الفَصْلُ الثَّالِثُ

الأَغراض الشعرية
عند الفرطوسي



(202)


(203)

1 ـ شعر المديح :

لم يعد المديح في عصر الشيخ الفرطوسي أداة فخر وتفاضل ، أو وسيلة كسب ومنالة كما كان سائداً في العصورة السابقة. فقد طرأت عليه تغييرات حديثة ـ كما هو الحال في سائر أغراض الشعر ـ أخرجته من ماضيه المقيد والمحدود الى حاضره الفاعل والمتجدد.
فشعر المديح الذي كان يعج سابقاً بالصفات الشخصية الزائفة والألفاظ المتملقة الكاذبة أصبح اليوم متحلياً بصدق الشعور والعاطفة ، قريباً الى سمع المتلقي ، بعيداً عن الغلو والمبالغة ، حافلاً بمواهب الممدوح الكريمة ذات الصلة بماضي الأمة المجيد ، وتاريخها المشرق والعريق.
ومن هنا أصبح للمديح قيماً موضوعية جديدة ، اضافة الى قيمه الفنية الموروثة ، من خلال تناوله شؤوناً انسانية رفيعة ، وموضوعات اجتماعية هامة تتصل بواقع الانسان وبتراثه الحضاري الأصيل.
وقد دأب الشيخ الفرطوسي في ادخال العناصر الحضارية في شعر المديح رغبة منه في توظيف هذا اللون من الشعر لصالح الوضع العام والواقع المعاش. فهو يدخل في مديحه مواضيع اساسية ترتبط بواقع الأمة الحالي ليجعل منه ضرباً من الشعر الملتزم الذي يتوخى منه هدفاً واضحاً ومعيناً.
فها هو يشيد بالمشاعر القومية والأحاسيس الوطنية لدى ترحيبه بالدكتور


(204)

زكي مبارك الذي زار النجف عام 1937م ، في الوقت الذي أمست الأمة بحاجة ماسة الى رص الصفوف ولمّ الشمل تجاه غزو المعتدين وأطماع المستعمرين والمحتلين :

يا نجل مصـر ومن في كل مفخرة * اليه تنسب كـأس السبق والغلـب
هـذا العـراق الى مصـر تحيتُه * تُزفُ محفـوفةً بـالشوق والعتـب
فقل لمصر بمـا يطوي العراق ثقي * من صبوة بسوى الاخلاص لم تثب
مـا فـرقـت بيننـا للأجنبي يـد * لو كان قـد جمعتنا وحـدةُ العرب
إنـي ليحزننـي والحـر يحزنـه * أنّ العروبة ما لاقت سوى النصب
كل البلاد بهـا سـاد الوئـام سوى * جزيرة العرب لم تهـدأ بلا شغب
أخـذت عليها سيـاساتٌ منـوعةٌ * قد جرعتها كؤوس الضيم والعطب
وعاقهـا عن منـاها أنهـا مُنعت * أن تقتفي أيّ مجـرى سائغ عذب
يا أمـة العرب هبـي للوفاق معي * واستقبلـي زمـر الآمال والأرب
لتصلحي كـلَّ امـرٍ منك منشعب * بـالاتفاق بـلا جهـد ولا تـعب
قولي معـي بفم الإخلاص هـاتفة * بوحدة الصف تحيا أمة العرب (1)

وكثيراً ما تتجلى الصور الحضارية والرسوم التراثية في مدائح الفرطوسي ، وخاصة المدائح العامة التي لا تقتصر على شخص معين. فنلاحظ ذلك مثلاً في قصيدة الشاعر التي نظمها تكريماً للوفد العلمي المصري الذي زار النجف في 21|2|1943م ، حيث قال في مطلعها :

أقصر يراعيَ لست بالخل الوفي * ان لم تعبر عـن هواي بما يفي
وجفوت حدك ان نبوت فلم تُجد * تكريم مـن وافى وانت به حفي

____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص186.

(205)

هـذا ربيع الفضـل قـد أهدى الى * واديـك مـن نفحاته مـا يصطفي
فانشق عبيـر الفضل منها واقتطف * منـه ثمـار العلـم حتـى تكتفـي
وانشر لواءَ الفضل خفاقاً على هذي * النفـوس وبـالحيـاة لهـا اهـتفِ

الى أن يقول مخاطباً الوفد :

يـا سادة غمـروا النفـوس بـروعة * أضحت بهـا زمـر العـواطف تحتفي
طوفوا على ( وادي الحمى ) وتصفحوا * مـا فيـه مـن أثـر يـروق المقتفي
فبهـذه الـربـوات أو أخــواتهــا * قـام ( الخورنق ) كـاليفاع المشـرف
وهنـا ( المنـاذرة ) المخلـد ذكـرهم * بمـآثر بسـوى العلـى لـم تـوصف
عقـدوا بنـود النصـر فـوق أجادل * لسوى الفخـار عيـونها لـم تطـرف
فغدت بهـم دنيـا المفاخـر والعلـى * تختــال بيـن محلـق ومـرفـرف
هـذي بقـايـا مجـدكـم فتـزودوا * منهـا ومـن وادي الغـري الاشـرف
ومتـى نفـوسكـم بـه قـد آنسـت * قبسـاً يضـيء شعـاعـه للمسـدف
فقعـوا هنـالـك خـاشعيـن فـقبلكم * موسى الكليـم هـوى لهـول الموقف
فهنـا الامـام المـرتـضى فتـزودوا * منـه ومـن عـرفانـه المستطرف(1)

