ج ـ تأميم قناة السويس والغزو الثلاثي على مصر (1) :

عندما تمّ تأميم قناة السويس عام 1956م نظم الشيخ الفرطوسي في هذه المناسبة قصيدة « قنال مصر » وفيها رحّب بالعزيمة المصرية وموقفها الشامخ الذي لم يهتز لتهديد الطامعين ووعيد الغزاة المعتدين :

يـاموكبَ المجـد الخطيرِ وللعلى * والمجد فـي دنيـا المفاخر موكب
قف حيِّ مصرَ وحـيِّ أبطالاً بها * مجـدُ البطولـةِ مثلهـم يـتطلبُ
صعـدوا بمرقـاةِ الكرامة للعلى * وقنـالُ مصر للكـرامة مـركبُ
قالوا الجلاء فقال شعبٌ نـاهضٌ * انّ الجـلاءَ لشعب مصـر مذهبُ
وإذا بـوادي النيل وهـو مراجلٌ * تغلـي دمـاً ومشـاعـلٌ تتلهـب
وبساحة ( الفسطاط ) وهي منابت * للعـز فسطـاط المفـاخر يضربُ
وبمصـر أعظمُ مهـرجان رائع * وفـمُ القنـال به لسـان يخطـب
وإذا قـوى المستعمـرين يمينها * مغلـوبـة ويسـار مصـر تغلب

____________
1 ـ قناة السويس ممر مائي بمصر يصل البحر المتوسط شمالاً عند بور سعيد حتى بور توفيق جنوباً على البحر الأحمر عند السويس. وهي أهم شريان ملاحي في العالم ، تعود أهميتها الدولية إلى اختصارها طريق الملاحة البحرية بين الشرق والغرب. أنجز شقّ القناة على عهد الخديوي إسماعيل في عام 1869م. وقد استتبع شقّ القناة زيادة أطماع الدول الأوروبية فيها ممّا انتهى باحتلال الانجليز لمصر في عام 1882م. وقد استمر الصراع على هذه القناة الحيوية ردحاً من الزمن حتى تم تأميمها في السادس والعشرين من تموز عام 1956م من قبل جمال عبدالناصر وانتقلت من ذاك إلى المصريين. وقد تعرضت مصر بسبب ذلك للغزو الثلاثي ( البريطاني ـ الفرنسي ـ الاسرائيلي ) في تشرين الأول عام 1956م وأغلقت القناة حتى انسحب الغزاة وطهرت من آثار الحرب. وقد أغلقت ثانية بسبب العدوان الاسرائيلي على مصر في حرب الخامس من حزيران عام 1967م. وقد بدأ تطهير القناة عام 1974م واُعيدت للملاحة البحرية في حزيران عام 1975م. ( موسوعة السياسة ، ج4 ، ص807 ـ 809 ).

(162)

فكأنّ ناصر مصر قسورة بها * وكـأنهم حمـرٌ تفـرُ وتهرب

ويتابع الشاعر التأكيد على قوّة مصر وثبات قدمها في الملمات والحوادث الجسيمة ، داعياً الشعب المصري إلى الصبر وتحمّل الضغوط والأزمات من أجل الحرية والاستقلال :

يـا مصـر يـادنيا الكرامة اُفقها * مجـدٌ وتـربتُهـا ابـاءٌ مـعشب
يـاقوة الايمـان قد عصفت فـلا * ترضى بغير البطش إذ هي تغضب
يـابثقة التحـرير مـن أشـراقها * ينشـق للـرق الـمخيـم غـيهب
ياصرخة الحق المقـدس جلجلت * بالظلم مـن فمك المحرق تصخب
ثوري على الظلم الفظيع بعاصف * يردي عـروشَ الظالمين ويحطبُ
وتـدَّرعي بـالصبر ولـيتدرّعوا * بالغدر فهـو سلاحهم اذ خُيبوا (1)

ولم يرق للغزاة المستعمرين أداء مصر بتأميم قناة السويس فأججوا عليها حرباً شعواء في عام التأميم ذاته قاده الثلاثي المستعمر بريطانيا وفرنسا واسرائيل. وقد أثار هذا العدوان الغاشم غضب الجماهير في جميع البلاد العربية ، ومنها العراق الذي هبّ جماهيره إلى الشوارع معلنين سخطهم واستياءهم من سياسة المستعمرين الارهابية.
وكان لشعراء العراق عامة ، والنجف خاصة ، حماس منقطع النظير في التحامهم مع الشعب المصري وتأييدهم لمواقفه البطولية. ولم يكن الفرطوسي ـ كما عهدناه ـ بعيداً عن هذا الحدث الخطير ، بل كان في مقدمة الشعراء المتحمسين لنضال الشعب المصري وجهاده ضد المحتل الغاصب. فقد نظم قصيدة « مصر والاستعمار » حيث صوّر فيها جهاد الشعب المصري ونضاله من أجل الاستقلال و
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص101 ، 102.

