3 ـ التاريخ :

لم يغفل الشيخ الفرطوسي عن مكانة التاريخ في التعبير الشعري ومدى تأثيره في حياة الناس. فقد استخدم الشاعر هذا العامل المحفز للإشادة بأمجاد السلف وتذكار تراثهم العريق الحافل بالمفاخر والبطولات ليستنهض همم أبناء جلدته ، ويثير في نفوسهم الحماس والحمية من أجل الدفاع عن مبادئ الدين القويم ، والحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله.
وكثيراً ما أشاد الشاعر بالماضي القديم ليستعيد من وهجه المضيء قبساً ينير درب المستقبل الذي اظلمته الحروب والويلات وعكّرت صفوه النوائب والأزمات :

عزائـم العرب ثـوري وانهضي فينـا * الـى الوغـى وأعيدي مجـد ماضينا
ورفـرفـي يـا بنـودَ الحـقِّ خـافقةً * بـالنصر واستقبلـي دنيـا أمـانينـا
قـد آن أن تـملأ الـدنيـا عـزائمنـا * نـاراً مـوقـدة تُصلـي أعـاديـنـا
فـتلك أوطـاننـا أضحت بهـا علنـاً * بشائـرُ النهضــة الـكبرى تحيّينـا
ثـارت فلم يبـق في دنيـا الفخار فـمٌ * للعــرب إلاّ ولبّـاهـا تــلاحينـا
وطاف في الشرق صوت الحق فابتهجت * لـه النفـوسُ ولبّتــه مـواضينـا
واستنهـض المجـد مـن أبنـاء نجدته * عزائمـاً بعثت روح الإبـا فينـا (1)

ويلح الشاعر على تصفح التأريخ المجيد ليقرأ في صحائفه الوضّاءة أمجاد أمّته الخالدة التي حققت النصر والغلبة تحت راية الأسلام وبنصر من الله مؤزّر :

يـا أمـة خـانهـا فـي الشرق طـالعهـا * فعـاد فـي صفقـة الخسـران مغبـونـا
سلـي الحـوادث عـن تأريـخ نهضتنــا * « واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا »

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص 217.

(113)

كم نهضة فـي سبيل المجد خالدةٍ * جبـارة قـد أقامتهـا مواضينـا
هاتيك « أندلس » للآن ما برحت * آثارنـا في ضـواحيها تنـادينا
غـداة سرنا ونصـر الله يصحبنا * ورايـة الحق والاسـلام تعلونـا
« فمـا انثنينا ولا فلت عزائُمنا » * حتـى فتحنا وأمست طوع أيدينا
وكيف نثنى ولـم يُرفع لنـا علمٌ * إلاّ وعاد بنصـر الله مقرونا (1)

ولم يكتف الشاعر بتذكار الماضي البعيد ، بل راح يشيد بأحداث قريبة العهد من مثل ثورة العشرين التي فجرها الشعب ضد المحتل الأنجليزي في مطلع هذا القرن :

يـا ثورة العشـرين يـوُمكِ غُرةٌ * فـي جبهة التـاريـخ لا تتغيـر
ميلاد نجمك بين أحضان الضحى * والشمس مولدها الصبـاح المسفر
أفـق الفرات ومهـده قـد أنجبـا * فية وهـا هو بـالارومة يفخـر
حملتـه وهو المجد بيـن ضلوعها * اُمٌ ولـودٌ كالعفـرنى تـزأر (2)
حتـى اذا وضعته فـي لجج الدِما * كـرها وعـاصفة المنيـة تجأر
حضنته جارتُها وأضحت تـدعي * فيه وهـل تلـد العقيـمُ وتثمـر
وتفيـأت منــه الظـلالَ وامّـه * تصلى برابعـة الهجير وتُصهـر
واستثمـرته كأنمـا هـو غـرسةٌ * منها اجتناها الغارس المستثمر (3)

وهكذا ينفذ التاريخ إلى شعر الفرطوسي عبر أحداثه المتفاوتة وأزمانه المختلفة ليشكل منعطفاً هاماً وجزءاً كبيراً من نتاج الشاعر وخاصة نتاجه في حقل السياسة والعمل الوطني.
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص 219.
2 ـ أسد عَفرنى ، أي شديد قوي. ( لسان العرب ، ج9 ، ص285 ).
3 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص73.

(114)

ثالثاً : الخصائص

1 ـ التوظيف والألتزام :

لعل من أهم الخصائص التي امتاز بها الشاعر الفرطوسي في منظوماته وأشعاره ، الهدفية والألتزام التي واكبت مسيرة شعره اكثر من خمسة عقود. ونعني بالألتزام هنا ، الألتزام بمعنييه العام والخاص. فالاول وهو أن يتناول الشاعر مشكلة اقتصادية أو سياسية تتصل بالهموم العامة للأنسان في محاولة منه لمعالجتها وايجاد سبل لحلها من خلال المعيار الاجتماعي والفردي (1).
أمّا الألتزام بالمعنى الخاص فنقصد به الأدب الذي جسّد الاسلام في حقيقته وتناول في أغراضه المختلفة سيرة ومعارف أهل البيت عليهم السلام (2).
وفي كلا المعنيين نجد الفرطوسي يوظف شعره في الاتجاهين المذكورين سواء الاتجاه الاجتماعي والسياسي أو الاتجاه الديني المتمثل بنشر حقيقة الاسلام ومعارف وعلوم أهل البيت عليهم السلام.
ففي المعنى الاول يتجه الفرطوسي اتجاهاً واضحاً لا غبار عليه محاولاً من خلاله معالجة قضايا المجتمع والأخذ بعين الاعتبار سبل الأصلاح والتوعية. ولا تمضي سنة من عمر الشاعر إلاّ ونقرأ له شعراً في هذا الخصوص. ففي سن التاسعة عشرة مثلاً ينظم الشاعر قصيدة « التقاليد » التي دعا فيها أبناء جلدته الى اليقظة والنهوض من أجل الاصلاح والتعليم وخاصة تعليم الجنسين وتربيتهما ترتبية صالحة وسليمة :
____________
1 ـ محمود البستاني : الاسلام والفن ، ص9.
2 ـ محمود البستاني : تاريخ الأدب العربي ، ص442.

