قال : لا أنقص من سبعين ديناراً .
قلنا له : نستشريها منك بهذه الصرّة ما بلغت ما ندري ما فيها ، وكان عنده رجل أبيض الرأس واللحية قال : فكّوا وزنوا .
فقال النخّاس : لا تفكّوا ، فإنّها إن نقصت حبّة من سبعين ديناراً لم اُبايعكم .
فقال الشيخ : ادنوا ، فدنونا وفككنا الخاتم ووزنّا الدنانير فإذا هي سبعون ديناراً لا تزيد ولا تنقص ، فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر عليه السلام ، وجعفر قائم عنده ، فأخبرنا أبا جعفر بما كان ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لها : « ما اسمك » ؟
قالت : حميدة .
فقال : « حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة ، أخبريني عنك أبكرٍ أنت أم ثيّب » ؟
قالت : بكر .
قال : « وكيف ، لا يقع في أيدي النخّاسين شيء إلاّ أفسدوه » .
قالت : قد كان يجيئني فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة ، فيسلّط الله عليه رجلاً أبيض الرأس واللحية فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني ، ففعل بي مراراً وفعل الشيخ به مراراً .
فقال : « يا جعفر خذها إليك » ، فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر عليهما السلام (1) .
وفي عيون أخبار الإمام الرضا عليه السلام : قال الصدوق : حدّثنا تميم بن عبدالله بن عبدالله بن تميم القرشي رضي الله عنه ، قال : حدّثني أبي ، عن أحمد بن علي الأنصاري ، قال : حدّثني علي بن ميثم ، عن أبيه ، قال :
لمّا اشترتْ الحميدة اُم موسى بن جعفر عليهما السلام اُم ّ الرضا نجمة ، ذكرتْ حميدة أنّها رأت في المنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها : « يا حميدة هبي نجمة لابنك موسى ، فإنّه سيولد له منها خير أهل الأرض » فوهبتها ، فلمّا ولدت له الرضا عليه السلام سمّاها الطاهرة ، وكان لها أسماء منها : نجمة ، وأروى ، وسكن ،





____________
1 ـ الكافي 1 : 397 حديث 1 .
(357)

وسمان ، وتكتم وهو آخر أساميها .


قال علي بن ميثم : سمعتُ أبي يقول : سمعت اُمي تقول : كانت نجمة بكراً لمّا اشترتها حميدة (1) .

204 حوريّة الكنانيّة
زوجة عبدالله بن العباس بن عبد المطلب ، عُرفت باُم حكيم بنت خالد الكنانيّة .
شاعرة ، لها موقف بطولي مع بُسر بن أرطأة الذي قتل ولديها سليمان وداود .
فعندما أمر معاوية بن أبي سفيان بُسر بن أرطأة بقتل شيعة علي أمير المؤمنين سلام الله عليه ، فأغار بُسر على مكّة والمدينة ، وقتل فيها أعداداً كثيرة ، ثم توجّة إلى صنعاء اليمن ، وكان الحاكم فيها من قبل أمير المؤمنين عليه السلام هو عبيدالله بن عباس ، فأحسّ بأنّه لم يقدر على مقاومة بُسر بن أرطأة فخرج منها ، ودخلها بسر وقتل عدداً من أهلها .
وكان ممّن قتلهم سليمان وداود ابني عبيدالله بن عباس ، حيث كانا صغيرين ، فذحبهما وقطع رأسيهما كما يذبح الكبش ، فخرجت اُم حكيم مع جماعة من نساء قبيلتها باكيات معولات ، فدعت اُم حكيم بالويل على بُسر وقالت : تُريقون دماء الرجال لقولكم إنّهم مقصّرين ، فما ذنب الصغار ، ولا يوجد مَن فعل فعلتكم هذه في الجاهلية .
فقال بُسر : والله لهممت أن أضع فيكنّ السيف واقتلكنّ جميعاً .
قالت اُم حكيم : والله إنّ قتلنا أحب إلينا ممّا فعلتَ بنا ، وانتدبت قائلةً :
هامَـنْ أحسَ بـابنيَ اللّذين هُما * كالدرتين تَشَظى (2) عَنْهما الصدفُ

____________
1 ـ عيون أخبار الإمام الرضا عليه السلام 1 : 16 حديث 3 . وانظر : إعلام الورى : 286 ، أعيان الشيعة 2 : 5 ، رياحين الشريعة 3 : 18 ، أعيان النساء : 75 .
2 ـ تشظّى الشيء : إذا تطاير شظايا ، وقال : كالدرتين تَشَظَى عنهما الصدف . الصحاح 6 : 2392 « شظى » .