ومن قصائد الشاعر التي سلك فيها المسلك ذاته قصيدة « وفد المعارف » التي ألقاها في جمعية الرابطة الأدبية في النجف إحتفاءً بوفد المعارف المؤلف من الأستاذ جوهر ورفقائه من الاساتذة المصريين وذلك عام 1943م :

حييت يـا خير وفـد آهل شرفا * لولاه نـادي المعالي غير مأهول
وعشتم يا حماة الضاد من مضر * مـمنّعيـن بعـز غيـر مفلـول
فـأنتم الـمثل السامـي لنهضتنا * بمـا لكم مـن مقام غير مجهول

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص176 ـ 178.

(206)

وكم لكم في نوادي الفضل من أثر * مخلـد الذكر مـن جيل الى جيل
أجللت فيكم مزايـاً عزّ مفـردها * عـن المثيل ولـم تخضع لتمثيل
من كل عاطرة غرّاء قـد عُقدت * علـى جبين المعالي خيـر اكليل
طابت بنفحتها الافاق مـذ عبقت * منهـا شمائل هـاتيك البهاليل(1)

وفي مجال المديح خاض الشاعر ضرباً مميزاً منه وهو مديح علماء الدين لارتباطه بالعاطفة الدينية والأخلاق الاسلامية. وقد استأثر هذا اللون من الشعر باهتمام الشاعر فنظم قصائد عديدة مدح فيها علماء الدين العاملين الذين دأبوا في العمل الأسلامي ووقفوا مواقف مشرفة في الذود عن مهد الدين وكرامة المسلمين.
ومن العلماء المجاهدين الذين خصهم الشاعر بمدحه الحجة الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء. فقط نظم قصيدة في مدحه عند مجيئه من المؤتمر الاسلامي في الباكستان عام 1951م ، قال في مطلعها :

للفتـح آيـات بـوجهك تُعـرف * هـل أن طلعتك السعيدة مصحف
شعت علـى قسمات وجهك مثلما * شعت بقلبي مـن ولائك أحـرف
هـي أحرف ذهبية خُطت علـى * قلبـي وريشتهــا فـم مـتلهف
أبصـرت قلبـي ظلمة من يأسه * ورأيتهـا فجـر المنى اذ يكشف
أجللتهـا مـن أن تـمسَ قداسةً * واسم ( الحسين ) مقدس ومشرف
فغرستها فـي تربة ازكى ثـرىً * في الطهر من قلب الوليد وانظف

الى أن يقول :

أأبا الفضائل والفضائل بعضها * للبعـض اُلاّف وأنـت المألف

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص180 ، 181.

(207)

لك كـل يـوم نهضـة جبـارة * منــها ميادين المفاخر ترجف
ومـواقف غـراء فـي أجوائها * للآن أصـداء الثنا بك تعصف
مـا غـاب منها مـوقف إلاّ بدا * لك موقف هـو للجهاد مشرف
كـسلاسـل ذهبيـة موصولـة * بسـلاسل أحـداثها لا توصف
المسجد الأقصى يـردد ذكـرها * والجامع الاموي فيهـا يهتف(1)

ويتابع الشاعر سرد أوصاف ممدوحه مبيناً خصائصه المميزة التي حقق من خلالها أهدافه السامية ومطالبه العالية والرفيعة :

إنّ الفصـاحـة دولـةٌ جبــارةٌ * تهوي العروش ومجدها لا ينسف
أنـت المليـك المستقل بعـرشها * والنصر اكليل عـليك مرفـرف
ونـوافـذ الكلـم البليـغ اجلّهـا * مـن أن يقال لهـا سهام تُرهف
تخطي السهام كمـا تصيب وانها * أبـداً تـسدد كل مـا تستهـدف
ولسانـك الجبـار لـولا اننـي * ظلما أجـور عليه قلت المرهف
واذا استطلت على يراعك اعفني * قصـد اللسان فقلت فيـه مثقف
وعصـاك ايتك الكريمة فـي يد * بيضـاء وهي لكـل سحر تلقف

ويختم الشاعر قصيدته بقوله :

إنّـا لنبغــي للجهــاد قيـادة * يرتـاعُ منها المستبد ويـرجف
ونريـد افئدةً علـى أضلاعهـا * تطغـى عزائمُها وحيناً تعصف
وأنـاملاً يهـوي علـى تقبيلهـا * في حين تلطمـه فـم مـتكلف
ونـروم اصلاحـاً لانظمـة بها * لعب الغريم وعاث فيها المجحف
ونـريـد أفكـارا مثقفـة بهـا * نسمـو ومـن عرفـانها نتثقف

____________
1 ـ اشارة الى موقف الشيخ في الجامع الاموي والمسجد الاقصى عند ذهابه للشام وفلسطين.

(208)

وعقــائـداً دينيـة ميمـونــة * فـي النشء يغرسها أب مـتعطف
إنـا لننشـد مـصلحين نفـوسهم * عن حمل ما قد حُمّلوا لاتضعف (1)

وعلى هذا النحو يسير الشاعر في مدائحه لعلماء الدين المجاهدين الذين تحمّلوا اشد أنواع الظلم والاضطهاد من أجل اعلاء كلمة الله في الأرض ، وصيانة الدين الاسلامي من كيد المنحرفين والمبغضين.

