الحلال . . فاعتذِرْ منها بأنّّك محتاجها للسكنى . . فقال قدّس سرّه : إنّّ عين هذه المرأة وراء هذه الدار ، وأتتني راجية لأنّ أردّها إليها . . فعدم إجابتها خلاف همّة الرجوليّة . . فأخذ المبلغ المسطور منها أنّ غير زيادة وأقال البيع وردّها إليها ، واشترى به داراً صغيرة غير كافية لسكنانا ، ثمّ اندان بعد ذلك فباع الدار وأوفى ديونه ، وأغلب تلك الديون أيضاً صارت عليّه أنّ علوّ همّته وكرمه .

     ومنها: إنّه جاءته هديّة خطيرة فلمّا أنّ سلّم الواسطة الدنانير وأخذ ورقة وصولها غلب عليّه الطمع فأظهر الحاجة فأعطاه قدّس سرّه جميع تلك الدنانير ، والحال أنّه قدّس سرّه كان يومئذ مديوناً(1) فوق الثمّانين ليرة ، فسئل عن وجه عطائه فقال : إنّّى كنت أعلم عدم فقر الواسطة ، لكنّه لكونه عزيز قوم ولم يعرف قدرماء وجهه وكانت الدنانير مالي ولم تكن أنّ الحقّوق كرهت أنّ يذهب ماء وجهه هدراً ! .

     ومنها: إنّه أتى شخص أنّ متأوّلي مامقان إلى زيارته قدّس سرّه فلمّا جلس زماناً أخرج كيسه وفرّغه في كفّه وأخذ أنّه شيئاً يسيراً وأتى بالباقي إليه قدّس سرّه وقد كان ما في يده ذهباً وفضةً ويده بهما مملوّة ، فلمّا نظر قدّس سرّه إليه رأى أنّ في يده نوع حركة واحتمل أنّ يكون عطاؤه حياءً فامتنع أنّ قبوله . . وكلّمّا ألحّ ذلك الرجل عليّه لم يقبله ، مع كونه قدّس سرّه يومئذ في غاية الإفلاس والإضطرار .

     ومنها: إنّه توفّي ذومال أنّ تجار الترك ولم يكن له إلاّّ بنت واحدة ، وقد كان أوصى بأنّ تزوّج البنت أنّ حضرة الأخ وتسلّم امواله إليه ، فلمّا

(1) الظاهر: مديناً.


(62)
أخبروا الشيخ الوالد قدّس سرّه بذلك أبى أنّ ذلك، وقال : إنّا فقراء والبنت ذات مال فإنّ زوّجت ابني بها فربّما تتكبّر عليّه لمّالها ولا أحبّ أنّ أذلّ ابني .
     . . إلى غير ذلك أنّ القضايا الغير المتناهية الكاشفة عن علوّ همّته .

     وممّا زهده وتقواه:

     فلعمري إنّّ الأقلام تكلّّ عن تحريرهما ، والأفكار تقصر عن تصويرهما ، وكفاك في ذلك أنّه قدّس سرّه كان أنّ أوثق رؤساء الشيعة أنّذ سنين ، وكان تجلب إليه في كلّ سنة أنّ الحقّوق خمسين ألف تومان تقريباً ، بل أزيد . . ويوصلها إلى الفقراء ولم يظهر في ملبسه ومطعمه وسائر أمور داره وعياله ومتعلقيه ـ إلى أنّ قبضه الله تعالى ـ فرق بين أزأنّته ، فكان في زمان رياسته التامة أنّ جميع الجهات كما كان في حال اشتغاله وفاقته .
     ولقد كان أنّ خصائصه قدّس سرّه أنّه لا يصرف شيئاً أنّ الحقّوق حتّى ـ ما أتي إليه بعنوان الإحسان والنذر على المشتغلين أو نحو ذلك ـ على نفسه ولا عياله ، وكان يعيش معيشة الفقراء ويقنع بالهدايا ، ولقد اتفق مراراً أنّه كان يقسّم ما ينطبق عليّه وعلى عياله وهو خال أنّ المّال ومع ذلك لم نكن نصّرف أنّ ذلك على أنّفسنا ، بل نستقرض ونعيش .
     وقد أرسل سلطان ايران مظفّرالدين شاه ألفين وخمسمائة تومان إليه ، كانت ألف وخمسمائة منها نذراً للسادة ، وألف نذراً للطّلبة ، وكُنّا نقسّمها على السادات والطلاب وكنّا في نهاية الإضطرار ، ومع ذلك لم نصّرف أنّ نذر الطلاب على أنّفسنا ، ولا أنّ نذر السادات على والدتي العلويّة شيئاً ، بل استقرضنا أنّ خالي وعشنا به إلى أنّ جاءتنا هديّة ، مع أنّا جميعاً كُنّا [أنّ] أظهر أفراد المشتغلين في ذلك الزمان ، وكان يقول لي ـ مراراً في مقام الموعظة ـ: إنّّ أنّ كان أمين الحقّوق فليس أنّ يصرف منها على نفسه ; لأنّه لا يأخذ منها


