المبحث الثاني

الآثار السلبية الدنيوية لمن عق والديه
ذكرنا فيما سبق بعض الآثار الاَخروية المترتبة على عقوق الوالدين، ولعل من أبرزها التعرض لسخط الله تعالى ، وعدم قبول الطاعات وغير ذلك من آثار . ومن يطّلع على أحاديث أهل البيت عليهم السلام يجد حشداً من الاَحاديث في هذا المجال ، وهنا سوف نقتصر على إبراز الآثار السلبية في دار الدنيا لمن أساء لوالديه ، ويمكننا تصنيفها حسب النقاط الآتية :

أولاً : التعرض للفقر والفاقة :
يقول الاِمام جعفر الصادق عليه السلام في هذا الخصوص : «أيّما رَجلٍ دعا على ولده أورثه الفقر» (1).

ثانياً : المقابلة بالمِثل :
إنّ الاَولاد الذين يسيئون التصرف مع آبائهم ، سوف يقابلهم آبناؤهم بالمِثل ، ولا يقيمون لهم وزناً عندما يكبرون ، ويؤكد هذه الحقيقة ما ورد عن الاِمام جعفر الصادق عليه السلام : «برّوا آباءكم ، يبرّكم آبناؤكم» (2)، وقد
____________
(1) بحار الأنوار 104 : 99 .
(2) بحار الأنوار 74 : 65 .

( 61 )
أثبتت التجارب العملية هذه الحقيقة ، وغدت من المسلّمات عِبَر الاَجيال، فالذي يعق والديه يواجه الحالة نفسها مع أبنائه لا محالة .

ثالثاً : العقوق يُورِثُ الذّلة والمهانة :
مما لاشك فيه ، ان الفرد الذي يعق والديه ، ينظر له المجتمع بعين السخط والاستخفاف ، ويصبح منبوذاً مذموماً على الصعيد الاجتماعي ، ولا يُذكر إلاّ بالعار والشنار ، مهما تستر خلف سواتر الاَعذار ، يقول الاِمام الهادي عليه السلام : «العقوق يعقب القلّة ، ويؤدي إلى الذِّلة».. ويمكن حمل كلمة «القلّة» في الحديث على إطلاقها ، فتشمل القلة في المال والفقر المعنوي والاجتماعي ، المتمثل بقلة الاَصدقاء والمعارف الذين لا يلقون حبال ودّهم إلى من عقّ والديه ، وكيف تحصل الثقة بمن قطع حبال الودّ مع والديه ، وهما من أقرب المقربين إليه ؟

( 62 )

المبحث الثالث
القدوة الحسنة

إنَّ اقتحام العقول والنفوس بغية التأثير في الناس ، أصعب بكثير من اقتحام المواقع والثغور ، وذلك لاَن الناس يختلفون اختلافاً بيّناً في طريقة التفكير ، وفي مركّب المزاج وفي مستوى الثقافة ، ونتيجة لكلِّ ذلك ، تصبح عملية التعامل معهم ، والتأثير فيهم عملية صعبة وشاقة ، وتحتاج إلى قدرات ومتطلبات من نمط خاص ، لا تتوفر إلاّ عند الخواص من أهل الصَّبر ، والعلم بمواقع الاَمر . وأهل البيت في مقدمة هذا الطراز الرّفيع من القادة ، الذين تمكنوا من اجتذاب الناس وامتلكوا أزمّة قلوبهم ، ومفاتيح عقولهم من خلال القدوة الحسنة والسلوك السويّ ، خصوصاً وأنّ الناس ـ عادة ـ لا تتأثر بلسان المقال ، بقدر ما تتأثر بلسان الحال . ومن الشواهد الدالة على إلتزام الاَئمة عليهم السلام العملي بحقوق الوالدين ، وتأثر الناس بهذا السلوك ، ان الاِمام علي بن الحسين عليه السلام كان يأبى ان يؤاكل أمّه ، واسْتَلْفَتَ هذا الموقف أنظار أصحاب الاِمام والمحيطين به ، وسألوه باستغراب : إنك أبرّ الناس وأوصلهم للرّحم ، فكيف لا تؤاكل أمك ؟! فقال عليه السلام : «إني أكره أن تسبق يدي إلى ماسبقت إليه عينها ، فاكون قد عققتها» (1)!

