و أصل المحبوبية (1) . و ذكر بعض آخر أن الوجوب المذكور في الآية الشريفة كان في بدء الأمر و أوائل تغيير الشريعة لمواريث الجاهلية، فالحكمة اقتضت أن يكون التغيير تدريجياً بنحو الوصية أولاً ثم بأحكام المواريث.
     قال السيد السبزواري رحمه الله: و الحق أن الوصية غير منسوخة بشيء، لا بآية المواريث و لا بالسنة الشريفة، و آية الوصية تدلّ على محبوبيتها، و الكتابة يُراد بها هنا مطلق الثبوت الأعمّ من الوجوب و الندب ، فقد تكون الوصية واجبة كما في الوصية بالحقوق الواجبة، وقد تكون مندوبة كما في الوصية بالتبرعات ، و في الأخيرة يشترط أن لا تكون أكثر من ثلث المال، و في الاُولى لا يشترط فيها ذلك ، بل لابدّ و أن تخرج من جميع المال، و لا ربط لآية الإرث بآية الوصية، و هما موضوعان مختلفان ، فأين يتحقّق النسخ؟ مع أن الإرث متأخّر عن الدين والوصية.
     و أمّا الاستدلال بالسنّة على نسخ آية الوصية، ففيه أولاً: عدم ثبوته كما ذكر جمع من علماء الفريقين ، و ثانياً : أن حديث « لا وصية لوارث» يمكن حمله على أنه لا وصية لوارث إذا كان أكثر من الثلث...(2)
     أما فيما يتعلّق بخصوص الوصية بالخلافة فانّ الآيات المتقدمة و غيرها التي تحثّ على الوصية و تأمر بها و تحذّر من إهمالها في اُمور الدنيا و حطامها الزائل، تدلّ علي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يمكن أن يترك اُمته بلا وصي يبيّن لهم أحكام الدين و يقتفي أثر سيد المرسلين، و هو السبّاق إلى التعبّد بأوامر الوحي و نواهيه و جميع ما فيه، فكيف يترك الوصية و قد اُوحي بها إليه وجعلها اللّه حقّاً على المتقين؟

(1) الميزان في تفسير القرآن / العلّامة الطباطبائي 1: 439 ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.
(2) مواهب الرحمن / السبزواري 2: 380 ـ 381 ـ مؤسسة المنار ـ قم.



(32)

     ثمّ أنه نزل في القرآن الكريم ما يجري مجري الوصية بالخلافة الإسلامية في آية البلاغ؛ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا آلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُُنزِِلَ إِلَيْكَ مِن رَبَّكَ وَ إِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)(1) ،فكان تبليغ هذا الأمر بحجم تبليغ الرسالة، فأيّ أمر خطير هذا الذي أشارت إليه الآية؟
     روي الواحدي من طريق الأعمش باسناده الىأبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا آلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِليْكَ مِن رَبِّكَ) يوم غدير خمّ في علي بن أبي طالب رضي عنه اللّه.(2)
     واستقصى الحاكم الحسكاني طرق حدث أبي سعيد الخدري بأسانيد متصلة، ثمّ قال: و طرق هذا الحديث مستقصاة في كتاب (دعاء الهداة إلى أداء حق الموالاة) من تصنيفي في عشرة أجزاء.(3)
     و عن ابن مسعود، قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (يا أيُّها الرَّسولُ بلِّغ ما أُُنزِل إليك من ربِّك أن عليّاً مولى المؤمنين و إن لم تفعل فما بلَّغتَ رسالته)(4).
     إذن فإن تنصيب علي عليه السلام للخلافة في جانب و تبليغ الرسالة في جانب آخر متوازنان، فإذا لم ينصب علياً عليه السلام فلم يبلغ الرسالة، باعتبار أنه ترك الكيان

(1) سورة المائدة: 5/ 67.
(2) أسباب النزول / الواحدي: 115 ـ عالم الكتب ـ بيروت ، فتح القدير / الشوكاني 2: 60 ـ دار إحياء التراث العربي، المنار / محمد رشيد رضا 6: 463 ـ دار المعرفة ـ بيروت.
(3) شواهد التنزيل / الحسكاني : 181 ـ 193 ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ 1393 هـ.
(4) الدرّ المنثور / السيوطي 3: 117 ـ دار الفكر ـ 1403 هـ، فتح القدير 2: 60.