(358)

هـامَنْ أحسَ بـابنيَ اللّذين هُمـا * سَمْعي وَقَلبي فَقَلْبي اليومُ مختطفُ
هامَـنْ أحسَ بـابنيَ اللّذين هُمـا * مُخّ العِظامِ فَمُخي اليوم مُزْدهفُ (1)
نُبّئتُ بـسراً وما صدّقت ما زعموا * من قبلهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحى على وَدَجـي ابنيّ مُرهَفـة * مشحوذة وكـذاك الإثـم يُقتـرفُ
مَـن دلَّ والهةً حـرى مُسلبـة * على صبيّين ضلاّ إذ مضى السلفُ
ودعا أمير المؤمنين عليه السلام على بُسر ، وكان فيما دعا به : « اللّهم لا تمته حتى تسلبه عقله » ، فلم يلبث إلاّ يسيراً حتى وسوس وذهب عقله ، فكان يهذي بالسيف ويقول : أعطوني سيفاً أقتل به ، لا يزال يردّد ذلك ، فاتخذ له سيفاً من خشب ، وكانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتى يُصرع ويُغشى عليه ، وكان يضرب على الزق المنفوخ حتى ينتثر ، فلبث كذلك إلى أن هلك لعنه الله .
وكان بُسر مع معاوية في صفين فطلب مبارزة علي عليه السلام في بعض الأيام ، فلمّا علاه علي عليه السلام بالسيف وأيقن ، أنّ حتفه في تلك الضربة أبدى سوأته ، كما فعل ذلك عمرو قبله .
وقد أولع الشعراء بذلك ، فقال الحارث بن النضر السهمي من شعراء ذلك الوقت :
أفي كلِ يَومٍ فارس ليسَ ينتهي * وعورَتـه تحتَ العُجـاجةِ بادية

____________
1 ـ اُزهِفَ الشيء واُزدهف : أي ذهب به . الصحاح 4 : 1371 « زهف » .
(359)

يكفُ بهـا عَنْـه علـي سنانَـه * وَيَضحكُ منها في الخلاءِ معاوية
بدتْ أمس مِنْ عمرو فقنّع رأسّهُ * وَعَـورة بُسرٍ مثلها حذو حاذية
فقولا لعمرو ثُم بسر ألا انظـرا * سَبيلكمـا لا تلقيا الليثَ ثـانيـة
ولا تحمدا إلاّ الحيا وخِصاكمـا * هُمـا كانتـا والله للنفسِ واقيـة
فلولاهمـا لـم تنجوا مِن سِنانِهِ * وتلكَ بمـا فيها عن العودِ ناهية
متى تلقيا الخيلَ المشيحةَ صبحة * وفيها عليٌّ فاتركـا الخيلَ ناحيةَ
وكونا بعيداً حيثُ لا تدرك القنـا * نحـوركمـا إنّ التجـاربَ كافية
وإن كان منهُ بعدُ في النفسِ حاجة * فعودا إلى ما شئتما هي ماهية
وقال الأمير أبو فراس الحمداني رحمه الله :
لا خيرَ في دفعِ الـردى بمذلةٍ * كمـا رَدَّها يوماً بسوأتِه عمرو
وقال ابن منير الطرابلسي :
بطلٌ بسوءتِهِ يقـا * تلُ لا بصارمِهِ الذكر
وقال السيّد محسن الأمين من قصيدة له :


(360)

لاقاه عمـرو والأسنةُ شـرعُ * لقيا الحمامةِ للعقـابِ الكـاسرِ
وتـلاهُ بُسـرٌ ثُـمَّ ما نجّاهما * منهُ سوى فِعلْ الخسيسِ الغادرِ
فثنـى حياءً عنهما وعفا ولمْ * يـرهقهما عفـو الكريم القادرِ