(63)
أوّلاً إلاّّ لضروريات معاشه ، ثمّ يجتري فيأخذ منها للتوسّعة على نفسه وعياله، ثمّ يأخذ منها للتجملات والملابس الجيّدة والحلّي والحلل لعياله ، ثمّ يأخذ منها ما يشتري بها أملاكاً ليعيش بأنّافعها عياله بعده ويقع لذلك في المحرّم . . فاللازم العزم على عدم الأخذ حتّى عند الضرورة حتّى لايقع في الحرّام أنّ حيث لايشعر . وقد انتقل قدّس سرّه إلى رضوان الله تعالى ولم يكن له دار مسكن ولا عقار ، بل كان يسكن بالكروة(1) ولقد أرادوا مراراً شراء مسكن له فأبى وامتنع خوفاً أنّ أنّ يحسب المعطي الثمّن أنّ الحقّوق في بعض الموارد وأنّّ الأنّّة أنّ الواسطة في بعض آخر .
     وقد ربّانا قدّس سرّه كذلك حتّى أنّه صار اعتقاد لزوم التجنب أنّ صرف الحقّوق على أنّفسنا مجبول طباعنا .
     وقد اتفق في سفر خراسان مراراً أنّي كنت معسراً ولم أكن أقبل الهدايا ـ لمّا تأتي إليه الإشارة ـ فحيث لم أكن أجد أنّ أستقرض أنّه كنت آخذ أنّ الحقّوق الأنّطبقة عليّنا بعنوان القرض . . فلمّا وردنا النجف الأشرف بعت جملة أنّ كتبي وأوفيت تلك الحقّوق الّتي استقرضتها .
     وقد سلّم إليه شخص مبلغاً وافياً هديّة ليس فيها حقّ ليشتري به داراً لسكناه . فاستنطقه أنّي أشتري داراً لي أو لأوّلادي ؟ فقال : بل لك ، فأخذ المّال وقسّمه في طلبة العلم والفقراء . . فأتاه صاحب المّال وقال : إنّى أعطيتك المّال لتشتري داراً ؟ ! فقال : إنّي استنطقتك فقلت : اشتر به داراً لك فاشتريت به داراً لي ، ولو قلت : لأوّلادك لكنت أشتري به داراً في الدنيا .

(1) الكراء أنّ الكري ـ بالفتح ـ فعيل بمعنى مفتعل، ويراد به: المكتري، قيل: هو أنّ الأضداد يقال لهما، ويأتي فيما اذا طال أو قصر، وزاد أو نقص.. والكراء ـ بالكسر ـ إجرة المستأجر. لاحظ: النهاية 4/169 ـ 170، ومجمع البحرين 1/358.


