتخليد أحاسيسه الفياضة في هذه المناسبة العطرة :

تفتحت الأكمام عـن كـل مبسـم * يعطّـر بالأنفـاس حتـى الأقاحيـا
وأشرقت الأضواء مـن كل بسمة * تلاطف بالبشرى الضحى المتهاديـا
ورفرفـت الآمالُ فـوق خمـائل * من النفس أضحت للأماني مراعيـا
وأسفرت الأستار عـن كل جلوة * لبكر مـن الأشعار تسبي الغـوانيـا
وساد الهنا حتى اكتسى افق السما * ووجه الثرى برداً من اللطف ضافيا

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص15 ـ 17.

(198)

وأزهـرت الدنيـا بنور مبـارك * أطـلّ عليهـا بالبشـائر زاهيـا
تلألأ فـي بيت النبـوة مشرقـاً * من الحسن الزاكـي ينير الدياجيا
إمام الهدى من ذروة العرش نوره * تنزّل كـالقرآن بـالحق هاديا (1)

ولم يكتف الشيخ الفرطوسي بالمدح وذكر المناقب فقط ، بل كان يتحدى الجاحدين لفضل أهل البيت عليهم السلام وينبري للرد عليهم بجلائل الأدلة والبراهين. من ذلك قصيدته « علي والأمامة » التي نظمها عام 1937م ، وفيها رد على المعاندين الذين أنكروا إمامة الامام علي عليه السلام :

قـل للمعاند قـد ضللـت جهـالة * سفهـاً لعقلك مـن عنـود جاهـل
أعماك غيك أنتـرى نـور الهدى * فتسير فـي نهج البصيـر العـاقل
أمن العـدالة أن يـؤخر سابطـقٌ * ويقـدمَ المفضـولُ دون الفـاضل
هــذي فضـائلُـه وذي آثـاره * سطعـت بآفـاق الهـدى كمشاعل
فتصفـح التـأريخ فهـي بـوجه * غـرر صبـاح نُظّمـت كسلاسل
ينبئك مـن واسـى النبـي محمّداً * بمـواقـف مشهـودة وغـوائـل
وفـداه عنـد مبيتـه بفـراشـه * فـي نفسه فوقـاه شـرّ البـاطل
ومـن الذي أردى الـوليد وشيبة * فـي يوم بـدر بالحمـام العـاجل
وبيـوم احد مـن طغت عـزماته * فرست جبالاً فـي الزحـام الهائل
مـن فرق الأحزاب حين تجمعت * فرقاً ومـا في القـوم غير النـاكل
ورمى على وجـه الثرى أصنامها * لما رقى مـن فوق أشرف كـاهل
وبكفه حصـن اليهود قـد اغتدى * متلاطمـاً كالمـوج فوق السـاحل
ومن الذي ردت له شمس الضحى * لما اشار لها ارجعي فـي ( بابل )

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص49 ، 50.

(199)

وفضائل ليست تعـد و( هل أتى ) * و( النجم ) و( النبأ العظيم ) دلائلي
عميت عيون لاترى شمس الضحى * عنـد استقامة كـل ظل مائـل (1)

وقد اشتهر الشيخ الفرطوسي ـ بالاضافة الى مديحه الولائي ـ برثاء أهل البيت عليهم السلام وخاصة رثاء الامام الحسين عليه السلام ومن استشهد معه في وقعة الطف بكربلاء. ولشعر الفرطوسي في هذا الحدث الأليم وقع مميز وجاذبية خاصة أقبل عليه خطباء المنابر الحسينية يرددونه في مجالسهم لما فيه من تأثير شديد ووقع عظيم في قلوب الناس والمستمعين :

أفـدي حسيناً حيـن خفّ مودعاً * قبـراً بـه ثقـلُ النبـوة أودعـا
وافـى الـى تـوديعـه وفـؤادُه * بمـدى الفـراق يكـاد أن يتقطعا
وغـدا يبث لـه زفير شجـونه * بشكاته والطـرف يذري الأدمعـا
يـا جدّ حسبي مـا أكابد من عناً * فـي هـذه الدنيـا يُقضّ المضجعا
فأجابـه صبراً بنيَّ علـى الأذى * حتـى تنالَ بـذا المقـام الأرفعـا
ولقـد حبـاك الله أمـراً لـم يكن * بسـوى الشهادة ظهـره لك طيعا
وكـأنني بـك يـا بنيَّ بكـربلا * تمسي ذبيحاً بـالسيـوف مبضعـا
ولقـد رآه بمشهـد مـن زينـب * هـو والوصي وأمهُ الزهـرا معا
ملقىً برمضاء الهجير على الثرى * تطـأ السنابـك صـدره والأضلعا
فـي مصرع سفكت عليـه دماؤه * أفدي بنفسي منه ذاك المصرعا (2)

وهكذا يسير الشاعر في اشعاره الولائية بروح مفعمة بحب أهل البيت عليهم السلام مشيراً بفضائلهم الكريمة ، وتضحياتهم الجسيمة من أجل اعلاء الاسلام والدفاع عنه والذود عن قيمه العالية وتعاليمه العظيمة.
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص118 ، 119.
2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص93.