وبعد أن أراد الله لرسوله الهجرة ليتسنّى له بناء الدولة الإسلامية الكبرى وتشييد دعائمها منطلقة من يثرب ، فكان أبوسلمة وزوجته أوّل الناس استجابة لهذه الهجرة يخرج بزوجته وابنه ، فتتصدّى قريش لمنعه ، فيفلت منها وتبقى زوجته وابنها في أيديهم .
قالت اُم سلمة : لمّا أجمع أبوسلمة الخروج إلى المدينة رَحلَ بعيراً له وحملني وحمل معي ابني سلمة ثم خرج يقود بعيره ، فلمّا رآه رجال من بني المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتنا هذه ، علامَ تُترك تسير بها في البلاد ، ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوني .
وغضبت عند ذلك بنو عبدالأسد ، وأهووا إلى سلمة وقالوا : لا والله لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من صاحبنا ، فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده ، وانطلقوا به بنو أسد رهط أبي سلمة ، وحبسني بنو المغيرة عندهم ، وانطلق أبوسلمة حتى لحق بالمدينة ، ففرّق بيني وبين زوجي وبين إبني .
فكنتُ أخرج كلّ غداة فأجلس بالأبطح ، فما أزال أبكي حتى اُم سي سنة أو قريبها ، حتى مرّ بي رجل من بني عمي من بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة : ألا تخرجون من هذه المسكينة فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها .
فقالوا لي : إلحقي بزوجك إن شئت ، وردّ علي بنو عبدالأسد عند ذلك ابني ، فرحلت بعيري ووضعت ابني في حجري ثم خرجت اُريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله ، فقلت : أتبلغِ بمن لقيت حتى اُقدم على زوجي ، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبدالدار ، فقال : أين يا ابنة أبي اُميّة ؟
قلت : اُريد زوجي بالمدينة .
قال : هل معكِ أحد ؟
فقلت : لا والله ، إلاّ الله وابني هذا .
فقال : والله مالك من منزل ، فأخذ بخطم البعير ، فانطلق معي يقودني ، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب كان أكرم منه ، إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها ،


(779)

فإذا أردنا الرواح قام إلى بعيري فقدّمه ، فرحله ، ثم استأخر عني وقال : إركبي ، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى نزل ، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة ، فلمّا نظر إلى قريه بني عمرو بن عوف بقباء قال : زوجك في هذه القرية ، وكان أبوسلمة نازلاً بها ، فدخلتها على بركة الله تعالى ، ثم انصرف راجعاً إلى مكة .
وكانت تقول : ما أعلم أهل بيت أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة ، وما رأيتُ صاحباً قطّاً كان أكرم من عثمان بن طلحة ، وقيل : إنّها أوّل ظعينة هاجرت إلى المدينة (1) .
وفي المدينة المنوّرة تحقّقت اُم نية اُم سلمة ، فهي في ظلّ زوجها ، وتحت رعاية الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم ، تمارس عبادتها بلا خوف ولا وجل ، فتحسب نفسها أسعد الخلق طراً .
وكان حبّها لزوجها قد ملأ قلبها الكبير ، فأرادت أن تستأثر بهذا الحبّ حتى بعد هذه الحياة فقالت له : بلغني أنّه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة ثم لم تتزوج بعده إلاّ جمع الله بينهما في الجنة ، وكذا اذا ماتت إمرأة وبقي الرجل بعدها ، فتعال اُعاهدك أن لا أتزوّج بعدك ولا تتزوّج بعدي .
فقال لها أبوسلمة : أتطيعيني ؟
قالت : ما استأمركَ إلاّ وأنا اُريد أن أطيعكَ .
قال : اذا متُ فتزوّجي ، ثم قال : اللّهم اُرزق اُم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني لا يخزيها ولا يؤذيها .
قالت : فلمّا مات قلتُ : مَن هذا الذي هو خير لي من أبي سلمة ، فلبثت ما لبثت ثم تزوّجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) .
وتتحقّق اُمنية أبي سلمة في الجهاد والسير براية الإسلام قدماً ، فها هي قريش تتجنّد لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى بدر ، ثم تتجمع مرة اُخرى باُحد ، ومن الطبيعي أن يكون أبوسلمة في طليعة الجيش الإسلامي ، فيصيبه سهم فيجرحه جرحاً بليغاً ، وبقي شهراً يداوي نفسه
____________
1 اُسد الغابة 5 : 589 .
2 الإصابة 4 : 408 .