(115)

أفيقـوا يابنـي وطني عجالا * فما يجدي الـرقادُ النائمينـا
وهبّـوا فيه للاصـلاح كيما * نـراكـم للتمـدن ناهضينـا
أليس ثقافـة الجنسين فرضاً * تقوم به الـرجال المصلحونا
وفي نور المعارف خير هادٍ * طريـق يقتفيـه السالـكـونا
جمال الشعب يوماً أن نـراه * يسيـر الـى الثقافـة مستبينا
وان ثقـافة الأحـلام نـورٌ * به يُهدى الشبابُ الواثبونا (1)

وفي سن العشرين ينشد قصيدة « غارس الورد » التي أشار فيها الى مآسي الفلاحين وما يعانون من شظف في العيش وضيق في الحياة :

يـا غارس الورد حـاول أن تنسّقـه * في خير سلك مـن التنظيـم مـوزون
ايّـاك ايّـاك أن تسعــى بتفـرقـة * بيـن الشقيقين مـن تلك الـريـاحين
فضمّ مـا عشت ورد الاقحوان الـى * ورد الشقيـق خـدود الخـرد العيـن
واشفق على النرجس الذاوي بجنبهمـا * انـي لأخشـى عليـه ساعـة الهون
هـذي الازاهيـر وهي الحسن أجمعه * فيهـا تمتـع مـن حين الـى حيـن
وخـلّ عنك أعـاصير الهمـوم فقد * أفنيـت عمـرك فـي تلك الميـادين
مـا أنصفت أمـمٌ جبـارةٌ غصبت * منـك الحيـاة بظلـم غيـر مسنون
هـل العدالـة تقضي أن تضـام بها * أم تلك حكمـة هـاتيك القـوانين (2)

وهكذا دواليك في باقي قصائده الاجتماعية والسياسية الكثيرة من مثل « الحقيقة » و« فلسطين » ، و« الى الاغنياء » ، و« مآسي الحرب » ، و« اليتيم » ، و« السعادة ». وهذه الأخيرة تعد من خيرة قصائد الشاعر الاجتماعية التي تناول فيها الفوارق الكبيرة بين طبقتي الاغنياء والفقراء مصوراً فيها حياة البؤس والشقاء
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص229.
2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص317 ، 318.

(116)

التي كان يحياها معظم الناس دون الاقلية من الاغنياء.
هذا على الصعيد الأجتماعي والسياسي ، أمّا على الصعيد الديني فقد اهتم الشاعر بهذا الجانب اهتماماً كبيراً بلغ فيه أن خصص قسماً كبيراً من نتاجه الأدبي لهذا الغرض. فثلث ديوانه المكوّن من جزئين يختص بذكر أهل البيت عليهم السلام ، وموسوعته الشعرية الكبرى ـ ملحمة أهل البيت عليهم السلام ـ التي جاوزت الأربعين الف بيت تندرج في الإطار ذاته. ولهذا عرف الشيخ الفرطوسي في الأوساط الادبية والدينية بشاعر أهل البيت لغزارة شعره وكثرة نظمه فيهم عليهم السلام.
ومنشأ هذا الألتزام بشعر وأدب أهل البيت عليهم السلام انّما يعود الى التربية الاسلامية المبتنية على حب أهل البيت عليهم السلام والتي ترعرع الشاعر في ظلها واستضاء بقبس نورها وضياء هدايتها. وقد عبر الشاعر عن هذا الحب المتأصل في ذاته في مواقع كثيرة ، منها قوله :

علـى حبّكم يـا آل بيـت محمدٍ * ترعرعت فـي مهد الطُفولة ناشيا
وعندي من وحي الولاء عواطف * عـرفت بهـا حبّي لكـم وولائيا
صهرت بها روحي هدى وعقيدة * وأفعمت بـالايمان منهـا فؤاديـا
فؤادٌ بكـم غالى هـوىً وصبابةً * فأصبـح فيكـم مغـرماً متفـانيا
أغذيه عذباً من غـدير ولائكـم * يعـب به عبـاً ويصدر ظـاميا
وأعجبُ مـن قلب يعب معينـه * ويصدر ريّاناً من الحب راويا (1)

ومهما يكن من أمر فأن الشاعر من جهة حرص كل الحرص على أن يوظف شعره وأدبه في خدمة المجتمع ليعالج من خلاله شؤونه الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن جهة اخرى تبنى موقفاً دينياً واضحاً يهدف الى خدمة الدين الاسلامي ونشر معارف أهل البيت عليهم السلام.
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص52.

