ثم جاءت الزهراء سلام الله عليها تطالب بفدك على أنّها ميراث من أبيها ، فأجابها بأنّه سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة .
وبهذه الردود الباطلة منعوا الزهراء عليها السلام حقّها ، وأغضبوها ، وقد اغضبوا الله بذلك .
يقول سليمان كتاني : هبّتْ فاطمة تُطالب بالإرث ، لا لتحصل على الإرث ، بل لترهف حسّاً جماعيّاً لا يزال يهجع في الذل ويرضى بالإستكانة ، لتظهر للحاكم أنّه لن يتمكن من القيادة وفي عينيه دكنة من ظلم ومسحة من اغتصاب ، لتظهر له أنّ فدكاً وكل شبيه بفدك شوكة في عين الخلافة إلى أن تُنزع .
إنّ ألم فاطمة لم يكن مصدره موت أبيها ، أكثر ممّا كان مصدره أنّ رسالة أبيها ما إن عاشت حتى دخلت في حشرجة ، وها هي الرسالة أخذوها للاستعمال ولم يأخذوها للإكتمال ، أخذوها أداة ولم يأخذوها صفوة أناة .
إنّ الذين يغتصبون خلافة ليس كثيراً عليهم أن يختلسوا قطعة أرض ، وإنَّ الذين يعيشون في رهافة الحسّ ـ كفاطمة وعلي ـ ليس كثيراً عليهم أن يضنيهم التبرّم والألم وهم يشاهدون بأعينهم مَشاهد المأساة (1) .

خطبها :
للزهراء سلام الله عليها خطبتان مهمّتان كبرى وصغرى ، حفظهما لنا التأريخ الإسلامي ، فبالإضافة إلى اتّصافهما بالبلاغة والفصاحة والإعجاز ، تعدّان من أم الوثائق التأريخية التي تعكس الحالة التي كان يعيشها المسلمون آنذاك ، وتكشفان لنا عن سبب ما تُعانية الاُمّة الإسلاميّة اليوم من تأخّر وتقهقر واضطراب .
الخطبة الكبرى ذكرها عدد من الأعلام في كتبهم منهم : ابن طيفور في بلاغات النساء ، ومحمّد بن جرير الطبري في دلائل الإمامة ، والطبرسي في الإحتجاج ، والأربلي في كشف
____________
1 ـ فاطمة وتر في غمد : 107 .
(643)

الغمة . وذكر قسماً منها ابن بابويه القمي في مَن لا يحضره الفقيه ، والسيّد المرتضى في الشافي ، والشيخ الطوسي في تلخيص الشافي ، وابن شهرآشوب في المناقب ، وابن أبي الحديث في شرح نهج البلاغة ، وابن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة ، وغيرهم .
ففي الإحتجاج : عن عبدالله بن الحسن باسناده عن آبائه عليهم السلام : أنّه لما أجمع أبوبكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكاً ، وبلغها ذلك ، لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حَفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى دخلت على أبي بكر ، وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة ، فجلست ثم أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتجّ المجلس ، ثم أمهلت هنيئة حتى سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها فقالت :
« الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدّم ، من عموم نعمٍ ابتدأها ، وسبوغ آلاءٍ أسداها ، وتمام مننٍ أولاها ، جمّ عن الإحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أمدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها ، واستحمد إلى الخلائق باجزالها ، وثنى بالندب على أمثالها ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وأنار في التفكير معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيته .
ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها ، كوّنها بقدرته ، وذرأها بمشيّته ، من غير حاجةٍ منه إلى تكوينها ، ولا فائدةٍ له في تصويرها ، إلاّ تثبيتاً لحكمته ، وتنبيهاً على طاعته ، واظهاراً لقدرته ، تعبّداً لبريّته ، واعزازاً لدعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، زيادة لعبادته من نقمته وحياشة لهم إلى جنته .












(644)

وأشهد أنّ أبي محمّداً عبده ورسوله ، إختاره قبل أن أرسله ، وسمّاه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علماً من الله تعالى بما يلي الاُمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع الاُمور .
ابتعثه الله إتماماً لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وانفاذاً لمقادير حتمه ، فرأى الاُمم فرقاً في أديانها ، عكفاً على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله عرفانها ، فأنار الله بأبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمها ، وكشف عن القلوب بُهمها ، وجلّى عن الأبصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ، فأنقذهم من الغواية ، وبصرّهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم .
ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار ، فمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم من تعب هذه الدار في راحة ، قد حفّ بالملائكة الأبرار ، ورضوان الربّ الغفار ، ومجاورة الملك الجبّار ، صلّى الله على أبي ، نبيّه وأمينه وخيرته من الخلق وصفيّه ، والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته » .
ثم إلتفتت إلى المجلس وقالت :
« أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، و اُم ناء الله على أنفسكم ، وبلغائه إلى الاُم م ، زعيم حقّ له فيكم ، وعهد قدّمه إليكم ، وبقية استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بيّنة بصائره ، منكشفة سرائره ، منجليّة ظواهره ، مغتبطة به أشياعه ، قائد إلى الرضوان أتباعه ، مؤد إلى النجاة استماعه .
به تنال حجج الله المنورة ، وعزائمه المفسّرة ، ومحارمه المخدّرة ، وبيّناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة .





