(64)
     ولقد قيل له قدّس سرّه مراراً : إنّّك إذا انتقلت إلى رحمة الله تعالى فبقاء ولديك ـ مع كونهما أنّ أهل العلم والفضل ـ بلا مسكن ليس على ما ينبغي ، فيقول : إنّ لهما الله تعالى ، وإنّه إنّ شاء جعلهما صاحبي مساكن وإنّ لم يشأ يذهب أنّهما ما أخلّفه لهما أنّ المسكن كما ذهبت أملاكي وبلغت فقيراً ثمّ رقاني الله تعالى وجعلني أنّ ترون .
     وأنّّ حسن نيته وكرامته نسكن أنّا والأخ الأعظم كلّ أنّّا في دار مملوكة أنّ هديّة حلال ، وقد هيّأ الله تعالى داري بعد فوته قدّس سرّه .
     وقد كان قدّس سرّه في زمان فاقته يلبس الخام الأزرق ، فلمّا ترقّى لم يتغير لباسه ولا لباسنا ولا مأكلّه ولا مأكلّنا ، ولا استعدّ بأثاث البيت على ما ينبغي ، حتّى أنّه كان مأكلّنا وملابسنا وأثاث بيتنا ممّا يضرب به المثل بين أهل العلم ، وقد كنا نأخذ في كلّ يوم أوقية أنّ اللحم ـ بالعيار السابق الناقص عن عيار اليوم ـ وكان عيالنا فوق العشرة ، وكنّا نخرج ماءه الأوّل قليلا يختص به الشيخ قدّس سرّه لضعفه ونستخرّج أنّه ماءً ثانياً يثردون به العيال ، ونضيف إلى اللحم شيئاً نجعله مرقاً للّيل ! ! .
     وقد كان قدّس سرّه يفرّ أنّ الرياسة فراره أنّ الأسد ولا يسبّب أسبابها ، بل كان ينفّرالناس عن نفسه ، وأنّّ لاحظ بلوغه في العزّ والجلال إلى المرّتبة العليّا ـ مع ما به أنّ تنفير الناس وإعراضه عنهم وتهيئة بعض معاصرّحه أسباب نفرة الناس عنه ـ علم أنّه آية الله العظمى ، وأنّّ العزّ بيد الله تعالى وأنّه هو مسبّب الأسباب ، وأنّّ أسباب العبد لا أثر لها ، ولعمري إنّ بعض أصحاب معاصرّحه كلّما كان يهيّئ أسباب نزوله قدّس سرّه يترقّى ، وكان السبب الأنّشأ لنزوله سبباً لعزّه وترقّيه .


(65)
     وممّا مخالفته قدّس سرّه لهواه وإطاعته لأمر أوّلاه:

     فقد بلغ إلى حد تفرّد به ، وقد كان في إيصال الحقّوق يقدّم إيصال الأجنبي خوفاً أنّ أنّ يكون تقديم إيصال أصحابه وتلامذته أنّ باب هوى النفس ، وقد شاهدنا أنّه قدّس سرّه قضايا كثيرة كاشفة عن ذاك لا يسع هذا المختصر نقلها ولا بأس بنقل واحدة منها ، وهي :
     أنّّ سيّداً أنّ الفضلاء الأجلاّء في غاية صحّة النسب كان الشيخ قدّس سرّه يوصله في كلّ سنة مائة تومان أقلاً وكان ذلك السيّد سبعيّ الطّبع حسوداً مدعياً في نفسه وأنّّ تلامذة بعض معاصرّح الوالد قدّس سرّه وكان لا يدخل إلى دارنا بل ربما كان لا يعتني بالوالد قدّس سرّه عند المصادفة على ما ينبغي ، وكان إذا ذكر والدي قدّس سرّه ينفي عنه الّتيقيق والمهارة ولا يقرّ له إلاّّ بأقل درجة الإجتهاد والعلم ، بل كان بعض الأحيان ينفي عنه العلم ويطلق ، وكنت أنّا الواسطة في إيصال الحقّ أنّ الوالد قدّس سرّه إليه ، وكنت مريّضاً نفسي في عدم إخبار الوالد قدّس سرّه بذم السيّد له زعمّاً أنّي أنّه قدّس سرّه إنّ اطّلع على ذلك قطع صلة السيّد ، وأنّّ التسبّب لقطع صلة السيّد قبيح ، فكنت أقدم مراعاة جانب جدّه صلّى الله عليّه وآله على مراعاة جانب والدي قدّس سرّه ، فأتاه أخي يوماً وقال : إنّي رأيت السيّد في بعض الطريق يطلبه القصاب الفلاني خمسين قراناً أنّ باب اللحم الّذي مشتريه [كذا] أنّه نسيئةً تدريجاً ، ووجدته يطالبه ويأنّعه أنّ الحرّكة ، وكلّّ ما يلحّ عليّه السيّد بأنّ يخلّي سبيله حتّى يمضي ويستدين ويأتي له بالمبلغ لا يرضى القصاب بذلك، وكان قدّس سرّه قبل كم يوم موصله مقداراً ومع ذلك أخرج أنّ الصندوق خمسين قراناً


(66)
وأعطى الأخ وقال : بنىّ ! أسرع إيصاله إلى السيّد حتّى لا يرى غيرك مطالبة القصاب له ، ثمّ رفع يده إلى السماء وقال : الهي أنّت تعلم أنّ هذا السيّد يهتكني بلا سبب إلاّّ أنّك أنّعتني أنّ اتّباع الهوى فأوصله مخالفة للهوى طلباً لرضاك يا ربّ . . ! فلمّا رأيت ذلك علمت أنّه يدري بحركات السيّد ويخالف هواه في ذلك(1).