(117)

2 ـ الواقعية والموضوعية :

سيطر الواقع الاجتماعي والسياسي على شعر الفرطوسي سيطرة بعثت فيه روح الاندفاع نحو الأصلاح والنهوض بوجه الأمر الواقع الذي يفرضه المستعمر الغاشم بشتى حيله الاقتصادية والسياسية والثقافية. فكان الشاعر يدرك هذا الواقع المر من خلال حسه الشعوري المرهف وتواجده الفاعل والمستمر في الساحة. وكان مواظباً في تصويره للواقع الاجتماعي والسياسي مبتعداً عن حالة الغموض والرمزية مستخدماً الطريقة المباشرة في التعبير ليتسنى لعامة الشعب فهم رسالته واستيعابها بسهولة.
وكان الشاعر يعيش مع الأحداث ويواكب مسيرتها خطوة بخطوة ، ويحاول الالتفات الى منعطفاتها الخطيرة التي تذهب بالأمة الى هاوية الانزلاق والسقوط. فنلحظه مثلاً عندما نشبت الحرب العالمية الثانية يصرخ مندداً بهذه الطامة العظمى التي أضرمتها نار الأحقاد والضغينة لتحيل نعمة الأرض وخيرها نقمة وشقاءً :

إنّها الحـرب أضرمتها سعيراً * بلظاهـا الأحقـاد والبغضـاء
قد أشابت حتى الجمادات هولاً * وهــي بكـرٌ فتيّـةٌ عـذراء
تخذوها الـى المطامـع جسراً * كونتـه الأغـراض والأهـواء
ظلموا العـالَم الوديعَ اغتصاباً * ليفوزوا بهـا فخاب الـرجـاء
ألقحوها وهـم شقـوا بلظاهـا * ويظنّــون أنّهــم سعــداء
كـم أساؤا الـى الحضارة فيها * ليتهم أحسنوا كما قـد أساؤا (1)

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص159.

(118)

وما ان وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ التأزم الاقتصادي يتفاقم ، وبدأت المشاكل تتوالى الواحدة بعد الاُخرى ، وبدأ الفساد يدب في المجتمع دون رادع ومانع. فعزّ على الشاعر أن يرى أبناء شعبه وهم يتخبطون في البؤس والشقاء ، فأشاد بالاصلاح ودعا المصلحين إلى العمل من أجل خلاص الشعب من ربقة العناء والألم :

رُحماك يـا مصلح الأخلاق بـالبشر * لم يبق فيه لقـوس الصبر من وتـر
انّ الفضيلةَ لـم نبصر لهـا وضحاً * وهـل تُحسُّ بلا عين ولا أثـر (1)
ومنبتُ الخيـر قـد غاضت منـابعهُ * وموقد الشر يطغى مـن لظى الشرر
والكـون مجـزرةٌ تبـدو لنـاظرها * مـن الضحايـا بها آلاف محتضـر
ومعـرض حاشد بـالبؤس قد مثلت * به الفضـائعُ أشكـالاً على صـور
ضاعـت مقاييس إصـلاح منظمـة * لكـلّ وضـعٍ مـن الإفسـاد منتثر
فأختـلّ منّـا نظـامُ الاجتمـاعِ لها * حتـى بدا فيـه نقصٌ غيـرُ مستتر
وأُبعـد النبلُ عـن قوم بـه عرفـوا * وقرّبـوا بعد عـرف الحق للنكـر
وكـل شيء علـى عكس المرام بدا * مشـوه الشكل بعـد المنظر النضـر
ولا نـحسّ لهـذا النقص مـن سببٍ * سوى اختلال نظام العالم البشري (2)

ولم تقتصر نداءات الشاعر ومناشداته الاصلاحية على عصر أو حكم. فكما طالب بالاصلاحات في العهد الملكي نراه يطالب بها وباندفاع أكبر في العهد الجمهوري. ومواقفه في هذا الخصوص كثيرة ، منها قصيدته اللاذعة التي ألقاها في المهرجان الكبير الذي اُقيم في مدينة النجف عام 1963م بمناسبة مولد الامام الحسين عليه السلام والتي قال فيها :
____________
1 ـ الوَضَح : الضَّوء. ( لسان العرب ، ج15 ، ص323 ).
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص144 ، 145.

(119)

ياساسة الوطن المفدى أصلحوا * وضع البلاد فـوضعها متـأزم
وطـن هو الثكلـى فكل مفوّه * فيه ينـوحُ وكـل حفل مـأتم

إلى أن يقول :

ماذا أبث مـن الشجون وبعض مـا * فـي القلب مـن ألم يضيق بـه الفم
مـاذا أخط والـف لـونٍ للأسـى * فـي لوحـة النفس الحـزينة يُرسم
فاستعرضوا وضـع البلاد فوضعها * مـن كل نـاحيـة يسـئ ويـؤلـم
حريـة الأفكـار رهـنُ رقـابـة * سـوداء يفـرضهـا نظـام مظلـم
والحكـم بالارهـاب يـوصدُ بابه * فــاذا تـنفسَ فهـو صـلٌّ أرقـم
وأمـاتت الفوضـى النظـام بمهده * فـالأمــن للعنقـاء فيهـا تـوأم
وتقهقـرت لـلاقتصـاد زراعـة * وصنـاعـة خـططٌ بهـا يتقــدم
ورؤوس أمـوالِ البـلاد تمَـزّقت * بيـدِ الضرائـبِ والجمـودُ يـخيمُ
وجرت جروح الشعب حتى اغرقت * جثث الضحايـا والسيول هـي الدم
وخـلاصـة الأحـداث لا وطـنيةٌ * فيهـا ولا وعـي بهــا متقــدم
انّ المنـاصـب غـايـة منشـودة * وطـريقهـا هذا الصـراع المؤلـم
وطـن يبـاع وأمّـة منكـوبــةٌ * فيـه تـراعُ وفيئ شعب يـقسم (1)

هكذا كانت الواقعية والموضوعية تفرض ارادتها على أدب الشاعر ونتاجه دون أن ترهبه عواقب نقداته اللاذعة وآرائه الصريحة التي كانت بطبيعة الحال تضع الشاعر في مواقف خطيرة ومواقع لا يجني منها سوى المضايقة والاضطهاد. ولكن الشاعر وبغض النظر عن كل ما يعترض طريقه من شوك وقذى حرص على أن يكون لسان حال شعبه ومتنفسه الوحيد الذي منه يستنشق الحرية والاستقلال.
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص94 ، 95.