(163)
الذود عن سيادة بلده وكرامته :

يـا مصـر يـاأمَّ الصقور * ثوري على الطغيان ثوري
ثوري علـى الشـر المبيد * وبـددي شمـلَ الشـرور
ثوري على الغـدر الفظيع * وأنـت طـاهرة الـضمير
ثـوري لـحقك قـد تبلج * فهـو كـالصبـح المنيـر
لحمـايـة استقـلالك الـ * ـغالي مـن الظلـم المغير
لكرامـة تـأبـى الهـوان * تُسـام بـالضيم الـمريـر
لدمٍ تحـدّر في ثـرى الـ * ـصحـراء كالغيثِ المطير
لـمذابـح خـط الإِبــاء * خطوطَهـا بـدم النحـور
لمصـارع الشهـداء عـا * بقـةً بـأشــذاء العبيـر
ولنجـدة الـوطن المفـدى * وهـو يهتـف بـالمجيـر
يـا مصر يـااُمَّ الصقـور * ثوري على الطغيان ثوري

وقد دأب الشاعر في قصيدته هذه ـ كشأنه في قصائده الوطنية والحماسية ـ في تصوير أحداث العدوان ووقائع الحرب تصويراً حيّاً ودقيقاً ليسجل فيه بعناية فائقة تفاصيل الحدث وحيثيات الواقعة. فمثلاً عندما يتناول الانزال الجوي الذي قام به العدو في « بور سعيد » تمهيداً للسيطرة على القناة ، يرسم صورة دقيقة للأحداث الدامية التي جرت في تلك المعركة. يقول الفرطوسي مخاطباً « بور سعيد » :

يـافذة التـأريـخ في الـ * ـبلوى وفي الشرف الكبير
يـاسطوة الـبطش الـعنيد * تثـور فـي وجـه الغرور
يالحـد عـاتيـةِ الطغـاة * هـوت بـأعمـاق القبـور


(164)

ياساحـة الموت الرهيب * يطـلُّ فـي اليوم العسير
حيث الفضاءُ هو الجحيم * مـن الشـرار المستطير
والأرض تسبـحُ بالدماء * مـن المناحـر والصدور
وكـأنها بحـرٌ وأشلاءُ * الضحـايـا كـالجسـور
والطائـراتُ القاذفـاتُ * غدت كأسـراب الطيـور
ومـدافع النيـران تقـ * ـذف بـالسعير المستثير
والجـو يـملأ بـالدَّبى * حشداً كـذرات الأثير (1)
رجمت شياطينَ الضلال * بـه مـلائكـةُ السعيـر
تـأريخُ مجـدِكِ صفحةٌ * بيضاء داميـةُ السطـور
والنجدةُ الحمراءُ هبّـت * فيك من جرحـى النسور
والتضحيـات الغـاليات * تهـونُ للشرف الخطيـر

ويواصل الشاعر في تخليد هذا الحدث بالاشادة بموقف قائد مصر « جمال عبدالناصر » الذي وقف موقفاً بطولياً تحدّى فيه غزو المستعمرين بكل ما يملكون من عدّة وعدد ، وقاوم الضغوط التي كانت تتوجه إليه من كل حدب وصوب.
ومن ثم يتوجه الشاعر بالخطاب إلى الفرنسيين الغزاة الذين دأبوا في نهب خيرات الشعوب واستغلال ثرواته من خلال الحروب والاحتلال :

ياسـاسة الظلـم الفظيع * ويازبانيـةَ السعيـر (2)
يـاآكلي لحـم الشعوب * وشاربي دمهـا الطهور
ياغاصبي بيت الضعيف * ونـاهبـي قـوت الفقير

____________
1 ـ الدَّبى : أصغر ما يكون من الجراد والنمل. ( لسان العرب ، ج4 ، ص288 ).
2 ـ الزبانية : الموكلون بالنار. ( لسان العرب ، ج6 ، ص16 ).

(165)

أنتم دعاةُ الحرب فـي * عهد السلام الـمستنير
ردوا بحكمكم إلى الغـ * ـابات أو عهـد البعير
ان الشعوب تحـررت * من رق داجية العصور
وبوادر الوعي الرهيب * بها لكم صـوتُ النذير


ويعرج الشاعر بعد ذلك على اسرائيل بذرة الشؤم التي غرسها المستعمر في قلب العالم الإسلامي لتعيث فساداً ودماراً في تلك الأرض الطاهرة المقدسة :

ألقيطـةَ الخـزيِ الـتـي * وُلدت بـأحضان الفجـور
وحثـالـة الغـدر الملـو * ث بـالمـآثـم والشـرور
يـا تربـةَ المستعمـرين * لـغـرس فاتكـة الجـذور
يـابنتَ صهيـون ومثـ * ـلك مهـدهُ لـحد الـقبور
فمن الجرائم أن يعيش الأ * ثـم فـي مهـد طهــور

ومن ثم ينتقل الشاعر إلى بريطانيا الشريك الثالث في العدوان ليذكرها بماضيها الأسود المليء بالحقد والضغينة تجاه الشعوب المستضعفة والفقيرة :

ياأمة تضرى على الضـ * ـعفاء كـالوحش العقـور
صبّـي جحيـمَ الانتقـام * بـوابـل الظلــم المبيـر
شقـي الجـراحَ وأجهزي * حتـى علـى الشيخ الكبير
لا ترحمـي العذراءَ دامية * المعـاصــمِ والنحــور
لا تشفقــي بـالأمّ حـا * نيةً علـى الطفـل الكسير
لا تـرفقـي بـرضيعـة * ذبـحت علـى المهد الوثير
وبصبية صـرعـى بقـا * رعة الطريق من المـرور
ولتمليء الصحـراء مـن * جـثث الضحـايا بـالقبور


(166)

خـوضـي دمـاء الأبريـاء * كــأنهـا لجـج البحــور
وعلـى القـرى مكشـوفـةً * والمـدن بالعـدوان غيـري
قـري علـى ظلـم الـورى * وعلـى قرار العـدل جوري
مـا شئت بغيـاً فـاصنعـي * ستـرين عـاقبـة الشـرور
فــالظلـمُ والتـدميـرُ والا * رهـابُ مـن سـوء المصير
لـم يبقَ فـي مصـرٍ وفـي * أخواتهـا لـكِ مـن نـصير
غيـرُ الأجيرِ وسـوف ينـ * ـمو الوعـيُ حتى في الأجير
يـاأمـة إقبـالهـا فـي الـ * ـشــرق آذن بـالـدبـور
مهــلاً فقــد أرداك طيـ * ـشك في ميادين الغرور (1)

ويختم الشاعر قصيدته بذكر النصر الذي وعده الله لعباده الصالحين ، يوم لا يعلو على لسان الحق لسان ، والغلبة يومئذٍ للمسلمين ، والذل والخسران لدعاة الكفر والمعتدين.

