دروس في الأخلاق ::: 21 ـ 30
(21)
كونها أصنافاً كثيرة مختلفة المراتب كجنود السلاطين ، والاختلاف هنا من حيث استعداد الذات ومختلف الصفات. فالمتجانس والمتشابه منها في الأوصاف يميل بعضها إلى بعض ، والمتخالف فيها يتباعد ويتباغض ، قال تعالى : ( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ) (1).
     وفي الحديث في أوصافها : « إن الروح حياتها علمها ، وموتها جهلها ، ومرضها شكها ، وصحتها يقينها ، ونومها غفلتها ، ويقظتها حفظها » (2).
     وفيه أيضاً : « ألناس معادن كمعادن الذهب والفضة » (3) أي : كما أن أجناس المعادن مختلفة في الصفات والخواص والآثار وبها تختلف قيمتها ورغبات الناس فيها فكذلك أرواح الناس فهم مختلفون في الصفات والحالات والملكات تتجلى أنوار الطيبات منها من أفق الأبدان وتظهر ثمراتها من أفنان الأعضاء. وتترائي كدورة الخبائث منها وظلماتها من وراء الأقوال والأفعال.

    الأمر السابع : قال الصدوق رحمه الله : اعتقادنا في الروح أنها خلقت للبقاء لا للفناء ، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « ما خلقتم للفناء ، بل خلقتم للبقاء ، وإنما تنقلون من دار إلى دار » (4). واعتقادنا فيها أنها إذا فارقت الأبدان فهي باقية ، منها منعمة ومنها معذبة إلى أن يردها الله إلى أبدانها ، قال الله تعالى : ( ولا
1 ـ النور : 26.
2 ـ بحار الأنوار : ج61 ، ص40.
3 ـ بحار الأنوار : ج 61 ، ص 65 ـ مرآة العقول : ج9 ، ص 25 ـ من لا يحضره الفقيه : ج 4 ، ص 380.
4 ـ بحار الأنوار : ج 6 ، ص 249.


(22)
تحسبن الذين ... ).
     وقال المفيد ـ رحمه الله ـ ما حاصله : إن الأرواح بعد الأجساد على ضربين : منها ما ينقل إلى الثواب أو العقاب ، ومنها ما يبطل فلا يشعر بثواب ولا عقاب. وقد روي عن الصادق عليه السلام ما ذكرنا ، وسئل عمن مات أين تكون روحه ؟ فقال عليه السلام : « من مات وهو ماحض للايمان محضاً يجعل في جنان من جنان الله ، يتنعم فيها إلى يوم المآب » (1).
     وشاهد ذلك ما حكاه الله تعالى عن قول حبيب النجار بمجرد قتله ودخوله في عالم البرزخ : ( قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) (2) ومن ماحض الكفر محضاً يجعل في النار فيعذب بها إلى يوم القيامة ، وشاهد ذلك قوله تعالى في آل فرعون بعد أن أهلكهم الله : ( النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ) (3) والغدو والعشي من شؤون برزخ الدنيا. وقال تعالى في الضرب الاخر : ( إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً ) (4). فبين أن قوماً عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن بعضهم أن ذلك كان يوماً ، ولا يمكن ذلك في حق من لم يزل منعماً ، أو لم يزل معذباً إلى يوم القيامة.
     وهل المنعم والمعذب بعد الموت ، الروح أو الجسد الذي فيه الحياة ؟ الأظهر عندي أنه الجوهر المخاطب ، وهو الروح التي توجه اليها
1 ـ بحار الانوار : ج 61 ، ص 81.
2 ـ يس : 26.
3 ـ غافر : 46.
4 ـ طه : 104.


(23)
الأمر والنهي والتكليف. فيجعل الله للأرواح أجساماً كأجسامهم في دار الدنيا ، ينعم مؤمنيهم ويعذب كفارهم وفساقهم دون أجسامهم التي في القبور يشاهدها الناظرون وتتفرق وتندرس. وهذا مذهبي في النفس ، ومعنى الإنسان المكلف عندي ، ولا أعلم بيني وبين فقهاء الامامية وأصحاب الحديث فيه اختلافاً ، انتهى.
     وقال المحقق الطوسي فيما يشير إليه الإنسان بقوله : أنا : ( فيكون جوهراً عالماً والبدن وسائر الجوارح آلاته في أفعاله ، ونحن نسميه هاهنا : الروح ).