(780)

حتى ظنّ أنّه برىَ من جرحه ويخرج للجهاد مرة اُخرى .
ويبلغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّ طليحة وسلمة ابني مخلد يعدان على رأس بني أسد لمهاجمة المدينة ويحرضان على ذلك؛ ليصيبا من أطراف المسلمين ويغنما من نعمهم ، فعقد ل أبي سلمة على مائة وخمسين ، فيهم أبوعبيدة الجراح وسعد بن أبي وقاص واُسيد بن خضير ، وأمرهم بالاستخفاء نهاراً والسير ليلاً وسلوك الطرق المجهولة؛ لكيلا يعرف أمرهم فيتأهب لهم العدو .
واتّبعَ أبوسلمة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صحبهم وهم على غير استعداد ، فخطب رجاله يحضهم على الثبات والنصح في الجهاد ، ثم حمل بهم حملة صادقة ، فما هي إلاّ هجمة إيمان حتى كانت الدائرة تقع على المشركين ، ولم يقووا على الثبات ، ثم وجّه في طلب الفارين ، ورجع بعد ذلك بالغنيمة والنصر يعيد للمسلمين بعض هيبتهم ، فيَكُمَّ الأفواه ويلجم النفوس ، ويدخل في روع المشركين أنّ الإسلام على عزيمة رجاله جدير أن لا تقف قوّة أمامه (1) .
يرجع أبوسلمة ، وترجـع إليه آلامه من جراحه يوم اُحد التي كانت قد اندملت على وغل ، ويتضاعف الألم ويتضـاءل الأمل هذه المرة في الشفاء ، وتفشل المراهم والعلاجات ، فتكون نهاية المطـاف وخاتمة الشهيد العظيم . وفي لوعة الأسى والحزن ومضض المصيبة تتذكّر اُم سلمة حديثاً سمعته من زوجها الراحل عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاءها يوماً فقال :
« لقد سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً أحبّ إليّ من كذا وكذا لا أدري ما أعدل به ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « لا يصيب أحداً مصيبة فيسترجع عند ذلك ويقول : اللّهم عندكَ أحتسب مصيبتي هذه ، اللّهم أخلفني فيها خيراً منها ، إلاّ أعطاه الله عز وجلّ » .





قالت اُم سلمة : فلما اُصبت بأبي سلمة قلت : اللّهم عندك أحتسب مصيبتي هذه ، ولم تطب نفسي أن أقول : اللّهم أخلفني فيها بخير منها ، ثم قالت : مَن خير من أبي سلمة ، أليس ، أليس ،
____________
1 انظر اُم سلمة لمحمد زكي بيضون : 28 .
(781)

ثم قالت ذلك . فلمّا انقضت عدّتها أرسل إليها أبوبكر يخطبها فأبت ، ثم أرسل إليها عمر يخطبها فأبت ، ثم أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبها ، فقالت : مرحباً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) .

في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
عاشت اُم سلمة رضوان الله تعالى عليها في بيت زوجها الأوّل حياةً سعيدة ملؤها الحبّ والإخلاص والتفاني ، كانت تنظر لزوجها بعين الإحترام والإكبار حتى ظنّت أنّه أفضل رجل ، وأنّها لن تظفر بأفضل منه ، إلاّ أنّ الله سبحانه وتعالى عوّضها بخير البريّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .
فانتقلت إلى بيت زوجها الثاني بيت الرحمة والرضوان ، فحرصت على أن ترضيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فنراها تتحبّب إليه وتفعل ما يحبه وتميل له نفسه ، فرأته يحب خديجة فأحبتها هي أيضاً ، ورأته يحب فاطمة وعلي والحسن والحسين فأحبتهم هي أيضاً وتفانت في وأخذت تلطّف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وتهتم بما يلذ له من مأكل ومشرب فتعدّه له .
قالت عائشة : كان رسول الله يطوف على نسائه ، فإن كان يومها قعد عندها وإلاّ قام ، فكان إذا دخل بيت اُم سلمة يحتبس عندها ، فقلت أنا وحفصة : ما نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمكث عندها إلاّ أنّه يخلو معها .
قالت : واشتد ذلك علينا ، حتى بعثنا مَن يطلع لنا ما يحبسه عندها ، فإذا هو صار إليها أخرجت له عكة من عسل فتحت له فمها فيلعق فيها لعقاً ، وكان العسل يعجبه .
فقالتا : ما من شيء أكره إليه من أن يقال له : نجد منكَ ريح شيء ، فإنّه يقول : من عسل أصبته عند اُم سلمة ، فقولي له : أرى نحله جرس عرفطا .
فلمّا دخل على عائشة فدنا منها قالت : إنّي لأجد منك شيئاً ، ما أصبت ؟فقال : « عسل من بيت اُم سلمة » .
فقالت : يا رسول الله أرى نحله جرس عرفطا .
____________
1 انظر صفة الصفوة 2 : 21 ، اُم سلمة لعلي دخيل : 12 .
(782)