(120)

3 ـ التجديد والإِبداع :

ونقصد بالتجديد ، التجديد في اللغة والفكرة لا في الوزن والقافية. فالشاعر كما تستوضحنا أشعاره شاعر مقلّد شديد المحافظة على أشكال الشعر الموروثة وقوالب النظم القديمة. وهو من هذا المنظار شاعر تقليدي أو كما يسمونه اليوم شاعر كلاسيكي يدرج في نظمه على أسلافه الماضين.
أمّا التجديد المنظور في شعر الفرطوسي فمنه التجديد في اللغة الشعرية والأُسلوب البياني. فقد وفق الشاعر وبالرجوع إلى منابع اللغة العربية الصافية إلى بيان شعري متميز يتصف بسلامة اللغة ونقائها ، ونصاعة العبارة ووضوحها ، وبالتخلص من الاستعمالات البديعية المسرفة سوى التي تأتي مرسلة وعن سبيل العفوية.
وقد حرص الشاعر على أن تكون لغته الشعرية قريبة المتناول ، يسيرة الفهم تأخذ طريقها إلى قلوب الناس عامة وخاصة على السواء. فكان ينتقي الألفاظ الأكثر شيوعاً في اللغة ذات الصلة باللغة الحوارية بين الناس ليتسنى للمتلقي استيعاب المضمون وفهم رسالة الشاعر.
فمثلاً يفضل الشاعر استخدام كلمة « الوضع » بدلاً من « الواقع العام » أو « العرف السائد » وغيرها من المصطلحات التي تشيع غالباً عند الطبقة المثقفة والمتعلمة من الناس (1). فهو يؤثر كلمة « الوضع » على سائر مرادفاتها العصرية لتداولها بين العامة وتقبّلها من قبل الخاصة.
يقول الشيخ الفرطوسي عن موقع الشاعر الطموح من « الوضع »
____________
1 ـ عبدالصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص616.

(121)

الاجتماعي المتخلّف :

يريد لك « الوضعُ » أن تنزوي * بحيـث خيـالـك لا يطلــع
وأن تغتـدي هيكـلاً مـا لـه * شعـورٌ يـحس بمـا يفجــع
فمــا لـك قـلبٌ ولا مقـولٌ * ومـا لـك طـرفٌ ولا مسمع
كـأنـك طبـلٌ بـأجـوائـه * يدوي إلـى كـل مـن يقـرع
فـإن قيـل للخبِّ ذا مـاجـدٌ * فقـل إنّـه المـاجـدُ الأروع
وللظـالـم المعتـدي عـادلٌ * فقـل هـو للعـدل مستـودع

وفي السياق ذاته تتكرر مفردة « الوضع » في بيتين تاليين والخطاب لا يزال موجهاً للشاعر الطموح :

فكـن خاملاً مثلمـا يرتضـي * لك « الوضع » والزمن الأفظع
يروم لك « الوضع » ما يرتئي * وان كان يصنع مـا يصنع (1)

ومن معالم التجديد في شعر الشيخ الفرطوسي ، التجديد في الأفكار والأغراض الشعرية. وتبرز هذه الظاهرة في جميع الأغراض التي طرقها الشاعر. ففي المديح مثلاً نجد الفرطوسي يجدد في شكل القصيدة ومضمونها. فهو لا يقلد القدامى في تقديم القصيدة بالغزل والنسيب وذكر الأطلال وغيرها ، بل يدخل إلى صلب الموضوع بدون مقدمات وممهدات.
امّا من ناحية المضمون فيتخذ الشاعر من المديح ذريعة لبث الأفكار السامية والمضامين القيمة التي تعود على المجتمع بالخير والمنفعة. فنراه مثلاً عندما ينظم قصيدة في المدح كالقصيدة التي مدح فيها الشيخ محمد الحسين الكاشف الغطاء عند عودته من المؤتمر الاسلامي في الباكستان عام 1951م
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص126 ، 127.

(122)

يدخل في المدح مباشرة ومن البيت الأول :

للفتـح آيـاتٌ بـوجهــك تُعـرف * هـل أن طلعتك السعيـدة مـصحف
شعّت عـلى قسمـات وجهك مثلمـا * شعـت بقلبي مـن ولائـك أحـرف
هـي أحـرفٌ ذهبيةٌ خُـطت علـى * قلبــي وريشتهــا فــمٌ مـتلهف
أبصـرت قلبي ظلمـة مـن يأسـه * ورأيتُهـا فجـر المنـى اذ يـكـشف
أجللتهـا مــن أن تُـمسَ قـداسـة * واسـم ( الحسين ) مقـدس ومشرف
فغرستُهـا في تربـة أزكـى ثـرىً * في الطهر من قلب الوليد وانظف (1)

ويستمر الشاعر في ذكر أوصاف الممدوح وعدّ خصاله الحميدة مشيراً إلى مواقفه الاصلاحية وأعماله الجليلة التي قام بها خدمةً للاسلام والمسلمين ، لينتقل في النهاية إلى غرضه الأصلي وهو الاشادة بالمطالب الحقة التي توخاها الشاعر من مديحه وغالباً ما تكون مطالب اصلاحية وتربوية :