(33)
الإسلامي في مهبّ الريح، و لم يخلّف أحداً ليرعاه أو يقويه من بعده.
     2ـ السنّة المطهرة
     وردت أحاديث نبوية مستفيضة تدلّ على أن الوصية فريضة محكمة و سنّة ثابتة، و تؤكد أن على كلّ مسلم أن يوصي قبل معاينة الموت ، نذكر منها:
     1ـ قوله صلّى اللّه عليه و آله : « الوصية حقّ على كلّ مسلم» (1). 2ـ قوله صلّى اللّه عليه و آله : « المحروم من حُرِم الوصية » (2). 3ـ و قوله صلّى اللّه عليه و آله : « ما حقّ امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلّا و وصيته مكتوبة عنده» (3). و حاشا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يأمر بالشيء و يؤكّده ثمّ يتركه و لا يأتمر به، بل هو السبّاق إلى الطاعات و مرشد الاُمّة و دليلها إلى كلّ برّ و خير.
     قال الشوكاني: و كيف يظنّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يترك الحالة الفضلى ـ أعني تقديم التنجيز قبل هجوم الموت، و بلوغها الحلقوم ـ و قد أرشد إلى ذلك و كرّر و حذّر ، و هو أجدر الناس بالأخذ بما ندب إليه (4).
     أما من حيث وصيته بخصوص الخلافة فانه صلّى اللّه عليه و آله عيّن وصيه منذ تباشير

(1) المقنعة/ المفيد : 666 ـ كتاب الوصية ـ باب الوصية و وجوبها ـ جماعة المدرسين ـ قم، وسائل الشيعة / الحرّ العاملي 13: 352 / 24544 ـ مؤسسة آل البيت عليهم السلام ـ قم.
(2) كنز العمال / المتقي الهندي 16: 613 / 46051 ـ مؤسسة الرسالة ت بيروت ـ 1405 هـ.
(3) صحيح مسلم 3: 1249 / 16275 ـ أوّل كتاب الوصية ـ دار الفكر ـ بيروت ـ 1398 هـ.
(4) العقد الثمين / الشوكاني: 37 ـ مركز الغدير ـ قم ـ 1419هـ.



(34)
الدعوة الإسلامية حين نزلت (و أنذِرْ عشيرَتَكَ الأقرَبِينَ)(1) فكان علي ابن أبي طالب عليه السلام دون غيره من أفراد الأمة، و لم يزل بعد ذلك يكرّر وصيته و يؤكّدها بعهود لفطية كثيرة سنذكرها في الفصل الثاني من هذا البحث.
     و أراد صلى اللّه عليه و آله و هو في المحتضر أن يكتب وصيته إلى علي عليه السلام تأكيداً لعهوده اللفظية السابقة، و توثيقاً لنصوصه القولية عليه، فقال صلّى اللّه عليه و آله: « ائتوني بداوة و فرطاس أكتب لكم كتاباً، لن تضلوا بعدي أبداً» فتنازعوا و لا ينبغي عند نبيّ تنازع فقالوا: ما شأنه أهجر ، أو إن رسول اللّه غلبه الوجع، و عندها علم صلّى اللّه عليه و آله أنه لم يبقَ بعد قولهم هذا أثر لذلك الكتاب غير الفتنة و الاختلاف، فقال لهم: « قوموا عنّي» أو « دعوني فالذي أنا فيه خير»(2) و اكتفى بعهوده اللفظية و بلاغاته السابقة بلفظ الوصية تارة، و الولاية اُخرى، والخلافة أو الإمامة ثالثة، و بالنصّ الصريح على الوصية لأمير المؤمنين عليه السلام.
     قال الشاعر:
أوصى النبي فقال قائلهم و رأى أبا بكر أصاب و لم قد ظلّ يهجر سيدُ البشرِ يهجر و قد أوصى الىعمرِ

     3ـ العقل
     من الضرورات العقلية أن يحرص كلّ رسول علي الرسالة التي بُعث بها،

(1) سورة الشعراء: 26 / 214، وسيأتي الحديث في الفصل الثاني.
(2) راجع: صحيح البخاري ـ 7: 219 / 30 ـ كتاب المرضي ـ باب قول المريض: قوموا عنّي ـ عالم الكتب ـ بيروت 1406 هـ، صحيح مسلم 3: 1257، 1259 ـ كتاب الوصية ـ باب 5 ، مسند أحمد 1: 222 و 324 ـ دار الفكر ـ بيروت.



