المبحث الرابع
حقوق الجِوار

رابطة الجوار لها دورها العظيم في بناء الحياة الاجتماعية بناءً سليماً ؛ لاَنّها تعد بالمرتبة الثانية في النسيج الاجتماعي بعد رابطة الاَُسرة ، ولهذا نجد في التشريع الاِسلامي عناية خاصة بهذه الرابطة ، كما سيتضح في الفقرات التالية .
أولاً : الجوار في القرآن الكريم :
لم يرد ذكر الجار في القرآن الكريم إلاّ مرتين في آية واحدة ، وهي من قوله تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركُوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجّار ذي القُربى والجّار الجُنُب والصّاحب بالجَنْب..) (النساء 4 : 36) .
إنّ تدبّر الآية الكريمة يوقفنا على حقيقة في غاية الاَهمية ، وهي : إنّ الله تعالى قرن حقّ الجّار مع حقّ عبادته ومع حق الوالدين وذي القربى والمساكين ، وفي ذلك دلالة صريحة على أهمية حق الجِوار في الاِسلام ، لانتظامه مع التوحيد في سلك واحد ، مما يبوؤه المكانة التي يستحقها من البحث والدراسة .

( 38 )
يقول الشيخ أبو علي الطبرسي في معرض تفسيره لهذه الآية : (لما أمر سبحانه بمكارم الاخلاق في أمر اليتامى والازواج والعيال ، عطف على ذلك بهذه الخلال المشتملة على معاني الاُمور ومحاسن الاَفعال ، فبدأ بالاَمر بعبادته ، فقال : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) أي وحّدوه ، وعظّموه ، ولا تشركوا في عبادته غيره ، فإنّ العبادة لا تجوز لغيره ؛ لانها لا تستحق إلاّ بفعلِ اُصولِ النِعَم ، ولا يقدر عليها سواه تعالى ، ( وبالوالدين احساناً ) ، أي فاستوصوا بهما برّاً وإنعاماً وإحساناً وإكراماً ، وقيل : أنّ فيه اضمار فعل ، أي وأوصاكم الله بالوالدين إحساناً ، ( وبذي القربى واليتامى والمساكين ) ، معناه : احسنوا بالوالدين خاصة ، وبالقرابات عامة ، يقال : أحسنتُ اليه وأحسنتُ به ، واحسنوا إلى المساكين فلا تضيعوهم ، واعطوهم ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة وسائر ما لابدّ منه لهم ، (والجار ذي القربى والجار الجنب ) ، قيل معناه : الجار القريب في النسب، والجار الاَجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة ـ إلى أن يقول ـ : وهذه آية جامعة تضمنت بيان أركان الاِسلام ، والتنبيه على مكارم الاخلاق . ومن تدبّرها حق التدبّر ، وتذكّر بها حق التذكّر أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء ، وهَدَتْه إلى جمّ غفير من علوم العلماء) (1).
والنبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم من خلال إصراره على حق الجوار ، تمكن من قلب قيم وعادات المجتمع الجاهلي رأساً على عقب . صحيح أنّ المجتمع الجاهلي كان يحترم الجوَار ويرعى ـ في الاَعمّ ـ حرمته وعرضه وفي ذلك قال الشاعر ربيعة بن عامر (مسكين الدارمي) ( ت| 89 هـ) :

____________
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن 2 : 98 . منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت .

( 39 )

مــا ضـرّ جـاري أن أُجــاورَهُ * أنْ لا يـكـون لـِبـابـِهِ سـتــرُ
أعمى إذا ما جَارتـي خَـرَجـَتْ * حَتى يُواري جَارَتي الخِدْرُ
نَـــاري ونـَــارُ الـجـَّارِ واحـِدةٌ * وإلـيـه قـَبـْلـي يـنـزلُ الـقِدرُ

لكن الصحيح أيضاً ، أنّ كثيراً ما يُضرب بحقوق الجار عرض الحائط ، فيُغار عليه ، وتُسلب أمواله ، وتُسبى حريمه في السنين العجاف ، أو يشن عليه حرباً لا يخف لها أوار من أجل الثأر ، أو بدافع من العصبية القبلية ، أو طغيان الاَهواء والمصالح الشخصية . زد على ذلك كانت الاِثرة والاَنانية تضرب بأطنابها في المجتمع الجاهلي الذي كان على شفير الهاوية ، فانقذه الاِسلام منها وانتقل المجتمع ـ آنذاك ـ إلى مدار جديد بعد ان تكرّست فيه قيم وعادات جديدة .
لقد أعاد الوحي تشكيل الوعي الاجتماعي ، وخلق نفوساً نبيلة تؤثر المصلحة الاجتماعية على المصالح الفردية الآنية ، وخير شاهد على ذلك ما روته كتب السيرة من أنه : (أُهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأس شاة فقال : إنَّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منَّا ، فبعث به إليهم ، فلم يزل يبعث واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى الاوّل) (1).
ثانياً : حق الجار في رسالة الحقوق :
رسالة الحقوق للاِمام زين العابدين عليه السلام هي أوّل وثيقة إسلامية شاملة لحقوق الاِنسان . وهذا الاَثر النفيس بقي محفوراً على لوحة الزمان ،
____________
(1) الدّر المنثور ، السيوطي 6 : 95 .