ثم خرج من عندنا فدخل على حفصة فدنا منها فقالت مثل الذي قالت عائشة ، فلمّا قالتا جميعاً اشتدّ عليه ، فدخل على اُم سلمة بعد ذلك فأخرجت له العسل ، فقال : « أخّريه عني لا حاجة لي فيه » .
قالت عائشة : فكنتُ والله أرى أن قد أتينا أمراً عظيماً ، منعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً كان يشتهيه (1) .
نعم ، هكذا كانت اُم سلمة ترعى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ختمت حياتها مع الرسول على أحسن ما يكون ، ولم يحفظ التأريخ شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشين بكرامتها ، بينما حفظ له عليه السلام في غيرها من أزواجه الكثير الكثير .
وقد روى ابن سعد في الطبقات الكبرى عدة روايات تتعلّق بزواج اُم سلمة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
قال : أخبرنا محمّد بن عمر ، حدّثنا عمر بن عثمان ، عن عبد الملك بن عبيد ، عن سعيد بن عبدالرحمان بن يربوع ، عن عمر بن أبي سلمة قال :
خرج أبي إلى اُحد فرماه أبوسلمة الجشمي في عضده بسهم ، فمكث شهراً يداوي جرحه ثم برىَ الجرح ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبي إلى قطن في المحرّم على رأس خمسة وثلاثين شهراً ، فغاب تسعاً وعشرين ليلة ، ثم رجع فدخل المدينة لثمان خلون من صفر سنة أربع والجرح منتقض ، فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة ، فاعتدّت اُمي وحلّت لعشر بقين من شوّال سنة أربع ، فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليالٍ بقين من شوال سنة أربع ، وتوفيّت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين .
وقال : أخبرنا محمّد بن محمّد بن عمر ، حدّثنا مجمع بن يعقوب ، عن أبي بكر بن محمّد بن عمر عن أبي سلمة ، عن أبي ه ، عن اُم سلمة :
« أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها : « إذا أصابتك مصيبة فقولي : اللّهم أعطني
____________
1 اُم سلمة : 38 .
(783)

أجر مصيبتي وأخلفني خيراً منها » . فقلتها يوم توفي أبوسلمة ، ثم قلت : ومَن لي مثل أبي سلمة ؟ فعجّل الله لي خيراً من أبي سلمة .



وقال : أخبرنا يزيد بن هارون ، عن عبدالملك بن قدامة الجمحي ، قال : حدّثني أبي عن اُم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، عن أبي سلمة أنّه حدّثها أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :
« ما من عبد يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمره الله به من قول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اللّهم آجرني في مصيبتي هذه وعوّضني خيراً منها ، إلاّ آجره في مصيبته ، وكان قمناً أن يعوّضه الله منها خيراً منها » .




فلمّا هلك أبوسلمة ذكرتُ الذي حدّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اللّهم آجرني في مصيبتي وعوضني منها خيراً منها ، ثم قلت : إنّي اُعاض خيراً من أبي سلمة ؟ قالت : فقد عاضني خيراً من أبي سلمة ، وأنا أرجو أن يكون الله قد آجرني في مصيبتي .
وقال : أخبرنا أحمد بن إسحاق الحضرمي ، حدّثنا عبدالواحد بن زياد ، حدّثنا عاصم الأحول عن زياد بن أبي مريم قال : قالت اُم سلمة لأبي سلمة : بلغني أنّه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة وهي من أهل الجنة ثم لم تتزوّج بعده إلاّ جمع الله بينهما في الجنة ، كذلك إذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها ، فتعال اُعاهدك ألا تتزوّج بعدي ولا أتزوّج بعدك .
فقال : أتطيعيني ؟
قلت : ما استأمرتك إلاّ وأنا اُريد أن أطيعك .
قال : فإذا متُ فتزوجي ، ثم قال : اللّهم ارزق اُم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني لا يحزنها ولا يؤذيها .
قالت : فلمّا مات أبوسلمة قلتُ : مَن هذا الفتى الذي هو خير لي من أبي سلمة ؟ فلبثت ما لبثت ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام على الباب فذكر الخطبة إلى ابن أخيها أو إلى ابنها ، فقالت اُم سلمة : أرد على رسول الله ، أو أتقدّم عليه بعيالي .
قالت : ثم جاء الغد فذكر الخطبة ، فقلتُ مثل ذلك ، ثم قالت لوليّها : إن عاد رسول


(784)

الله صلى الله عليه وآله وسلم فزوّج ، فعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتزوّجها .
وقال : أخبرنا أبومعاوية الضرير وعبيدالله بن موسى قالا : حدّثنا الأعمش عن شقيق ، عن اُم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
« إذا حضرتم فقولوا خيراً ، فإنّ الملائكة يؤمّنون ما تقولون » .


فلمّا مات أبوسلمة أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقلت يا رسول الله : إنّ أباسلمة قد مات فكيف أقول ؟
قال : « قولي : اللّهم اغفر لي وله وأعقبني منه » .
قال أبومعاوية : « عقبى حسنة » ، وقال عبيدالله : « عقبى صالحة » .
قال : قالت فأعقبني الله خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال : أخبرنا معن بن عيسى ، حدّثنا مالك بن أنس ، عن ربيعة بن عبدالرحمان ، عن اُم سلمة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :
« من اُصيب بمصيبة فقال ما أمره الله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اللّهم آجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها ، فعل الله ذلك به » .