2 ـ شعر الرثاء :

أكثر الشيخ الفرطوسي من تناول شعر الرثاء بسبب الظروف العصيبة التي مرّ بها ، والمصائب والنوائب التي حلّت عليه طيلة حياته. وفي ديوانه حقل خاص بأشعار الرثاء دعاه « دموع » ، قال عنه : « يضم هذا الحقل الحزين باقة من العواطف نظمت سلسلة نشائدها من نثارة الدموع وجمرات الضلوع. غرستُ على ألواحها شقائق من قطعات قلبي وسقيتها من جداول دموعي ولاطفت أزهارها بلفحات من زفرات صدري ، وطارحتها من قيثار فمي بأهازيج من الحنين والأنين تستعرض مسرحها الكئيب فلاترى الاّ عيناً باكية ومهجة دامية وعاطفة ذاكية فهي صورة صادقة من خواطري ولوحة منحوتة من قلبي ، طبعت على صفحاتها آلامي وعواطفي ونشرت صحائف مطوية من ذكر يأتي (2) ».
ومن أبرز مرثيات الشيخ قصائده في الرثاء الخاص التي عبّر فيها عن معاناة شخصية مؤلمة تفاقمت إثر فقده لأعز افراد اسرته ، من ابنيه « علي وعبدالرزاق » ، وأخويه « جبار وعبدالزهراء » وعمه « الشيخ علي الفرطوسي ».
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص153 ـ 159.
2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص235.

(209)

وأول قصيدة تطالعنا في حقل المراثي قصيدة « قلب مظلم » التي نظمها الشاعر عام 1369 هـ في رثاء ولده « علي » الذي مات إثر صدمة قاسية أصابت قلبه من بعض أترابه حين كان يمرح في ملعب الطفولة. يقول الشاعر في مطلع القصيدة :

شفتاك فـي علٍّ وفـي نهل * أشهى الى نفسي مـن العسل
يـاقوتتان عـلى فـم عذب * يفتر عن سمطين من خضل
قـد ذابتا صهراً على كبدي * وانبتَّ عقـدهما مـن الغلل
جرحان قـد حفّـا بـزنبقة * بيضاء كـالمراة في الصقل
فتحا لرشف النـور فانطبقا * وعليهمـا طبق مـن الظلل
قيثـارتان وقـد تحطمتـا * فـتحطمت دنياً مـن الزجل
قـارورة السلوى هما لفمي * وألـذُّ منهـا عنـده قُبلـي
ولطالمـا عاقـرت مرشفها * فتفجـرت مـن شهدة الأمل
سُكبت ومـا روّت سُلافتها * شفتيّ مـن عذب من النهل

وينتقل الشاعر الى تصوير عمق الفاجعة التي الّمت به بعد أن أسهب في الحديث عن أوصاف ولده الذي طالما آنسه في وحشته ، وأذهب عنه عناء الحياة وتعبها بابتساماته الجميلة وضحكاته الطفولية البريئة :

يـا زفرة في النفس عاصفةً * بزوابـع الآلام فـي زجـل
يـا صدمة للقلب قـد هدمت * أركـانه مـن حـادث جـلل
أنزلتِ صاعقة علـى كبدي * ونفـذت سهماً قـط لـم يمل
قـد كنت أحسب انـه جلـد * صلد على الأحداث كالجبل...
وارحمتـاه لبـائـس نـكدٍ * لأب شـريد اللّـب منخـذل


(210)

فـكأنـه مـن سقمـه قفـص * متحطـم الأضلاع مـن خلل
عينـان مظلمتـان فـوقهمـا * جفنـان مـنطبقـان كـالظلل
شفتـان جـامدتان فـوق فـم * متلثـم بـالصمـت مشتمـل
عقـلٌ بلا رشـد يسيـر بـه * فقـد الصواب فعـاد بـالزلل
فكـرٌ بلا وعـي يـحس بـه * فقـد السـداد فـآب بـالخطل
جسـدٌ بـلا قـلب ينـوء به * كمحمّـل ينـزو علـى وحل
يـا منـزل السلوى بـرحمته * أنزل به السلوى على عجل (1)

وسوى هذه القصيدة قصائد اخرى في الرثاء الخاص ، منها قصيدة « يا شقيقي » التي نظمها الشاعر عند مصرع أخيه « جبار » الذي توفي وهو شاب إثر عملية جراحية فاشلة. وقد جاء في جانب من هذه القصيدة :

