6 ـ التنسيق والتنقيح :

سبقت الاشارة إلى انّ الشاعر كان يعنى بقصائده عناية خاصة ، ينسقها كيفما يقتضيه طبعه ويملي عليه ذوقه. وما ديوانه إلاّ لون من الوان ذلك التنسيق الجميل. وخلافاً لما جرت عليه العادة من تصنيف القصائد حسب أبجدية القوافي فانّ الشاعر فضّل أن ينظم قصائده حسب الموضوعات والأغراض. فوضع على سبيل المثال قصائده الولائية في الرسول صلى الله عليه وآله وآل بيته عليهم السلام ، في باب سمّاه « من وحي العقيدة » ، ثم عرّج على قصائده الوطنية والسياسية والاجتماعية فضمّها إلى حقل دعاه « صور من المجتمع » ، وهكذا دواليك.
ومن موارد التنسيق والدقة التي امتاز بها الشاعر في إنشاد ديوانه ، التعليقات القيمة التي علقها على معظم قصائده والتي ذكر فيها الغرض من انشاد القصيدة ، والمناسبة التي القيت فيها ، وتاريخ الإلقاء بالسنة الهجرية والميلادية. ولهذا الأمر قيمة فنية لا تخفى من حيث دراسة قصائد الشاعر من الناحية التاريخية ، والأدوار والمراحل التي مرّ بها الشاعر وتأثر بأجوائها وظروفها المختلفة.
وبالاضافة إلى التعليقات المذكورة فقد شرح الشاعر قسماً من الألفاظ اللغوية الواردة في الديوان موضحاً بعض الأعلام والأشخاص ليسهل على المطالع استيعاب المعاني بلا تعب وتفكير.
ومن جميل صنعه في الديوان أنّه قدّم لبعض قصائده بعبارات نثرية جميلة تبين جدارته وطول باعه في حقل النثر الفني اضافة إلى شاعريته الفذة. من ذلك مقدمته النثرية الجميلة لقصيدة « الباب الذهبي » التي ألقاها في المهرجان الذي احتفلت به مدينة النجف عند افتتاح الباب الذهبي الذي اُهدي لمرقد الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام.


(135)

يقول في المقدمة : « عدل صارم لا تضام في ظلّه نملة في حبة من رزقها ، ولا تطمع رحم بسوى حقها. حياة مخصبة من المعارف مجدبة من المغريات. بيت بسيط ما فيه غير سرير وحصير ورحى وأقداح من الطين ومدرعة بالية. يشيد الحق على أساسه صروحاً من الذهب ، وشموعاً تنافس الشهب. هذا عليٌّ وتلك حياته وهذه عقباه وهي المثل الأعلى للأنسانية » (1).
ويلحظ المتتبع لشعر الشيخ الفرطوسي من خلال ديوانه بعض القصائد المتجانسة من حيث الشكل والمضمون ، والمختلفة من حيث العنوان. وهذه القصائد في الحقيقة هي جزء من قصيدة واحدة سبق أن نشرها الشاعر في الصحف والمجلات ثم آثر تقطيعها على شكل قصائد متعددة لتنتظم في ديوانه. فقصيدة « مولد الأنوار » و « وطن يباع » و « قادة التعليم » هي جزء من قصيدة واحدة ، وكذلك قصيدة « آثار مجدك » ، و « بنت الفرات » ، و « راية الاسلام » (2)
ومن الملاحظ أيضاً أنَّ الفرطوسي كان شديد العناية بشعره يدأب في تهذيبه وتنقيحه قبل أن ينشره في ديوانه. فمثلاً قصيدة « يا نجل مصر » التي نظمها ترحيباً بالدكتور زكي مبارك والتي يقول في مطلعها :

قومي اهتفي بحليف المزبر الخصب * بمـلء فيك معي يا حلبةَ الأدبِ (3)

كانت في الأصل بعنوان « تحية الغري لزائره العزيز » وبالمطلع التالي :

قومي اهتفي باسم محيي العلم والأدب * بـملء فيك معي يا أمة العـرب (4)

وعلى أي حال فانّ الشاعر اهتم بنتاجه الأدبي اهتماماً كبيراً ، وحرص على أن يكون ديوانه أثراً أدبياً قيماً ضمن الآثار الأدبية الراقية .
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص33.
2 ـ مجلة الايمان : العددان 7 ـ 8 ( 1964م ) ، ص135 ـ 142.
3 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص185.
4 ـ عبدالرزاق الهلالي : زكي مبارك في العراق ، ص184.