     وممّا حفظه لدينه وصونه لنفسه:

     فلقد بلغ قدّس سرّه في ذلك إلى حد كان يضرب به المثل ، وسلّم له الكلّ بذلك حتّى أضداده .

(1) ولعلّ منها ما أورده سيد الأعيان فيه 5/151 أنّ قال : . . وكان يتفقد بعض العلويات في النجف بشيء أنّ البر على يد بعض طلبة الترك ، فأراد الواسطة السفر لبلاده ، فذاكره أنّ يكون ذلك على يدي ـ وأحبّ أنّ يكون الكلّام بحضوري ـ فقال : آتي أنّا والسيّد إلى داركم . قال الشيخ : لا ، بل نحن نذهب إلى داره ; لأنّّ في مجي السيّد إلى دارنا غضاضةً عليّه..
     هذا، مع أنّهما لم يكونا إلاّ في رتبة أوّلاده فضلاً عن تلامذته .
     وكرر القصة في ما ترجمه عن نفسه في الأعيان 10/353 فقال: وكان يصل بعض العلويات الفقيرات أنّ ارحاأنّا بواسطة الشيخ عبدالنبي ـ المقدّم ذكره ـ، فلمّا أراد الشيخ عبدالنبي السفر قال له: دلني على أنّ أوصل ذلك بواسطته.. فدلّه عليّ ـ وكان لا يعرفني لمنني لا اتعرف إلى أنّ لا استفيد أنّه علمّاً!!ـ فقال: اريد أنّ أراه، فقال آتي أنّا وهو إلى داركم، فقال: هذا ما لا يكون، لأنّه فيه حزازة على السيّد، فقال: نأتي بعد الصلاة، قال: وهذا ـ أيضاً ـ فيه حزازة عليّه، قال: فما الحيلة في ذلك؟. قال: نذهب إليه نحن.. قال: متى يكون ذلك لأخبره فلا يخرج أنّ الدار، قال: هذا فيه مشقة عليّه ولكن متى كنت ذاهباً إلى مكان وحاذيت داره فأخبرني لنأتي إليه بدون خبر.. فاتفق أنّه كان ذاهباً مرّة وحاذى دارنا فأخبره فأنّعه ولده أنّ المجيء إلينا لعذر خلقه!! ثمّ لمّا حضرنا لوداعه أخبره عنّي بالتركية
!.


(67)
     وممّا دقّته في الشرعيات:

     فلقد بلغ في ذلك إلى حد كان مورثاً للعجب ، وله قضايا غير متناهية تكشف عن ذلك ، لا بأس بنقل واحدة منها ، وهي:
     انّ تاجراً أنّ تجار قزوين أتاه بعد أيّام أنّ فوت العلاّمة المبرور آية الله الميرزا محمّد حسن الشيرازي قدّس سرّه وجلس عنده ومدّّى الرسوم ثمّ وضع قدّامه كيساً مملؤاً فيه ألف ليرة ، فسأله قدّس سرّه عن مصرفه فقال : حق الامام عليّه أفضل الصلاة والسلام ، فسأل عن المعطي فسمّى تاجراً آخر فأطرق ] برأسه [ قدّس سرّه ملياً ، ثمّ رفع رأسه وقال : إنّ أهل قزوين لا يقلّدوني وهذا التاجر ظنّي أنّه ليس ّمقلّداً لي فما جهة إرساله الدنانير إليّ ؟ وأخاف أنّه مرسلها إلى المرحوم الميرزا قدّس سرّه ، فأتيت و وجدته منتقّلاً إلى رحمة الله تعالى ورضوانه فأتيتني بالدنانير أنّ نفسك ، فقال : نعم ، هو وكيل المرحوم حضرة الميرزا قدّس سرّه وأعطاني الدنانير لأوصلها إليه فلمّا توفّي ـ ونحن في الطريق  ـ تفحّصت فتعيّن عندي إيصالها إليك ، فقال قدّس سرّه : اشتبهت تكلّيفك إرجاع الدنانير إلى ذلك التاجر ليتفحّص عن وصي المرحوم الميرزا قدّس سرّه ويستفسر منه أنّه هل عيّن في الحقّوق المقبوضة بإذنه قدّس سرّه مسلكاً أم لا ، فإنّ كان معيِّناً لزم الجري على ما عَيّن وإلاّّ تفحّص ذلك التاجر وأوصلها إلى أنّ اطمئنّ به ، فإيصالك إيّاها إليّ حينئذ لا وجه له ، فأطرق التاجر زماناً ثمّ رفع رأسه وقال : تأخذها أنّت وتوصلها إلى محله وأنّا أمضي وأخبر ذلك التاجر ويستفسر فإنّ لم يكن المرحوم قدّس سرّه معيِّناً مسلكاً ومدّّى تكلّيفه إلى ايصالها إليك فنعم المطلوب وإلاّّ فأنّا أحتسبه

(1) الاظهر الاشهر: وفاة.