شقيق نفسي وكـم في النفس مـن حُرق * موقودة عـاد منهـا القلـب مضطرمـا
لـو كان يجـدي الفدا أو يـرتضى بدلاً * عنك الردى حينما فـي شخصك اصطدما
لكنت افـديك فـي نفسـي ومـا ملكت * كفـي واحسب انـي عــدت مغتنمـا
أبكـي شبابـك غضـا مورقـا قصفت * كف الردى عـوده الزاهـي ومـا رُحما
أرثيك فـي مدمـع قـان قـد امتزجت * سـوداء قلبـي بـه فـانهـل منسجمـا
أفديـك مـن مـدنف والحـزن يقلقـه * مـروع القـلب فـي أحشـائـه كلمـا
واهـي القـوى عـاد مرهونـاً بـعلته * قـد ضمدوا جـرحه الدامي ومـا التئما
مضنى معنـىً مـن الآلام قـد نسجت * لـه الحـوادث ثـوباً شـاحبـاً سقمـا
على سرير المنـايا السـود مضطجـع * وهنـاً يصـارع جبـاراً بـه اصطدما

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص237 ـ 242.

(211)

حيران في سكرة للموت مرهبة * وغمرة تستزل العزم والهمما (1)

والى جانب الرثاء الخاص تناول الشيخ الفرطوسي رثاء علماء الدين وكبار المصلحين ممن حازوا رهان السبق في الاصلاح الاجتماعي والتوعية الدينية ، من أمثال الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء ، والشيخ محمد رضا الشبيبي ، وآخرين من اعلام الفكر والدين.
ومن روائع مرثيات الشيخ لعلماء الدين ، قصيدته التي ألقاها في الحفلة التأبينية التي اقيمت في مسجد براثا ببغداد بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الشيخ محمد رضا الشبيبي عام 1385 هـ ، حيث قال في مطلعها :

طُويت وأنـت المصلح الـمتحرر * بــك للبـلاد رسالـة ومحـرر
أفهكـذا تئـد الطـلائـع حفـرةٌ * منهـا فيُطـوى للفتـوح معسكـر
ويُلف فـي أفـق الجهـاد لـواؤه * والنصر يخفـق حينما هـو ينشر
ويصاب قلب الشعب بين ضلوعه * والوعي ينبض والعـواطف تسعر
ويحف مـن عين الـرجاء معينها * فـي حين قلب اليأس أو شك يثمر
ويموت لحن المجـد ساعـة خلقه * ألماً علـى شفـة الخلـود فيقبـر
وتحطم الكأس التـي يـروى بها * ظمــأ الحيـاة ونبعهـا يتفجـر
رزئت بفقـدك فـي القيادة امـة * أنت اللسـان لهـا وأنت المـزبر
وتـلفعت بـاليتم مـن نهضـاتها * بكرٌ تـدور بهـا وانت المحـور

والقصيدة طويلة احصى الشاعر من خلالها فضائل الشيخ الشبيبي ومآثره العظيمة التي انجزها طيلة عمله السياسي ونشاطه الوطني. وقد سلط الشاعر الضوء على جانب منها حين قال :
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص246 ، 247.

(212)

عـالجت أوضاع البلاد بخبرة * وتجـارب فيها يقـاس المخبر
وعرضت حـلاّ للمشاكل نافعاً * بمـداه أبعـاد السياسـة تسبر
أرشدت فيه الحاكمين لرشدهم * نصحاً ومثلك بـالنصيحة يجدر
ونقدت بنـاءً بنقـدك لافظـمٌ * يزري ولا قلـم يشيد فيؤجـر
فعـرضت مشكلة البلاد وحلها * في حين لـو بقيت تميت وتُفقر
وأبنت أنّ من الضرائب ماغدا * عبثاً تنوء بـه البـلاد وتـوقر
وفسـاد اصلاح الزراعـة آفةٌ * منهـا يموت الاقتصـاد ويقبر
والبرلمـان هـو الضمان لامةٍ * مـن سلطـة فـردية تتحـرر
حاولت تضميد الجـروح ببلسم * يوسى بـه قلب البـلاد ويجبر
وأردت تصحيحـاً لأخطاء بها * تـزري وأنظمـة بهـا تتقهقر
وسيـاسة الاصلاح تجبر كلما * بسياسة الارهاب أضحى يُكسر

ثم يختم الشاعر قصيدته مشيداً بمواقف الشيخ الشبيبي البطولية التي قاوم بها قوى الاحتلال الغاشمة بكل حزم وصلابة :

لك فـي الجهـاد مـواقف جبـارة * بـك تستطيـل وكـل مجـد يقصر
هـدرت لتحـرير البـلاد شقـاشق * منهـا وأشـداق البطـولـة تهـدر
والاحتـلال وقـد تـزلزل بـطشه * بصـواعـق مـن بطشهـا تتفجـر
جبت القفار عـلى متـون عزائـم * هـي كالبحـار بهـا المخاطر تكثر
لم يلو عزمك مـا يريـع وأنت في * لجج المهالك والمفاوز تصحر... (1)

ولم تقتصر مراثي الشيخ على علماء الدين فقط بل شملت ايضاً السياسيين والزعماء الوطنيين ممن دأبوا في تحقيق مصالح الشعب وتلبية مطالبه على قدر
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص310 ـ 316.