(136)

7 ـ أصالة الوزن والقافية :

على الرغم من تصاعد الدعوات التجديدية في أوائل هذا القرن والتي رمت إلى الخروج على نظام القصيدة العربية ، والتخلص من التزامات الوزن والقافية ، فقد ظل شعراء النجف ـ ومن بينهم الشيخ الفرطوسي ـ محافظين على بحور الشعر المعروفة ينظمون فيها قصائدهم غير آبهين بالأنماط الأدبية المستحدثة مثل الشعر الحر والشعر المنثور.
ولعل هذا يعود إلى الثقافة العربية الأصيلة التي نهل شعراء النجف من معينها ، ونموا قرائحهم برائع نتاجها وجليل آثارها حتى بات فرضاً على الشاعر النجفي أن يفي لهذه اللغة حقها ويحفظ لها صنعها الجميل.
ولا شك أنّ استخدام الأوزان العربية الموروثة تحكم نسيج القصيدة إحكاماً فنياً ، وتنسق جرس الألفاظ من حيث الموسيقى الخارجية والداخلية ، وتمد القصيدة بالقوة والحركة ، وهذا ما أكد الشيخ الفرطوسي على توفره في قصيده وشعره.
ومن الملاحظ أنّ الشاعر كان يكثر من استخدام البحور الأكثر شيوعاً واستحكاماً في العربية كـ « الطويل » و « الكامل » و « البسيط » و « الوافر » و « الخفيف » ، بينما ترك البحور المضطربة كالمتدارك وهو « بالشكل الذي ذكره العروضيون ، وزن مضطرب ، لا يمكن أن تنظمه قاعدة ، ويغلب على ظن بعضهم أنّ الخليل لم يجهله ، وانما أهمله ، فاذا صح ذلك فهو لموضع الاضطراب فيه » (1).
وهذا لا يعني أنّ الشاعر صبّ اهتمامه على الأوزان والبحور القديمة دون
____________
1ـ مصطفى جمال الدين : الايقاع في الشعر العربي من البيت إلى التفعيلة ، ص139.

(137)

أن يفسح المجال لقريحته في أن تبدع وتجدد. فالفرطوسي لم ينظم الشعر لوجه الشعر ولم يتخذه صنعة ومهنة ، بل صيّره وسيلة تعبيرية تفصح عن خواطره وعواطفه :

وما الشعر إلاّ منبع مـن عواطف * تـقدّسـه منّـا عـقولٌ وألبـاب
وأجمله مـا جاء عفـواً سلاسلاً * وأعذبه سلس الأساليب خلاب (1)

وقوله أيضاً :

هبوا شباب المعالي انهـا عقدت * علـى مساعيكمُ الآمال أوطـانُ
وجـددوا نهضـة الآداب في بلد * مقـدس هـو لـلآداب عنـوان
ورددوا الشعـر أنغامـاً مـلحنة * فـانما الشعـر أنغـامٌ وألحـان
إنّ القريض من الأحشاء مقتطع * فلا تقولوا مـقاطيع وأوزان (2)

وعلى هذا النحو أيضاً انصب اهتمام الشاعر في مجال القوافي وخاصة القوافي المتداولة والشائعة لدى السلف من الشعراء. ومن المعروف أنّ القدماء قسموا القوافي أقساماً ثلاثة « فالتي استحسنوها ليسرها وسهولتها وإجادة الشعراء فيها سموها القوافي « الذلل » كالباء ، والتاء ، والدال ، والراء ، والعين ، والميم ، والنون ، والياء حين تلحق بها ألف الاطلاق. وعلى العكس منها ما سموه بالقوافي « الحوش » وهي الخاء ، والذال ، والثاء ، والشين ، والظاء ، والغين ، وبين هذين الحدين من السهولة واليسر ، هناك القوافي : « النُفَّر » والقصائد الجياد التي بنيت عليها قواف قليلة ، كقوافي السين ، والصاد ، والضاد ، والطاء والواو » (3).
وقد انفرد الشيخ الفرطوسي عن شعراء النجف الآخرين في تعامله مع
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص228.
2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص281.
3 ـ عبدالصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص348.