( 40 )
تتناقله الاَجيال من جيل لآخر ، يستمدون منه أعمق مشاعر الحب لله ، وحق الاِنسان في الكرامة والرّفعة ، والاعتراف بحقوقه المقدسة .
وفيما يتصل بحق الجِوار ، فقد جاء فيها : «وحقّ جارك فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً ، ونصرته إذا كان مظلوماً ، ولا تتبع له عورة ، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه ، وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه ، ولا تسلمه عند شدائده ، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه ، وتعاشره معاشرة كريمة ، ولا تدّخر حلمك عنه إذا جهل عليك ، ولا تخرج أن تكون سلماً له، ترد عنه لسان الشتيمة ، وتبطل فيه كيد حامل النميمة . ولا حول ولا قوة إلاّ بالله» (1) .
هذه الفقرة من رسالة الحقوق المنسوجة بلغة قوية الاِيحاء ، نجد فيها نظرة أعمق وأرحب لحقوق الجّار ، فهي ترسم علاقة تكاملية بين المتجاورين ، وتعقد بينهم أواصر أُخوّة حقيقية . فنلاحظ أنّ للجّار حق الحفظ في غيبته ، وحق الاِكرام في إقامته ، وحق النصرة عند مظلوميته ، وفوق ذلك له حقوق إضافية منها : حق الستر ، والنصيحة ، والمغفرة ، والمعاشرة الحسنة .
وقد تناول شارح رسالة الحقوق هذه الفقرة مبيناً أنّ الاِسلام قد اعتنى بحق الجار وجعله عظيماً ، يكاد يكون ـ حسب تعبيره ـ من أعظم الحقوق الاِنسانية ، واستدل على ذلك بوصايا جبريل عليه السلام المتكررة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول الجار ، وبالآية المتقدمة من سورة النساء ، ثم استأنف قائلاً : (وعلى هذا فالوصاية بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلماً كان أو كافراً .
____________
(1) شرح رسالة الحقوق ، القبانچي 2 : 169 .

( 41 )
والاِحسان قد يكون بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الاَذى والمحاماة دونه ، فيحسن أن يتعاون الجاران ويكون بينهما الرحمة والاحسان ، فاذا لم يُحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس ـ إلى أن قال : ـ على هذا المنهج القويم من القرآن ، وهذا الاَسلوب المنير من السنة ، سار الاِمام زين العابدين عليه السلام في هذا الفصل من رسالته الخالدة في التنويه بحق الجار والعناية والاهتمام به ، أَلا تنظر إليه قائلاً : «وحق جارك حفظه غائباً وإكرامه شاهداً ونصرته إذا كان مظلوماً..» . يعني : يجب حفظه إذاً... بمعنى ان لا يخونه وأن يكون أميناً على ما ائتمنه عليه، وإكرامه واحترامه والحفاوة به إذا حضر ، ونصره ومعونته إذا ألمَّ به خطب أو نزل به ضرٌّ .
ويجب على ما قرّره عليه السلام ستره ما أمكن ، فالله يحب الساترين ، ويكره الفضيحة والافشاء ، ويكره التجسس والمراقبة ، فإن ظهر على الجار شيء ما مِن دون تجسس أو مراقبة ، فعلى جاره أن يكتم كل ما عرف ، وأن يكون حصناً حصيناً لهذا السر الذي بيده مفتاحه . ويجب أن ينصره إذا سمع عليه مقالة سوء ، ويكره الله أن يستمع إلى قوم ينوشون جاراً بالسوء وفسق اللِّسان وهو عنهم راض ، وأن يقيل عثرته ، وينهضه من كبوته ، ويُغضي عن بعض ما قد يسوء من أعماله ، فان الاِنسان معرّض للخطأ ، وأن يمنعه ، ويذود عنه ، ويدفع كل ما يضر به) (1).
وهنا يبدو من الضروري بمكان ، الاِشارة إلى أن أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يختص تميّزهم عن غيرهم بنظرتهم العميقة لمعنى الجوار ، وهو الصبر
____________
(1) شرح رسالة الحقوق ، القبانچي 2 : 191 .