(213)

استطاعتهم وفي مدار صلاحياتهم المحدودة.
ومن هؤلاء الزعيم الوطني سعد صالح (1) الذي عرف بمواقفه السياسية الجريئة ومطالباته الاستقلالية المتكررة في عهد الاحتلال البريطاني. وقد رثاه الشيخ الفرطوسي بقصيدة طويلة ، جاء في مطلعها :

أعرني جَنان الليث والمقول الحرا * وخذ من رثائي جمرة تلهب الذكرى
وماذا الذي يجدي الرثاء وان أكن * نظمت الدراري فـي نشائده شعرا
فلست كمـن يُرثـى فيفخر بالثنا * وأنت الـذي يسمو الثناء به فخرا
ولكن مجـد الرافدين « لسعـده » * تداعى فاذكى كل عاطفة جمرا (2)

3 ـ شعر الوصف :

من الأغراض الشعرية التي تناولها الشيخ الفرطوسي في شعره كثيراً الوصف. ولا يخفى ما للوصف من قيمة فنية في العمل الأدبي وخاصة في الشعر. فمن خلال الوصف يمكن تمثيل الحقيقة على هيئة صور ليلتقطها الحس بلا قطتيه الفاعلتين؛ السمع والبصر. ومن خلال الوصف يمكن تجسيد الواقع المستتر واللامرئي بحيث يسهل ادراكه عن طريق الحس الباطني ان لم يكن ميسراً عن طريق الحس الظاهري.
وقد حرص الشيخ على توظيف الوصف توظيفاً فاعلاً باعتباره أداة مؤثرة في نفس المتلقي ، تأخذه الى عالم من المناظر والمرئيات لا يدركها إلاّ من خلال
____________
1 ـ سعد صالح ( 1314 ـ 1368 هـ ). سياسي محنك ، وزعيم مستقيم. شغل مناصب ادارية ووزارية وبرلمانية عدة. عرف بصرامة الرأي وجدية الموقف. ( شعراء الغري ، ج4 ، ص124 ).
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص323.

(214)

حس الشاعر المرهف الذي يستطيع بريشته الفنية أن يعبر عن غرضه الأسمى والأهم بواسطة الوصف والتصوير.
ومن هنا أصبح بإمكان المتلقي أن يرصد أهداف الشاعر وأغراضه الأساسية في نهاية قصائده الوصفية ، باعتبار انّ الوصف ليس غاية الشاعر المنشودة وانما وسيلة يصل بها الى المضامين الرفيعة التي توخاها الشاعر من قصيدته.
فنجد مثلاً قصيدة « بنت الريف » التي صور فيها الشاعر الطبيعة أجمل تصوير تبدأ بالتصاوير التقليدية والأوصاف المألوفة التي حرص الشعراء على تصويرها في أشعارهم الوصفية :

طف بالقـرى واهبط بـدنيا الريف * واستجل سـر جمالهـا الـمكشوف
تجـد الطبيعـة عنـدهـا مجلـوّةً * حـيث الطبيعة مـن بنات الـريف
والحسن سطـرٌ والربـوع صحائف * خطت بهـا الألطاف خيـر حروف
أنّـى التفت وجـدت فـي جنباتهـا * مـرأىً يـروق لقلبـك المشغـوف
فـي الروض وهـو منسقٌ ومؤلف * فـي أبـدع التنسيـق والـتألـيف
في الشاطيء الزاهي وقد صفت على * حــافـاتـه أزهـاره كصفـوف
فـي النهر وهو يجيش فـي طغيانه * متـدفقـاً يجـري بغيـر وقـوف
فـي نغمة الشادي وقـد مـالت به * نفحات أعطـاف الغصـون الهيف
فـي كـل شيءٍ منـه أسفر ضاحكاً * وجه الطبيعة مـن ربى وطفوف (1)

ثم يواصل الشاعر وصف مظاهر الطبيعة في الريف ، مفصلاً جمالها الخلاّب وصفاءها الرائع لكي يصل في النهاية الى مقصوده الحقيقي من وصفه وهو تصوير
____________
1 ـ الطفوف جمع طف : الشاطيء. ( لسان العرب ، ج8 ، ص172 ).

(215)

حياة البؤس والشقاء التي كان يعانيها الفلاح آنذاك في ظل نظام الاقطاع الجائر :

وهنـاك شمَّـر كادح عـن ساعد * كحسامـه مـاضي الغرار رهيف
... يروي الحقول بمقلة تُسقى بها * عـن مدمـع شبه العهاد وكـوف
وبـأختهـا يـرعـى فـراخـاً * جوعاً جرداً كأنهم غصون خريف
يتضـورون ويكتفـون قنـاعـةً * ان اطعمـوا فـي كسرة ورغيف

إلى أن يقول :