(138)

القافية ، « ذلك أنّ أكثر من نصف قصائد ديوانه ، وبالتحديد 17 و56% من القصائد يدور في فلك قواف أربع : قافية الراء وقد استأثرت بنسبة 5 و22% من مجموع القصائد ، وقافية الميم ونسبتها 36 و13% ثم النون ونسبتها 76 و11% وقافية العين ونسبتها 55 و8% ونظم على اثنتي عشرة قافية 83و43% من قصائده أكثرها على قافيتي « اللام » و « الباء » وهجر باقي القوافي ومنها « الحوش » جميعاً » (1).
وقد يرجع هذا الأمر إلى الحس الملحمي الذي اتصف به الشاعر من خلال اختياره القوافي التي تصلح لنظم الوقائع والأحداث التاريخية. وهذا مسلك سار عليه الفرطوسي دون غيره من شعراء النجف. وقد تبيّن لديه هذا المنحى حين نظم موسوعته الشعرية الكبرى ـ ملحمة أهل البيت عليهم السلام ـ والتي تجاوزت الأربعين ألف بيت.
ومهما يكن من أمر فانّ الشاعر باستخدامه الأوزان الشائعة والقوافي المستحسنة حرص على أن يكون شعره في درجة رفيعة من القوة والمتانة بعيداً عن الضعف والهلهلة. ومع ذلك فقد يجد الشاعر نفسه في بعض الأحيان مضطراً للوقوع في محذورات ومحظورات.
ومن هذه المحذورات تعدية الفعل بنفسه أو بالحرف. ففي بعض المواضع يضطر الشاعر إلى تعدية الفعل بالحرف ليستقيم الوزن ، كما في البيت التالي حيث عدى الفعل « يعرو » بالباء وهو يتعدى بنفسه إلى مفعوله :

صلب الـعقيدة لا يعـرو بـه نزق * ولا يخف به الإسفاف من بطر (2)

ومن المحذورات الاُخرى التي وقع فيها الشاعر والتي تعد من عيوب
____________
1 ـ المصدر السابق ، ص650.
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص150.

(139)

القافية ، السناد. والسناد « هو اختلاف ما يجب مراعاته قبل الروي من الحروف والحركات » (1) . ومن أمثلة السناد الواردة في شعر الفرطوسي قوله في فيضان « دجلة والفرات » :

فأصبحت تعجّ في ضجيجها * وتستغيث بالصراخ واللجَبْ
وكم بها مـن طفلة مذعورة * تبكي وطفلٍ مستريب ينتَحِبْ

إلى أن يقول :

وأرتـسم الشقـاء فـي طـابعها * وغُيرت منها السمات بالرُعُبْ (2)

فالروي حرف الباء الساكنة ، إلاّ انّ حركة ما قبل الروي تختلف في الأبيات الثلاثة. ففي البيت الأول حركة الفتحة ، وفي البيت الثاني حركة الكسرة ، وفي البيت الثالث حركة الضمة. ويسمى هذا النوع من السناد الذي يحصل في الروي المقيد ، سناد التوجيه (3).
ومثل هذه الموارد قليلة في شعر الفرطوسي. فالصفة الغالبة على شعره قوة البناء ومتانة الأسلوب ، بالإضافة إلى جودة البيان ونصاعة التعبير.

8 ـ استخدام المحسنات البديعية :

لم يمعن الشيخ الفرطوسي في السعي وراء المحسنات البديعية واستخدام قوالبها المصطنعة والمقيدة. بل كانت تأتي في سياق تعبيره عن أحاسيسه الحقيقية ومشاعره الصادقة مترسلةً من غير تعسف وتكلّف. وقد حرص الشيخ على أن
____________
1 ـ نادر نظام طهراني : العروض العربي ، ص15.
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص312.
3 ـ نادر نظام : المصدر السابق.

(140)

يتبع ألفاظه إلى معانيه ، وأن ينظر إلى المضمون قبل صياغة الشكل.
ومع ذلك فانّ في الديوان محسنات جميلة وردت بصورة عفوية ومن خلال انسياب الكلمات المتناسقة في الشكل والحروف ، والمتناسبة من جهة اللحن والايقاع. ومن هذه المحسنات :
أ ـ الجناس : « وهو تشابه لفظين في النطق ، واختلافهما في المعنى » (1). كالجناس بين كلمة « مطلع » بمعنى الابتداء ، و « مطلع » بمعنى طلوع الشمس في هذا البيت :

نشيـدي وأنت لـه مطلـع * من الشمس يعنو له مطلع (2)

والجناس بين كلمة « نضير » بمعنى الحسن الناعم. و « نظير » بمعنى المثيل في البيت التالي :

حياة كـلّ مـا فيهـا نضير * ولكن لا تضاهى في نظير (3)

والجناس بين كلمة « وردي » بمعنى شربي ، و « وردي » بمعنى دعائي في قوله :

فيا وطني العـزيز وأنـت وردي * لدى ضمئي ووردي في دعائي (4)

ب ـ الطباق : « وهو الجمع بين لفظين مُقَابلين في المعنى » (5). كالطباق بين كلمتي « رجائي » و « يأسي » في قوله :

يـا سماءَ الخيال أنتِ سمـائي * أنت دنيا يأسي ودنيا رجائي (6)

____________
1 ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص343.
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص33.
3 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص175.
4 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص179.
5 ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص313.
6 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص130.

