سلسلة المعارف الإسلامية
وصية النبي صلَّي الله عليه و آله


علي موسى الكعبي

تحظى إصدارات المركز
بالمتابعة و التقويم و الإشراف العلمي



(1)



(2)
بسم اللّه الرحمن الرحيم



(3)



(4)



(5)
مقدمة المركز

الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السلام علي أشرف الأنبياء و المرسلين، و آله الطيّبين الطاهرين.. و بعد:
     إنّ من أكثر الاُمور وضوحاً في حياة الشعوب و الأمم، اتفاقها على جملة من المبادئ الإنسانية لا سيماذات الصلة المباشرة بحقوق الناس، و الحفاظ على توازن المجتمع إزاء التحولات الحتمية في مستقبل تاريخه، بصيرورة تلك المبادئ إلى سلوك معتاد بعد تحقق الاستجابة الطوعية لها، و التحرك علي ضوئها، حيث لم تترك معلقة في الفضاء، و إنما اُنزِلت إلى أرض الواقع، و عاشتها البشرية كحقيقة ثابتة جيلاً بعد جيل، حيث تناغت اصولها مع الفطرة ، و انسجمت أهدافها مع رغبة الإنسان و طموحه و تطلعاته.
     و لعل من أبرز تلك المبادئ التي تحولت إلى سلوك دائم في حياة الناس جميعاً هو مبدأ الوصيّة الذي كُتب له الخلود، و هكذا كل مبدء لا تعرف قيمته ما لم يكن سلوكاً، فارتكاز الوصية في ضمير الإنسان و شعوره، و انسجامها مع رغبة الإنسان في أبقاء نوع علاقة له مع الحياة القائمة بعد مغادرتها، هي رغبة فطرية يتساوى فيها السيد و المسود؛
كل ذلك أدّى إلى انعكاس شعور الإنسان بالحاجة إلى الوصية على تنظيم شؤون حياته, و استباق الموت باختيار الرجل الكفوء الذي يمكن أن تُسند إليه المهام التي لم يسمح عمر الموصي بمباشرتها بنفسه.
     و لدور الوصية العظيم في حفظ الحقوق و توازن المجتمع، بادرت الشريعة الغراء الىتنظيمها تنظيماً واعياً و دقيقاً ، و بهذا لم تعد الوصية حاجة من حاجات الإنسان الضرورية فحسب، بل مطلباً إسلامياً أكيداً، لابدّ من توخي الدقة فيه، واتخاذ السبل اللازمة لا نجاره.
     و تبرز حيوية الوصية بإكسابها الموصي نفسه حياة معنوية بعد وفاته، بابقاء رأيه سارياً بحيث يمكن استنطاقه كلّما دعت الحاجة إليه ، و يُعرف ثقلها من متعلقها، و هو عادة ما يكون في تناسب طردي مع شخص الموصي و موقعه، فالفلاح مثلاً يوصي في أرضه، و التاجر في تجارته ، و الرجل الثري في أمواله، و الملك في مملكته، بل كل راع في رعيته، و هكذا تخرج الوصية عن الأفق الضيق الذي تعيشه أغلب الوصا يا كلما كان موقع الموصي خطيراً و من خلال هذا المقياس يمكن تقريب صورة الوصي أيضاً؛ لأن عهد المصلح العظيم لاَخر في تنفيذ مشاريعه الكبرى بعد وفاته كافٍ في تصور حجم الثقة المتبادلة بينهما، و الجزم بأنها لم تكن وليدة في ساعات احتضار المصلح؛ إذ لابدّ