    الأمر الثامن : النفس سلطان الجوارح ، وتسلطها عليها من أنفذ السلطات ، فبإرادتها تتحرك الأعظاء وتسكن. ولا تخلف لإرادتها عن وقوع المراد ، وهذا من أحسن أمثلة تسلط الرب تعالى على خلقه ونفوذ مشيئته فيما شاء وأراد ، وإن كان بينهما فرق واضح فإن النفس فضلاً عن تسلطها ، حادثة. ووجودها مفاض من إرادة الرب ، وأنه قد يحدث للأعضاء خلل ونقص لا يؤثر فيها إرادة النفس ، ولا يكون ذلك في إرادة الله ، وبهذه الملاحظة أطلق على النفس والقلب : إمام الأعضاء ومرجعها وهاديها ورئيسها المتولي لأمرها.
     ففي مباحثة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد التي نقلها للصادق عليه السلام فأمضاها وأقسم بالله تعالى على كونها مكتوبة في صحف إبراهيم وموسى : ( قال : قلت له : ألك قلب ؟ قال : نعم ، قلت : وما تصنع به ؟ قال : أميز كل ما ورد على هذه الجوارح. قلت : أفليس في هذه الجوارح


(24)
غنيً عن القلب ؟ قال : لا ، قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟ قال : يا بني ، إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردته إلى القلب فييقن اليقين ويبطل الشك ، قلت : إنما أقام الله القلب لشك الجوارح ؟ قال : نعم ، قلت : فلا بد من القلب وإلا لم يستقم الجوارح قال : نعم ، فقلت : يا أبا مروان ، إن الله لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحح لهم الصحيح وييقن ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردون إليهم شكهم وحيرتهم. قال : فسكت ولم يقل شيئاً ) (1).
     وفي خبر إبن سنان : ( إعلم : أن منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم ، ألا ترى أن جميع جوارح الجسد شرط للقلب وتراجمة له مؤدية عنه ) (2). الشرط كصرد جمع شرطة : أعوان الولاة.
     وفي توحيد المفضل : ( فكر يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبر فيها ، فإنه جعل لكل واحدٍ منها في انطباع نفسه محرك يقتضيه ويستحث به ، وقال : فانظر كيف جعل لكل واح من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرك من نفس الطبع يحركه كذلك ويحدوه عليه ) (3) ويحدوه أي : يحثه ويحركه.
     وقال أمير المؤمنين عليه السلام : ( سبحان الذي جمع من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها ، وفكر يتصرف بها ، وجوارح
1 ـ بحار الأنوار : ج 61 ، ص 249.
2 ـ علل الشرايع : ص 109 ـ بحار الأنوار : ج 61 ، ص249 ـ ج70 ، ص 255.
3 ـ توحيد المفضل : ص75 ـ بحار الأنوار : ج61 ، ص255.


(25)
يختدمها وأدوات يقلبها ، ومعرفةٍ يفرق بها بين الحق والباطل ، والأذواق والمشام والألوان والأجناس ) (1).
     ووصف علي عليه السلام في نهج البلاغة قلب الإنسان وروحه بأن له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ ، وإن غاله الخوف شغله الحذر ، وإن اتسع له الأمن استلبته الغرة ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ـ (2) الخ ـ.
     ثم إنه لا يخفى عليك أن الكلام في تشريح حقيقة الإنسان والنفس والروح رفيع المرقى صعب المنال ، والأقوال ـ في كيفية خلقه وتكوينه بجسمه وبدنه فضلاً عن روحه ونفسه وأن روحه مخلوقة قبل الأبدان بألفي عام أو أقل أو أكثر كما ورد بذلك نصوص كثيرة ، أو أنها مخلوقة من الأبدان ومكونة عنها كما أشرنا إليه ـ كثيرة مختلفة ، بل قد تنتهي إلى عشرة أو أكثر ، ولم يكن البحث في ذلك من أغراض هذا الكتاب. وكان ما ذكرنا من الآيات والنصوص وبعض الأقوال في ذلك إيضاحاً إجمالياً بالمقدار الميسور لموضوع علم الأخلاق وموضوع البحث.
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 1.
2 ـ نهج البلاغة : الحكمة 108.