(141)

والطباق بين فعلي « تجود » و « يضنّ » في هذا البيت :

وتجـود من كـرم بـما أوتيتـه * ويضنُّ غيرك أن تعيش قنوعا (1)

والطباق بين « قريباً » و « بعيداً » في البيت التالي :

ولا تنسوا أحبـائي قـريباً * بعيداً عن حنوّ الأقرباء (2)

ج ـ التورية : وهي « أن يذكر المتكلم لفظاً مفرداً له معنيان ؛ أحدهما قريب غير مقصود ودلالة اللفظ عليه ظاهرة ، والآخر بعيد مقصود ودلالة اللفظ عليه خفيّة » (3) . كالتورية في هذا البيت :

إذا مـا علا بالسيف قـرم رأيتـه * هو الشفع مقسوماً وضربته وتر (4)

فالظاهر من الشفع والوتر هو المعنى القرآني الذي جاء في الآية الشريفة « والشفع والوتر » (5). إلاّ انّ الشاعر أراد معناه اللغوي وهو الشفع بمعنى الزوج ، والوتر بمعنى الفرد.
د ـ رد العجز على الصدر : وهو أن يجعل أحد اللفظين المكررين والمتجانسين في المصراع الأول ، والآخر في المصراع الثاني (6). كما جاء في البيت التالي :

ويصرعها العقل مـن بطشه * كما هو من بطشها يصرع (7)

هـ ـ التضمين : « وهو أن يضمّن الشاعر كلامه شيئاً من مشهور شعر الغير » (8). كقوله :
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص153.
2 ـ المصدر السابق ، ج1 ، ص179.
3 ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص310 ، 311.
4 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص86.
5 ـ الفجر : 3.
6 ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص354.
7 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص124.
8 ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص362.

(142)

سلـي الحــوادث عــن تـأريـخ نهضتنـا * « واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا » (1)


وفيه تضمين لشعر صفي الدين الحلي (2) من بيت يقول فيه :

سلـي الرمـاحَ العـوالي عـن معـالينـا * واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا (3)

وكذلك التضمين في هذا البيت :

« لا خيـل عندي اهديها » فاعقرها * على ثراك سوى شعري وتأبيني (4)

وفيه اشارة إلى بيت مشهور من قول أبي الطيّب المتنبي (5) :

لا خيل عنـدك تهديهـا ولا مـال * فليُسعد النطق إن لم تُسعد الحال (6)

ويمكن اعتبار البيت التالي نوعاً من التضمين :

فالسيلُ قـد بلغ الزُّبى تياره * متدافعاً وتجاوز الطغيان (7)

فقد أشار الشاعر إلى المثل المشهور « بلغ السيلُ الزُّبى » ، وهو مثل يضرب لما جاوز الحد (8).
هذه إضمامة لبعض المحسنات البديعية الواردة في شعر الفرطوسي. وهي قليلة لا يهتم الشاعر بها بقدر ما يهتم بسلامة المعاني ، ونصاعة الأفكار ، وشفافية المضامين ، ووضوح المفاهيم.
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص219.
2 ـ عبدالعزيز بن سرايا ( 677 ـ 750هـ ). شاعر عصره ، ولد ونشأ في الحلة واشتغل في التجارة. رحل إلى القاهرة سنة 726هـ فمدح السلطان الملك الناصر. له ديوان شعر ورسالة بعنوان « العاطل الحالي ». ( الأعلام ، ج4 ، ص141 ).
3 ـ ديوان صفي الدين الحلي ، ص20.
4 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص66.
5 ـ أحمد بن الحسين الكندي ( 303 ـ 354هـ ). الشاعر الحكيم وأحد مفاخر الأدب العربي. له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. شرح ديوانه شروحاً وافية وكثيرة. ( الأعلام ، ج1 ، ص110 ).
6 ـ ديوان المتنبي ، ص396.
7 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص286.
8 ـ أحمد بن محمّد الميداني : مجمع الأمثال ، ج1 ، ص132.