( 42 )
على الاذى وليس كف الاَذى كما قال العبد الصالح عليه السلام : «ليس الجوار كف الاَذى ، ولكن حسن الجوار صبرك على الاَذى» (1).
وإنما تميزوا أيضاً بتجسيدهم هذا المفهوم من عالم المعنى إلى عالم الحس والواقع .
لقد ترجم أهل البيت عليهم السلام أقوالهم إلى سلوك سويّ ، أصبح قدوة حسنة لمن أراد الاقتداء به . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، كان الاِمام السجاد عليه السلام ، حريصاً على أداء حقوق الآخرين ، وان كانوا من أعدائه.. جاء في رواية الواقدي : إنّ هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان والياً على المدينة لعبد الملك بن مروان ، وقد أساء جِوار الاِمام ولحقه منه أذى على حد تعبير الراوي ، فلما مات عبدالملك ، عزله الوليد بن عبدالملك ، وأوقفه للناس ؛ لكي يقتصوا منه ، فقال : والله إني لا أخاف إلاّ علي بن الحسين ، فمر عليه الاِمام ، وسلم عليه ، وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء ، وأرسل له : «إن كان أعجزك مال تؤخذ به ، فعندنا ما يسعك ، ويسد حاجتك ، فطب نفساً منّا ، ومن كل من يطيعنا» ، فقال له هشام بن اسماعيل : الله أعلم حيثُ يجعل رسالته (2).
وكان الاِمام السجاد عليه السلام يدعو لجيرانه بكلمات بلغت الغاية في الرّقة ، ضمّنها ما لهم من الحقوق ، وصبها في قالب الدّعاء .
تمعّن في هذا الدّعاء من أدعية الصحيفة السجادية ، الذي يفيض
____________
(1) أُصول الكافي 2 : 636 ـ 637 | 9 باب 24 من كتاب العشرة، كنز العمال : ح4422.
(2) سيرة الائمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ، القسم الثاني : 149 .

( 43 )
بالمعاني ، ويحمل أجمل المشاعر : ـ «اللّهُمَّ تولَّني في جيراني باقامة سُنَّتكَ ، والاَخذ بمحاسن أدَبك في إرفاقِ ضعيفهم ، وسدْ خلّتهم ، وتَعهُّد قادمهم ، وعيادة مريضهم، وهداية مسترشدهم ، وكتمان أسرارهم ، وستر عوراتهم ، ونصرة مظلومهم ، وحُسن مواساتهم بالماعون ، والعود عليهم بالجدَةِ والاِفضال ، واعطاء ما يجبُ لهم قبل السؤالِ والجود بالنَّوال ـ اي العطاء ـ يا أرحم الراحمين» (1).

____________
(1) الصحيفة السجادية الكاملة : 132 دعاء 26 ، نشر وتحقيق مؤسسة الاِمام المهدي (عج) ط1.

( 44 )

( 45 )

الفصل الثاني

الحقوق العائلية

( 46 )

( 47 )

المبحث الاَول

حق الاَبوين
أولى الاِسلام عنايةً خاصة للاَسرة وللمحافظة عليها ، من خلال تحديده للحقوق المترتبة على أفرادها تجاه بعضهم البعض ، كي تصان الاَُسرة بصفتها اللّبنة الاساسية في بناء المجتمع الذي ينشده الاِسلام . ولما كان الوالدان هما حجري الاساس في بناء الاَُسرة وتنشئة الجيل ، نجد القرآن الكريم يصرّح بعظم مكانتهما ووجوب الاِحسان اليهما .
وفيما يأتي بيان لحقوق الوالدين في القرآن الكريم ، والسُنّة النبوية ، وأقوال أهل البيت عليهم السلام :

أولاً : حقوق الوالدين في القرآن الكريم :
قرن تعالى وجوب التعبد له ، بوجوب البرّ بالوالدين في العديد من الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : ( وقضى ربُّك ألاّ تعبُدُوا إلاّ إيّاهُ وبالوالدين إحساناً..) (الاِسراء 17 : 23) ، وقوله تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدونَ إلاّ الله وبالوالدين إحساناً..) (البقرة 2 : 83) ، وقوله تعالى : ( قُلْ تعالوا أتلُ ما حرَّمَ ربّكم عليكُم ألاّ تُشركُوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً..) (الانعام 6 : 151) . ثم قرن الشكر له بالشكر لهما في قوله تعالى: (.. أن أشكُر لي ولوالديك إليَّ المصيرُ ) (لقمان 31 : 14) .