قالت : فلمّا توفّي أبوسلمة قلتُ : ومَن خير من أبي سلمة ؟!
ثم قلتها فأعقبها الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فتزوّجها .
وقال : أخبرنا محمّد بن مصعب القرقساني ، حدّثنا أبوبكر بن عبدالله بن أبي مريم ، عن حمزة بن صيب : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على اُم سلمة يُعزيها بأبي سلمة فقال : « اللّهم عزّ حزنها واجبر مصيبتها وأبدلها به خيراً منها » ، قال : فعزّى الله حزنها ، وجبر مصيبتها ، وأبدلها خيراً منها وتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال : أخبرنا عفان بن مسلم ، حدّثنا حمّاد بن سلمة ، أخبرنا ثابت البناني ، قال : حدّثنا ابن عمر بن أبي سلمة بمنى عن أبيه : أنّ اُم سلمة قالت : قال أبوسلمة : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا أصاب أحدكم مصيبةً فليقل : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اللّهم عندك أحتسب مصيبتي ، فآجرني فيها وأبدلني بها ما هو خير منها » .





(785)

فلّما احتضر أبوسلمة قال : اللّهم أخلفني في أهلي بخير .
فلمّا قبض قلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اللّهم عندك أحتسب مصيبتي فآجرني فيها ، وأردتُ أن أقول : وأبدلني بها خيراً منها فقلت : مَن خير من أبي سلمة ، فمازلت حتى قلتها .
فلمّا انقضت عدّتها خطبها أبوبكر فردّته ، ثم خطبها عمر فردّته ، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : مرحباً برسول الله وبرسوله ، أخبر رسول الله أنّي امرأة غيرى ، وأنّي مصبيّة ، وأنّه ليس أحد من أوليائي شاهد .
فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
« أما قولك إنّي مصبيّة ، فإنّ الله سيكفيك صبيانك ، وأما قولك إني غيرى ، فسأدعو الله أن يذهب غيرتك ، وأما الأولياء فليس أحد منهم شاهد ولا غائب إلاّ سيرضاني » .



قال : قلت : يا عمر قم فزوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أما انّي لا أنقصك مما أعطيت اُختك فلانة » .
قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتيها ، فإذا جاء أخذت زينب فوضعتها في حجرها لترضعها ، فكان رسول الله يستحي ويرجع ، فعل ذلك مراراً ، ففطن عمار بن ياسر بما تصنع ، قال : فأقبل ذات يوم وجاء عمار وكان أخاها لاُمها فدخل عليها فامتشطها من حجرها وقال : دعي هذه المقبوحة التي آذيتِ بها رسول الله ، فدخل الرسول فجعل يقلّب بصره في البيت يقول : « زناب ما فعلت زناب » .
قالت : جاء عمّار فذهب بها .
قال : فبنى رسول الله بأهله ، ثم قال : « إن شئتِ أن أسبع لك سبّعت للنساء » .
وقال : أخبرنا محمّد بن عمر ، حدّثنا عبدالرحمان بن أبي الزناد ، عن هشام بن عمرة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما تزوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حزنتُ حُزناً شديداً لِما ذكروا لنا من جمالها ، قالت : فتلطّفّت لها حتى رأيتها ، فرأيتها والله أضعاف ما وصفت لي من الحسن والجمال .
قالت : فذكرت ذلك لحفصة وكانتا يداً واحدة فقالت لا والله إنّ هذه إلاّ الغيرة ، ما هي


(786)

كما يقولون ، فتلطّفّتْ لها حفصة حتى رأتها ، فقالت : قد رأيتها ولا والله ما هي كما تقولين ولا قريب وانّها لجميلة ، قالت : فرأيتها بعد فكانت لعمري كما قالت حفصة ، ولكني كنت غيرى .
وقال : أخبرنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، حدّثنا زهير ، حدّثنا محمّد بن إسحاق ، حدّثني عبدالله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عبدالملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشام المخزومي ، عن أبيه : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوّج اُم سلمة في شوال ، وجمعها إليه في شوال .
وقال : أخبرنا أحمد بن محمّد بن الوليد الأزرقي المكي ، حدّثني مسلم بن خالد ، عن موسى بن عقبة ، عن اُمّه ، عن اُم كلثوم قالت : لما تزوّج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اُم سلمة قال لها : « إنّي قد أهديتُ إلى النجاشي أواقي من مسك وحلّة ، وإني لا أراه إلاّ قد مات ، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلاّ سترد إليّ ، فإذا ردّت إليّ فهي لكِ » .




قال : فكان كما قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مات النجاشي وردّت إليه هديته ، فأعطى كلّ امرأة من نساءه اُوقية اُوقية من المسك ، وأعطى سائره اُم سلمة وأعطاها الحلّة .
وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدل على منزلتها من بين زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم ، وروى ابن سعد أيضاً روايات اُخرى تدلّ على مكانتها العالية ، وسمو أخلاقها (1) .
وروى الحاكم النيسابوري أيضاً عدّة روايات تتعلّق بزواجها من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (2) .