إنــا لنبغــي للجهــاد قيــادة * يـرتاع منهـا المستبـد ويـرجـف
ونـريد افئـدةً علـى اضـلاعهـا * تطغـى عـزائمُها وحينـاً تعصـف
وأنـامـلاً يهـوي علــى تقبيلهـا * فـي حيـن تلطمـه فــم مـتكلف
ونـريـد اصـلاحاً لأنظمـة بهـا * لعب الغريـم وعاث فيهـا المجحف
ونـريـد أفكــاراً مثقفـة بهــا * نسمـو ومـن عـرفانهـا نتثقـف
وعقــائـداً دينيـــة ميمونــة * فـي النشء يغـرسها أب مـتعطف
إنـا لننشد مصلحيــن نفـوسهـم * عن حمل ما قد حُمِّلوا لا تضعف (2)

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص153.
2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص159.

(123)

وعلى هذا النحو تتبين معالم التجديد في سائر أغراض الشاعر كالرثاء والغزل والوصف والشعر الوطني والحماسي. وفي هذا الأخير نلحظ بوادر تجديدية للشاعر من خلال تناوله لشخصية البطل التي عليها مدار القصيدة الحماسية. فالفرطوسي يعمد إلى ذكر البطل من أجل الاشادة ببطولاته وبث روح الحماس في قلوب الناس والاهتمام برسالته التي تحمل في طيّاتها مُثلاً سامية ومبادئ قيمة مثل الدفاع عن الوطن والذود عن سيادته واستقلاله. فالهدف مبادئ البطل لا البطل ذاته (1).
وللفرطوسي في هذا الشأن منظومات كثيرة ، منها ما قاله مخاطباً أبطال سوريا ولبنان إثر سقوط القدس القديمة بيد الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948م :

أبطـال ( سـوريـا ) و( لبنـان ) ردوا * حـوض المنـايـا أو يُـردُّ مــا سلـب
فــأنتـم السـراةُ فـي كــلّ وغــىً * وأنتــم الغـــزاة فـي كـل لــجب
كـم سبحـت بــكم خيـول وهــفت * علـى رؤوسكــم بنــودٌ وعـــذب
لـلآن فــي ( الروم ) لكــم وقـائـع * بمسمـع الـدهـر لـوقعهـا صــخـب
فـاجتهـدوا وشيــدوا مـن العلـــى * « لآل حمــدان » عــروشـاً وقبـب
تقـدمــوا إلـى الـوغـى لتـرجعـوا * أعـداءكـم نـاكصـةً عـلى الـــعقب
وكيـــف تُثنـــون وألـفُ قـائـدٍ * مثل « أبي فراس » منكم في ( حلب ) (2)

ولم يكتف الشاعر بالتجديد في الموضوعات والأغراض فحسب بل دعا الشعراء إلى النهوض بالشعر والتجديد في مواضيعه ومضامينه حسب مقتضيات
____________
1 ـ عبدالحسين المبارك : ثورة 1920 في الشعر العراقي ، ص164.
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص246.

(124)

العصر ومتطلبات الحياة :

هبّـو شباب القوافـي إنها عُقدت * علـى عواطفكـم للشعـر آمـال
واستنقذوه مـن البلوى فمـا بقيت * فـي الكأس إلاّ صبابـات وأوشال
دعـوا الأقاويلَ والأهـواءَ ناحيةً * فـليس ينفعنــا قيـلٌ ولا قـال
خذوا اللّباب وخلّوا القشر واجتهدوا * أن تقتفـي منكـم الأقـوالَ أفعال
وجددوهـا ميـاديناً تثـور بهـا * مـن العـواطف أمـواجٌ وأهوال
فهـاهنا حلبـاتُ الشعر رنّ لهـا * صوت علـى مسمع التأريخ جوال
وهـاهنا الأدب العالـي بكم رُفعت * أعلامُهُ فغـدت تـزهـو وتـختال
وهاهنا نمت الفصحى وقد زهرت * فيهـا بكـورٌ أنيقــاتٌ وآصـال
فالخـزيُ والعارُ أن يبنو لنا شرفاً * ونحـن نهدمُ مـا شادته أجيال (1)

4 ـ براعة التصوير :

تتجسد براعة التصوير عند الشيخ الفرطوسي من خلال قدرته الفائقة على تصوير الأشياء مفصلة سواء المرئية منها أم غير المرئية. فهو عندما يصف الطبيعة مثلاً يحلّق في أجوائها ويلتقط بعدسته الشعرية صوراً رائعة ودقيقة يستحيل التقاطها إلاّ عن طريق ارادة الشاعر الفنية.
ولا يخفى ما للطبيعة من تأثير خاص ووقع هام في ازدهار وتنمية القدرة التصويرية عند الشاعر. فالفرطوسي يرى أنّ الشاعر هو : « من عشاق الطبيعة. ويمتاز بادراكه أسرار جمالها وعظمة جلالها وتجسيم صورها الرائعة في
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص289.