د ـ ثورة النفط في ايران :

في عام 1952م نهض الشعب الايراني المسلم بحكومة الدكتور مصدّق وبقيادة الزعيم الديني السيد أبي القاسم الكاشاني في وجه المستغلين الأجانب ليعلن تأميم نفطه وسيادته على خيراته وثرواته. وقد واكب هذا الحدث ردود فعل مؤيدة في العالم الاسلامي ومساندة لمساعي الشعب الايراني التحررية.
وفي العراق ارتفعت أصوات الشعراء تأييداً للثورة الايرانية وقيادتها
____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص195 ـ 203.

(167)

الحكيمة التي تحدت قوى الاستعمار الغاشمة من أجل احقاق حقها ، والدفاع عن منافعها ومصالحها القومية. وكان الشيخ الفرطوسي واحداً من اولئك الشعراء الذين دفعهم الحس الاسلامي إلى مناصرة اخوانهم في الدين من أبناء ايران المسلمة. فنظم في تلك الفترة قصيدة « ايران والجلاء » (1) التي أشاد فيها بمواقف الشعب الايراني البطولية تجاه انتهاكات المستعمر المستبد :

باسم الدم الحر باسم العدل منصور * حـقٌ صريح وفتـح فيه تحـرير
قـد طال أفـق ايـران فطـالعها * فجـرٌ بـه مزّقت تـلك الديـاجير

إلى أن يقول :

شعبٌ جريء على الأحداث مهجته * تضـرى وقادتـه صيدٌ مغـاوير
تساندت كـل كف فيـه واتسمت * بطابـع الوحدة العظمى الأسارير
صف رصين إلـى صف يسانده * وكـلّ صـف إذا قـابلته سـور
كـأن داود مـن أحشائه نُسجت * دروعُـه وشظاياهـا المساميـر
قد هزّه لجهاد الكفر مـن طرب * صوت مـن الدين أوحته المزامير

وفي القصيدة تبجيل وتقدير لنواب المجلس الايراني الذين منحوا الحكومة الصلاحيات المطلقة في تأميم شركات النفط الأجنبية ، وكذلك تحية لرئيس الوزراء الدكتور مصدق لزعامته الحركة الوطنية ، وأيضاً تحية للشهداء الذين بذلوا أنفسهم من أجل انتصار الثورة وتحقق أهدافها السامية :
____________
1 ـ للقصيدة مقدمة نثرية جاء فيها : « أمة تساند زعيمها وزعيم يخلص لأمته فتتكون من ضعيفين قوة جبارة من العقيدة والثبات تهيب بجبروت الاستعمار فتنزله من أوج العزّ إلى حضيض الهوان وتشتت بضربة الحق القاضية شمل جالية سوداء تغتصب حريتها وتمتلك خيراتها بما فرضته عليها من أغلال العبودية. نظمت في عهد حكومة الزعيم الوطني مصدق حين نهض الشعب الايراني بقيادة الزعيم الديني السيد الكاشاني لاسترداد حقه الصريح في الزيت من خصمه الغاشم ».

(168)

حُييتـمُ شهــداءَ الحــق إنكـم * سفر مـن المجد للتأريخ مسطـور
مـا قيمة الورد والأزهـار تنثرها * علـى جنـانكم الولـدانُ والحـور
هذي الـدموع نثار فـوقها خضل * وكـلّ قـلب ضريح فيـه محفور
أرخصتـم كلَّ غـال ما لـه ثمن * فـي مثله يتسامى المجـد والخيـر
فللرصـاص صدور مـلؤها أمـل * تفتحـت مـن حناياهـا الأزاهيـر
وللحمام ثغـور ملـؤهـا جــذل * تزهو واشباحـه منهـا مـذاعيـر
وللحديـد جسـوم بعثـرت قطعـاً * كـأنها لؤلؤٌ فـي التـرب منثـور
مـاذا جنت هذه الأرواح يحصدها * وهـي البريئة بـاسم الأثم مغرور
وكـلُّ غـايتها تحـريـر أمتهـا * وإن غايتـه القصـوى الـدنانيـر
يـاساسة الغدر والتغريـر حسبكم * سيـاسة كلهـا غـدر وتغـريـر
يـا آمـرين بلا حـق علـى أمم * يسـوسهـا لهـمُ رقٌ ومـأمـور
ماذا جنته شعوبٌ قـد أهاب بهـا * بـاسم العدالـة ارهـابٌ وتحذيـر
وأيُّ حكـمٍ وقـانون يقــرُّ لكـم * ظلم الضعيف وما فـي الظلم تبرير
بوءوا بخزيكم غبناً فقـد فضحـت * أسرارُكم وانجلى منهنَّ مستور (1)

____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص212 ـ 216.

(169)