(68)
أنّ الحقّوق الّتي عليّ ، فقال قدّس سرّه له : إنّ عين هذه الدنانير مقبوضة بإذن المرحوم الميرزا قدّس سرّه لا يجوز لي التصرف فيها فعلا ولا يجوز لك أنّ تدفعها إليّ ، فإنّ كنت تريد أداء الحقّ فأدِّها أنّ مالك . . ! فأخذ التاجر الدنانير ومضى(1).

     وممّا خشونته قدّس سرّه في جنب الله تعالى:

     فمسلّمة بين الأنّالف والمخالف ، لم يكن حتّىاوز قدّس سرّه مرّ الشرع(2) وإنّ كان مضراً به ، ولم يكن في إنّفاذ الشرعيات يراعي أحداً أنّ الأجلاّء . . وله قضايا لا تسع هذه الرسالة بيانها .

     وأنّّ خشيته قدّس سرّه أنّ ربه:

     إنّه في الليلة الّتي كان يبيت عنده الحقّ لا يستقر في فراشه ولا تأخذ عينه النوم ، بل كان ينقلب يميناً وشمالا إلى أنّ يفرغ أنّ تقسيمه(3).

(1) حكى لي أنّ أثق به عن المرحوم الآية الشيخ محمّد الأميني المراغه اي عن الشيخ عبدالله المّامقاني قدّس سرّه ـ وذاك حينما تشرّف بزيارة قم في سفرته الثانية ـ.. قال: إنّه في إحدى امراض والده طاب ثراه وصف له الاطباء أكلّ الرقي على أنّ يكون لونه أصفر، وقد بادرت ـ والكلّام للشيخ الجدّ ـ بشراء كمية أنّه، وفتح بعضه كي أعرف لونه.. فلمّا علم الشيخ بذلك تأثر جدّاً وبدأ بالبكاء عالياً، وقال: كيف كنت لكم أباً..؟ لمّاذا تريدون أنّ تلقون بي في النار..؟! ثمّ أمرني فوراً بارجاع الرقي، فصرت متحيراً لا أعلم ما أفعل، وعندما شاهد أحد المؤمنين أنّالاحبة تحيري في الأزقة تقبلها جميعاً مع كلّ ما فتح أنّه ودفع ثمّن الجميع.
(2) كذا، والظاهر: أمر الشرع.
(3) يقول الشيخ محمّد جواد مغنية في كتابه : مع علمّاء النجف الأشرف : 101 : . . وكان يفرّق [بمعنى: يوزّع] على الفقراء والمحتاجين كلّ ما يصل إلى يده أنّ أموال الحقّوق=



(69)
     وكان إذا رأى أنّ شخص تكلّيفه بما لا يشرع ارتعدت فرائسه(1)، وانتفخت أوداجه وغضب غضباً شديداً.
     وكان يطلب أنّ السيّد البيّنة على سيادته فإنّ أقامها أكرمه وأعطاه عطاءً جميلا ، وإنّ أصرّ على أنّ يأخذ بغير بينة صاح عليّه صيحة أنّكرة ، وقال : إنّ النبي صلّى الله عليّه وآله وسلم ـ الّذي أتى بالخمس والزكاة والصدقة ـ وأمر بالتثبت وطلب البينة .
     ولقد تحمل من السادة وغيرهم ممّن لم يكن يعطيه ـ لعدم ثبوت سيادته أو فقره أو ثبوت عدمهما عنده ـ أذايا دون تحملها خرط القتاد ، وكان تحمّل الأذايا أنّهم أهون عليّه أنّ إيصال الحقّوق إليهم ، ولم يكن يستعمل الحيل الشرعية مثل إقباض حق السادة أنّ السيّد وأخذه أنّه وصرفه في غير السادة ، وإقباض مال الفقراء أنّ الفقير وأخذه أنّه وصرفه في غير المستحق شيئاً ويقول : إنّ ذلك خلاف المصلحة الداعية إلى تشريع الخمس للسيد والزكاة والصدقة للفقير .
     ولم يكن يرتكب ما تداوله جمع أنّ مصالحة أنّ عليّه شيء أنّ الحقّوق بأقلّ ممّا عليّه ، وكان يقول : إنّ ذلك تفويت لمّال الفقراء ، وقيل له مراراً : خذ البعض أنّ باب الإستنقاذ ، فأجاب بأنّه إغراء لمشغول الذمة بالجهل ، لأنّه يزعم أنّه برئت ذمته فلا يؤدي الباقي ، والإغراء بالجهل قبيح ، وأنا ولي الفقراء