حتـى اذا وافـى الحصاد وأقبلت * معـه الجباة السـود شبه حتوف
فـاذا الزروع وغيرهـا ما سددت * ديـن الغريـم ولاوفت بـطفيف
واذا بهـم يتضـرعـون لربـهم * عـن كـل قلب موجـع ملهوف
أفنعـدم الستـر الـبسيطَ لعـورة * منّـا تصـان بـه عـن التكشيف
أو بـرقعاً فيـه العـذارى تتقـي * نظـر المـريب اذا رنا لـصليف
وتـرى سوانـا رافـلاً متبختـراً * بــمطارف بـراقـة وشفـوف
أفهكـذا الانصـاف أصبـح حاكماً * ان يلهم الاجحاف كل ضعيف (1)

والقصيدة مليئة بمثل هذه الصور الأليمة والمناظر المريعة والحزينة. وقد حرص الشاعر على تجسيدها في شعره رغبة منه في توظيف الوصف لصالح الأهداف والمطالب الاجتماعية.
ولم يكن هذا المسلك قاصراً على وصف الطبيعة فقط. فقد شمل أيضاً وصف الأماكن التي عاش فيها الشاعر أو مرّ بها من خلال أسفاره ورحلاته.
فها هو ينظم قصيدة في وصف « طاق كسرى » لا لمجرد الوصف فقط بل لنيل العبر والدروس :
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص303 ـ 307.

(216)

قف بالمدائن واستنطق بها العبرا * عن ألف جيل وجيل فوقها عبرا
واستعرض الدهر أشكالاً مصورة * فيها لتعرف مـن أحوالها صورا
واستخبر الرسم عنها حين تقرأه * فسوف يعطيك من تأريخها خبرا
فالرسم سفرٌ بليغ فيه قـد رسمت * لنا الحوادث مـن أخبارها سيرا
والعين ان تك قـد فاتتك رؤيتها * فلن يفوتك منهـا أن ترى الأثرا

ثم يبدأ الشاعر وصف مشاهداته قائلاً :

وقفت فيهـا فلـم أنظـر بهـا أثـراً * الاّ وروعتـه تستـوقــف النظـرا
كأن روعـة رب التـاج قـد خلعت * حتى على الرسم منها مطرفاً نظرا (1)
فـاعجب لمرأى تهـز النفسَ روعته * ولم تجد منـه إلاّ الـرسم والعفرا (2)
فكيف لـو شـاهدتـه زاهيـاً ورأت * « كسرى » وايوانه بالزهو قـد عمرا
وابصـرت منه دنيـاً ملؤها صـورٌ * فتانـةٌ تسحـر الالبـاب والفكــرا

وتتقارن المعاني الشعرية مع الأوصاف دون انفصال وانقطاع مما يجعل الوصف جزءاً من المعاني التي توخاها الشاعر في قصيدته :

أنشـودةٌ أنـت للأجيـال خـالدة * لـذاك أضحى فـم الدنيا لها وترا
وآيةٌ طأطأ الـدهر الخطيـر لها * لما تسامت عـلى عليائه خطـرا
وفكرةٌ فـي دماغ الفـن زاولهـا * قرناً فقـرناً ليبديهـا فما اقتـدرا
حتـى اذا نضجت أفكـاره ولدت * نتيجة ترهب الأجيـال والعصرا
فـأنت معجـزةٌ للفـن خـالـدة * بها وجـدنا نتـاجَ الفن مزدهـرا
وان للفـنّ اعجـازاً يصــوره * لنا الخلود وقد شمنابك الصورا (3)

____________
1 ـ المُطْرَف : رداء من خز. ( لسان العرب ، ج8 ، ص149 ).
2 ـ العَفَر : ظاهر التراب. ( لسان العرب ، ج9 ، ص282 ).
3 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص291 ، 292.

(217)

والجدير ذكره ان الشاعر نهج المسلك ذاته في وصف الأشياء أيضاً. فهو عندما يصف قلمه مثلاً يخاطبه وكأنه كائن ذو روح يتوخى منه الخير والصلاح ، ويضع على عاتقه مهمة البناء والاصلاح :

يـا رسول البيـان كـم ذا أرتنا * معجـزات البيـان مـنك رسولا
تتلقى مـواهـبَ الـروح وحيـا * فتعــي كــل لحظـة انـجيلا
كـم معان كشفت عنهـا غطـاءً * للخفـا كـان فـوقهـا مسـدولا
ورمـوز حللتهـا بــوضـوح * فـأجـدت الايضـاح والتحليـلا
أنـت سلك يمـده العقـل نـوراً * حيـن يُهـدى فيذهـبُ التضليلا
... أنت تبنـي دنياً وتهـدم دنياً * حين تُفني جيـلاً وتخلـق جيـلا
أنـت أقوى مـن العفرنـى جَناناً * حيـن تسطـو وان بـدوت عليلا
أنـت أشجـى مـن الحمامة لحناً * حين يغدو منـك الصـرير هديلا
أنـت امضـى مـن المهنـد حدّاً * حين تنضو غرارك المصقولا (1)

4 ـ شعر الغزل :

تناول الشيخ الفرطوسي الغزل باعتباره غرضاً من أغراض الشعر التقليدية وليس تعبيراً عن تجربة حب واقعية أو تبادل عاطفي حقيقي. ففي بيئة متشددة كالنجف حيث القيود الصارمة المفروضة على اختلاط الجنسين ، والأعراف التقليدية المتزمتة على المرأة ، لا مجال لبلورة مثل هذه الظواهر الاجتماعية على الاطلاق.
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص260 ، 261.