هـ ـ مساندة الحركات الوطنية (1) :

عايش الشيخ الفرطوسي كثيراً من الحركات الشعبية والثورات الوطنية التي قامت في العهد الملكي ضد الاحتلال البريطاني. وقد شارك فيها مشاركة فعّالة كسائر شعراء النجف ممّن أسهموا في إضرام لهيبها وتأجيج نارها بأشعارهم الحماسية المجلجلة التي كانت كالصاعقة على قلوب الغزاة المحتلين.
ومن الحركات الوطنية التي شارك فيها الشعراء ومنهم الشيخ الفرطوسي حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م الذي أخذ زمام الحكم من يد البريطانيين وأقام حكومة وطنية لم تدم سوى أشهر قليلة.
وقد نظم الشيخ الفرطوسي في أحداث هذه الحركة قصيدة « نهضة العراق » التي قال فيها :

عزائم العرب ثوري وانهضي فينا * إلـى الوغى وأعيدي مجد ماضينا

____________
1 ـ ازدادت الحركات الوطنية في العهد الملكي إثر تصاعد النقمة الشعبية ضد المحتل البريطاني. وقد وقع أوّل انقلاب وطني قاده بكر صدقي عام 1936م لم يلغ النظام الملكي. وفي عام 1939م قتل الملك غازي في حادث سيارة غامض وباعتبار ان ابنه فيصل الثاني كان دون سنّ الرشد فقد عين خاله الأمير عبدالاله وصياً على العرش إلى أن بلغ الملك سنّ الرشد عام 1953م. وقد أدّى تعلّق عبدالاله ببريطانيا وخضوعه التام لها إلى زيادة النقمة الشعبية على البريطانيين وعلى الفرع الملكي الذي يمثّله الوصي على العرش ، ممّا دعا إلى قيام الثورة الوطنية بقيادة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م ، إلاّ انها أخفقت في النهاية وعاد الحكم الملكي إلى السلطة ثانية. وفي كانون الثاني عام 1948م ثارت انتفاضة اُخرى عرفت بوثبة « كانون » التي قضت على معاهدة « بورتسموث » التي وقعت بين العراق وبريطانيا في 15 | 1 | 1948م والتي كانت تقضي بارتباط العراق ببريطانيا مدة عشرين عاماً. وفي تشرين الأول عام 1952م نشبت انتفاضة شعبية طالبت بانتخابات مباشرة حرّة ، وجعل رئيس الدولة أي الملك على غرار النظام البريطاني « يحكم ولا يملك ». وقد توالت بعدها عدّة انتفاضات شعبية انتهت إلى قيام ثورة 14 تموز عام 1958م التي ألغت النظام الملكي وأعلنت الجمهورية. ( موسوعة السياسة ، ج4 ، ص57 ، 58 ).
(170)

ورفرفي يابنودَ الحق خافقة * بالنصر واستقبلي دنيا أمانينا
قد آن أن تملأ الدنيا عزائمنا * نـاراً موقـدة تُصلي أعادينا

إلى أن يقول :

ياصرخة من فم الاخلاص صادرة * أضحى لها الوطن المحبوب يدعونا
لبيك بـالسيف والاخلاص يعضده * وبالدما وهـي تجري مـن عوالينا
لبيك بـالوحدة العظمـى يلحنهـا * باسم التفادي فـم الاخلاص تلحينا
لبيك بالنهضة الكبرى وقـد جعلت * لهـا الجـزيـرةُ والدنيـا ميادينا
حـي العراق فقد أضحت عزائمه * تغلـي دمـاً شيدت فيـه معالينـا
هاجت عواصفه في وجـه طاغية * بالعسف والجور مـا زالت توافينا
فـزلزلـت بظباهـا أيَّ قـاعدة * للظلم عاد بهـا الالحاد موهونا (1)

وعلى الرغم من اخفاق ثورة الكيلاني وعودة الملكية ثانية إلى العراق ، فقد أخذت الانتفاضات الشعبية طريقها إلى التفاعل والتصاعد ، وأخذ الشعب يتحدى المحتل البريطاني بكل ما يملك من قدرة وقوة.
ومن أبرز هذه التحديات انتفاضة كانون الثاني عام 1948م التي وثب فيها الشعب لإحباط معاهدة « بورتسموث » المجحفة ، واستطاع القضاء عليها بعد أحداث دامية راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى. وقد نظم فيها الشيخ الفرطوسي قصيدة « دم الحرية » التي خلّد فيها غلبة الشعب الثائر على طغيان المستعمر المحتل :

دمٌ تحدر مصبـوباً على النار * فأخمد الظلم في تياره الجاري
ومنبع من شعور ثـار مندفعاً * في فيلق من جنود الحق جرّار

____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص217 ، 218.

(171)

ثم يقول :

فحـق للوطن الغالـي وقد سفكت * بـه دمـاءٌ بـريئـاتٌ لأبــرار
أن يغتدي مـأثماً من أدمـع ودمٍ * إنّ الضحـايا بـه أرواحُ أحـرار
يـاأيها الوطـن الدامي على رهج * من الرزايا به دوى كـاعصار (1)
نضـالك المـرّ تأريـخ يصوره * لـك الخلـود بـأسفـار وأسفـار
وتضحيـاتُك لـلأجيال مـدرسةٌ * تملي عليها دروسـاً عهـد ذي قار
شـرفتـه بـدم الأحـرار متقـداً * إنّ الـدمَ الحـرّ بـركانٌ من النار
ورحت تمحو به نقضاً ( معاهدة ) * قد أبرموها بـارهاق واجبـار (2)