(35)
فيقيم عليها وصياً و قيماً بوحي من اللّه سبحانه حتى لا تضيع الرسالة بموته ، و إلّا يلزم نقض الغرض من رسالته والجهود التي بذلها في دعوة الناس إليها، و نقض الغرض من أي ذي عقل قبيح فكيف من سيّد العقلاء و الحكماء؟
     إن العقل يحيل على نبينا الخاتم صلّى اللّه عليه و آله أن يترك أمر دينه و اُمّته هملاً دون أن يبيّن قوله الفصل في تعيين الوصي الذي يعهد إليه بالخلافة؛ ذلك لأنّ الدين لم يزل في تباشير دعوته غضاً طرياً، فلو ألقى الحبل على الغارب لترتّب علي ذلك ما لا يحمد عقباه بسبب ميول الأهواء، و اختلاف الآراء المؤدية الىالوقوع في الفتنة و التنازع والفساد.
     يقول السيد عبد اللّه شبّر: إن العقل السليم يحيل على اللّه و رسوله الكريم صلّى اللّه عليه و آله مع كونه المبعوث إلى كافة الأنام ، وشريعته باقية إلى يوم القيامة أن يهمل اُمّته ، مع نهاية رأفته و غاية شفقته بهم و عليهم ، و يترك فيهم كتاباً في غاية الأجمال و نهاية الاشكال، له وجوه عديدة و محامل كثيرة، يحمله كلّ منهم على هواه و رأيه و أحاديث كثيرة عن صاحب الرسالة صلّى اللّه عليه و آله فيها الصحيح والمكذوب، و الضعيف و الموضوع، ثم لا يعين لهذا الأمر الخطير رئيساً يرجعون إليه في هذه المشكلات ، ويركنون إليه في سائر الأمور.
     و إن العقل ليحكم باستحالة ذلك في شرع اللّه تعالى و حكمته ، و لقد قرّب اللّه سبحانه ذلك من أفهام الناس، فأوجب الوصية على كلّ مسلم إذا حضره الموت، لكي لا يدع أهله في اختلاف و تخاصم في إرثه و متروكاته، فكان لابدّ من وصية تضمن فضّ هذا النزاع إن أمكن حصوله.
     فكيف تصور الحال إذن مع اُمّة كاملة، و نبيها آخر الأنبياء؟
     و هل يستسيغ العقل أن يتركها اللّه تعالى و رسوله بلا إمام موصى إليه،


(36)
و حافظ و قيّم و وليّ من بعده صلى اللّه عليه و آله؟ مع أنّ رأفة اللّه سبحانه بعباده، و رأفة النبي باُمّته لا تقاسان برأفة الفرد الىأهله و أطفاله.(1)
     و أيضاً: فم العقل يحكم بضرورة الوصيّة من النبي بالأولوية القطعية، و ذلك لأنه (إذا كانت الوصية ثابتة في حطام زائل ، فما بالها تُنفى في خلافة راشدة و شريعة خالدة متكفّلة بصلاح النفوس و النواميس و الأموال و الأحكام والأخلاق و الصالح العام و السلام و الوئام ، و من المسلم قصور الفهم البشري العادي عن غايات تلكم الشؤون ، فلا منتدح و الحالة هذه أن يعين الرسول الأمين عن ربّه خليفته من بعده ليقتصّ أثره في اُمّته)(2).
     و أيضاً: فمن المستحيل أن يكون النبي نفسه سبباً لضلال الأمّة و وقوع الفتنة بينها، ولا شكّ أن السكوت عن الوصية يسبّب ذلك؛ لأنّ ترك الناس باهمال الوصية في مستقبل قيادتهم هو دليل على التفريط و مثار للفتنة و التنازع، و هذا حكم عقلي مسلّم ورد على لسان بعض الصحابة، ولا يمكن نسبة التفريط لكل رجل محترم فكيف ينسب إذن إلى أشرف الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله؟!
     روي أن عائشة قالت لبعد اللّه بن عمر حينما أخبرها بأن أباه في المحتضر:
يا بني أبلغ عمر سلامي، و قل له: لا تدع اُمة محمّد بلا راعٍ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً ، فاني أخشى عليهم الفتنة.(3)
     و قال عبداللّه بن عمر لأبيه: لو استخلفت؟ قال: من قال ؟ تجتهد فانك لست لهم بربّ، أرأيت لو أنك بعثت إلى قيم أرضك ، ألم تكن تحبّ أن يستخلف

(1) حق اليقين / عبداللّه شبّر 1: 38 ـ مطبعة العرفان ـ صيدا ـ 1352 هـ.
(2) الغدير / الأميني 7: 172 ـ دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
(3) الإمامة و السياسة / ابن قتيبة 1: 23 ـ مكتبة مصطفى بابي الحلبي ـ مصر ـ 1388 هـ.