(218)

ومن هنا أصبح التغزل الحسي شائعاً لدى الشعراء ، يكثرون من إبراز المحاسن الجسدية للمرأة في محاولة منهم لمحاكاة شعراء السلف ، والتعبير عن لواعج النفس التي طالما عانت كبت الغرائز الفطرية ، والحرمان النفسي والعاطفي.
ولم يكن الفرطوسي بمنأى عن أترابه الشعراء. فقد تطرق هو الآخر الى الغزل الحسي ، والتغني بمرئيات الجمال النسوي دون أن يظهر فيه مجون أو نزول الى حضيض الشهوات :

علـى خديـك أجمل وردتين * قطافهمـا الشهـيُّ بقُبلتيـن
وفـي عينيك للعشـاق سحرٌ * ومبعثـه سـواد المقلتيــن
وفـي شفتيك للشفقين لـون * يخضب منـه فجر المبسمين
يمـوج الحسن بينهما شعاعاً * فيجلى منه ليل الخصلتين (1)

ولكن ظاهره الغزل الحسي ظهرت متأخرة في شعر الفرطوسي وتحديداً عند خروجه من العراق وإقامته مدة في « سويسرا » و « لبنان ». ففي مثل هذا المحيط المتحرر استطاع الشاعر أن يصف مشاهداته العينية بكل حرية وبدون قيد أو شرط :

جُرح قلب المشوق مـن مقلتيك * قبلـة وقّعـت علـى شفتيـك
ورحيق الـرضاب منـك شهيّا * هو خمري والكأس من مبسميك
انا أهوى سـود العيـون لسحر * هـو معنى السواد فـي مقلتيك

الى أن يقول :

أعشق الورد لـون خديك فيـه * ورقيـق الأديـم مـن وجنتيك
تعشق العين مـن جبينك شمساً * حين تهوى الهلال من حاجبيك

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص203.

(219)

... أنت دنيا الهوى لقلب مشوق * كـلُّ آمـالـه الحسـان لـديك
رفـرفـت كلهـا علـى شفتيك * كالفراشات وارتمت في يديك (1)

أمّا غزل الشاعر قبل هذه الفترة فهو أقرب الى التعبير العاطفي الصادق تجاه مفهوم الحب لا الى لوازمه وعناصره. ويظهر هذا الاتجاه واضحاً في كثير من قصائد الفرطوسي كقصيدة « عواطف الحب » التي نظمها عام 1943م :

شعلـةٌ أشرقـت بظلمة نـفس * فـأنـارت منهـا فـؤاداً دجيّـا
صقلتـه مـن الصـداءة حتّـى * أظهـرت منـه معدنـاً ذهبيـا
لم يزل خامل العـواطف حـتّى * خلـق الحـبُّ منـه حسّاً ذكيـا
واضاءت شمس الصبابـة فيـه * فــأرتنـا مهـذّبـاً عبقـريّـا
حيـن أمسى جَـمّ المواهب فذّاً * بعدمـا كـان جـامـداً همجيـا
فتعـالت عواطف الحب كـم ذا * أيقظـت خامـلاً وأدنـت قصيا
تنشـر الروح حيـن تعلق فيها * فتــدب الحيــاةُ شيّـا فشيـا
أتـراهُ بعـد الجمـود زمـانـاً * كـان ميتاً وكيـف أصبح حيّـا
ليس تستطيع أن تشف شعـوراً * كلُّ نفس لم يكوها الحب كيا (2)

وعلى الرغم من توسع الشاعر في وصفه الحسي لمفاتن المرأة ومحاسنها الانثوية ، فقد التزم في نفس الوقت بمبادئ الشريعة الاسلامية التي تدعو المرأة الى الحجاب والتعفف ، والابتعاد عن التحلل والابتذال. وقد ذكّر الشاعر بهذه القيم في مواضع عدة ، منها هذه الرباعية :

الحب روح للنفـوس * ونشـره أرج وطيب

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص201 ، 202.
2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص218.

(220)

قبس بـأعماق الحشا الـ * ـدامي يشب لـه لهيب
سلك بـأحداق الحسـان * بـه تكهـربت القلـوب
الحب أن تـذكو القلوب * وأن تعفَّ به الجيوب (1)

وكذلك في الثنائية التالية :

أفهكـذا الحسنـاء اغـراء لنـا * وهـي المصونة بالحيـا تتخلـع
حقّـاً بـأنـك فتنـةٌ يـا حبـذا * لو كان عندك من عفافك برقع (2)

وحصيلة الكلام انّ الغزل عند الفرطوسي معظمه محكاة وتقليد ، وقليل منه شعور وعاطفة. وهو في الحالتين عفيف البيان ، نزيه الوصف ، بعيد عن الابتذال والانحطاط البذيء.
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص229.
2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص222.