وقال أيضاً في قصيدة اُخرى :
لا كعمرو إذا رام لقياه في الرو * ع ومـنْ دونِ ذاكَ خـرط القتادِ
وتـلاه بُسـرٌ فلمّــا أحسّـا * بالردى مِن حسامِهِ وهـو بادي
أبديـا سـوأةً فـكفَ حيـاءً * عنهمـا عفُـو قـادرٍ معتــادِ
ما لفرخ البغاةِ يعترضُ الصقـ * ـر ومـا للضبـاع والآسادِ (1)

205 حيدر لادي
أديبة هنديّة ، راثية لأهل البيت ـ خصوصاً الإمام الحسين ـ عليهم السلام ، اشتهرت في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر في الهند .
نشرت مجلّة « الموسم » الفصليّة في عددها التاسع عشر الصادر سنة 1415هـ = 1994م بحثاً عن مملكة « أود » الشيعيّة في الهند كتبه J.R.cloe جاء فيه :
____________
1 ـ معادن الجواهر ونزهة الخواطر 1 : 360 ، رياحين الشريعة 3 : 377 .
(361)

وفي زمـن غازي الدين حيـدر ( 1814 ـ 1827م ) قـدم النـاس من كـلّ أنحـاء « أود » إلى « لكنـو » خـلال شهر محـرّم على أمل سمـاع النائحـة الحسينيّـة السيّـدة حيـدر لادي ( haydar-lady ) ، وهي تُنشد بعض المراثي الشعريّة في رثاء الإمام (1) .

206 خديجة بنت خويلد (2)
اُم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب .
____________
1 ـ الموسم 19 : 307 .
2 ـ انظر ترجمتها في : الإختصاص للشيخ المفيد : 165 ، 182 ، الإستغاثة ، اُسد الغابة 5 : 434 ، الإستيعاب ( المطبوع بهامش الإصابة ) 4 : 279 ، الإصابة في تمييز الصحابة 4 : 281 ، أعلام النساء 1 : 326 ، إعلام الورى بأعلام الهدى : 146 ، أعيان الشيعة 1 : 220 و 6 : 308 ، بطلة كربلاء للدكتورة بنت الشاطىء : 14 ، تأريخ الإسلام للذهبي 63 و 117 و 133 وغيرها ، تأريخ الاُمم والملوك ( الطبري ) 2 : 280 ، تأريخ الخميس : 1 : 301 ، تأريخ اليعقوبي 2 : 20 و 31 و262 ، تذكرة الخواص : 271 و 314 ، تكملة الرجال 2 : 727 ، تنقيح المقال 3 : 77 ، جامع الرواة 2 : 457 ، خديجة بنت خويلد لعلي دخيل ، خصائص أمير المؤمنين عليه السلام للنسائي : 45 ، الدر المنثور في طبقات ربات الخدود : 180 ، ذخائر العقبى : 44 ، رجال صحيح البخاري المسمّى بـ ( الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد الذي أخرج لهم البخاري في جامعة ) 2 : 835 رقم 1417 ، رياحين الشريعة 2 : 202 ، السمط الثمين : 17 ، سنن الترمذي 5 : 702 ، سيرة ابن هشام 1 : 200 ، سير أعلام النبلاء 2 : 85 ، السيرة الحلبية 1 : 137 ، سيرة المصطفى لهاشم معروف الحسيني : 57 ، السيرة النبوية لإبن كثير 1 : 262 و 2 : 132 ، شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب 1 : 14 ، شهيرات النساء في العالم الإسلامي للأميرة قدرية حسين 2 : 5 ، صحيح البخاري 5 : 47 ، صحيح مسلم 5 : 886 ، صفوة الصفوة 2 : 2 ، الطبقات الكبرى 8 : 14 ، العقد الفريد 5 : 7 ، فاطمة الزهراء عليها السلام وتر في غمد لسليمان كتاني : 112 ، الفصول المهمة : 129 ، الكامل في التأريخ 2 : 39 و90 ، كشف الغمة في معرفة الائمة 1 : 507 ، كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام للحافظ الگنجي الشافعي : 357 ، الكنى والألقاب 1 : 106 و 200 و 2 : 354 ، المحبر : 11 و 77 و452 ، المرأة في ظل الإسلام : 123 ، مثلهنّ الأعلى خديجة بنت خويلد لعبدالله العلايلي : 98 ، معجم رجال الحديث 23 : 188 رقم 15617 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 182 ، مناقب الإمام علي بن أبى طالب عليه السلام لابن المغازلي : 329 ، موسوعة آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدكتورة بنت الشاطىء : 230 ، نساء لهنّ في التأريخ الإسلامي نصيب للدكتور علي ابراهيم حسن : 21 ، نساء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لسنية قراعة : 16 ، وفاة الزهراء سلام الله عليها للمقرّم : 7 .