(645)

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق ، والصيام تثبيتاً للإخلاص ، والحجّ تشييداً للدين ، والعدل تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامتنا أماناً للفرقة ، والجهاد عزاً للإسلام ، والصبر معونة على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، وبر الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منساة في العمر ومنماة للعدد ، والقصاص حقناً للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، وترك السرقة ايجاباً بالعفة . وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية فـ( اتقوا الله حقّ تقاته ، ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون ) (1) وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنّه إنّما يخشى الله من عباده العلماء ) (2) .
ثم قالت : أيها الناس اعلموا أني فاطمة ، و أبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، أقول عوداً وبدواً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم ، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (3) فإن تعزوه وتعرفوه ، تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمّي دون رجالكم ، ولنعم المعزى إليه صلى الله عليه وآله وسلم .
فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن مدرجة المشركين ، ضارباً ثبجهم ، آخذاً بأكظامهم ، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يجف الأصنام ، وينكث الهام ، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، حتى تغرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحقّ عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست

















____________
1 ـ آل عمران : 102 .
2 ـ فاطر : 28 .
3 ـ التوبة : 128 .

(646)

شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وانحلت عقد الكفر والشقاق ، وفُهتُم بكلمة الإخلاص في نفر من البياض الخماص .
وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ومهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطىَ الأقدام . تشربون الطرق ، وتقتاتون القدّ ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فانقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ببُهم الرجال وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ، كلمّا أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان ، أو فغرة فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفىَ حتى يطأ جناحها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيّداً في أولياء الله ، مشمّراً ناصحاً مجدّاً كادحاً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم على رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال .
فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهر فيكم حسكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، واطلع الشيطان رأسه من مغرزة هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللعزّة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خِفافاً ، وأحشكمكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير مشربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يُقبر ، إبتداراً زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا ( وإن جهنّم لمحيطة بالكافرين ) (1) .


















____________
1 ـ التوبة : 49 .
(647)

فهيهات فيكم ، وكيف بكم ؟ وأنّى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم ، اُموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزاوجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ؟ أم بغيره تحكمون ؟ ( بئس للظالمين بدلاً ) (1) ، ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) (2) .
ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثم أخذتم تورون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهاتف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجلي ، وإهمال سنن النبيّ الصفي ، تشربون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء ، ويصير منكم على حزّ المدى ، ووخز السنان في الحشا ، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ، أفحكم الجاهلية تبغون ، ( ومَن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) (3) أفلا تعلمون ؟! بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته .
أيّها المسلمون!
أأغلبُ على إرثي ؟!
يابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئتَ شيئاً فريّاً .
أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ إذ يقول : ( وورث سليمان داود ) (4) وقال فيما اقتضى من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : ( فهب
















____________
1 ـ الكهف : 50 .
2 ـ آل عمران : 85 .
3 ـ المائدة : 50 .
4 ـ النمل : 16 .

(648)

لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب ) (1) ، وقال : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) (2) ، وقال : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الاُنثيين ) (3) ، وقال : ( إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين ) (4) .
وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها ؟ أم تقولون إنّا أهل ملّتين لا يتوارثان ؟ أولستُ أنا و أبي من أهل ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي .
فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون و( لكلّ نبأ مستقر ) (5) ، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب عظيم » .
ثم رمت بطرفها نحو الأنصار ، فقالت :
« يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة ، وحضنة الإسلام ، ما هذه الغميزة في حقّي ، والسِّنة عن ظلامتي ؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبي يقول : « المرء يحفظ في ولده » ؟!
سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة ، ولكم طاقة بما أحاول ، وقوّة على ما أطلب وأزاول .