(37)
مكانه حتى يرجع إلى الأرض؟ قال: بلى، قال: أرأيت لو بعثت إلى راعي غنمك، ألم تكن تحبّ أن يستخلف رجلاً حتى يرجع؟ قال: بلى (1).
     و ليت شعري كيف صارت عائشة و عبداللّه بن عمر أعلم بمآل الأمور و نتائج عدم الاستخلاف من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ و هل هما أحرص على مصلحة الاُمّة و ضمان مستقبلها من نبي الرحمة؟! كلا وحاشا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذه الأوهام، فانه صلّى اللّه عليه و آله قد نصّ على خليفته من بعده و بلّغ اُمّته بأنه علي بن أبي طالب عليه السلام، وفي ذات الوقت عهد إليه أن الأمّة ستغدر به بعده (2)، و قال له: « أما إنك ستلقى بعدي جهداً» فقال علي عليه السلام: « في سلامة من ديني؟» قال صلّى اللّه عليه و آله : « في سلامة من دينك» (3) و أخذ بيده و قد بكى فقال علي عليه السلام: « ما يبكيك يا رسول اللّه ؟» قال عليه السلام: « ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلّا من بعدي» (4).
     و لقد تحقق ما أخبر به النبي الصادق الأمين صلّى اللّه عليه و آله، و دُفِع الوصيّ عن حقّه، و قد صرح عليه السلام بذلك مراراً ، سيما في خطبته الشقشقية (5) المعروفة، و في غيرها أيضاً حيث قال : « فو اللّه ما زلت مدفوعاً عن حقّي، مستأثراً عليَّ، منذ قبض اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله حتى يوم الناس هذا »(6).
     و قال عليه السلام: « أما الاستبداد علينا بهذا المقام و نحن الأعلون نسباً،

(1) طبقات ابن سعد 3: 343.
(2) مستدرك الحاكم 3: 140 ـ حيدر آباد ـ الهند.
(3) مستدرك الحاكم 3: 140.
(4) مستدرك الحاكم 3: 139 ، مسند أبي يعلى 1: 426 / 305 ـ دار المأمون ـ ط 2، مجمع الزوائد / الهيثمي 9: 118 ـ 121 ـ مؤسسة المعارف ـ بيروت ـ 1406 هـ.
(5) الخطبة الثانية من نهج البلاغة.
(6) نهج البلاغة/ تحقيق صبحي الصالح: 53 / خ 6.



(38)
و الأشدون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نوطاً ، فانها كانت أَثرَة، شحّت عليها نفوس قوم، و سخت عنها نفوس آخرين ، و الحكم للّه و المَعْوَد إليه القيامة» (1).
     و من الاُمور المستفادة من سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و غيرها في أثبات الوصية، و التي لو تأمّلها المسلم فإنه سيُسلّم بمسألة الوصية دون الرجوع إلى مزيد من الأدلة و البراهين، ما يأتي:
     أولاًـ لقد اُمِر النبي صلّى اللّه عليه و آله أن يقتدي بالأنبياء الذين قبله، في قوله تعالى: (أُولئِكَ آلَّذِينَ هَدَى آللّهُ فَبِهُدَاهُمُ آقْتَدِهْ)(2) و قال تعالى: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ آلرُّسُلِ)(3) و رأينا أن الأنبياء السابقين قد عهدوا إلى من يخلفهم في تبليغ الشريعة و رعاية الأمة من بعدهم ، ولم يكن خلفاؤهم إلّا أوصياءهم، فكيف يخالف نبينا صلّى اللّه عليه و آله ذلك أو يقصّر في الامتثال ، و هو أشرف الأنبياء و خاتمهم، و قد اجتمعت فيه خصال الكمال و صفات الشرف التي تفرّقت فيهم، و دينه أجمع الأديان ، و رسالته أشمل الرسالات و أكملها، فكيف يتركها غضّة طرية تتجاذبها الأهواء و النزاعات؟!
     ثانياًـ (قد جرت عادة الرسول صلّى اللّه عليه و آله أنه متى سافر عن المدينة أو غاب عنها، عيّن خليفته عليها، فكيف يترك الاستخلاف في غيبة الوفاة؟ مع علمه أنّه خاتم الأنبياء و الرسل، و أن التكليف لم يرتفع عن العباد بموته، بل هو باقٍ إلى يوم القيامة)(4).

(1) نهج البلاغة / تحقيق صبحي الصالح : 231 / خ 162.
(2) سورة الأنعام: 6 / 90.
(3) سورة الأحقاف: 46 / 9.
(4) حق اليقين 1: 38.