(362)

اُمّها فاطمة بنت زائدة بن الأصم .
حازمة ، شريفة ، جليلة ، ديّنة ، مصونة ، كريمة ، صدّيقة هذه الاُمّة .
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يودّها ويحترمها ويثني عليها ، ويفضّلها على سائر نساء المؤمنين ، ويبالغ في تعظيمها ، ويشاورها في اُموره ، وهي أوّل امرأة آمنت به ، وصدّقته وثبّتت جأشه ، ومضت به إلى ابن عمّها ورقة .
كانت تستقبل آلام الجهاد الذي خاضه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخاضته معه عاملة ماضية ، وصابرة محتسبة ، لا ينبض عندها عرق بلين أو تخوّف ، بل تقطع قناطر الدموع والخطوب المتغولة في بسمة كبرياء ، لم يعهد مثلها إلاّ بعض نفر من صانعي التأريخ ، بصدرها الرحب كانت تستقبل العاصفة وشظاياها المشتعلة .
ونحن عَبر هذه الأسطر القليلة ، والصفحات المتعدّدة لا نستطيع أن نستوعب كلّ جوانب حياة هذه المرأة العظيمة ، بل نلقي الضوء على بعض جوانب حياتها :

أزواجها :
تزوّجت خديجة بنت خويلد أوّلاً عتيق بن عائذ بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم ، وولدت له بنتاً يقال لها هند ، ثم توفّي عنها عتيق فتزوّجت أبا هالة بن النباش بن زرارة بن وقدان بن حبيب ، وولدت له ابناً يقال له هند . هذا هو المشهور والمسطور في كتب التراجم والتأريخ .
إلاّ أنّ هناك بعض القدماء مَن يقول بأنّها لم تتزوّج قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنّما التي تزوّجت عتيق ثم أبا هالة هي اُختها ، وبما أنّ اسم خديجة كان معروفاً واسم اختها غير معروف ، فنُسب الزوجان وأولادهم إلى خديجة دون اختها ، ومن القائلين بهذا القول هو علي بن أحمد الكوفي العلوي المتوفّى سنة 352هـ ، قال في كتاب الإستغاثة :
قد صحّت الرواية عندنا بأنّه كان لها اُخت من اُمها تسمّى هالة ، قد تزوّجها رجل من بني تميم يقال له أبو هند ، فأولدها ابناً اسمه هند بن أبي هند وبنتين زينب ورقيّة ، ومات أبو هند وقد بلغ ابنه مبلغ الرجال والابنتان طفلتان ، وكانتا موجودتين حين تزوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم


(363)

خديجة بنت خويلد ، وماتت هالة بعد ذلك بمدّة يسيرة وخلّفت الطفلتين زينب ورقية في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحجر خديجة .
وكان من سنّة العرب في الجاهلية أنّ مَن يربّي يتيماً ينسب ذلك اليتيم إليه ، ولا يستحل التزوّج بمن يربّيها ؛ لأنّها كانت عندهم بزعمهم بنتاً لمربيها ، فلما ربّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة هاتين البنتين نسبتها إليهما ، وهما بنتا أبي هند زوج هالة اُخت خديجة .
ولم تزل العرب على هذه الحالة إلى أن ربّى بعض الصحابة يتيمة بعد الهجرة ، فقالوا : لو سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل يجوز في الإسلام تزويج اليتيمة بمن ربّاها ، فأنزل الله جلّ ذكره آية في تجويز ذلك ، فكانت الجاهلية تنسب هاتين البنتين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم نسب أخوهما هند إلى خديجة ، وكان اسم خديجة نابهاً معروفاً ، وكان اسم اُختها خاملاً مجهولاً ، فظنّوا لما غلب اسم خديجة على اسم هالة اختها ثم نسب هند إليها وان أبا هند كان متزوّجاً بخديجة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) .