نصرتها للزهراء سلام الله عليها :
شهد المسلمون بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الإنقلاب الكبير ، الذي نبّه عليه القرآن الكريم قبل وقوعه :
( وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرُسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على


____________
1 طبقات ابن سعد 8 : 86 .
2 المستدرك على الصحيحين 4 : 16 .

(787)

أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) (1) .


نعم شهد المسلمون ذلك الإنقلاب الذي هو أساس فرقتهم ، ونقطة ضعفهم ، وما أعظم كلمة ( ليوبولد فايس ) حيث يقول : إنّ العنصر الذي خلق قوّة العالم الإسلامي من قبل هو المسؤول الآن عن ضعف المسلمين ، فإن المجتمع الإسلامي بُني مند أوّله على اُسس دينية ، وضعف هذا الأساس قاد بالضرورة إلى ضعف البناء الثقافي فيه (2) .
فالصحابة الأوّلون من مهاجرين وأنصار هم المسؤولون عما يعانيه المسلمون اليوم من خلاف وتفرقة وتفكك ، نعم لقد فاجأ المسلمون خطب رهيب أنساهم مصيبتهم في نبيهم العظيم ، فقد شاهدوا نفراً من الصحابة على شكل مظاهرة عنيفه يأخذون مَن وَجدوه في الطريق لبيعة أبي بكر ، ولا يسمحون له بالتردّد ، وما هي إلاّ ساعة ومثلها حتى أصبح أبوبكر أميراً تصدر منه الأوامر ، لقد تمّ الأمر لأبي بكر مع معارضة من بعض كبار الصحابة لا يستهان بمقامهم قد انضموا الى الإمام عليه السلام محتمين ببيته من الحاكمين الجدد .
واعتقد الحكام أنّ ما أحرزه من نصر هو غير تام وناقص؛ لعدم بيعة اُولئك النفر لأهميتهم ، وما لهم من رصيد في قلوب المسلمين ، وفكّروا فلم يجدوا بدّاً من مداهمة هؤلاء النفر وأخذهم بالقوة ليبايعوا قهراً ، وترجّح لهم هذا المعنى مع ما فيه من مخاطر ، فهم يقتحمون بيت فاطمة عليها السلام بضعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، والتي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، لكنهم لم يجدوا طريقاً سواه .
روى البلاذري : أنّ أبابكر أرسل إلى علي يريد البيعة منه فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة ، فتلقته فاطمة على الباب فقالت فاطمة : « يا ابن الخطاب أتراك مُحرقاً عليّ بابي » ؟!!
قال : نعم ، وذلك أقوى فيما جاء بك أبوك (3) .
نعم أخرجوا الإمام عليه السلام مقيّداً بحمائل سيفه تحفّ به أصحابه ، وفاطمة الزهراء سلام الله
____________
1 آل عمران : 144 .
2 الإسلام على مفترق الطرق : 12 .
3 أنساب الأشراف 1 : 586 .

(788)

عليها تشاهد هذا المشهد المؤلم وما تلاه من تعسّفات الحاكمين ، فخرجت وأنكرت عليهم بخطبتها العصماء في مسجد أبيها صلى الله عليه وآله وسلم ، منبّهة المسلمين على جناية القائمين بالأمر وتعدّيهم ، وقد هزّت خطبتها المسلمين ، وكادت أن تزلزل باُولي الأمر ، لولا تدارك أبي بكر للموقف .
وعادت الصدّيقة صلوات الله عليها إلى منزلها منكسرة من النصرة ، وبدا لأبي بكر أن يغيّر الموقف ، فهو كما عهد فيه يحسن استعمال اللين كما يحسن استعمال الشدّة ، فقد احتمل أن تأتي فاطمة عليها السلام مرّة اُخرى وتخطب ، وربما لا يحالفه الحظ في الهيمنة على الموقف واستعمال المغالطة كما حالفه في هذه المرة ، فرأى أن يتوعّد ويتهدّد .
وفعلاً فقد تكلّم أبوبكر وتطاول على فاطمة الزهراء سلام الله عليها ، كما تطاول على مقام الإمام علي عليه السلام مستعملاً الكناية دون التصريح ، ولم يجرأ أحد على الإنكار عليه لشدّة اللهجة وخشية الصولة .
ولكن اُم سلمة رضي الله عنها كانت وحدها التي أنكرت عليه ، قالت له :
ألمثل فاطمة يقال هذا ؟! وهي والله الحوراء بين الإنس ، والآنس للنفس ، ربّيت في حجور الأنبياء ، وتناولتها أيدي الملائكة ، ونمت في المغارس الطاهرات ، ونشأت خير منشأ ، وربيت خير مربى .
أتزعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرّم عليها ميراثه ولم يُعلمها ؟! وقد قال الله ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (1) ، فأنذرها وجاءت تطلبه وهي خيرة النسوان ، و اُم سادة الشباب ، وعديلة ابنة عمران ، وحليلة ليث الأقران ، تمّت بأبيها رسالات ربه ، فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر ، فيوسّدها بيمينه ويدثّرها شماله ، رويداً فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمرأى لأعينكم ، وعلى الله تردّون ، فواهاً لكم وسوف تعلمون .