(39)

     و كان من جملة الذين استخلفهم رسول اللّه على المدينة خلال المغازي ابن اُمّ مكتوم، و أبو لبابة رفاعة بن عبدالمنذر (1) و سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، و زيد بن حارثة، و أبو سلمة المخزومي، و عبداللّه بن رواحة، و أبو رهم الغفاري و غيرهم(2).
     و استخلف علياً عليه السلام في تبوك، و كانت آخر غزواته.
     روي البخاري و مسلم عن سعد بن أبي وقاص ، قال: خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: « يا رسول اللّه، تخلّفني في النساء و الصبيان؟» قال صلّى اللّه عليه و آله: « أما ترضى أنت تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي» (3).
     إذن لقد كان دأب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنه لم يترك المدينة دون أن يستخلف عليها حتى و لو كانت الغزوة عند أطرافها كالخندق أو على بُعد ميلٍ عنها كاُحد، فكيف يمكن أن نتصور أنه يترك أمته أبد الدهر دون أن يستخلف عليها؟!
     هذا، و للشهيد الصدر رضي اللّه عنه ثلاث تصورّات حول مستقبل الرسالة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قد ناقشها نقاشاً عقلياً مستنيراً بالواقع التاريخي، و طبيعة الأحداث التي اكتنفت البعثة في صدرها الأول، و معطيات الواقع الفكري لرجالها، و يمكن تلخيص تلك التصورات بما يلي:

(1) راجع: اُسد الغابة/ ابن الأثير 2: 272 ، 280 و 6: 279 ـ دار إحيا التراث العربي ـ بيروت ـ 1417 هـ.
(2) التنبيه و الاشراف / المسعودي : 202 ـ 236 ـ دار الصاوي ـ القاهرة.
(3) صحيح البخاري 5: 89 / 202 ـ كتاب بدء الخلق ـ باب غزوة تبوك، صحيح مسلم 4: 1870 / 2404 ـ كتاب فضائل الصحابة ـ باب فضل علي عليه السلام.



(40)

     1ـ أن يقف الرسول صلّى اللّه عليه و آله من مستقبل الرسالة موقفاً سلبياً، و يكتفي بممارسة دوره في قيادة الأمّة و الرسالة و توجيهها فترة حياته، و يتركها في مستقبلها للظروف والصدف ، وهذه السلبية لا يمكن افتراضها في النبي صلّى اللّه عليه و آله لأنها انما تنشأ من أحد أمرين لا ينطبقان عليه.
     الأول: الاعتقاد بأن هذه السلبية و الاهمال لا يؤثران على مستقبل الرسالة، و أنّ الأمة التي سوف تخلف الدعوة قادرة على التصرف بالشكل الذي يحيي الدعوة و يضمن عدم الانحراف، و هذا الاعتقاد لا مبرر له من الواقع اطلاقاً ، بل إن طبيعة الأشياء كانت تدلّ على خلافه.
     الثاني: انه بالرغم من شعوره بخطر هذه السلبية لا يحاول تحصين الدعوة ضد ذلك الخطر، لأنه ينظر إليها نظرة مصلحية ، فلا يهمه إلّا أن يحافظ عليها ما دام حياً ليستفيد منها ويستمتع بمكاسبها و لا يُعنى بحماية مستقبلها بعد وفاته، و هذا التفسير لا يمكن أن يصدق على النبي صلّى اللّه عليه و آله لإخلاصه لرسالته و تفانيه فيها و تضحيته من أجلها حىي آخر لحظة من حياته و هو يسيّر جيش اُسامة، فهو يعيش هموم مستقبلها، و يشعر بالخطر المحدق بها، و يخطط لسلامتها من الأخطار المرتقبة بعد وفاته، فأراد أن يكتب لاُمته كتاباً يكون عصمة لها عن الضلالة، و جنّة تدرأ عنها عوامل الفرقة و الاختلاف ، فحيل بينه و بين ما أراد!!
     2ـ أن يخطط الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله للمستقبل، و يتّخذ موقفاً إيجابياً، فيجعل القيمومة على الدعوة و قيادة التجربة للاُمة الممثّلة على أساس نظام الشوريى في جيلها الأول الذي يضمّ مجموع المهاجرين و الأنصار.
     و الملاحظ أن طبيعة الأشياء و الوضع العام الثابت عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الرسالة و الصحابة يدحض هذه الفرضية، و ينفي أن يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله قد انتهج


(41)