____________
(1) في رحاب أئمة أهل البيت للسيد محسن الامين ـ 2 : 195 .

( 63 )
هذا الموقف الذي يستحق الاِعجاب والتقدير ، يكشف العمق السلوكي لروّاد مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، ويعطي درساً لا ينسى في وجوب رعاية حقوق وحرمة الوالدين .
وتجدر الاشارة إلى أن الاِمام زين العابدين عليه السلام كان يدعو لوالديه ، ويشير إلى عظم حقهما عليه ، فيقول : «يا الهي أين طول شغلهما بتربيتي ؟ وأين شدة تعبهما في حراستي ؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة عليّ هيهات ما يستوفيان مني حقهما ، ولا أدرك ما يجب عليَّ لهما ، ولا أنا بقاضٍ وظيفة خدمتهما» (1).
وفي دعاء آخر تضمنته الصحيفة السجادية ، يقول عليه السلام : «اللّهم اجعلني أهابهما هيبة السّلطان العسوف ، وأبرّهما برّ الاَُمّ الرّؤوف ، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان ، وأثلج لصدري من شربة الظّمآن حتّى أُوثر على هواي هواهما» (2).
وقد سلك بقية الاَئمة عليهم السلام هذا المسلك نفسه ، وعملوا على استئصال كلّ ما من شأنه الحطّ من مكانة الوالدين ، ومن الشواهد الدالة على ذلك : عن ابراهيم بن مهزم قال : خرجت من عند أبي عبدالله عليه السلام ليلةً ممسياً فأتيت منزلي بالمدينة وكانت أُمّي معي ، فوقع بيني وبينها كلام فأغلظت لها . فلمّا أن كان من الغد صلّيت الغداة وأتيت أبا عبدالله عليه السلام ، فلما دخلت عليه ، قال لي مبتدئاً : «يا أبا مهزم ، مالك ولخالدة أغلظت في كلامها البارحة ؟ أما علمت أنّ بطنها منزل قد سكنته، وأنّ حجرها مهد قد غمزته ،
____________
(1) التفسير الكاشف ـ محمد جواد مغنيَّه ـ 2 : 321 ـ دار العلم للملايين ط3 .
(2) الصحيفة السجادية الكاملة : 132 دعاء 26 ، نشر وتحقيق مؤسسة الاِمام المهدي (عج) ط1.

( 64 )
وثديها وعاء قد شربته» ؟! قال : قلت : بلى ، قال : «فلا تغلظ لها» (1). وكان لهذه الكلمات فعل السحر على الابن فسارع للاعتذار من أمه .
والذي يؤسف له ، أنّ الكثيرين من شباب اليوم ـ بسبب التربية الخاطئة، أو البيئة المنحرفة ، أو الثقافة الوافدة ـ يكيلون السّباب واللعان للوالدين ، على أتفه الاَسباب ، ويصبّون جام غضبهم عليهم ، عندما يُسْدِيان لهم النصيحة المخلصة ، مما يترك أثراً سيئاً على نفسيهما ، فيصابان بخيبة أمل مريرة .
هذا في الوقت الذي يدعو الاَئمة عليهم السلام إلى مخاطبة الوالدين بعبارات عذبة ، ومهذبة ، تحمل معاني التقدير والشعور بالعرفان وعدم رفع الصوت على الوالدين.. عن الحكم قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : إنّ والدي تصدّق عليَّ بدار ، ثمّ بدا له أن يرجع فيها، وان قضاتنا يقضون لي بها ، فقال عليه السلام : «نعم ما قضت به قضاتكم ، وبئس ما صنع والدك، انما الصدقة لله عزّ وجل فما جعل لله عزّ وجل فلا رجعة له فيه ، فان أنت خاصمته فلا ترفع عليه صوتك ، وإن رفع صوته فاخفض أنت صوتك» (2).
ونخلص في نهاية هذا المطلب إلى القول بان حقوق الوالدين جسيمة، فقد قرن القرآن حقهما مع حقه تعالى في مستوى واحد مع اختلاف في الرّتبة ، فله عزّ وجلّ حقّ العبادة ولهم حقّ الاِحسان .
ومنح القرآن الكريم الاَمَّ حقاً أكبر ، لما تُقدِّمه من تضحيات أكثر . وقد
____________
(1) بحار الانوار 74 : 76 .
(2) وسائل الشيعة 19 : 204 | 1 باب 11 من كتاب الوقوف والصدقات .