(221)

5 ـ شعر التأريخ (1)

إن شعر التاريخ من الصناعات الأدبية التي أولع بها المتأخرون. وشاع استعمالها كثيراً عند شعراء النجف لارتباطها الوثيق بالمناسبات المختلفة التي يراد لتاريخها أن يذكر ويخلد.
ولا يخفى مالهذا الفن الشعري من تكلف شديد وصنعة ظاهرة ، فهو « يتطلب مهارتين ، مهارة اعداد الجمل التي يكون حاصل جمعها موافقاً للتاريخ المطلوب ، وهي مهارة حسابية لا شأن لفن الشعر فيها ، ومهارة انتقاء تلك الجمل بحيث تحمل
____________
1 ـ ويسمى أيضاً التاريخ الشعري ، والتاريخ الحرفي. والغرض منه ضبط تاريخ واقعة بأحرف تتألف منها كلمة أو جملة يكون مجموع حروفها بحساب الجمل يساوي التاريخ الذي جرت فيه تلك الواقعة ، يأتي بها الشاعر بعد لفظ « تأريخ » أو ما يشتق منه. ولا يعرف بالتعيين أول من استعمله في الشعر. وقد قال جرجي زيدان في كتابه ( تاريخ آداب اللغة العربية ، ج3 ، ص124 ) : « انّ هذا النوع من التاريخ شائع اليوم لكنه من محدثات العصور الأخيرة. لم نقف على شيء منه أقدم من أوائل القرن العاشر للهجرة على اثر فتح العثمانيين مصر. ويظهر أنه أقدم من ذلك عند العثمانيين.
ومن أقدم ما وقفنا عليه من ذلك تاريخ فتح القسطنطينية سنة 858هـ. فقد أرخه العثمانيون بقولهم : « بلدة طيبة » ، وأرخ رجل آخر بناء سبيل سنة 966هـ بقوله : « رحم الله من دنا وشرب ». واستخدموا ذلك نظماً قبل هذا التاريخ كقول بعضهم يؤرخ وفاة « ابن المؤيد » سنة 922 هـ بقوله :

قـل للذي يبتغي تاريـخ رحلته * ( نجل المؤيد مرحومٌ ومبروك )

وأرخ شاعر آخر وفاة « محمد باشا » المقتول والي مصر سنة 975 هـ بقوله :

قتلــه بــالنــار نــورٌ * وهو في التاريخ ( ظلمه ) ».

وللشيخ جعفر النقدي رسالة خاصة بحث فيها هذا الفن وأسماه « ضبط التاريخ بالأحرف » ، وفيها « عالج الموضوع علاجاً متيناً واستقصى تأريخه حسب إمكان بحثه واستظهر أن يكون ظهوره أقدم مما ذكره جرجي زيدان ، واستشهد بتأريخ عمله بعض الادباء للأمير تيمورلنك المغولي وقد اثابه عليه الف دينار ذهباً وذلك عام 805 هـ وفيه تورية لطيفة ، والتأريخ هو ( الم ، غلبت الروم ، في أدنى الأرض ) « فأدنى » الأرض « ض » والغرض اسمها ضاد وهو ( 805 ). واستشهد بتأريخ آخر أقدم منه وهو بالفارسية عند انقراض الدولة العباسية من العراق وقتل المستعصم العباسي ومادته ( خون ) ومعناه ( دم ) واعتقد ان هذا التاريخ من وضع الخواجة نصير الدين الطوسي ». ( شعراء الغري ، ج6 ، ص373 ، 374 ).

(222)

خاصية العلوق في الذاكرة ، كأن تكون اقتباساً مناسباً من القرآن الكريم ، أو اسم الشخص أو الشيء المؤرخ له ، أو تكون في اختصارها وإصابتها المعنى كالتوقيعات المعروفة للملوك والأمراء المسلمين. وهي مهارة تعتمد على ذكاء الشاعر وسرعة بديهته وسعة اطلاعه » (1).
والفرطوسي واحد من الشعراء الذين طرقوا هذا الفن الشعري إلاّ انه لم يتوسع في تناوله لشدة تكلفه وابتعاده عن الطبع.
ومن مؤرخاته الشعرية تأريخه لعمارة الروضة الحيدرية عام 1370هـ التي قال فيها :

روضـة قـد أشرقـت للمقل * فسقتهـا مـن شعاع الأمـلِ
جليت أعتابُهـا مـن غـرر * رصّعتهـا بـدراري القُبَـلِ
أرخـوها ( وهي عند الازلِ * جنة المأوى أعدت لعلي ) (2)

« 1370 هـ »

وله أيضاً قصيدة في تجديد ضريح أبي الفضل العباس عليه السلام عام 1383هـ ، جاء فيها :

ضريحـك دون عـلاه الضراح * وأنـت بــه القمـر الأعظـم
تصـاغ شبـابيكـه بـاللجيـن * وبــالتبـر جبهتـه تُـرقـم
ومـن عسجد خـالص فوقهـا * قنـاديـل أركـانـه تنظـم...
( ضريحاً أبا الفضل ) أرخ ( به * تشـع علـى القمر الأنجم ) (3)
« 1964م »
« 1383هـ »


____________
1 ـ عبدالصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص266.
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص113.
3 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص59.