ومن أشهر الأحداث التي تمخضت عن تلك الانتفاضة « وقعة الجسر » (3) التي استشهد فيها عدد كبير من المجاهدين والثوار ، وفيها نظم الشاعر قصيدة « مآسي الجسر » حيث جسّد فيها مشاهد تلك الوقعة المريعة وأحداثها الدامية والأليمة :

سل الجسر عن بحر عبيط من الدم * طغـا فوقـه لجـاً بـوجـه جهنـم
وعن جثث القتلى وكيف تـراكمت * علـى جـانبيه كـالحطـام المهشـم
وعـن عدد الجرحى إذا كان عنده * سجـل إلـى احصائهـا كالمتـرجم
وعـن فوهة الرشاش طبقت الفضا * دويّـاً باطـلاق الرصـاص المخيم

____________
1 ـ الرَّهَج : الشَّغَب. ( لسان العرب ، ج5 ، ص339 ).
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص190 ، 191.
3 ـ معركة الجسر من أشدّ معارك الانتفاضة ضراوة وأكثرها عنفاً وقسوة. فقد وضع العسكر اسلحتهم الرشاشة على منائر المساجد المشرفة على الجسر الموصل بين « شارع الأمين » في الرصافة وشارع « الوصي » في الكرخ ، وصاروا يطلقون النار على المجاهدين والثوار أثناء عبور مظاهراتهم على الجسر الذي سمي بعد ثورة 14 تموز عام 1958م « بجسر الشهداء ».

(172)

فكم طلقـة ناريـة منه صوَّبت * لـقلب بريَ مـن أنامـل مجرم
فمن يافع غض الصبا مترعرع * يحيّيـه مـن آمالـه خير مبسم
مشى نحوه كالسهم غيـر محايد * ولـيس بـهيَّـاب ولا متبــرم
يصافح تيار الرصاص بصدره * ويرنو لـه في طـرفه كالمسلّم
إلى أن غـدا للقاذفـات ضحية * مبعثـرة كـالهيكل المتحطم (1)

ومن جملة التحركات الشعبية التي شارك فيها الشاعر مشاركة فعّالة انتفاضة تشرين الأول عام 1952م والتي طالب فيها الشعب بحقوقه المشروعة من حق تعيين المصير واجراء الانتخابات الحرّة. وقد نظم الشاعر في هذه المناسبة قصيدة « الاستقلال » التي قال فيها :

يـاقادة الاسلام فـي نهضاته * والدهر يرعد بالخطوب ويبرق
ومحرقي وعي النفوس وفالقي * روح الجهاد وربّ روح يـفلق
ومحرري الأجيال مـن رقيةٍ * مـن ليلها ينشق فجـرٌ مشرق
أسستـم عرشـاً وشدتم دولةً * ورفعتـم علماً يـرفّ ويخفق
أنتـم بناةُ المجد فـي تأسيسه * والمجـدُ يُنسب للبنـاة ويلحق

إلى أن يقول :

وبلادنـا والشوك يدمـي قلبهـا * وحقـولها فـي الغرب ورداً تعبق
مـاذا تؤمـل بعدمـا قـد عقّها * أبناؤهـا وقسى بهـا مـن يرفق
أحزابنـا وهـي البـلاءُ وكلّهـا * صـورٌ لتفـريـق البـلاد تلفّـق
أم للصحافة وهـي سوق تُشترى * فيهـا الضمائر بـالنقود وتُنفـق
أم للرجـال المصلحين وهـم بها * أصلُ البـلاء وفرعـه إذ يورق

____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص145 ، 146.

(173)

قـد أقحل الوادي فها هـو بلقع * يبسٌ وغـاض نميرُهُ المتـرقرق
مـاذا وراءَك يا غمامُ أعارض * هو ممطرٌ أم عاصفٌ هو محرق
هذي البلاد إلى الـوراء تقهقرت * فمتـى بصف لداتها هـي تلحق
وشبابُها الحـيّ المثقف أُلحـدوا * وهــمُ حيـاة للبـلاد ورونـق
وفـم الصحافيِّ الـمحرر ملجمٌ * في ألف قيـدٍ فهو بـابٌ مغلـق
والشاعر الموهوبُ عود عطلت * أوتـارهُ وذُبـالــةٌ تتحــرق
والعامـلُ المكدودُ مـن إجهاده * خـارت قواه وفُل منـه المرفق
والـزارع المنكوب مـن انتاجه * صفر الأنامل وهـو ملك مطلق
فبمن يُـرجّى الخير مـن أبنائها * في حيـن أنّ الشر فيهـا محدق
لـم يبق إلاّ معجـزٌ يبدو بهـا * والمعجـزات لكل عـاد تخـرق
يـاليـل بغـداد وافقـك كلّـه * بـالنيرات مـرصـعٌ ومطـوق
هـل فـي سمائك للعدالة كوكبٌ * يبـدو لهذا الشعب حيـن يحدّق
ضاق الخناق فكل فجـر ساطع * غلس عـليه وكـل رحب مأزق
وسيـاسة الارهاب حتـى نفسها * مـن قسوة الارهاب كادت تزهق
أفـلا يطلُّ على المدائن والقرى * فجر مـن الاصلاح فيهـا يفلق
أفلا تهب على العواصف نسمة * للعـدل تعبق فـي البلاد فتنشق
إنـا نـروم العـدل لا حـرية * فوضـى ولا رقيـة لا تعتق (1)

____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج1 ، ص230 ـ 233.

(174)