____________
1 ـ مريم : 5 ـ 6 .
2 ـ الأنفال : 75 .
3 ـ النساء : 11 .
4 ـ البقرة : 180 .
5 ـ الأنعام : 67 .

(649)

أتقولون : مات محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فخطب جليل استوسع وهنه ، واستنهز فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، وكسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، واُزيلت الحرمة عند مماته . فتلك والله النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم ، وفي ممساكم ومصبحكم ، يهتف في أفنيتكم هتافاً وصراخاً وتلاوة وألحاناً ، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله ، وحكم فصل ، وقضاء حتم :
( وما محمّد إلاّ رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) (1) .
إيهاً بني قيلة! أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ، ومنتدى ومجمع ؟! تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والعدّة ، والأداة والقوّة ، وعندكم السلاح والجُنّة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنخبة التي انتخبت ، والخيرة التي اختبرت لنا أهل البيت ، قتلتم العرب ، وتحمّلتم الكدّ والتعب ، وناطحتم الاُمم ، وكافحتم البهم ، لا نبرح أو تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام ، وخضعت ثغرة الشك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنى حزتم بعد البيان ؟ وأسررتم بعد الإعلان ؟ ونكصتم بعد الإقدام ؟ وأشركتم بعد الإيمان بؤساً لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، ( وهمّوا باخراج الرسول ، وهم بدأوكم أوّل مرّة ، أتخشونهم ، فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) (2) .



















____________
1 ـ آل عمران : 144 .
2 ـ التوبة : 13 .

(650)

ألا وقد أرى قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم مَن هو أحقّ بالبسط والقبض وخلوتم بالدعة ، ونجوتم بالضيق من السعة ، فمججتم ما دعيتم ، ووسعتم الذي تسوغتم ، فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإنّ الله لغنيّ حميد .
ألا وقد قلتّ هذا على معرفة منّي بالحذالة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنّها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وخور القناة ، وثبة الصدر ، وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخف ، باقية العار ، موسوعة بغضب الجبار وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) (1)وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، ( وانتظر وإنّا منتظرون ) (2) .









فأجابها أبوبكر عبدالله بن عثمان وقال : يا بنتَ رسول الله لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً ، رؤوفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً ، وعقاباً عظيماً ، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخا إلفك دون الأخلاء ، آثره على كلّ حميم ، وساعده في كلّ أمر جسيم . لا يحبكم إلاّ سعيد ، ولا يبغضكم إلاّ شقي بعيد ، فأنتم عترة رسول الله الطيّبون ، الخيرة المنتجبون ، على الخير أدلّتنا ، وإلى الجنة مسالكنا .
وأنت يا خيرة النساء ، وابنة خيرة الأنبياء صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقّك ، ولا مصدودة عن صدقك ، والله ما عدوت رأي رسول الله ولا عملت إلاّ بإذنه ، والرائد لا يكذب أهله ، وإنّي اُشهد الله ـ وكفى به شهيداً ـ أنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :
« نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما


____________
1 ـ الشعراء : 227 .
2 ـ هود : 122 .

(651)

نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلوليّ الأمر بعدنا يحكم فيه بحكمه » .



وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح ، يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفّار ، ويجالدون المردة الفجار ، وذلك بإجماع المسلمين لم أنفرد به وحدي ، ولم استبدّ بما كان الرأي عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك وبين أيديك ، ولا تزوى عنك ، ولا تدخر دونك ، وإنّك وأنت سيّدة اُمّة أبيك ، والشجرة الطيّبة لبنيك ، لاندفع مالكِ من فضل ، ولا يوضع في فرعكِ وأصلكِ ، حكمكِ نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين أن اُخالف في ذلك أباك صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقالت عليها السلام :
« سبحان الله ، ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كتاب الله صادفاً ، ولا لأحكامه مخالفاً ، بل يتبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته ، هذا كتاب الله حكم عدل ، وناطق فصل يقول : ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) (1) ، ويقول : ( وورث سليمان داود ) (2) وبيّن عزّ وجلّ فيما وزع من الأقساط ، وشرع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظّ الذكران والإناث ما أزاح به علّة المبطلين ، وأزال التظنين والشبهات في الغابرين : كلا ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً ، فصبرٌ جميل ، والله المستعان على ما تصفون ) (3) .








فقال أبوبكر : صدق الله ورسوله ، وصدقتْ ابنته ، أنتِ معدن الحكمة ، وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، وعين الحجّة ، لا اُبعد صوابكِ ، ولا اُنكر خطابكِ ، هؤلاء المسلمون بيني وبينكِ ، قلّدوني ما تقلّدت ، وبإتفاق منهم أخذتُ ما أخذت ، غير مكابر ولا مستبد ، ولا
____________
1 ـ مريم : 6 .
2 ـ النمل : 16 .
3 ـ يوسف : 18 .