(6)
و أن تكون عن مباشرة و معاشرة و خبرة طويلة اطلع عليها ذلك العظيم الراحل علي قدرات وصيه التي استوعبت جهات مشاريعه الكبري كلها، مع وعيه الكامل بطبيعة تلك المشاريع و أهدافها.
     و لما كانت مسؤوليات الأنبياء عليهم السلام من أجلّ المسؤوليات و أخطرها على الإطلاق، بحيث لا يمكن تأهيل أيّ إنسان بالمقاييس البشرية كلّها إلى احتلال مركز النبوّة؛ لحصره بالاختيار الإلهي للصفوة من عباده. لذا صار القول بأن وصايا الأنبياء عليهم السلام كانت عادية أو أخلاقية لا غير، كالقول بتنصّلهم عليهم السلام عن رسالاتهم و تركهم اُممهم هملاً كالسوائم! و هو كما تري .. لا يقوله من عرف دور الأنبياء و أدرك خطورة موقعهم و ثقل وجودهم في حياة الراجح على ثقل كل شيء فيها. ناهيك عن سيدهم و أشرفهم و القيمة الكبرى في هذا الوجود نبينا محمّد صلىَّ الله عليه و آله، فهل يعقل مع هذا أن تكون وصيته صلىَّ الله عليه و آله عادية؟!
     أليس معنى هذا اتهامهُ صلَّى الله عليه و آله با همال توازن المجتمع الإنساني برمته في حين أنه اُرسل لانقاذه؟
     و اتهامه صلَّى الله عليه و آله كذلك بعدم الحرص على مستقبل رسالته!! إذ لم يعمل على ترسيخ قناعات المؤمنين برسالته على منح الثقة للقيادة الرسالية الآتية بعده لتتمكّن بدورها من الحفاظ على القواعد الرسالية التي تنظم دور المجتمع في حركة أفراده تجاه الدين الفتي، مع الوعي الكامل بأهداف الرسالة و عاياتها.
     ثم كيف يكون ذلك ، وليس في تاريخ الأنبياء عليهم السلام نبي لم يوصِِ إلى وصي معين ليقوم مقامه في حمل الأمانة و أدائها للناس نقية ناصعة؟ و في تاريخنا الإسلامي ما يدل بوضوح علي أن وصية كل نبي سابق ليست كلمة مجردة عن محتواها، و انما هي موقف ورسالة ، و على الأتباع و عيها و التزامها و تحمّل المسؤولية في ايجاد الأرضية الصالحة لتطبيقها لا منعها أو تحريفها.
     و مع التدرّج في خطورة وصايا الأنبياء عليهم السلام كلّ من موقعه، نصل بالنتيجة إلى أعظمها و أخطرها في وصية نبينا صلَّى الله عليه و آله باعتبار موقعه بينهم عليهم السلام و منزلة رسالته بين رسالاتهم، مع علمه صلَّى الله عليه و آله بأن الأنبياء الذين رحلوا إلى اللّه قبله لم ينقطع خبر السماء بموتهم، ولا النبوة بمغادرتهم، في حين كان رحيله صلَّى الله عليه و آله اُفولاً لشمس النبوة، ووفاة لجميع الأنبياء ، و انقطاعاً لنزول الوحي بخبرالسماء. و لا شكّ أنه يعلم بكل هذا كما


(7)
يعلم بأن الذي أرسله بالهدي و دين الحق لم يقل له انك ستبقى إلى يوم يُبعثون، و إنما قال له: (إنك ميّت و إنّهم ميتون).
     فعلام لا يكون النبي الخاتم إذن من أكثر الأنبياء حرصاً على بيان مركز القيادة ـ في وصيته ـ من بعده؟
     إن ابتداء دور الخلافة بعد وفاة الرسول صلَّى الله عليه و آله مباشرة، و انطلاق وصية النبي صلَّى الله عليه و آله من النقطة التي تمثل انتهاء مرحلة النبوة في التاريخ لا يساعد على تصور اغفال عقل الكون كله للدور الجديد الآتي بعده، الأمر الذي يؤكد اعطاء وصيته صلَّى الله عليه و آله خصوصية زائدة تختلف عن جميع وصايا الأنبياء السابقين عليهم السلام.
     و نظرة أمينة لا خائنة في فكر أهل البيت عليهم السلام ـ باعتبارهم المعنيين بوصية النبي صلَّى الله عليه و آله دون غيرهم ـ كافية لكشف الحقيقة لمن أرادها في عدم تنازل هذا الفكر النقي عن الوصية، و لا التخلّي عن حمايتها، أو الاستهانة بمركزها؛ إذ تبنّى مسؤولية الدفاع عنها و الدعوة إليها، و تأكيد ثقلها في حاضر الأمة و مستقلبها ، كل هذا مع فسح المجال للتفكير بجدية معطياتها، و دراسة أسبابها و تاريخها، و كيف صُمّت الآذان يوم الدار عن سماعها، و كيف منع النبي في رزية يوم الخميس من كتابتها!
     أمن الغرابة إذن لو انتفضت مُثُل الإسلام و قيمه العليا؛ لتحمي تلك الوصية ممّا لحقها ـ في تاريخها ـ من صدٍّ ، و لقلقة ، و منع، و تشويه، و تزوير، و تحرسها بأشدِّ ما يكون وفاءً للنبي صلَّى الله عليه و آله ، و تعبيراً عن الالتزام بخط الوصي عليّ عليه السلام؟
     و أمّا القول بفوات أوان الحديث عن تلك الوصية؛ إذ قد مضى التاريخ بكل ما فيه عليها، و لم يعد بالإمكان إعادتها إلى واقع الحياة، ولا إعطاء صاحب الوصية حقّه و هو في جوار ربّه. و انها قضية قد انتهت، ولا معنى لاثارتها من جديد بماتتركه حساسيتها من تأثيرات سلبية على واقع المسلمين !! فهو خطأ عظيم؛ لأن بحث الوصية لا يعني حصرها بإطارها التاريخي ، بل المقصود تعميمها إلى حياتنا العملية؛ لأن ارتباطنا بالوصي هو ارتباطنا بالموصي، و القرآن لم يؤقت زمناً للارتباط بالنبي صلَّى الله عليه و آله و إنما أمر بالتمسّك به في كل آنٍ و زمان، و من ثَمَّ فإن تمسّكنا بالوصي لا يعني تمسكنا بالفترة التي عاشها الوصي، بل يعني ذلك تمسكنا بخط الوصي الذي لا يحده زمان دون آخر، حيث اقتحم القرون و تجاوز العصور حتى صار مقياساً للصحيح من العقيدة، و أضحت