و ـ مناهضة الأنظمة الاستبدادية الحاكمة :

عرف الشيخ الفرطوسي من خلال نشاطه الأدبي المكثّف ، وتواجده الدائم والمستمر في الساحة السياسية بمناهضته للحكومات الاستبدادية وتحديه للسلطات الجائرة التي كانت تخضع الشعب تحت وطأة العنف والاضطهاد وتوسعه ظلماً دون رحمة وشفقة.
وعلى الرغم من أساليب التعسف والتنكيل التي كانت تمارس بحق الأدباء والشعراء من قبل الحكومات الطاغية ، فانّ الشيخ لم تكن ترهبه مثل تلك الأساليب الوضيعة ، أو تبعده عن ساحة الجهاد والنضال. فقد كان الشاعر واضح الرؤية صريح الموقف تجاه انتهاكات الأنظمة الاستبدادية التي حكمت العراق في عهده.
فها هو الشاعر يصور الوضع السياسي القائم في العهد الملكي بقصيدته « الغريب » التي نظمها عام 1949م دون أن يضفي عليها طلاءً مزيفاً من المداهنة أو الممالأة تخوفاً من بطش الحاكم أو تعسفه :

فيـا أيها الحـر الغـريب بـأرضه * وإن يك فـي أحضان موطنه قـرا
حذارَك مـن وضـع مسيـئ محتم * يجر لهذا المـوطن اليأس والضـرا
تنـاقضت الأحـوال فيـه بكثـرة * فلم نحص للأضداد عداً ولا حصرا
وأضحت مقاييس الأمـور عقيمـة * فلـم نرَ مقياساً بهـا منتجاً أمــرا
شذوذ علـى حريـة الشعب حـاكم * ولم يعط هذا الشعب مـن حقه نزرا
يـميت نبــوغ العبقـري بنفسـه * ويقتل ما تـوحي مـواهبه صبـرا
وينعى علـى الفـذ الأديب شعـوره * فيكتب فيـه كـل عـاطفة قسـرا


(175)

وينقم أن يسـدي النصيحة مخلص * وإن كان لا يبغي على نصحه أجرا
يسر بأن ينعى على مصلـح خيراً * ويغضب أن تنعى علـى مفسد شرا
ختمنا بـه أفـواهنـا وعيـوننـا * ورحنـا إلى الأسماع نحشدها وقرا
فلم ينجنا مـن أسـره واضطهاده * ركـود قتلنا العـاطفات بـه أسرا
وما عيشة الأحرار في ظل موطن * هو السجن والمنفى لهم وهم الأسرى
وماذا الذي نرجوه مـن مصلح به * إذا هو لا يسطيع نهياً ولا أمرا (1)

وكثيرة هي المواقف التي وقفها الشيخ الفرطوسي تجاه الأوضاع السياسية المتدهورة والأزمات الاقتصادية المتفاقمة في العهد الملكي. وقد كان في جميع مواقفه واضحاً وصريحاً ـ كما مر ـ لا تثني عزمه الضغوط والمضايقات :

يـاساسةَ الشعب الهضيم بموطن * فـي كل حين بـالحوادث ينكب
نظُم العراق مـن الشذوذ غريبة * والوضع فيه من التدهور أغرب
بلـغ الفساد بحـالة لا يُـرتجى * اصلاحُـه فيهـا ولا يتـرقـب
هذي البلاد جنوبها يبكـي أسىً * ممّـا بـه وشمـالهـا يتنحـب
الجهـل والفقر المخيـم فيهمـا * ولدا ومـات العلم وهـو لها أب
وكأن مشكلة الضرائب أصبحت * مثلاً بها فـي كل حيـن يُضرب
ومنابـع الخيـرات فيهـا جمةٌ * وصعيدها من خصبها هو مجدب
فكـأن تلك سيـاسة مقصـودة * من واضعيها فـي البـلاد ترتّب
فأعجب لهم من ساسة قد سيروا * بسياسة من وضعهم هـي أعجب
فكـأنها كـرةٌ بأيـدي صبيـة * تلهـو بها وكأنّمـا هـي ملعب
وسياسـة الارهاب حتـى نفسها * من قسوة الارهاب كـادت تذهب
كمت بهـا الأفواه حتـى خُلتها * خلقت وليس لهـا لسـان يعرب

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص104.

(176)

لا بلبـل يشـدو بهـا متــرّنمـاً * فـي الـرافديـن ولا غـرابٌ ينعب
وفــم الصحـافة ملجـم بقيـوده * فكأنـمـا هـو نـاسـكٌ متـرهـب
وكنانة الأحـزاب مـن أوتـارهـا * قطعت وحـلَّ نظامها المتشعـب (1)
صونوا حقوق الشعب يا من حكموا * في الشعب فاضطهدوا الحقوق وأرهبوا
الشعب كـالليث الجريح على الأذى * يضـرى ومـن أجمـاته يتـوثـب
وإرادة الشعـب القـوية كـالقضا * في الحكم تمحو ما تشاء وتكتـب (2)

وما ان أطلّت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958م حتى راح الشاعر يفصح عن شجونه وآلامه ، وما شهده شعبه من ظلم واستبداد في ظل الحكم الملكي وتحت هيمنة المحتل الانجليزي :

عهـدٌ مـن الارهاب قـام مدمراً * فينـا فـآبَ لخيبــةٍ ودمــار
قـد كُمّت الأفـواه فيـه وأرتجت * سحب على الأسماع والأبصار (3)
وطغا الشذوذ علـى النظام فما به * لتـوازن الأشيـاء مـن معيـار
وتنـاقضت فيـه الأمور فـرأسُه * ذنبٌ وغـاربُه علـى الأكوار (4)