(125)

تصاويره الشعرية كأنها ماثلة أمام عينيك ، يصف الزهرة فينشقك نفحتها ويلمسك رقتها ، والغصن فيميل بقده الأهيف عليك كأنك تهصره بيدك وتعطفه بأناملك. والبلبل فيجس أوتار قلبك بأغاريده الراقصة ويطلق نفسك في أفق من حياة الحرية. والجدول فيفرغ في سمعك عربدة أمواجه وخرير سواقيه. والعاصفة فيطلع عليك عملاقاً جباراً من مردة الجان يتطاير الشرر من مقلتيه ويجلجل الرعد في شفتيه ، والسحاب فيغشاك بظلمات من الاهوال تشق حجبها البروق وتصطرع بها الصواعق والرعود. والقمر فيملأ عينك باشراق هالته وجمال طلعته وجلال روعته. وهكذا يرسم لك مختلف صور الطبيعة على ألواحه ويعرضها عليك وأنت في زاوية مكتبك أو مجلس سمرك ما لو قدر لك أن تراها بعينك لما كنت تقدر على ادراك بعض ما قرأته من التصوير في صفحات ديوانه » (1).
فللطبيعة دور هام في تصوير الواقع المعاش والحقائق الملموسة. وقد عرف الشاعر هذه الخصوصية الهامة فأحسن الاستفادة منها في تصوير الاحداث والوقائع التي عاصرها والتي لم يعاصرها. وكثيراً ما نجد مفردات الطبيعة تشغل حيّزاً واسعاً من شعر الشاعر وخاصة الوصفي منه حيث الرسم والتصوير قائم على قدم وساق. فنلحظ مثلاً عندما يصور لنا وقائع الحرب العالمية الثانية يستخدم مفردات مثل « التلول » ، و « الجبال » ، و « الهضب » ، و « الصحراء » ، ومفردات مماثلة اُخرى :

أسيـولٌ موّارةٌ أم دمـاءُ * سفكتها من مثلها الأبرياءُ
وقـلاع رصينةٌ أم تلولٌ * كونتها من حولها الأشلاءُ
غمرتها مدامع اليتم شجواً * بنجيع ذابت بـه الأحشاءُ

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص15.

(126)

وتعـالت مـن حولهـا للأيـامى * شهقــات حـــزينـةٌ وبكـاءُ
ودُخـانٌ يغشـى السمـاء فيمتـدّ * علـى صحوهـا الجميـل غشاءُ
أم قتـام سـدّ الفضـا فتـوارت * بـدجــاه عـن العيـون ذكـاءُ
ودوي الـرعـد المجلجل يتلـوه * دويّ تعيــــده الأصـــداءُ
أم أزيـز للقـاصفات إلـى الافق * تعالـى فمـاج منـه الفضــاءُ
وجبال الصحراء زعزعها القصف * ومـادت من حـولها الصحـراءُ
فتهـاوت علـى المفـاوز منهـا * قطعـات ضـاقت بهـا الحصباءُ
أم حصـونٌ سيـارةٌ مـن حديـد * هـي والهضب فـي الثبات سواءُ
وجمــوع من الدَّبى أو من النمل * على الارض أمطرتها السماءُ (1)
أم جنـود قد أمّت الارض غـزواً * حين ضـاقت بعزمهـا الأجـواءُ
تتهـاوى علـى سعيـر المنـايـا * كلّمـا لاح لـلأمـانـي ضيـاءُ
لا تبالـي ان افلحـت في منـاها * أخلـودٌ مصيـرُها أم فنــاء (2)

وتتبلور خصوصية هامة أُخرى في صور الشاعر وهي الحركة والحيوية. فالشاعر لا يعرض صوره جامدة ثابتة تبعث الملل في نفس المتلقي ، بل ينفخ فيها الحركة التي تبعث في النفس الحيوية والنشاط. وهي لا شك تجعل المتلقي يعيش أجواء القصيدة ويساير أبياتها بيتاً بيتاً. ومن نماذج هذه الحركة قصيدته التي نظمها عند سفره من بغداد إلى سويسرا عام 1965م ، والتي وصف فيها الطائرة وصفاً دقيقاً وجميلاً :

طارت بنا مجلجله * مدبــرة ومقبلـه

____________
1 ـ الدَّبى : أصغر ما يكون من الجراد والنمل. ( لسان العرب ، ج4 ، ص288 ).
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص158 ، 159.

(127)

تقطع أجواء الفضا * مـرحلة فمـرحله
وتسبق الـريح اذا * ما استبقت مهروله
تشقــه كــلجة * تعبرها فـي عجله
صرح على قوائم * من ذا أقـام هيكله
سفينـة جـاثمـة * على الهوا مشتمله

ثم يتابع الشاعر في هذا الوصف تواصل الحركة بمزيد من التفصيل والدقة :

خفّت بنـا شـاهقـة * إلـى الفضا محملـه
كـريشـةٍ طـائـرة * ووزنهـا مـا اثقلـه
تطوى المسافاتُ بهـا * كـأنهـا متصلــه
توصل فـي أطرافها * وان تكـن منفصلـه
كأنما فـواصـل الأ * بعـاد فيها مـوصله
فـكل ناءٍ عنـدهـا * دان كقيــد سلسلـه
نفّـاثــة كطلقــة * نـاريـة مـستعجله
تطيـر فـي أجنحـة * خفيفـة مُطــولـه
تـوازن السيـر بهـا * صانعها قد عدّله (1)

وعلى هذا النحو من الوصف الدقيق والتصوير الأدق يمضي الشاعر في قصائده الوصفية والتصويرية معتمداً على حسه المرهف وذوقه السليم وقدراته الشعرية الهائلة.
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص139 ، 140.