(26)

(27)
الدرس الأول
في بيان مما يدل على صلاح القلب وفساده
     وليعلم أولاً : أن المقصد الأعلى والغرض الأسمى في هذا العلم السعي في إصلاح القلب وإكماله ، وتطهيره وتزكيته عن ذمائم الصفات ، وتزيينه وتحليته لفضائل السجايا وفواضل الملكات ، ليستعد على الاستفاضة من إنارة الألطاف الرحمانية وإضافة المعارف الالهية من حضرة ذي الجلال. فبالقلب شرف الإنسان وبه فضيلته على كثير من الخلق ، وبه ينال معرفة ربه التي هي في الدنيا شرفه وجماله ، وفي الآخرة مقامه وكماله. فالقلب هو العالم بالله ، والعامل لله ، والساعي إلى الله ، والمتقرب إلى جوار الله ، والجوارح أتباع وخدم يستعملها استعمال الملك للعبيد والصانع للآلة.
     والقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من الآفات ، والمحجوب عن الله تعالى إذا استغرق في الشهوات وهو الذي يفلح الإنسان إذا زكاه ويخيب ويشقى إذا دساه وهو المطيع لله على الحقيقة والمشرق على الجوارح أنواره وهو العاصي في الواقع


(28)
والظاهر على الأعضاء آثاره وباستنارته وظلمته تظهر محاسن الظن ومساويه ، إذا كل إناء يترشح بما فيه.
     وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه ، وإذا جهله جهل نفسه ، واذا جهل نفسه فقد جهل ربه.
     وهو الذي جهله أكثر الناس وغفلوا عن عرفانه ، وحيل بينهم وبينه بمعاصيهم والحائل هو الله ، فإنه يحول بين المرء وقلبه ، وينسى الإنسان نفسه ويضله ولا يهديه. ولا يوفقه لمشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته ، فمعرفة القلب وأحواله وأوصافه أصل الأخلاق وأساس طريق الكمال.
     والقلب لطيفة ربانية روحانية لها تعلق بالبدن شبه تعلق الأعراض بالأجسام ، أو تعلق المستعمل بالآلة ، أو المكين بالمكان.
     والروح أيضاً عبارة عن هذه اللطيفة الربانية العالمة المدركة ، وهو أمر عجيب رباني يعجز العقول عن إدراك كنهه.
     والنفس أيضاً هي اللطيفة المذكورة ، وهي الإنسان في الحقيقة ، وتتصف بأوصاف مختلفة بحسب أحوالها ، فإذا سكنت تحت أمر الله وزال عنها الاضطراب لثقتها بالله ولم تتزلزل ولم تضطرب ولم تنحرف عن سبيل الله وطريق الحق عند معارضة الشهوات سميت بـ « النفس المطمئنة ». وإذا لم يتم سكونها ولكن كانت مدافعة عن نفسها معارضة مع ما تقتضيه شهواتها سميت بـ « النفس اللوامة ». وإن أذعنت وأطاعت للشهوات ودواعي الهوى والشياطين سميت بـ « النفس الأمارة بالسوء ».
     ثم إن طريق تسلط الشيطان على القلب : الحواس الخمس الظاهرة والقوى الباطنة : كالخيال والشهوة والغضب. فالقلب يتأثر دائماً من هذه الجهات ، وأخص