وعلى الرغم من تطلعات الشعب إلى هذه الثورة وتفاؤله بانجازاتها ومعطياتها إلاّ انها لم تحقق بالشكل المطلوب طموحات الأمة وآمالها من حرية وثبات وأمن واستقرار. وقد أحس الشاعر بهذا الهاجس الخطير وحذر مراراً من عواقبه الوخيمة وأخطاره الجسيمة :

ياقـادة الاسلام فـي نهضاته * والأرض تلهب بالجحيم الواري
الثورة الكبـرى وقـد القحتُم * جمـراتهـا بمعـاقل الثـوار

____________
1 ـ الكِنانة : جَعْبة السِّهام. ( لسان العرب ، ج12 ، ص173 ).
2 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص102 ، 103.
3 ـ أرتجت : أغلقت. ( لسان العرب ، ج5 ، ص130 ).
4 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص80.

(177)

وقـد حتم زند الجهاد فاضرمت * والزنـد لا يجـدي بغيـر اوار
حتـى أقمتـم دولـةً ورفعتـم * علماً يرفُّ علـى جبين الغـار
هـا هم بقايا المجد مـن أبنائها * وتــراث آبـاءٍ لهـا أبـرار
حُرمـوا جنان مواطن كانوا بها * يتهافتـون علـى صعيـد النار
وتحلبت عـرقَ الجهـاد أناملٌ * بدمائهـم مخضوبـة الأظفـار
لم يُمنحوا حق المواطن في ثرى * هذي البـلاد ولا حقـوق الجار
فكـأنهم وهـم البنـاة رواتهـا * وكأنها خبـرٌ مـن الأخبار (1)

وبالفعل فقد أخفقت الثورة وسقطت بانقلاب عسكري قاده عبدالسلام عارف في الثامن من شباط عام 1963م. إلاّ انّ الوضع لم يستقر والأمن لم يستتب. فقد عمّت الفوضى واستبدّ الظلم والإرهاق بالشعب. وهاهو الشاعر لا يزال يحمل في فمه أشعار النهضة والثورة ضد سياسة الحكّام الارهابية :

... وعوامل الارهاب لا يُبنى بها * إلاّ ويُهـدم قــائــم البنيــان
ومتـى تعيش سيـاسة نـاريـة * في ظلّ حكـم عسكـري جـاني
بـليت بلاد الشـرق بيـن لداتها * بسيـاسة هـي لعبـة الصبيـان

إلى أن يقول :

ضاعت مقاييس بها كان الحجى * يـزن الرجـال بـكفتي ميـزان
وتقهقـرت أوضاعنـا وتبعثرت * حتـى غـدت منثـورة الأوزان
واستعمـرت حتى المها أخواتها * فالضان يحكم فـي قطيع الضان
وتفرعنت حتى النعاج فأصبحت * منهـا تـراع مخـالب الذؤبـان
خلـت المعـاقل والثغور وهذه * خيل الغزاة تغير في الأوطان (2)

____________
1 ـ ديوان الفرطوسي ، ج2 ، ص148.
2 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص113.

(178)

ز ـ مجابهة الحركات الهدامة والأفكار المنحرفة :

بعد انهيار الحكم الملكي في العراق وقيام ثورة 1958م ، ظهرت موجة عارمة من التكتلات السياسية والتجمعات الطائفية ذات الأفكار المنحرفة والمبادئ الفاسدة مثل الحزب الشيوعي وأحزاب مماثلة اُخرى.
وقد تبنت معظم هذه الأحزاب موقفاً مشتركاً ـ على الرغم من تفاوتها المبدئي والايديولوجي ـ يقضي بانتزاع الهوية الدينية والاسلامية من الشعب وبثّ الطائفية والعداء المذهبي بين مختلف شرائحه وطبقاته.
وقد وقف الشاعر وبنباهة وفطنة أمام هذه التيارات المضللة وقاومها مقاومة شديدة بيّن اتجاهاتها المنحرفة وأفكارها الفاسدة. وله في هذا الشأن قصائد كثيرة ، منها قصيدة « الشعب حر » التي نظمها عام 1959م ابّان تصاعد تلك الحركات :

يا رائد الخير والاصلاح في وطن * ينوءُ بالشر مـن أوزار من سبقوا
هـذي البلاد بها قـد اطلعت ذنباً * من كيدها سلحفاةٌ ما لها عنق (1)
فوسعت شقة التفـريق فـي وطن * مـوحدٍ هـو صفٌّ ليس يفتـرق
وحمّلت هذه الأفكار ما اصطبغت * مـن المبادئ فيهـا وهـو مختلق
فاغلق عليهم من الأبواب ما فتحوا * وافتح علينا من الأبواب ما غلقوا
الشعب يـطلب شبعاً بعـد مسغبة * للكادحيـن وأمناً مـا بـه فـرق
بحيث تُـرعى بجنب الذئب آمنـة * شاةٌ ويحيا بـه مـن ساغب رمق
قـد أخـرتنا خلافـات يقوم بهـا * مفرق عن صفوف الشعب مفترق

____________
1 ـ يشير بذلك إلى الحزب الشيوعي.

(179)