(143)

رابعاً : الأدوار

مرّ الشيخ الفرطوسي من خلال تجربته الشعرية الطويلة بأدوار ومراحل مختلفة تفاوتت من حيث العطاء الأدبي بتفاوت الظروف التي عاشها الشاعر في ظل أنظمة الحكم في العراق. ولا شك أنّ الشاعر وباعتباره لسان جيله المعبّر عن آماله وآلامه وأفراحه وأتراحه أوّل من يواجه الضغوط والاضطهاد من قبل الأنظمة الاستبدادية التي دأبت في فرض منطق العنف ، وخنق الحريات الفردية والاجتماعية.
وعلى ضوء هذا الواقع المرّ ، ومن خلال المتابعة التاريخية لنتاج الشاعر يمكن حصر الأدوار الزمنية لشعر الفرطوسي في المراحل التالية :

1 ـ مرحلة السمو والأزدهار ( 1935 ـ 1958م )
تشكل هذه المرحلة من حياة الشاعر أعظم فترات الأخصاب الشعري التي شهدها الشيخ الفرطوسي طوال عمله الأدبي. فقد شملت أكثر من ثلثي قصائد ديوانه ، وبالتحديد 4 و67% من مجموع أشعار الديوان. وهذه الفترة التي تمتد في العهد الملكي وتنتهي بثورة 14 تموز عام 1958م تعد ـ وعلى الرغم من ممارسات المحتل التعسفية ـ من أفضل فترات النشاط الأدبي للشاعر لظروفها الباعثة على النظم والابداع.
وفي ظل تلك الظروف المساعدة والأجواء الباعثة على النشاط والتفاعل استطاع الشاعر أن ينظم معظم قصائده السياسية والاجتماعية ، وأن يطرق مختلف الأغراض الشعرية كالوصف والغزل والمديح والرثاء وغيرها.


(144)

2 ـ مرحلة الفتور الأولى ( 1958 ـ 1963م )
بعد أن أطيح بالحكم الملكي في العراق بالثورة التي قادها عبدالكريم قاسم عام 1958م ، تطلّع الشعب إلى هذه الثورة والأمل يراودهم في استقلال بلادهم من هيمنة المحتل الأنجليزي وانتهاء عهد مظلم تشبع بالظلم والاضطهاد. وقد راود هذا الأمل قلب الشاعر الذي استقبل الثورة بكل حفاوة وترحيب :

بغـدادُ يــادارَ السـلام تـحيةً * للفـاتحيـن تُـحفُّ بـالإكبـار
صوغـي أهـازيجَ الكرامة نغمة * كـالنـار تَلهبُ مـن فـمِ القيثار
وتطلعـي لـلاُفق ان نـجومـه * رَجمت شيـاطينَ العمى بشـرار
لشعور هذا الشعب كيف تدافعت * أفـراحُـه كتـدافـعِ التيـــار
لطلائـع الآمـال وهـي كتائبٌ * زَحفت مـع الثوار فـي مضمار
طولي على هـامِ المجـرّة رفعةً * وبطـولةً فـي جيشكِ الجرار (1)

وبالرغم من التفاؤل الذي تطلع اليه الشعب في اصلاح الوضع وتحسين المعيشة من خلال الثورة ، إلاّ انّ الوضع أخذ يتأزم شيئاً فشيئاً ، وأخذت الفوضى تعمّ البلاد ، وأخذت الحركات الهدامة ذات المبادئ المنحرفة تدسّ أفكارها المسمومة في الأوساط الثقافية والفكرية ، ممّا دعا الشاعر إلى مطالبة السلطة بإيفاء وعودها من تضمين الحريات ، واحترام القانون ، واستتباب الأمن والاستقرار في البلاد :

يا باعثَ الوعي حياً حين أرهقه * ظلمٌ فلـم يَبقَ مـن أنفاسه رمق
نريدُ حـريةً للشعب حيثُ بهـا * مـن كل رقيّـة سوداءَ يـنعتق
محـدودةً بنظـام لا يصيِّـرُها * فَوضى بها حرمةُ القانون تخترق

____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص82.

(145)

نـريد للحكـم أفـذاذاً عبـاقـرةً * من تربة الخير والاصلاح قد خلقوا
يطبقـون بهـذا الشعب أنظمـة * للـحكم حيثُ نظامُ العـدل ينطبق
فالحكم ميزانُ عـدل لا تميل بـه * عينٌ على اختها يطغى بهـا النزق
والحكم كالرأس ان الرأس ليس به * عيـنٌ تنامُ وعينٌ مـلؤها أرق (1)