وخشي أبوبكر أن يجيبها فيفتح باباً هو في غنى عن فتحه ، لكنّه حرمها عطاءها ذلك العام
____________
1 الشعراء : 214 .
(789)

عقوبة على المعارضة (1) .

مع عمر بن الخطّاب :
لاُم سلمة نهج خاص في حياتها مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي قبل أن تدخل بيته مشبعة بتعاليم الإسلام وبالحبّ لله ورسوله ، فهي قرينة رجل في طليعة المسلمين السابقين ، هاجرت معه الى الحبشة ، وتحمّلت المشاق في سبيل إعلاء كلمة الله ، وقد زادها الاقتران بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم إيماناً وبصيرة ، فهي حريصة على العمل بما يرضيه وتجنّب ما يسخطه ، وهي حريصة على حبّ مَن يحب وبغض مَن يبغض ، وهي حريصة على استماع حديثه الشريف ، فهي منصهرة به صلى الله عليه وآله وسلم انصهاراً كليّاً ، وهي عارفة بمكانتها ومكانة صويحباتها ، وأنّهنّ زوجات أعظم رجل خلقه الله سبحانه وتعالى .
لهذا وغيره ساءها أن يتدخّل بعض الصحابه في شؤونهن المتعلّقة بزوجهن العظيم ، فقد وقعت بينها وبين عمر بن الخطاب مشادّة ، وذلك أنّ عمر دخل على اُم سلمة فقال : يا اُم سلمة وتكلمنّ رسول الله وتراجعنه في شيء ؟
فقالت اُم سلمة : واعجباه ، وما لكَ والدخول في أمر رسول الله ونسائه ، والله إنّا لنكلّمه ، فإن حمل ذلك كان أولى به ، وإن نهانا كان أطوع عندنا منك .
قال عمر : فندمت على كلامي لنساء النبيّ لما قلت (2) .
وذكر الدكتور علي ابراهيم حسن ، والدكتورة بنت الشاطىَ أنّها قالت له : عجباً لك يا ابن الخطاب ، قد دخلتَ في كلّ شيء حتى تبغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه (3) .
وقال الحاج علي دخيل : ولا أدري سبب إنكارها على عمر هذا التدخل ، أهو ما تشعر به من عزّة ورفعة ، فهي قرينة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم و اُم المؤمنين ، فهي أسمى من أن يتدخّل
____________
1 دلائل الإمامة : 39 ، اُم سلمة لعلي دخيل : 46 .
2 الطبقات الكبرى 8 : 137 .
3 نساء لهن في التأريخ الإسلامي نصيب : 38 ، موسوعة آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : 315 .

(790)

بينها وبين زوجها الكريم شخص مهما كان ؟
أو أرادت أن تُنبّه عمر بأنّ لكلّ شخص حدّاً يجب أن لا يتجاوزه ؟
أو أرادت أن تعلّم نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يسمحن لأحدٍ أن يتحدّث إليهن وشبهه ، فهن أرفع مقاماً وأعلى منزلة من ذلك ، وأن يبقين بالمستوى الرفيع الذي جعلهنّ القرآن الكريم :
( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً ) (1) .



أو أنّها أرادت لزوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يعشن بعيداً عن هؤلاء ، وتقطع صلتهن بالرجال؛ حذاراً من تزايد هذه الصلات ، فيستغلن للاقتحام في أغراض سياسية وغيرها كما حدث بالفعل ؟
وكيف كان فقد كان موقفها مشرّفاً ، ذكره لها التأريخ بإكبار (2) .

مع عثمان بن عفان :
شهد المسلمون في عهد عثمان وضعاً جديداً لم يشهدوه من قبل ، فحكّام البلاد الإسلامية بنو اُميّة ، وقد اتخذوا دين الله دخلاً ، وعباده خولاً ، وماله دولاً ، فكانت سيرته لا سيما في الأموال مدعاة لإثارة الرأي العام والإنكار عليه .
لقد أنكر المسلمون أعمال الخليفة ، لا سيّما كبار الصحابة ، وحاولوا إيقافه عند حدّه ، والحيلولة بينه وبين عاطفته . وذهبت كلّ هذه المساعي سدى ، وبقي حتى آخر مرحلة من حياته تحت سيطرة ابن عمّه وصهره مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ .
وفي الوقت الذي يحدّثنا فيه التأريخ عن المعارضة التي وقفت أمام الخليفة ، فقد كانت تكمن خلفها دوافع وأهداف لبعض أعلام المعارضين ، فعائشة كانت من أشدّ الناس عليه ، فقد كانت تخرج قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس وتقول : هذا قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبل وعثمان
____________
1 الأحزاب : 31 .
2 اُم سلمة : 40 .