(128)

5 ـ براعة الأساليب :

للشيخ الفرطوسي نفَسه الخاص واسلوبه المتميّز في لغته الشعرية. اللغة التي اتسمت بوضوح المعاني ، وشفافية المفاهيم ، وتسلسل الأفكار ، وانسجام الالفاظ ، ومتانة التركيب. وقد بات واضحاً على المهتمين بالشعر التمييز بين شعر الفرطوسي وشعر أقرانه ولداته من الشعراء النجفيين ، لما في اُسلوبه من مميزات اختص بها دون غيره من الشعراء.
ومن هذه الخصائص تعمّد الشاعر إلى ايراد المفاهيم والمضامين بصورة واضحة وشفافة وبشكل منتظم ومسلسل بحيث يسهل على المتلقي تجسيدها في مخيلته واستيعابها بسهولة ويسر. فلو أخذنا مثلاً قصيدة « مآسي الجسر » التي نظمها الشاعر في الانتفاضة الوطنية عام 1948م ، لتجسدت أمامنا أحداث تلك الواقعة بكل وضوح وشفافية :

سل الجسر عن بحر عبيط من الـدم * طغـا فوقـه لجـاً بوجـه جهنـم
وعن جثث القتلـى وكيف تراكـمت * علـى جـانبيه كـالحطام المهشـم
وعن عدد الجرحى اذا كـان عنـده * سجـل إلى احصـائها كـالمترجم
وعن فوهة الرشـاش طبقت الفضا * دوِّياً باطلاق الـرصـاص المخيـم
فكـم طلقـة ناريـة منه صُـوّبت * لـقلب بريء مـن انامـل مجـرم
***
فمن يافع غض الصبـا متــرعرع * يحيّيـه من آمـاله خيـر مبســم
مشى نحوه كالسهـم غيـر محايــد * ولـيـس بهيّـاب ولا متـبــرم
يصافح تيار الرصـاص بصــدره * ويرنـو له فـي طرفه كالمسلِّــم

(129)

إلى أن غدا للقاذفات ضحية * مبعثـرة كالهيكـل المتحطم
***
وكـم زهرة فـي ميعة العمـر بضة * إلـى أُمّهـا العذراء بـالطهر تنتمـي
تهـاوت علـى نيرانـه وهـي جمرة * مسعـرة مـن عـزمهـا المتضـرم
إلى أن قضت صبراً بحصد رصاصه * فعطـل منهـا خيـر جيـد ومعصم
***
وكم طفلة تبكي دموعاً وحسرة * أباها مـن اليتم الفضيع المذَّمم
وأم رؤوم القلب تنعى وحيدها * بقلب حـزين بالكآبـة مضرم
ترق لها حتى الجمادات رحمة * وتأسى بـقلب خاشع متـرحم
فمـا بالكـم ياقادة الشر قسوة * أهبتم بشعب بـائس متظلم (1)

وثمة خصوصية اُخرى تظهر بوضوح في اُسلوب الشاعر ، وهي حسن اختيار الوزن والموسيقى الشعرية في المناسبات المختلفة. فعندما يقتضي الموقف إلى تعظيم الصورة وتهويلها كتصوير مآسي الحرب مثلاً ، يعمد الشاعر إلى تبني أوزان وقوافي شديدة الوقع على السمع عظيمة الأثر في النفس تؤدي الغرض وتعطي الموضوع حقه من التعظيم.
فمثلاً عندما يتناول الشاعر حرباً هوجاء كالحرب العالمية الثانية يختار لها بحراً ثقيلاً وكلمات أكثر ثقلاً لتصور ويلات الحرب ومآسيه بأعظم ما يمكن من الشدة والقوة :

ثـارت فطبَّق نـقعها الأفـاقـا * حرب بها قـد أسسوا الارهـاقا
فـوهاء تلتهـم الفضا نيـرانها * عصفت فضاق بها الزمان خناقا

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص145 ، 146.

(130)

ألقـى على القمريـن نقع مغارها * حـجباً فـغيّب منهما الاشـراقا
ومشت على كرة الوجود فأحرقت * مـن كل نـاحية بهـا احـداقـا
قد أرخصوا فيها النفوس فعمروا * للمـوت في ميـدانها أسـواقـا
واستخـدمـوهـا للمطامع سُلَّمـا * بـلغت نفوسُهُم بهـا ما راقا (1)

وعلى العكس من هذه الصورة المرعبة والمثيرة ، نجد الشاعر يحلق في سماء الكلمات الرقيقة والأوزان الراقصة الخفيفة عندما يتناول موضوعاً عاطفياً رقيقاً ، وغرضاً شعرياً جميلاً كالغزل والنسيب. من ذلك قوله في قصيدة « مليكة » التي نظمها عام 1965م ، وفيها يقول :

مليكـةٌ مملكةُ الحسـ * ـنِ بهـا معتـد له
وشعـرُهـا أكليلُـهـا * في حين تُعلي خصله
كأنهـا العروس مـن * زينتهـا فـي حجله
انسانهـا جـار ولكـ * ـن قدها مـا أعدله
واللؤلؤ المنثـور من * حديثها مـا أفضلـه
زنبقــة بثغـرهـا * يـرشفها مـن قبّله
وخـدهـا سجنجـلٌ * يـرسم فيـه قُبلـه
كــأنهـا أراكــةٌ * مثمـرةٌ مذلّلـه (2)

ومن مميزات اسلوب الشيخ الفرطوسي استخدامه المكرر والمميز للنداء. وقد أكثر الشيخ من هذا الاسلوب لما فيه من مباشرة خطابية تؤثر في نفس المتلقي وتجعله مسايراً لأحداث القصيدة ، ومتتبعاً لحيثياتها المختلفة. ومن بديع
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص187.
2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص211.