(29)
الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر ، والخواطر هي المحركات للإرادات ، فإن سند الأفعال الخواطر ، والخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم والنية ، والنية هي الإرادة التي تحرك العضلات والأعضاء.
     والخواطر المحركة قسمان : قسم يدعوا إلى الخير ، وهو ما ينفع الإنسان في العاقبة ، وقسم يدعوا إلى الشر وهو ما يضره في العاقبة ، والخاطر المحمود إلهام ، والمذموم وسوسة ، وسبب الخاطر الداعي إلى الخير في الغالب هو الملك ، وإلى الشر هو الشيطان.
     والملك خلق من خلق الله ، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالمعروف. والشيطان خلق على ضد ذلك. شأنه الوعد بالشر والأمر بالفحشاء ، والتخويف بالفقر عند الهم بالخير ، ولعل المقام من مصاديق قوله تعالى : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) (1) فإن الموجودات متقابلة مزدوجة بمعان مختلفة. وقد ورد أنه للقلب لمتان : لمة من الملك ولمة من الشيطان ، واللمة : الخطوة والدنو والمساس. وورد أيضاً : إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمان (2) ، أي : بين خلقين مقهورين بإرادة الله التكوينية كالإصبع من صاحبها وهما : الملك والشيطان ومعنى كونه بينهما أن الله يخلي بينه وبين أي منهما أراد حسب اقتضاء عمل الإنسان ورغبته ودعائه.
     ثم إن القلب بأصل الفطرة صالح مستعد لقبول دعوات الملك والشيطان ويترجح أحدهما على الآخر باتباع الهوى والشهوات أو الإعراض عنها والميل إلى الطاعات ، فإن اتبع الإنسان مقتضى الأول تسلط عليه الشيطان وصار القلب عشاً له ، وصار صاحبه ممن باض الشيطان وفّرح في صدره ودب ودرج في حجره. وإن
1 ـ الذاريات : 51.
2 ـ المحجة البيضاء : ج5 ، ص 85 ـ بحار الانور : ج 70 ، ص 39 ـ مرآة العقول : ج 10 ، ص 394.


(30)
جاهد في مخالفة الشهوات كان قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم وعاد صاحبه ممن سبقت له من الله الحسنى ، وقد قال تعالى : ( وقل رب أعوذ من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) (1).
     وذكرنا هذا ليسهل عليك فهم ما سوف نذكره من الأحاديث المقصودة واستفدنا ذلك من كلمات بعض المحققين على ما نقله عنه الفاضل المجلسي قدس سره في ج70 من البحار.
     وأما النصوص الواردة في بيان القلب وحالاته فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحت سلم بها سائر الجسد ، فإذا سقمت سقم لها سائر الجسد وفسد ، وهي القلب » (2). والمراد بالقلب : الروح الإنساني التي لها تعلق خاص بالقلب الصنوبري ، والمراد من صحتها : حصول صفة التسليم لها ، ومن مرضها : عروض الطغيان عليها ، وسلامة سائر الجسد عدم صدور المعاصي منه ، وسقمه صدورها عنه. وهذا هو المراد من قوله عليه السلام : « إذا طاب قلب المرء طاب جسده ، وإذا خبث القلب خبث الجسد » (3). وكذا من قول علي عليه السلام : « أشد من مرض البدن مرض القلب ، وأفضل من صحة البدن تقوى القلوب » (4).
     وفي صحيح أبان عن الصادق عليه السلام : « ما من مؤمن إلا لقلبه أذنان في جوفه : أذن ينفث فيها الوسواس الخناس ، وأذن ينفث فيها الملك ، فيؤيد الله المؤمن بالملك وذلك قوله : وأيدهم بروح منه » (5). وورد في النصوص : أن للقلب أذنين ، فإذا هم العبد
1 ـ المؤمنون : 97 ـ 98.
2 ـ بحار الأنوار : ج70 ، ص 50 ـ الخصال ص31.
3 ـ بحار الأنوار : ج70 ، ص50 ـ الخصال ص 31 ـ نور الثقلين : ج3 ، ص 585.
4 ـ بحار الأنوار : ج70 ، ص51.
5 ـ بحار الأنوار : ج63 ، ص194 ـ ج69 ، ص267 ـ ج70 ، ص48 ـ الكافي : ج 2 ، ص 267 ـ مرآة العقول : ج9 ، ص392 ـ نور الثقلين : ج5 ، ص269.
دروس في الاخلاق ::: فهرس