وما لبثت أن تبدلت الآمال إلى آلام ، وراحت الحريات التي طالما حلم بها الشعب وتطلع إليها بعين الأمل تأخذ مسيرها إلى الكبت والخنق. وعادت ثانية ممارسات الظلم والتعسّف تنال المثقفين والمفكرين وتزري بالأدباء والشعراء.
وفي مثل هذه الظروف ، وإثر الاضطهادات والضغوط التي مارسها النظام آنذاك أخذ نتاج الشاعر يتضاءل ليصل إلى أدنى مستوى من عمله الأدبي حيث بلغ 7 و4% من مجموع القصائد التي أنشدها في هذه الفترة.

3 ـ مرحلة النهوض ( 1963 ـ 1968م )
بعد أن أخفقت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958م في تحقيق الأمن والاستقرار في العراق ، قام عدد من الضباط بقيادة عبدالسلام عارف بانقلاب عسكري في الثامن من شباط عام 1963م أطاح بحكومة عبدالكريم قاسم التي دامت خمس سنوات.
وفي هذه الفترة أي من عام 1963م وحتى عام 1968م نلحظ بعض مظاهر النهضة في نتاج الشاعر حيث وصل نظمه في هذه الفترة قرابة الثلث من قصائد الديوان وتحديداً 9 و27% من مجموع القصائد.
ومنشأ هذه النهضة لم يكن الوضع السياسي الجديد. فالاضطهادات لم تزل
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص89.

(146)

قائمة ، ولم يزل الأديب مغلول اليدين ، فاقد الحرية تمارس بحقه أنواع الضغوط والعنف من قبل السلطة :

مـاذا يراد مـن الأديب وقلبُه * للناس ملكٌ وهو حـر ( منعمُ )
ليس الأديب بضاعةً في سوقها * تشرى ويرفع مستواها الدرهم
انّ الأديب لسان جيل مـا لـه * في الخطب إلاّ وعيه المتضرمُ
ورسـالـة للعبقـريـة فـذة * توحـي فيرسمها الخيال الملهم
تهوى البساطـةَ نفسه وحياته * السـوداءُ مـن تعقيدها تتجهم
انّ الأديـب بجسمـه قيثـارة * وبـروحـه اغـرودة تترنّـم
هـو بلبل البشرى بأندية الهنا * وهـو الغراب إذا يـقام المأتمُ
الوضع يُرغمه بـأن يغدو لـه * عبداً وحر ضميره لا يرغم (1)

ولكن النهضة الشعرية التي طرأت على نتاج الشاعر تعود إلى خروج الشاعر من العراق وذهابه إلى « سويسرا » و« لبنان » من أجل العلاج. وفي هذه الفترة القليلة التي ابتعد الشاعر عن جوّ العراق الخانق وذاق طعم الحرية في بلاد الغربة نظم الفرطوسي قصائد كثيرة من بينها جلّ أشعار الغزل التي حواها ديوانه.
ومن هنا تعتبر رحلة الشيخ إلى « سويسرا » و « لبنان » منعطفاً هاماً في مسيرة الشاعر حيث تعاطى فيها نظم الغزل والنسيب الذي لم يطرقه من ذي قبل بسبب القيود التي فرضت عليه من محيطه المقيد وبيئته المحافظة.

4 ـ مرحلة الفتور الثانية ( 1968 ـ 1983م )
شهدت هذه الفترة فتوراً ملحوظاً في نتاج الشاعر وخاصّةً في الشعر
____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص91.

(147)

السياسي والاجتماعي. ومن المؤكّد انّ الظروف القاسية التي مرّ بها الشاعر آنذاك والضغوط التي كانت تُمارَس بحقه بين الحين والآخر هي التي دعت الشاعر إلى إقلاعه عن نظم الشعر السياسي والاجتماعي.
وفي هذه الفترة بالذات وتحديداً في منتصف السبعينات خطرت ببال الشاعر فكرة نظم الملحمة فكانت عاملاً آخر في اقلاعه عن نظم الشعر في المناسبات وتكريس جلّ اهتمامه في تأليف موسوعته المذكورة. وقد استمر الشاعر في عمله هذا بعد مغادرته العراق عام 1980م وحتى وفاته بالأمارات العربية المتحدة عام 1983م.