زواجها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم :
خرج النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في تجارة لخديجة ـ وهو ابن خمس وعشرين سنة ـ مع غلامها ميسر ، وكانت خديجة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في تجارتها ، ولمّا علم أبو طالب بأنّها تُهيء تجارتها لإرسالها إلى الشام مع القافلة قال له : يا ابن أخي أنا رجل لا ما لي وقد اشتدّ الزمان علينا ، وقد بلغني أنّ خديجة استأجرت فلاناً ببكرين ، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته ، فهل لك أن اُكلّمها ؟
قال : « ما أحببت » .
فقال لها أبو طالب : هل لكِ أن تستأجري محمّداً ، فقد بلغنا أنّك استأجرت فلاناً ببكرين ، ولسنا نرضى دون أربعة بكار .
____________
1 ـ الإستغاثة : 75 .
(364)

فقالت : لو سألت ذلك لبعيد بغيض فَعْلنا ، فكيف وقد سألته لحبيب قريب .
فقال له أبو طالب : هذا رزق ساقه الله إليك .
فخرج صلى الله عليه وآله وسلم مع ميسر بعد أن أوصاه أعمامه به ، وباعوا تجارتهم وربحوا أضعاف ما كانوا يربحون وعادوا . فسرّت خديجة بذلك ، ووقعت في نفسها محبّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وحدّثت نفسها بالتزوّج به ، وكانت قد تزوّجت برجلين من بني مخزوم توفيّا عنها ، وكان قد خطبها أشراف قريش فردّتهم .
فتحدّثت بذلك إلى اُختها أو صديقة لها اسمها نفيسة بنت منيّة ، فذهبت إليه وقالت : ما يمنعك أن تتزوّج ؟
قال : « ما بيدي ما أتزوّج به » .
قالت : فإن كُفيت ذلك ، ودُعيتَ إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب ؟
قال : « فمَنْ هي » ؟
قالت : خديجة .
قال : « كيف لي بذلك ؟ »
قالت : عليّ ذلك .
فأجابها بالقبول ، وخطبها إلى عمّها وحضر مع أعمامه فزوّجها به عمّها ؛ لأنّ أباها كان قد مات ، وقيل : زوّجها أبوها ، وأصدقها عشرين بكرة ، وانتقل إلى دارها ، وكان ذلك بعد قدومه من الشام بشهرين وأيام وعمرها أربعون سنة .

إسلامها
أجمع المؤرّخون على أنّ أوّل من أسلم من النساء هي خديجة بنت خويلد ، فبعد أن نزل الوحي على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، جاء وقصّ ما شاهده على زوجته ، فأسلمت خديجة وناصرت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى عُدّ نصرها له أحد الدعائم التي قام عليها الإسلام إضافة إلى سيف علي عليه السلام ودعم أبي طالب شيخ الأباطح .


(365)

روت عائشة : إنّ أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء ، فكان يخلو بغار حراء ، فيتعبّد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزل إلى أهله ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد منها ، حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : إقرأ .
قال : ما أنا بقارىء .
قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : إقرأ .
فقلت : ما أنا بقارىء .
فقال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : إقرأ .
فقلت : ما أنا بقارىء ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال : ( إقرأ باسم ربّك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، إقرأ وربّك الأكرم ) (1) .
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع . فقال لخديجة وأخبرها بالخبر : لقد خشيت على نفسي .
فقالت له : كلا والله ما يخزيك الله أبداً ، إِنّك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتُقرىء الضيف ، وتعين على النوائب .
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد ، وهو ابن عمّ خديجة ، وكان قد تنصرّ في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فكتب من الأنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان قد عمي .
فقالت له خديجة : يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك .
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رأى .
____________
1 ـ العلق 1 ـ 3 .
(366)