(791)

وعثمان قد أبلى سنّته ، ثم تقول : اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً . . . أشهد أنّ عثمان جيفه على الصراط (1) . إلى مواقف كثيرة لها .
لكنّها كانت مقتنعة بأنّ الأمر من بعده لابن عمّها طلحة بن عبيدالله التيمي ، ولمّا علمت بيعة المسلمين للإمام أمير المؤمنين عليه السلام قالت : قتل عثمان مظلوماً ، والله لأطلبنّ بدم فقوموا معي .
فقال لها عبيد بن اُم كلاب : لِمَ تقولين هذا ؟ فوالله لقد كُنتِ تحرّضين عليه وتقولين : اقتلوا نعثلاً قتله الله فقد كفر .
فقالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه .
فقال عبيد :
ومنكِ البُكاء ومـنكِ العَويـل * ومنكِ الريـاح ومـنكِ المطر
وأنت أمـرتِ بـقتل الإمـامِ * وقلتِ لنـا : إنّـه قَـد كفـر
فهبنـا أطعنـاك فـي قتلـهِ * وقـاتله عندنـا مَـن أمـر
ولم يسقط السقف من فـوقنا * ولـم تنكسف شمسنا والقمر
وقد بايـع النـاس ذا تـدرء * يـزيل الشبـا ويقيم الصعر
ويـلبس للحـرب أوزارهـا * ويا من وقيمثل منقد عثر (2)
ومن الطبيعي أن تكون اُم سلمة من الناقمين على عثمان ، شأنها شأن كبار المهاجرين والأنصار وجمهور المسلمين ، ولكنّا نراها وهي ناقمة تجتمع بالخليفة محاولة توجيهه وارجاعه للطريق المستقيم ، فتقول له وهي تعظه :
يا بني مالي أرى رعيتك عنك نافرين ، وعن جناحك ناقدين ، لا تعف طريقاً كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبها ، ولا تقتدح بزند كان عليه السلام أكباه .
ويجيبها عثمان : أما بعد ، فقد قلتِ فوعيتُ ، وأوصيتِ فقبلتُ ، ولي عليكِ حقّ النصحة ، إن
____________
1 شرح نهج البلاغة 20 : 22 .
2 تذكرة الخواص : 67 .

(792)

هؤلاء النفر رعاع . . . (1)
وأنتَ رعاك الله أيها القارىَ إذا تأمّلت كلمات هذه المرأة العظيمة تجدها قد جمعت الوعظ المتّزن والإرشاد المركّز والتوجيه الهادف ، ولم يحدّثنا التأريخ عن موقف لها مع عثمان استعملت فيه التهريج والتأليب عليه .
ومَن درس حياة هذه المرأة وجدها في كلّ الأوار التي مرّت بها تستعمل الحكمة وتلوذ بالعقل ، لم يستخفها حبّ ولم يستجشها عداء ، حتى أنّها بعد مقتل عثمان وطلب عائشة بدمه ونقمة اُم سلمة عليها في ذلك وكلامها معها ووعظها لها ، مضافاً لذلك حبها الصادق للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، مع هذا كلّه لم تخرج مع الإمام عليه السلام مراغمة لعائشة ، بل تكتفي بإرسال ولدها كي يكون جندياً في جيشه عليه السلام ، مدّلاً على نقمتها واستيائها من تصرفات عائشة (2) .

مع عائشة :
بعد رحيل الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ، مارست اُم سلمة دورها الريادي في المجتمع ، مستغلةُ مكانتها الرفيعة ، ومستعينةً بفصاحة لسانها ، نراها تُجيب هذا وترشد ذاك ولم تترك مقولة الحقّ أبداً .
وحينما عزمت عائشة على الخروج على الإمام علي سلام الله عليه ذهبت لاستماله اُم سلمة لعلمها بمنزلتها ، إلاّ أنّ اُم سلمة وعظتها وأرشدتها وذكّرتها بأشياء تناستها ، وأقامت الحجّة الدامغة عليها ، لذلك رجعت عائشة عن غيها ، لولا أن عبدالله بن الزبير نفث في اُذنها وأرجعها إلى رأيها الأوّل .
روى الشيخ المفيد في الإختصاص : حدّثنا محمّد بن علي بن شاذان ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى النحوي أبوالعباس ثعلب ، قال : حدّثنا أحمد بن سهل أبو عبدالرحمان ، قال : حدّثنا يحيى بن محمّد بن إسحاق بن موسى ، قال : حدّثنا أحمد بن قتيبة أبوبكر ، عن عبدالحكم
____________
1 أعلام النساء 5 : 224 .
2 اُم سلمة لعلي دخيل : 50 .