( 48 )
وهكذا نجد أنّ الله تعالى يعتبر الاِحسان إلى الوالدين ، قضية جوهرية ، فهي من الاَهمية بمكان ، بحيث يبرزها ـ تارة ـ في عالم الاعتبار بصيغة القضاء : ( وقضى ربُّك..) ، ويجسدها ـ تارة أُخرى ـ في عالم الامتثال بصيغة الميثاق : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل.. ) ، ويعتبر التعدي على حرمتهما حراماً .
وهنا لابد من التنبيه على أن القرآن الكريم وفي العديد من آياته يؤكد على الاَولاد بضرورة الاِحسان إلى الآباء ، أما الآباء فلا يؤكد عليهم الاِهتمام بأبنائهم إلاّ نادراً ، وفي حالات غير عادية كأن لا يقتلوا أولادهم خشية الاِملاق ، ويكتفي بالتأكيد على أن الاولاد زينةٌ ومتعة ، وموضع فتنة وإغراء للوالدين ، ولم يذكرهم إلاّ مقرونين بالمال وفي موضع التفاخر .
قال تعالى : ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) (الانفال 8 : 28) ، وقال تعالى : (... وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد...) (الحديد 57 : 20) ، والسرُّ في ذلك : ان علاقة الوالدين بأولادهم هي أشدّ وأقوى من علاقة الاَولاد بوالديهم ، فالآباء بحكم الغريزة الطبيعية أكثر حباً للاَولاد من حب الاَولاد لهم ، وخصوصاً الاَم التي تلف أبناءها برداء الحنان وتضحي بالغالي والنفيس من أجلهم ، وتندفع غريزياً وتلقائياً للقيام بما يؤمن حوائجهم ، وتعمل جاهدة من أجل صنع إكليل سعادتهم ، وعليه فلا يحتاج الآباء إلى توجيه وتوكيد في هذا الصَّدد ، وانما يحتاجون ـ فقط ـ إلى استجاشة الوجدان من أجل تنشئة الجيل ، تنشئة صالحة .
أما الاَبناء فتعلقهم بالآباء أضعف فطرةً من تعلق الآباء بهم . ومن هنا
( 49 )
وَرَدَ الاَمر القرآني القاضي بالاحسان إلى الوالدين من أجل رسم علاقة متكافئة بين الطرفين ، لذا وضع حقهم في المرتبة اللاحقة بعد حقّه تعالى.
وبنظرة أعمق جعل الاِحسان إلى الوالدين المظهر الاجتماعي للعبادة الحقّة ، وكل تفكيك بين العبادة ومظهرها الاجتماعي، بالاِساءة إلى الوالدين على وجه الخصوص، ولو بكلمة «أُفّ» ، يعني إفساداً للعبادة.. كما تُفسد قطرة الخلّ العسل .
للاَم حقٌ أكبر :
منح القرآنُ الاَُمَّ حقاً أكبر ، وذلك لما تقدمه من تضحيات أكثر . فالاَُم هي التي يقع عليها وحدها عبء (الحمل والوضع والارضاع) وما يرافقهما من تضحيات وآلام ، حيثُ يبقى الطفل في بطنها مدّة تسعة أشهر على الاغلب في مرحلة الحمل ، يتغذى في بطنها من غذائها ، ويقر مطمئنا على حساب راحتها وصحتها ، ثم تأتي مرحلة الوضع ، الذي لا يعرف مقدار الاَلم فيه إلاّ الاَُم ، حيثُ تكون حياتها ـ أحياناً ـ مهددة بالخطر، وتأتي بعدها مرحلة الارضاع والحضانة وما يتخللها من عناء وسهر . فمن أجل كل ذلك يؤكد الاِسلام على الاَولاد بضرورة القيام بحق الاَم ، وفاءً بالجميل ، واعترافاً بالفضل . وفي ظل هذه التضحيات كان من الطبيعي ، ان يخصّ القرآن الاَم بالعرفان ، ويوصي بها على وجه الخصوص : ( ووصَّينا الاِنسان بوالديه حملتهُ أُمُّه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين ..) (لقمان 31 : 14) ، وبذلك يؤجج القرآن وجدان الابناء حتى لا ينسوا أو يتناسوا جهد الآباء وخاصة الاَم وما قاسته من عناء ، ويصبّوا كلَّ اهتمامهم على الزوجات والذرّية .