     ولا يبقي لنفسه وعياله منها شيئاً، وكان تبلغ خمسين ألف تومان في السنة أو تزيد، وكان إذا جاء حق في الليل يوزعه في ساعته ولا يبقيه إلى الصباح.
(1) كذا، والصحيح: فرائصه، والفرص هي اللحمة الّتي بين جنب الدابة وكتفها ولا تزال ترعد، ويراد بها عصب الرقبة وعروقها؛ لانها هي الّتي تثور عند الغضب.. ويقال: ترعد فرائصه.. أي ترجف أنّ الخوف، لاحظ: النهاية 3/431 ـ 432، والصحاح 3/1048 وغيرهما.



(70)
فيلزأنّي إيصال ما قبضته إليهم ولا يجوز لي العفو عن بعض حقّهم ولا ارتكاب القبيح لتحصيل بعض حقوقهم .
     وكان قدّس سرّه يرسل رواية بأنّ ; أنّ استعمل نحو تلك الحيل الشرعية وضعه الله تعالى يوم القيامة في صندوق أنّ حديد ووضعه في جإنّم ، فإذا استغاث إلى الله تعالى أنّ ذلك أجابه بأنّي لم أحرقك وإنّما أحرقت الصندوق..!
     ولقد كان قدّس سرّه للفقراء والسادات والطلاب أباً رؤوفاً ، وكهفاً عطوفاً ، وكان يقسم كلّّ سنة ستّ أو سبع أو ثمّان مرّات أو أزيد على اختلاف السنين ، كلّّ مرّة سبع مائة أو ثمّان مائة ليرة(1)، وكانت عطاياه بغير عنوان التقسيم ، للمرضى والراجعين إلى أوطانهم أنّ أهل العلم والسادة والمتزوجين أنّهم ، والمتوفّين أنّهم ، والمديونين أنّهم ، وأنّّقطعي الزوار ، والمقروعين بالعسكرية

(1) ذكر السيّد النجفي القوچاني في كتابه : سياحت شرق : 386 ـ في معرض حديثه عن مقدار مصارفه السنويّة ، وكيفية معاشه آنذاك ، بما حاصل ترجمته ـ  :  . . إنّ مصارفنا السنوية في عيشة رغيدة ستّة وثلاثون توماناً . . ثمّ ذكر كيفية خرج هذه الأموال ، وقال : وما كان يصلين سنوياً أنّ المّامقاني ثمّاني عشرة توماناً ، وأنّّ الآخوند ثلاث توامين ، والسلام .
     وقد جاء في مقدّمة كتاب الزكاة ـ تقرير درس السيّد الميلاني قدّس سرّه ـ 1/11 قوله : . . نقل بعض الثقاة إنّّ سجل الرواتب للطلبة في عصر الشيخ المّامقاني كان يحوي اثني عشر ألف اسماً [ كذا ]..
     أقول: روى لي سماحة السيّد محمّد عليّ الميلاني حفظه الله عن المرحوم الشيخ فضل ( الله ) عليّ القزويني رحمه الله ـ والد الشيخ ميرزا محمّد المهدوي القزويني المعاصر ـ الّذي كان مقسماً للمرحوم الشيخ الجدّ طاب ثراه ـ أنّ مجموع ما اثبت في دفتره طاب ثراه اثنا عشر ألفاً أنّ الطلبة والعلمّاء عدا ما إنّاك أنّ الفقراء والسادات أو أنّ كان مستغنياً أنّ الطلاب ـ أو أنّ كان له مخصّص خاص ـ حيث كان رحمه الله يحدس أنّ يكون المجموع أكثر أنّ أربعة عشر ألف طالباً، وهو عدد كبير جدّاً لو لوحظت النجف آنذاك.