(793)

القتيبي ، عن أبي كبسه ويزيد بن رومان ، قالا :
لمّا أجمعت عائشة على الخروج إلى البصرة أتت اُم سلمة رضي الله عنها وكانت بمكة فقالت : يا بنت أبي اُميّة كنتِ كبيرة اُمهات المؤمنين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقمؤ في بيتك ، وكان يقسّم لنا في بيتك ، وكان ينزل الوحي في بيتك .
قالت لها : يا بنت أبي بكر لقد زرتني وما كنتِ زوّاره ، ولأمر ما تقولين هذه المقالة ؟
قالت : إنّ ابني وابن أخي أخبراني أنّ الرجل ـ عثمان ـ قُتل مظلوماً ، وأنّ بالبصرة مائة ألف سيف يطاعون ، فهل لك أن أخرج أنا وأنت لعلّ الله أن يصلح بين فئتين متشاجرتين ؟
فقالت : يا بنت أبي بكر أبدم عثمان تطلبين ؟ فلقد كُنتِ أشدّ الناس عليه وإن كُنتِ لتدعينه بالتبري ، أم أمر ابن أبي طالب تنقضين ، فقد تابعه المهاجرون والأنصار ، إنّك سدّة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين اُمته ، وحجابه مضروب على حرمه ، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبذخيه ، وسكِّني عقيراك فلا تضحي بها ، الله من وراء هذه الاُمة ، قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانك ، ولو أراد أن يعهد إليكِ لفعل ، قد نهاكِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الفراطة في البلاد ، إنّ عمود الإسلام لا ترأبه النساء إن انثلم ، ولا يشعب بهنّ إن انصدع ، حماديات النساء غضٌّ بالأطراف وقصر الوهادة .
وما كنتِ قائلة لو أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرض لك ببعض الفلوات وأنت ناصّة قلوصاً من منهل إلى آخر ، إنّ بعين الله مهواك ، وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تردين ، قد وجهت سدافته وتركت عهيداه ، اُقسم بالله لو سرتِ مسيرك ثم قيل لي : اُدخلي الفردوس لاستحييتُ أن ألقى محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم هاتكة حجاباً قد ضربه عليّ ، اجعلي حصنكِ بيتكِ ، وقاعة الستر قبركِ ، حتى تلقيه وأنت على ذلك أطوع .
ثم قالت : لو ذكّرتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمساً في علي صلوات الله عليه لنهشتي نهش الحيّة الرقشاء المطرقة ذات الحبب .
أتذكرين إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً ، فأقرع بينهن فخرج سهمي وسهمك ، فبينا نحن معه وهو هابط من قُديد ومعه علي عليه السلام ويحدّثه ، فذهبتِ لتهجمي


(794)

عليه فقلتُ لك : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه ابن عمّه ، ولعلّ له إليه حاجة ، فعصيتني ورجعتِ باكية ، فسألتكِ فقلت : بأنكِ هجمتِ عليهما فقلتِ له : يا علي إنّما لي من رسول الله يوم من تسعة أيام وقد شغلته عنّي ، فأخبرتيني أنّه قال لك : « أتبغضيه! ؟ فما يبغضه أحد من أهلي ولا من اُمتي إلاّ خرج من الإمان » ، أتذكرين هذا يا عائشة ؟
قالت : نعم .
ويوم أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفراً وأنا أجش له جشيشاً ، فقال : « ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبّ تنبحها كلاب الحوأب ؟ » ، فرفعتُ يدي من الجشيش وقلت : أعوذ بالله أن أكونه ، فقال : والله لابدّ لإحداكما أن يكونه ، اتّقي الله يا حُميراء أن تكونيه ، أتذكرين هذا يا عائشة ؟
قالت : نعم .
ويوم تبذّلنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلبست ثيابي ولبستِ ثيابك ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلس إلى جنبك فقال : « أتظنين يا حميراء أنّي لا أعرفك ، أما إنّ لاُمتي منك يوماً مرّاً أو يوماً حمراً » ، أتذكرين هذا يا عائشة ؟
قالت : نعم .
ويوم كنتُ أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاء أبوك وصاحبه يستأذن فدخلت الخدر فقالا : يا رسول الله لا ندري قدر مقامك فينا ، فلو جعلتَ لنا إنساناً نأتيه بعدك ؟
قال : « أمّا إنّي أعرف مكانه وأعلم موضعه ، ولو أخبرتكم به لتفرّقتم عنه كما تفرّقت بنو اسرائيل عن عيسى بن مريم » . فلمّا خرجت إليه أنا وأنت وكنت حزينة عليه فقلت له : مَن كنتَ جاعلاً لهم ؟
فقال : « خاصف النعل » ، وكان علي بن أبي طالب صلوات الله عليه يصلح نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تخرّقت ، ويغسل ثوبه إذا اتّسخ .
فقلتُ : ما أرى إلاّ علياً .
فقال : « هو ذاك » ، أتذكرين هذا يا عائشة ؟