( 50 )

ثانياً : حقوق الوالدين في السُّنة النبوية :
احتلت مسألة الحقوق عموماً وحقوق الوالدين على وجه الخصوص مساحةً كبيرةً من أحاديث ووصايا النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك للتأكيدات القرآنية المتوالية ، وللضرورة الاجتماعية المترتبة على الاِحسان إليهما، خصوصاً وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اضطلع بمهمةٍ تغييرية كبرى تتمثل باعادة تشكيل وعي جديد ومجتمع جديد .
ولما كانت الاَُسرة تشكل لبنةً كبيرة في البناء الاجتماعي ، وجب رعاية حقوق الوالدين القيِّمَين عليها ، وبدون مراعاة ذلك ، يكون البناء الاجتماعي متزلزلاً كالبناء على الرَّمل .
وعليه ، فقد تصدّرت هذه المسألة الحيوية سلّم أولويّات التوجيه النبوي ، بعد الدعوة لكلمة التوحيد ، فقد ربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين رضا الله تعالى ورضا الوالدين ، حتى يعطي للمسألة بعدها العبادي ، وأكد ـ أيضاً ـ بأنّ عقوق الوالدين هي من أكبر الكبائر ، وربط بين حب الله ومغفرته ، وبين حب الوالدين وطاعتهما ، فعن الاِمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام : «إنّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله ما من عمل قبيح إلاّ قد عملته فهل لي من توبة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «فهل من والديك أحد حيٌّ» ؟ قال : أبي ، قال : «فاذهب فبره» . قال : فلمّا ولّى ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لو كانت أُمّه» (1).

____________
(1) بحار الانوار 74 : 82 .

( 51 )
وعن الاِمام الصادق عليه السلام قال : «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله مَنْ أبِرُّ ؟ قال : أُمَّكَ ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : أُمَّكَ ، قال : ثم مَنْ ؟ قال: أُمَّكَ ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : أباك» (1).
وفي التوجيه النبوي : من حق الوالد على الولد ، ان يخشع له عند الغضب ، حرصاً على كرامة الآباء من أن تُهدر ، وفوق ذلك ، فقد اعُتبر التسبب في شتم الوالدين من خلال شتم الولد للآخرين كبيرة من الكبائر ، تستحق الاِدانة والعقاب الاخروي . ثم ان البَّر بهما لا يقتصر على حياتهما فيستطيع الولد المطيع ان يبَّر بوالديه من خلال تسديد ديونهما أو من خلال الدعاء والاستغفار لهما ، وغير ذلك من أعمال البرَّ .
لقد جسّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه التوصيات على مسرح الحياة ، ففي الوقت الذي كان يحث المسلمين على الهجرة ، ليشكل منهم نواة المجتمع التوحيدي الجديد في المدينة ، وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون قلائل بالآحاد ، تروي كتب السيرة ، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : جئت أبايعك على الهجرة ، وتركت أبويّ يبكيان . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «إرجع اليهما فاضحكهما كما أبكيتهما» (2).
ومن الشواهد الاخرى ذات الدلالة القوية ، على تأكيد السيرة النبوية على رعاية حق الوالدين ، أنّ أختاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة زارته يوماً ، فرحَّب بها ترحيباً حاراً ، وأكرمها غاية الاِكرام ، ثم جاء أخوها إليه ، فلم يصنع معه ما صنع معها من الحفاوة والاِكرام ، فقيل له : يا رسول الله :
____________
(1) أُصول الكافي 2 : 167 | 9 باب البر بالوالدين .
(2) التّرغيب والترهيب 3 : 315 .

( 52 )
صنعت بأخته ما لم تصنع به ، وهو رجل ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّها كانت أبرَّ بأبيها منه» (1) .
وهكذا نرى أنّ التوجه النبوي يجعل ميزان القرب والبُعد مرتبطاً بمدى رعاية المرء لحقوق والديه .
ولا يفوتنا في نهاية هذه الفقرة ، ان ننوه بالمكانة التي يوليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للاَم ، ويكفي شاهداً على ذلك قوله (ص): «الجنة تحت أقدام الامهات» (2).