(652)

مستأثر ، وهم بذلك شهود .
فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى الناس وقالت :
« معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل ، المغضية على الفعل القبيح الخاسر ، أفلا تتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ، كلاّ بل ران على قلوبكم من أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولبئس ما ناولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشرّ ما منه اغتصبتم ، لتجدنّ الله محمله ثقيلاً ، وغيّه وبيلاً ، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان بأورائه الضراء ، وبدا لكم من ربّكم ما لم تكونوا تحتسبون ، وخسر هنالك المبطلون » .






ثم عطفت على قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقالت :
قـد كـان بعـدكَ أنباءٌ وهنبثةٌ * لو كنتَ شاهدها لم تكثر الخطبِ (1)
ثم انكفأت عليها السلام وأمير المؤمنين عليه السلام يتوقّع رجوعها إليه ، ويتطلّع طلوعها عليه ، فلمّا استقرّت بها الدار قالت لأمير المؤمنين عليه السلام :
« يا ابن أبي طالب اشتملت شملة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل ، هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحلة أبي وبلغة ابنيّ ، لقد أجهد في خصامي ، وألفيته ألدّ في كلامي ، حتى حبستني قيلة نصرها ، والمهاجرة وصلها ، وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجتُ كاظمة ، وعدتُ راغمة ، أضرعتَ خدّك ، يوم أضعتَ حدّك ، افترستَ الذئاب ، وافترشتَ التراب ، ما كففتَ قائلاً ، ولا أغنيتَ طائلاً ، ولا خيار لي .
ليتني مُتُّ قبل هنيئتي ، ودون ذلّتي ، عذيري الله منه عادياً ، ومنك حامياً ، ويلاي في كلّ شارق ، ويلاي في كلّ غارب ، ماتَ العمدُ ، ووهَن العضد ،








____________
1 ـ سنذكر بقية الأبيات الشعرية في الفصل القادم .
(653)

شكواي إلى أبي ، وعدواي إلى رّبي . اللَّهم إنّك أشدّ منهم قوّة وحولاً ، وأشد بأساً وتنكيلاً » .


فقال أمير المؤمنين عليه السلام :
« لا ويلَ لكِ ، بل الويل لشانئك ، ثم نهنهي عن وجدِك يا ابنة الصفوة ، وبقية النبوّة ، فما ونيتُ عن ديني ، وأخطأتُ مقدوري ، فإن كنتِ تريدين البلغة فرزقك مأمون ، وما اُعدّ لك أفضل ممّا قطع عنك ، فاحتسبي الله » .
فقالت : « حسبي الله » وأمسكت (1) .





أما الخطبة الثانية الصغيرة فذكرها ابن أبي طيفور في بلاغات النساء ، والطبري في دلائل الإمامة ، والصدوق في معاني الأخبار ، والشيخ الطوسي في الأمالي ، والطبرسي في الإحتجاج ، وابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ، والأربلي في كشف الغمّة ، وغيرهم من الأعلام .
ففي الإحتجاج : قال سويد بن غفلة : لمّا مرضت فاطمة سلام الله عليها المرضة التي توفيت فيها ، دخلت عليها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها ، فقلنَ لها : كيف أصبحتِ من عِلّتك يا بنتَ رسول الله ؟
فحمدت الله وصلّت على أبي ها ثم قالت :
« أصبحتُ والله عائفة لدنياكم ، قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد أن عجنتهم ، وسئمتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحاً لفلول الحدّ ، واللعب بعد الجدّ ، وقرع الصفات ، وصدع القناة ، وختل الآراء ، وزلل الأهواء و( لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أنّ سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ) (2) .
لا جرم لقد قلدتم ربقتها ، وحملتهم أوقتها ، وشننت عليهم غاراتها ، فجذعاً وعقراً ، وبعداً للقوم الظالمين .






____________
1 ـ الإحتجاج 1 : 146 .
2 ـ المائدة : 80 .

(654)

ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوّة والدلالة ، ومهبط الروح الأمين ، والطبن باُم ور الدنيا والدين ؟! ألا ذلك هو الخسران المبين .
وما الذي نقموا من أبي الحسن ؟! نقموا والله منه نكير سيفه ، وقلّة مبالاته لحتفه ، وشدّة وطأته ، ونكاح وقعته ، وتنمّره في ذات الله ، وتا الله ، لو مالوا عن المحجّة اللايحة ، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة ، لردّهم إليها وحملهم عليها ، ولسار بهم سيراً سجحاً ، لا يكلم خشاشه ، ولا يكلّ سائره ، ولا يمل راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً روياً ، تطفح ضفتاه ، ولا يترنق جانباه ، ولأصدرهم بطاناً ، ونصح لهم سراً وإعلاناً ، ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل ، ولا يحظى منها بنائل ، غير ري الناهل ، وشبعة الكافل ، ولبانَ لهم الزاهد من الراغب ، والصادق من الكاذب ، ( ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) (1) ( والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين ) (2) .
ألا هلم فاسمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً!! وإن تعجب فعجب قولهم!! ليت شعري إلى أي سناد استندوا ؟! وإلى أي عماد اعتمدوا ؟! وبأي عروة تمسّكوا ؟! وعلى أيّ ذريّة أقدموا واحتنكوا ؟! ( لبئس المولى ولبئس العشير ) (3) و( بئس للظالمين بدلاً ) (4) استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ( ألا


____________
1 ـ الأعراف : 96 .
2 ـ الزمر : 51 .
3 ـ الحج : 13 .
4 ـ الكهف : 50 .

(655)

إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) (1) ويحهم ، ( أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أم مَن لا يهدي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) (2) ؟!
أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً ، وذعافاً مبيداً ، هنالك يخسر المبطلون ، ويُعرف التالون غبَّ ما أسس الأوّلون ، ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً ، واطمأنوا للفتنة جأشاً ، وابشروا بسيف صارم ، وسطوة معتد غاشم ، وبهرج شامل ، واستبداد من الظالمين ، يدع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ، فيا حسرة لكم ، وأنّى بكم وقد عمّيت عليكم ، ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) (3) .








قال سويد بن غفلة : فأعادت النساء قولها عليها السلام على رجالهن ، فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين ، وقالوا : يا سيّدة النساء لو كان أبوالحسن ذكر لنا هذا الأمر قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره .
فقالت عليها السلام :
« إليكم عني ، فلا عذر بعد تعذيركم ، ولا أمر بعد تقصيركم » (4) .

شعرها :
جلّ الشعر الذي ذكره أهل السير للزهراء عليها السلام هو في رثاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وحقّ لها أن ترثيه ، فهي مضافاً لما عانته من ألم الفاجعة وشدّة المصيبة ، وعظيم النازلة بفقده عليه الصلاة والسّلام ، تُشاهد انحراف الاُمة وانتكاستها ، وانقلابها الذي أشار إليه القرآن الكريم مسبقاً : ( وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرُسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن
____________
1 ـ البقرة : 12 .
2 ـ يونس : 35 .
3 ـ هود : 28 .
4 ـ الإحتجاج 1 : 149 .

(656)

ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) (1) .
وحتى بكاؤها عليها السلام الذي ضجر منه أهل المدينة كان للأمرين معاً ، ولعلّ انقلاب الاُمّة وانحرافها كان أوجع قلبها ، وأجرى لمدامعها . وهنا نسجل ما ورد من شعرها في رثاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (2) .
( 1 ) قالت عليها السلام :
أغبر آفاق السماء فكـوّرت * شمسُ النهار وأظلم العصران
والأرض من بعد النبيّ كئيبة * أسفاً عـليه كـثيرة الأحزان
فليبكه شرق العباد وغربهـا * وليبكـه مـضر وكـلّ يماني
وليبكه الطود الأشم وجـوده * والبيت والأستـار والأركـان
يا خاتم الرسل المبارك ضوءه * صلّى عليكَ منزّل القرآن (3)
( 2 ) ولها عليها السلام بعد أن أخذت قبضة من قبره الشريف فشمتها :
ماذا على مَن شمّ تـربة أحمدٍ * أن لا يشم مـدى الزمان غوالياً
صُبّت عليّ مصائب لـو أنّهـا * صبّت على الأيام عدن ليالياً (4)
( 3 ) ولها عليها السلام وقد لحقت أمير المؤمنين عليه السلام لتخلّصه ، فلم تتمكن من ذلك ، فعدلت إلى قبر أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فأشارت إليه بحرقة ونحيب قائلة :
نفسي على زفراتها محبوسة * يا ليتها خـرجت مـع الزفرات
لا خير بعدكَ في الحياة وإنّما * أبكي مخافة أن تطول حياتي (5)
( 4 ) ولها عليها السلام بعد الخطبة وقد انعطفت على قبر أبيها صلى الله عليه وآله وسلم :
____________
1 ـ آل عمران : 144 .
2 ـ فاطمة الزهراء عليها السلام لعلي دخيل : 124 .
3 ـ الفصول المهمة : 132 .
4 ـ الفصول المهمة : 132 ، المشرع الروي : 88 ، الدر المنثور : 360 .
5 ـ بيت الأحزان : 48 .