(8)
العقائد الإسلامية برمتها مضطرة الىترسّم فكره و روحه باعتبار أنه فكر الإسلام و روحه.
     و إذ كان على المسيرة الإسلامية المعاصرة بكل فصائلها أن تستمد مقوماتها الأساسية من فكر الإسلام و مبادئه، فكيف يمكنها أن تضبط مواقع خطواتها في مسرح الحياة، و هي لم تعرف بعدُ قيمة وصية النبي صلَّى الله عليه و آله؟
     إن الجهل بأهميتها و ضرورتها في تلك المسيرة، نذير بالابتعاد الكلي عن الخط الرسالي الواضح الذي أراده النبي صلَّى الله عليه و آله لأمته في وصيته.
     و أمّا منعها أو تجميدها تمهيداً الىإلغائها من الفكر الديني و التطبيق الواقعي بحجة فوات أوانها! فإنما هو دعوة إلى إلغاء دور الدين من الواقع الحياة، أو شلّ حركته و تعطيله من أن يأخذ مداه الرحب في حركة الواقع، وموقعه الكبير في صلب المسيرة الإسلامية المعاصرة. و على العكس تكون المحافظة عليها باستمرار وجودها محافظة على الدين فكراً و شريعة و عقيدة، و إحياءً للحق، و إعلاناً بالتزامه كمنهجٍٍ في الحياة؛ باعتبار كون الوصية المعبّر الواقعي عن قوة الرسالة فاعليتها في رسم معالم الطريق. الأمر الذي يتطلب اعادة النظر في تقييم تلك المسيرة و تشخيص أخطائها باكتشاف نوع العلاقة القائمة بين تأثيرات العهدين الجاهلي و الإسلامي الأول في عدم فسحهما المجال أمام وصية النبي صلَّى الله عليه و آله ، لتأخذ دور ها كما ينبغي، و تقف الأمة على منابع خيرها، و تعرف مطالع نورها في حاضرها و مستقبلها، و حينئذٍ ستُدرَك قيمة الأساليب التي استخدمها أهل البيت عليهم السلام و من سار بركبهم من الجيل الطلائعي الأول في كيفية المقاومة لألوان التحدّي التي جابهتها وصية النبي في ميدان الصراع السياسي بعد وفاة الرسول صلَّى الله عليه و آله.
     و كتاب « وصية النبي صلَّى الله عليه و آله» على صغر حجمه استطاع أن يضع الوصية في مكانها الفسيح من الفكر الديني، مسلّطاً الضوء على تاريخها، متتبعاً جذورها وحيثياتها في العهد النبوي الشريف، و ما جرى مجراها علي لسان النبي صلَّى الله عليه و آله في تأكيد و حصر الأمر بعليّ عليه السلام دون سواه، مع العناية في وسائل إثبات اُفقها السياسي، و محاولات الالتفاف حولها أو التشكيك في مضمونها و جدواها، ونحو ذلك مما مرّ عليها و لها ، حتى جاء بالحقيقة الكاملة ـ لمن أراد معرفتها ـ من القرآن ، والحديث ، و السيرة، و التاريخ، و الأدب. آملين أن يؤدّي دوره المطلوب في وعي الأمة.
     و اللّه الهادي الي سواء السبيل. مركز الرسالة