فقال له ورقة : هذا الناموس الذي اُنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أومخرجي هم » ؟
قال : نعم ، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلاّ عُوديَ ، وإن أدرك يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم توفّي ورقة .
وروى أبو يحيى بن عفيف ، عن أبيه ، عن جده عفيف قال : جئتُ في الجاهلية إلى مكّة وأنا اُريد أن أبتاع لأهلي من ثيابها وعطرها ، فأتيتُ العباس بن عبدالمطلب وكان رجلاً تاجراً ، فأنا عنده جالس حيث أنظر إلى الكعبة وقد حلّقت الشمس في السماء فارتفعت وذهبت ، إذ جاء شاب فرمى ببصره إلى السماء ثم قام مستقبل القبلة ، ثم لم ألبث إلاّ يسيراً حتى جاء غلام فقام عن يمينه ، ثم لم ألبث إلاّ يسيراً حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما ، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة ، فسجد الشاب فسجد الغلام والمرأة .
فقلت : يا عباس أمر عظيم!
قال العباس : أمر عظيم ، أتدري مَن هذا الشاب ؟
قلت : لا .
قال : هذا محمّد بن عبدالله ، اُبن أخي ، أتدري مَن هذا الغلام ؟ هذا علي ابن أخي ، أتدري مَن هذه المرأة ؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته ، إنّ ابن أخي هذا أخبرني أنّ ربّه ربّ السماء والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه ، ولا والله ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (1) .

وقوفها إلى جنب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم :
من العوامل الأساسية التي تقوّى بها الإسلام ـ كما قلنا ـ هي أموال خديجة بنت خويلد ،
____________
1 ـ خصائص أميرالمؤمنين عليه السلام : 45
(367)

فمنذ اليوم الأوّل لنزول الوحي على نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نرى خديجة تسارع لإعتناق الدين الحنيف ، وتقف إلى جنب زوجها موقف المدافع والمحامي ، وتضع كل أموالها في تصرّفه نصرة للرسالة الجديدة ، إضافة إلى ذلك كلّه كانت خديجة بنت خويلد المأوى والملجأ ، والقلب الحنون الذي يلجأ إليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حينما تضايقه قريش ، ويتعرّض للأذى من قبل أعداء الله تعالى . فكان يشكو لها همّه ، وما يلاقي من قومه ، وكانت هي في مقابل ذلك تُحيطه بحنان قلبها الكبير ، وتخفّف عن آلامه وأتعابه ، وتقف موقف المشجّع والمثبّت له .
وقد ثبّت المؤرخون مواقفها البطولية في كتبهم ، نذكر بعضها تعميماً للفائدة :
( 1 ) قال ابن حجر العسقلاني : ومن مزايا خديجة أنّها ما زالت تعظّم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وتصدّق حديثه قبل البعثة وبعدها . . . ومن طواعيتها له قبل البعثة : أنّها رأت ميله إلى زيد بن حارثة بعد أن صار في ملكها ، فوهبته له صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السبق إلى الإسلام (1)
( 2 ) قال ابن إسحاق : وكانت خديجة أوّل من آمن بالله ورسوله ، وصدّقت بما جاء به ، فخفّف الله بذلك عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزن إلاّ فرّج الله عنه بها ، إذا رجع إليها تثبّته ، وتخفّف عنه وتصدّقه ، وتهوّن عليه أمر الناس رضي الله عنها (2) .
( 3 ) قالت خديجة لابن عمّها ورقة بن نوفل : أعلن بأنّ جميع ما تحت يدي من مال وعبيد فقد وهبته لمحمّد يتصرّف فيه كيف يشاء ، فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته : يا معاشر العرب إنّ خديجة تشهدكم على أنّها وهبت لمحمّد نفسها ومالها وعبيدها وجميع ما تملكه يمينها ، إجلالاً له وإعظاماً لمقامه ورغبة فيه . وأنفذت إلى أبي طالب غنماً كثيراً ودنانير ودراهم وثياباً وطيباً ليعمل الوليمة ، وأقام أبو طالب لأهل مكّة وليمة عظيمة ثلاثة أيام
____________
1 ـ الإصابة 4 : 275 .
2 ـ اُسد الغابة 5 : 437 .

(368)

حضرها الحاضر والبادي (1) .
( 4 ) قال الزهري : بلغنا أنّ خديجة أنفقت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين ألفاً وأربعين ألفاً (2) .