يـدسّها فيـه أفكـاراً مسممةً * النار تذكو بها والشعب يحترق
ياخـالقين بهـذا الشعب بلبلةً * بكل ما عملوا فيـه وما نطقوا
الشعبُ حرٌّ جريءٌ في إرادته * صلبُ العقيدة فـي أقواله ذلق
فـلا يديـن بأفكار مخـربة * حمراءَ يُهدَمُ منها الدينُ والخلق
فاننا أمةٌ فـي الديـن مسلمةٌ * بكل مـا جاءَ فـي قرآنها تثق
واننا عـربٌ والكـرد اخوتنا * جيداً لجيـد بهذا المهـد نعتنق

ويضع الشاعر اصبعه على مواضع الفتن التي كانت تثار من قبل تلك الحركات ، ويحذر من تمزق الشعب وتفرقه إذا ما استمرت مثل هذه الأحزاب في العمل دون رادع ومانع :

يامصلح الـوضع ان الوضع أفسده * تشـاحنٌ مـن دجـى رأييـن ينبثق
همـا أقليةٌ فـي الشعب قـد نجمت * كيمـا تفـرقــه والشعـب متفـق
هـذي المبادئ تنأى عـن مكاسبها * مكـاسبُ الثـورة الكبـرى وتفترق
أجهـز عليهـا ففـي أهدافها خطرٌ * علـى البلاد وفـي تشـريعها فرق
تقهقـر الشعب مـن أهدافهـا خلقاً * ووحـدة واقتصـاداً وهـو منطلـق
فـأصبحت مـوبقات الأثـم مدرجة * إلـى الفضائـل فيها يرتقـي الخلق
والسلـم مجـزرة حمـراءُ مـظلمةٌ * إلـى الحمـام بهـا الأرواح تستبق
وأضحت الوحدة الكبرى بنا غرضاً * للطـامعيـن فشعـب واحـدٌ فـرق
وعـاد اصلاحنـا حقـلاً لمزرعة * مـن المفـاسدِ فيهـا يُـزرع القلق
فـالأرض قفـراء والفـلاح مفتقر * للقرض والشعب قـد أودى به الملق
ولـيس يعلـم مـن سـارت سفينته * ان الشـراع الذي يجـري بها خلق


(180)

وقد دأب الشيخ الشاعر لدى تحذيره من خطر هذه الحركات في توجيه خطابه إلى قادة الأمة ، وحثهم على التمسك بمبادئ الدين السديدة ، والعمل بتعاليم الاسلام الرشيدة التي طالما تجسّدت من خلالها الوحدة والتآزر بين كافة شرائح المجتمع :

يـاقادة الديـن فـي الاسلام معذرة * ان ضاق في نفثات الصدر ما رحبا
الـديـن مجدكـم ريـعت معـاقله * مـن الغـزاة وفـي أخـلاقه نُكبا
... لا فوضوية في الاسلام ينشدها * مخـربٌ ينشـد التفريق والعطبـا
وغيرها مـن مبـادي الكفر يتبعها * فـي الكفر زندقـةً يا من إليه صبا
فانّنا أمّـة فـي الـديـن مسلمـةٌ * لا تـرتضي غيـر ديـن الله منقلبا
نظـامنـا وهـو القـرآن نـرفعه * علـى الرؤوس شعاراً يَـدرأ الريبا

إلى أن يقول :

لا طـائفية والاسـلام يـربطنـا * مـن الاخاء بقـربىً تفضل النسبا
فالطـائفيـة نـار مـن يؤججها * لابـدّ أن يغتـدي يوماً لهـا حطبا
وقـوةٌ بيـد المستعمـرين بهـا * تغزو البـلاد وتستولي بهـا غلبـا
وحربةٌ في صميم الشعب يغرسها * مفـرقٌ ينشد التضليـل والحـربا
لا طـائفيـة والتـوحيد جـامعة * أضحت بها الوحدة الكبرى لنا سببا
الدين والـدم والقـرآن معجـزنا * بهـا نعانق اخواناً لنـا عربا (1)

____________
1 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص13 ، 14.

(181)

2 ـ الشعر الاجتماعي :

انصرف الشيخ الفرطوسي في جانب كبير من شعره إلى الشؤون الاجتماعية وذلك لارتباطه الوثيق واحتكاكه الدائم والمستمر بشرائح المجتمع المختلفة من قبيل أصحاب الحرف والمهنيين ، والعمال والفلاحين بالاضافة إلى المثقفين والمفكرين والأدباء والشعراء.
وقد دفع هذا الارتباط بالشاعر إلى الخوض في ميادين الاجتماع من أجل التعرف على مشاكل الناس ومعالجة أوضاع المجتمع الذي طالما استفحلت فيه المشاكل والمعضلات. وقد ساعدت الظروف الاجتماعية العصيبة التي عصفت بالشاعر طوال حياته على تفهمه لهذا اللون من الشعر واقباله عليه في مناسبات مختلفة.
ولا غرو فان الشاعر الذي ذاق في بداية نشأته أنواع البؤس والشقاء وواكب الحرمان في شتى أدوار حياته لجدير بأن يكثر من الشعر الاجتماعي ويسهب في الحديث عن المآسي والأتراح التي حفّت بأبناء وطنه وأعاقت شعبه عن الرقي والتقدم.
وقد حاول الشاعر من خلال تناوله الموضوعات الاجتماعية البحث عن حلول إصلاحية تكفل لمواطنيه حياة طيّبة لا يشوبها الفقر والحرمان ولا تجد الرذيلة والمفسدة اليها طريقاً ومسلكاً.
وتتلخص محاولات الشيخ الاصلاحية التي قام بها من خلال أشعاره الاجتماعية في الموارد التالية :