ثالثاً : حقوق الوالدين في مدرسة أهل البيت :
أعطى الاَئمة الاَطهار لتوجّهات القرآن الكريم وأقوال النبي وأفعاله الفكرية والتربوية روحاً جديدة ، وزخماً قوياً عندما أُلقيت على عواتقهم وظيفة النهوض الحضاري بالاَمة في جميع المجالات ، خصوصاً بعد التداعيات والشروخ التي حصلت في المجتمع الاسلامي من جراء سيطرة حكام الجور والضلال على مراكز القرار . فعمل الاَئمة عليهم السلام باخلاص من أجل تقويم الاعوجاج وترشيد المسار الحضاري للاَمة .
وفي ما يتعلق بحق الوالدين ، نلاحظ أنهم عملوا على عدة محاور ، يمكن إبرازها على النحو الآتي :

1 ـ تفسير ما ورد من آيات قرآنية :
ينبغي الاِشارة هنا إلى أنّ أهل البيت عليهم السلام هم الذين أُنزل القرآن في
____________
(1) بحار الانوار 74 : 82 .
(2) كنز العمال 16 : 461 | 45439 .

( 53 )
بيوتهم ، وقَرنَهم الرسول الاَعظم به ، وغدوا بذلك قرآناً ناطقاً ، ينطقون بالحق ويؤكدون على أداء الحقوق .
فقد حدّد الاِمام جعفر الصادق عليه السلام مفهوم الاِحسان الوارد بقوله تعالى : ( وقضى ربُّك ألاّ تعبدُوا إلاّ إيَّاهُ وبالوالدين إحساناً..) (الاِسراء 17 : 23) ، فقال عليه السلام : «الاِحسان : أن تُحسن صحبتهما ، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه ، وإنْ كانا مستغنيين» (1).
وحول قوله تعالى : (.. إما يبلغنَّ عندك الكبر أحدُهُما أو كلاهُما فلا تقُلْ لهما أُفٍّ ولا تنهرهُما... ) (الاِسراء 17 : 23) .
قال عليه السلام : «إن أضجراك فلا تقل لهما أُفٍّ ، ولا تنهرهما إن ضرباك» (2).
وعن قوله تعالى : ( وقُلْ لهما قولاً كريماً ) (الاِسراء 17 : 23) ، قال عليه السلام : «إنْ ضرباك فقل لهما : غفر الله لكما» (3). وقال الصادق عليه السلام : «أدنى العقوق (أُفٌّ) ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه» (4).
وفي ضوء قوله تعالى : ( واخفض لهما جناح الذُّل من الرَّحمةِ وقُلْ رَبِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً ) (الاِسراء 17 : 25) ، يقول أيضاً (ع): «لا تملاَ عينيك من النّظر اليهما إلاّ برحمة ورقّة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدَّم قدّامهما» (5). وحول الآية الكريمة : ( ان اشكُر
____________
(1) أُصول الكافي 2 : 165 | 1 باب البر بالوالدين .
(2) أُصول الكافي 2 : 165 | 1 باب البر بالوالدين .
(3) أُصول الكافي 2 : 165 | 1 باب البر بالوالدين .
(4) أُصول الكافي 2 : 349 | 1 باب العقوق .
(5) أُصول الكافي 2 : 165 | 1 باب البر بالوالدين .

( 54 )
لي ولوالديك إليَّ المصير ) (لقمان 31 : 14) ، يقول الاِمام علي بن موسى الرِّضا عليه السلام : «إن الله عزّ وجل.. أمر بالشكر له وللوالدين ، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله» (1).

2 ـ استثارة الوازع الاَخلاقي :
أراد الاَئمة عليهم السلام أن تبقى منظومة الاَخلاق في الاَُمّة حيةً فعالةً ، انطلاقاً من حرصهم الدائم على سلامة المجتمع الاِسلامي ، حتى لا يتردى أفراده في مهاوي القلق والضياع .
وعليه فقد حثّوا على التمسك بالقيم الاَخلاقية في تعامل الاَولاد مع والديهم ، بحيث تتحول إلى طبع يطبع سلوك الاَبناء.. وفي هذا الصَّدد يقول الاِمام علي عليه السلام : «برّ الوالدين من أكرم الطباع»(2). ويقول حفيده الاِمام الهادي عليه السلام : «العقوق ثكل من لم يثكل»(3).

3 ـ تحديد الحكم الشرعي :
لم يبقِ آل البيت عليهم السلام مسألة حقوق الوالدين في إطار التوجهات القرآنية أو مجرد استثارة الدوافع الاخلاقية ، بل حددوا الحكم الشرعي لهذه المسألة الحيوية ، واعتبر الامام علي عليه السلام : «برّ الوالدين أكبر فريضة» (4). ويقول الاِمام الباقر عليه السلام : «ثلاث لم يجعل الله عزّ وجلّ لاَحد فيهنّ رخصة :
____________
(1) بحار الأنوار 74 : 68 .
(2) بحار الأنوار 77 : 212 .
(3) بحار الأنوار 74 : 84 .
(4) غرر الحكم : 239 | 4512 .