(131)

أمثلة النداء الباعث على القوة والتأثير قول الشاعر من قصيدة بعنوان « مصر والاستعمار » حيث يقول في أبياتها الأولى :

يا مصـر يـا أمَّ الصقورِ * ثوري على الطغيان ثوري
ثـوري علـى الشرِّ المبيد * وبـددي شمـلَ الشـرورِ
ثوري علـى الغدر الفظيع * وأنت طـاهـرةُ الضميـرِ
ثـوري لـحقّك قـد تبلّج * فهو كـالصبح الـمنيرِ (1)

فقد أورد الشاعر النداء مرتين في صدر البيت الاول ليسترعي انتباه المتلقي إلى أهمية الموضوع ثم عززه بست جمل انشائية أمرية خمس منها مكررة وهي « ثوري » وواحدة غير مكررة وهي « بددي ». ولا شك انّ في هذا الحشد من الجمل الانشائية ما يجلب انتباه المستمع إلى خطورة الموضوع ومدى أهميته.
ولم يكتف الشاعر بهذا القدر من النداء المؤكد بل راح يكثر منه في مواضع اُخرى من القصيدة :

يامصر ياغاب الأسود الشـ * ـوس يـاوكــرَ النسـور
يـامهـد نـاشئـة الفخـار * تصان فـي أزكـى الحجور
يـامشعـل التحـرير مـن * رقيــة الظلــم النكيــر
يارايـة الاصلاح لـلأجيـ * ـال تـنشر فـي العصـور
يانهضـة الشـرق المجيـد * طغـت بميـدان الشعــور
ياصرخـة الايمـان اسكتـ * ـت المـدافـع بـالـزئـير
يـا بنت فرعون بسوح البـ * ـطش والفتـك الـمبير (2)

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص195.
2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص 196.

(132)

والتكرار ديدن الشاعر في معظم قصائده. ولا يخفى ما له من أثر كبير في تأكيد الموضوع وتعزيز أهميته. وقد تفنن الشاعر في هذا الأمر ، فتارة يكرر استخدام الجمل الفعلية ليؤكد على استمرارية الحدث وامتداده في الزمان ، كما يتضح من الأبيات التالية :

أغـدق الأفق بـالبشائر حتى * أغرق الكون بـالشعاع البهي
وتجلّت عروسـه وهي ترمي * بنثـار من نـورها الذهبـي
وتمشّت علـى الربى نفحاتٌ * عـابقاتٌ بـكل نـشرٍ ذكي
وتنـاغت بـلابل راقصـات * فوق أعطاف كل غصن ندي
وتعـالت بين السمـا همسات * هـي أفـراح عـالم ملكـي
وأطلّت مـن أفقهـا قسماتٌ * للعذارى تـزهو بنـور جلي
وأفاقت مـن سكرها عاطفات * تتلقى البشرى بوحي خفي (1)

وتارة يتم التكرار بموالاة جمل اسمية تفصح عن الثبات والدوام والاستقرار. من ذلك الأبيات التالية من قصيدة « الحب » :

قطـرةٌ فـي قـرارة النفـس مـنها * تمـلأ النفس حيـن تـهبط عطفـا
جمـرةٌ تلــذع القـلـوبَ بـوقـد * مـن لظاهـا لكنها لـيس تطفـى
قـوةٌ تصــرع العقـول لـديهـا * فتخـور العقـول وهنـا وضعفـا
أيكـةٌ تثمـرُ الحـنــانُ عليهــا * بجنـاحيـه طائـر الحـبّ رفّـا
خمـرةٌ تسكــر النفـوس اذا مـا * خـالطتهـا منهـا اللذاذة صرفـا
سنـةٌ توقظ العـواطف فـي النفـ * ـس التهاباً وترهف الحـس لطفا
نغمـةٌ تـنطـق القلـوب وتـحيي * ميت الروح حيـن تعزف عـزفا
نفحـةٌ من مـواهب القـدس تذكـو * في فضاء النفوس طيباً وعرفا (2)

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص53.
2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص209.

(133)

ومرة اُخرى يكون التكرار بحرف الجر احترازاً من توالي الأفعال ، وتنبيهاً لفطنة المتلقي في استيعاب الفعل الرئيسي للجملة. من ذلك قول الشاعر في قصيدة بعنوان « معاهد العلم » :

ياصـاحبي أعيرا مهجتي جلدا * ففي جناني من وقع الردى خور

إلى أن يقول :

خِفا إلـى مهبط الألطاف والتهما * وحياً بليغاً بـه قد فـاهت العبـر
واستنطقا صفحة الوادي فصفحته * سِفر بـه خطـت الأنباء والسيـر
عن ألف جيل وجيل في قرارتـه * ثووا ومـا طاف فينا منهـم خبر
وعن مصارع أبطـال جبـابـرة * كانت بهـم جمرات العزم تستعـر
وعـن مفـارق أملاك غطارفـة * كـانت بهم تفخر التيجان والسرر
وعـن شمائل أمجاد بها طويـت * مـن العلى صحف منشورة غرر
وعـن مواهـب أفـذاذ وأنـدية * للفضل كانت بهم تزهو وتـزدهر
وعـن عواطف آبـاء مرفـرفة * على غصون بكف الموت تهتصر
وعـن مواسيم أعياد بها احتفلت * دنيا الأماني وماجت حولها صور
وعـن ثنايا ثغور ضـاع لؤلؤها * وكـان يحرسه من صونها الخفر
وعن أكاليل شعر حـولها نثرت * مدامع من جفون اليتم تُعتصر (1)

ومهما يكن من أمر فأنّ التكرار اُسلوب بياني استخدمه الشاعر في كثير من قصائده. وقد تبيّن من خلال البحث الأغراض والأهداف التي اتضحت بواسطة التكرار ، وهي في طبيعة الحال أغراض تهدف إلى تأكيد المضامين وتعزيز المحتوى والمفاهيم.
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج 2 ، ص 293 ، 294.