مكانتها عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
ومن الطبيعي جدّاً أن تحتل خديجة بنت خويلد المكانة المرموقة والعالية عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رحمه الله لِما بذلته من دعم مادي ومعنوي في نصرة الدين الحنيف . لقد عاش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معها خمساً وعشرين سنة لم يتزوّج خلالها بزوجة اُخرى ، كلّ ذلك إعظاماً لها ، وتبجيلاً لمكانها السامي ، ووفاءً لعطائها للإسلام ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحترمها ويثني عليها كثيراً في حياتها وبعد وفاتها .
ففي اُسد الغابة عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة ، فقلتُ : هل كانت إلاّ عجوزاً ، فقد أبدلكَ الله خيراً منها . فغضب حتى اهتزّ مقدم شعره من الغضب ، ثم قال :

« لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء » .



قالت عائشة : فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً (3) .
وقالت : ما غرتُ على أحد من أزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما غرت من خديجة ، وما بي أن أكون أدركتها ، وما ذاك إلاّ لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها ، وكان لمّا يذبح الشاة يتبع بها صدائق
____________
1 ـ وفاة الزهراء عليها السّلام للمقرّم : 7 .
2 ـ تذكرة الخواص : 314 .
3 ـ اُسد الغابة 5 : 539 .

(369)

خديجة فيهديها لهنّ (1) .
وقالت أيضاً : ما رأيتُ خديجة قط ، ولا غرتُ على امرأة من نسائه أشد من غيرتي على خديجة ، وذلك من كثرة ما كان يذكرها (2) .
وحينما كلّمنه أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم في زواج فاطمة عليها السلام وذكرْنَ خديجة ، تقول اُم سلمة : فلمّا ذكرنا خديجة بكى وقال : « خديجة ، وأين مثل خديجة » ، وأخذ في الثناء عليها .

في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
نورد هنا جانباً من أحاديث النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يذكر فيها خديجة بنت خويلد :
( 1 ) قال صلى الله عليه وآله وسلم :
« أتاني جبرئيل فقال : يا رسولالله هذه خديجة قد أتتكَ ومعها إناء فيه أدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السّلام من ربّها ومنّي وبشّرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب » (3) .




( 2 ) روي من وجوه : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال :
« يا خديجة جبريل يُقرئك السّلام » ، وفي بعضها : يا محمّد إقرأ على خديجة من ربّها السّلام (4) .


( 3 ) إنّ جبريل قال : يا محمّد إقرأ على خديجة من ربّها السلام ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم :
« يا خديجة هذا جبريل يقرئك السّلام من ربّك » ، فقالت خديجة : الله هو السّلام ، ومنه السّلام ، وعلى جبريل السّلام (5) .



____________
1 ـ اُسد الغابة 5 : 538 .
2 ـ المستدرك على الصحيحين 3 : 186 .
3 ـ اُسد الغابة 5 : 438 .
4 ـ سير أعلام النبلاء 2 : 85 .
5 ـ الإستيعاب ( المطبوع مع الاصابة ) 4 : 279 .

(370)

( 4 ) قال صلى الله عليه وآله وسلم : « خير نسائها مريم ابنة عمران ، وخير نسائها خديجة » (1) .
( 5 ) قالت عائشة : ما غرت على أحد من نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما غرت على خديجة ، وما رأيتها ، ولكن كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ثم يقطّعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا إلاّ خديجة ؟ ! فيقول : « إنها كانت وكانت ، وكان لي منها الولد » (2) .
( 6 ) قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام فأخذتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلاّ عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها ، فغضب ثم قال :
« لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء » .



قالت عائشة : فقلتُ في نفسي لا أذكرها بعدها بسيئة أبداً (3) .
( 7 ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
« خير نساء العالمين مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد » (4) .



( 8 ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
« أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون » (5) .



____________
1 ـ صحيح البخاري : 4 : 164 .
2 ـ صحيح البخاري 5 : 39 .
3 ـ الإصابة 4 : 275 .
4 ـ اُسد الغابة 5 : 537 .
5 ـ الإستيعاب ( المطبوع مع الإصابة ) 4 : 279 .