( 55 )
أداء الاَمانة إلى البرّ والفاجر ، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر ، وبرّ الوالدين برين كانا أو فاجرين» (1).
والجدير بالذكر ، أن الاِسلام لم يربط حقوق الوالدين بقضية الدين ، وضرورة كونهما مسلمين ، بل أوجب رعاية حقوقهم بمعزل عن ذلك ، يقول الاِمام الرِّضا عليه السلام : «برّ الوالدين واجب وإنْ كانا مشركين ، ولا طاعة لهما في معصية الخالق» (2). ولم يكتف الاِمام الرِّضا عليه السلام بتبيان الحكم الشرعي بل كشف عن الحكمة من وراء هذا التحريم بقوله : «حرّم الله عقوق الوالدين لما فيه من الخروج من التّوفيق لطاعة الله عزّ وجلّ ، والتّوقير للوالدين ، وتجنّب كفر النّعمة ، وابطال الشكر ، وما يدعو من ذلك إلى قلّة النّسل وانقطاعه ، لما في العقوق من قلّة توقير الوالدين ، والعرفان بحقّهما ، وقطع الاَرحام ، والزّهد من الوالدين في الولد ، وترك التّربية بعلّة ترك الولد برّهما» (3) .
من خلال التمعن في هذا النصّ نجد نظرةً أرحب وأعمق لحق الوالدين، وكون القضية لا ترتبط بالجانب المعنوي المتعلق بحقوق الوالدين فحسب ، بل لها آثار واقعية على مجمل الكيان الاجتماعي ، وعلى الاَخص فيما يتعلق بمسألة حفظ الجنس البشري من الانقراض والاستئصال ، كما أن للمسألة آثاراً تربوية سلبية واضحة ، فعندما يجد الوالدان أنفسهما وقد هدرت كرامتهما ، وصودر حقهما من قبل الاَبناء ،
____________
(1) بحار الأنوار 74 : 56 .
(2) بحار الأنوار 74 : 72 .
(3) بحار الأنوار 74 : 75 .

( 56 )
فسوف يتشكل رأي عام في المجتمع ، بأن انجاب الاَولاد ، أو على الاَقل بذل الجهد في تربيتهما ، عملية خاسرة ، وتسفر عن نتائج غير مُرضية ، وهذا سوف يؤدي إلى قلة أو انقطاع النسل ـ كما نوّه الاِمام عليه السلام ـ أو يؤدي إلى عدم الاهتمام بتربية الابناء ، وفي كلتا الحالتين فالخسارة فادحة على المجتمع . ويحصل العكس من ذلك لو وجد الاَبوان أنفسهما في موضع التكريم والاحترام ، فسوف يحرصون على إنجاب الاَطفال ، والقيام بتربيتهم على النحو الاَفضل .
وخير شاهد معاصر على ذلك ما يحصل الآن في المجتمعات الغربية ، فقد أدّى التفكك الاَُسري إلى متاهات لا تُحمد عقباها ، وأخذ الولد يتنكر لقيمومة والديه ويتنصل عن أداء حقوقهما ، وانجرف في تيار المادة واللّذة العارم ، الاَمر الذي أدّى إلى قلّة النسل الشرعي وعدم الاهتمام بتربية الطفل، وايكاله إلى دور الحضانة ، وبلغ الانتكاس الاجتماعي حداً ، بحيث أصبحوا يهتمون بتربية الحيوان وخاصة الكلاب أكثر من الذين خرجوا من الاَصلاب ! واذا استمر هذا الوضع الشاذ ، بشيوع حالة من الاَنانية والانعزال ، فسوف يؤدي إلى انقطاع أو على الاَقل قلة النسل الشرعي ، وتصبح المجتمعات الغربية على شفير الهاوية .