(9)
المُقدَّمةُ
الحمد للّه ربّ العالمين، و سلامه على عباده المصطفين محمد و آله الميامين.
     و بعد: أكّدت الشريعة على الوصية باعتبارها حاجة ماسّة من حاجات الإنسان و المجتمع، و تنطوي على أهمية خاصة، تتمثّل في سلامة تصرفات الوصي بعد وفاة الموصي بعيداً عن إثارة المشاكل و النزاعات التي قد تنشأ داخل محيط الأسرة أو القبيلة أو المجتمع نتيجة التسابق في الاستيلاء على المواريث و الحقوق.
     و تسهم الوصية في نقل خبرات و تجارب السلف الىالخلف ، و تساعد على ديمومة العلاقات الشخصية و الأسرية و الاجتماعية.
     و لم تكن الوصية أمراً مستحدثاً من قبل المشرّع الإسلامي، إذ مارسها الإنسان على وفق اُسلوبه الخاص في جميع العصور، سواء أكان قريباً من التشريع أو بعيداً عنه، مؤمناً بالدين أو غير مؤمنٍ به، و ذلك لارتباطها بالفطرة الإنسانية و سيرة العقلاء التي تنزع الىوصية الآباء للأبناء، و الماضين للتالين، و الكبار للصغار، و الراحلين للمقيمين...
     و قد جرت العادة أن الإنسان إذا شعر بدنو أجله أو أراد سفراً، فإنه يعهد لمن يخلفه في تولي شؤون من يخلفهم، و إذا أراد رئيس قبيلة أو جماعة السفر فإنه يستخلف من ينوبه حتى يعود.
     و في تاريخ النبوات منذ أبينا آدم عليه السلام إلى نبينا الخاتم صلَّى الله عليه و آله لم نجد أحداً من الأنبياء (صلوات اللّه عليهم) تخلف عن العهد لم يليه في الخلافة على اُمته؛ ليكون حجةً للّه على العباد، و وريثاً للنبوة، وحافظاً لرسالتها و هكذا فعل النبي صلَّى الله عليه و آله في وصيته لعلي عليه السلام.
     و على ضوء المهمة الخطيرة الملقاة على عاتق الوصي في قيادة الأمة و ديمومة حركة الرسالة، لابدّ أن يكون نسخةً ناطقة من النبي في علمه و منزلته و كلّ ما يحمله


(10)
من مقومات تميّزة عن سائر أفراد الأمة، و تؤهّله لمثل هذا المنصب الخطير، فاختيار الوصي لابدّ أن يكون على ضوء الاصطفاء الإهلي كما هو الحال في النبوة، و أن يقترن ذلك بالعناية النبوية و المؤهلات الذاتية كالعصمة و السابقة و الفضل و غيرها.
     و هكذا كان شأن نبينا المصطفى صلَّى الله عليه و آله في تعيينه لوصيه علي بن أبي طالب عليه السلام منذ تباشير الدعوة الإسلامية في يوم الدار و حديث الانذار، عند نزول قوله تعالى: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ أَلْأَقْرَبِينَ)(1) ثمّ لأجل تأصيل هذا المبدأ العقائدي في وجدان الأمة و حركتها، بادر إلى التصريح بالنص على القائد الرسالي بعده في مناسبات عديدة، كان آخرها في مرض موته صلَّى الله عليه و آله حينما أراد أن يثبت ذلك بكتابٍ لا تضلّ الأمة بعده أبداً، فوقع النزاع و كثر اللغط و أخيراً مُنع الكتاب.
     و منذ ذلك الحين تنكر من تنكر لوصية النبي صلَّى الله عليه و آله، و لم يدّخر الحاكمون وسعاً في تجنيد كل القوي لأجل طمس مفهوم الوصية و كتمانه، حتى توارث ذلك أجيال من الناس تعرّض فيها ذلك المفهوم للتحريف و التغيير و الحذف و الإسقاط، و مع هذا فقد بقي الكثير الدال على ان الوصية لعلي عليه السلام تشمل الخلافة و المرجعية الفكرية و السياسية على حدٍّ سواء.
     و بالنظر لما يترتب على هذا الموضوع من آثار عقائدية تتجاوز اُطر الزمان و المكان فقد سلطنا الضوء عليه بحوث عدّة ضمن أربعة فصول: تناولنا في الفصل الأول معنى الوصية و بيان أركانها و أقسامها و تشريعها في الفكر الديني إسلاماً كان أو غيره. و خصصنا الثاني للأحاديث و الآثار و المدونات النقلية بالوصية مع التأكيد على خصيصة الاصطفاء في شخص الولي، و بيان شبيهه من الأوصياء السابقين عليهم السلام. و جاء الفصل الثالث بما اخترناه من أشعار الصحابة في الوصية ، ّوبيّنا في الفصل الرابع موقف الأُمّة من الوصية متمثلة في فصائلها المختلفة ، مع الاشارة إلى الأساليب المتبعة في إنكار الوصية و كتمانها و الشبهات المثارة حولها.

(1) سورة الشعراء: 26 / 214.


(11)