4 ـ تحديد الحقوق المترتبة للوالدين :
تتسع عدسة الرؤية للحقوق في مدرسة أهل البيت عليهم السلام عن غيرها من المدارس والمذاهب القانونية والاجتماعية ، فهي تركز في توجهاتها على الحقوق المعنوية ، وتضعها في سلّم الاَولوية ، ولا يعني ذلك إهمال الحقوق المادية ، فإذا كانت النَّظرة المتعارفة للحق انه حقٌّ ماديٌّ بالدَّرجة
( 57 )
الاَساس ، فانَّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام تنظر للحق نظرة أرحب وأشمل ، هي نظرة الاِسلام العميقة التي تُقدم الجانب المعنوي على المادي ، وعلى هذا الاَساس ، نلاحظ أنّ أكثر توصيات وأحاديث الاَئمة عليهم السلام تنصب على رعاية الحقوق المعنوية ، كالطاعة للوالدين والشكر والنصيحة لهما ، يقول الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة : «إنّ للولد على الوالد حقّاً... أن يطيعه في كلِّ شيء إلاّ في معصية الله سبحانه» (1).
ويقول حفيده الاِمام الصادق عليه السلام : «يجب للوالدين على الولد ثلاثة أشياء : شكرهما على كلِّ حال ، وطاعتهما فيما يأمرانه وينهيانه عنه في غير معصية الله ، ونصيحتهما في السرِّ والعلانية» (2).
ويقول الاِمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام في رسالة الحقوق : «أمّا حق أبيك فأنْ تعلم أنّه أصلك ، وأنّه لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك ، فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه ، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ، ولا قوة إلاّ بالله» (3).
ويقول عليه السلام في ما يتعلق بحق الاَم : «أما أُمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها مالا يعطي أحدٌ أحداً، ووقَتْك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلّك ، وتهجر النّوم لاَجلك، ووقَتْك الحرَّ
____________
(1) نهج البلاغة ـ ضبط صبحي الصالح : 399 .
(2) تحف العقول ـ لابن شعبة الحراني : 322 ـ مؤسسة النشر الاِسلامي ط2 .
(3) بحار الأنوار 74 : 6 .

( 58 )
البرد تكون لها ، فإنّك لا تطيق شكرها إلاّ بعون الله وتوفيقه»(1).
بهذه اللغة الوجدانية الشفافة يصوغ الاِمام زين العابدين عليه السلام بنود الحقوق الاعتبارية للوالدين .
وأيضاً ينقل أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام عن جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم : أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ما حقّ الولد على والده ؟ قال : «لا يُسمّيه باسمه ، ولا يمشِ بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسب له» (2).
وأنت لو تمعنت في السطور المتقدمة ، تلمس بوضوح عمق التركيز على الحقوق المعنوية للوالدين ، ولعل السرّ في ذلك أن تطعيم الاَولاد فكريا ووجدانياً من خلال إدراك هذا النوع من الحقوق الاعتبارية ، يمنح الاَولاد المناعة والحصانة من الاِصابة بالاَمراض الاجتماعية ، تلك التي تقوّض كيان الاَُسرة كمجتمع صغير ، وتنعكس أعراضها وآثارها التدميرية على المجتمع الكبير .
ومن الضروري الاِشارة إلى أن التركيز على الحقوق المعنوية ، لا يعني بحال اغفال ما للوالدين من حقوق مادية ، كضرورة الانفاق عليهم عند العوز أو الشيخوخة ، ولكن وفق ضوابط وحدود معقولة .
والظاهر أنّ الرأي السائد آنذاك ، هو ان للوالد مطلق التصرف في أموال بنيه، اعتماداً على رواية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الخصوص ، ولكن الاِمام
____________
(1) بحار الأنوار 74 : 6 .
(2) أُصول الكافي 2 : 166 | 5 باب البر بالوالدين ، ولا يستسب : أي لا يصير سبباً لسب الناس له، كأن يسب آباءهم فيسب الناس والده .

( 59 )
الصادق عليه السلام قشع هذا المفهوم الخاطئ من أذهان الكثيرين ، وفق مبادئ وقواعد الاِسلام ، التي تمنع الضَّرر والاِضرار بالآخرين ، وكشف عليه السلام عن الدواعي التي حملت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القول لرجل اشتكى من أبيه ـ وادّعى أنه أخذ ميراثه الذي من أمه ـ : «أنت ومالك لاَبيك» بان الاَب كان معسراً ، وقد الجأته الضرورة لذلك ، فالاَمر لا يعدو أن يكون قضية في واقعة .
يتضح لك ذلك عند قراءة الرّواية التالية : عن الحسين بن أبي العلاء قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : ما يحلّ للرّجل من مال ولده ؟ قال عليه السلام : «قوته بغير سرف إذا اضطرّ اليه» ، قال : فقلت له : فقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرّجل الذي أتاه ، فقدّم أباه ، فقال له : «أنت ومالك لاَبيك» ؟ فقال عليه السلام : «إنّما جاء بأبيه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أُمي ، فأخبره الاَب أنّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لاَبيك ، ولم يكن عند الرّجل شيء أفكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبس الاَب للاِبن» (1)!

____________
(1) فروع الكافي 5 : 138 / 6 باب 47 من كتاب المعيشة