( 65 )
تصدّرت هذه المسألة الحيوية سلّم أولويات السيرة النبوية التي اعتبرت عقوق الوالدين من أكبر الكبائر . ثم إنَّ الاَئمة عليهم السلام ـ وهم القوّامون على الاَمة ـ قد عملوا على عدّة محاور لتوعية الناس بمكانة الوالدين ، فقاموا بتفسير ماورد في ذلك من آيات قرآنية ، واستثاروا الوازع الاَخلاقي والوجداني ، وحددوا ـ أيضاً ـ الحكم الشرعي ، وهو أن حقّ الوالدين فريضة من أكبر الفرائض ، ثم عينوا تفصيلاً الحقوق المترتبة على الاَولاد تجاه والديهم ، زد على ذلك كشفوا عن الآثار السلبية الدنيوية والاَخروية ، لمن عقّ والديه ، وشكّل سلوكهم السويّ تجاه والديهم ، قدوة حسنة للاجيال في هذا المجال .

( 66 )

المبحث الرابع
حقوق الاَولاد

ضمن الاِسلام للاَولاد حقاً أساسياً ، وهم بعدُ في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم ، وهو (حق الوجود) ، وللتدليل على ذلك نجد ان تعاليم الاِسلام ، تشجع على اتخاذ الذّرية ، وانجاب الاَولاد . فالاِسلام كما هو معروف يحثُّ على الاِكثار من النسل ، ويرى كراهية تحديده ، حتى نجد أن القرآن الكريم ، يعتبر الاَبناء زينة الحياة الدنيا ، كما في قوله تعالى : (المالُ والبنونُ زينة الحياة الدُّنيا...) (الكهف 18 : 46) ، وينقل لنا أماني ورغبات الاَنبياء من خلال الدعاء بأن يهب لهم الله تعالى الذّرية الصالحة ، فعلى سبيل المثال ينقل لنا القرآن الكريم دعاء ابراهيم عليه السلام مع استجابة ذلك الدعاء : ( ربِّ هبْ لي من الصّالحين * فبشرناهُ بغُلامٍ حليم..) (الصّافات37 : 100 ـ 101) ، ويَنقلُ لنا أيضاً رغبة زكريا القوية بان يرزقه تعالى الذّرية وذلك ، عندما رأى ـ بأمّ عينيه ـ القدرة الاِلـهية متمثلةً في رزق مريم الاِعجازي : ( هنالك دعا زكريّا ربَّهُ قال ربِّ هبْ لي من لدنك ذُريّة طيّبةً إنَّك سميع الدعاء ) (آل عمران 3 : 38) . وقد صوّر لنا القرآن الكريم باسلوبه البلاغي الرائع ، ما كان عليه زكريا عليه السلام من الشوق إلى الولد ، وخشيته من البقاء فرداً ، كما في قوله تعالى : ( وَزَكَريَّا إذْ نادى رَبّه رَبِّ لا
( 67 )
تذرني فَرداً وأنتَ خير الوارثين
) (الانبياء 21 : 89) ، وكيف انه سبحانه استجاب له دعاءه ؛ لاَنه كان عليه السلام أهلاً لاستجابة الدعاء : ( فاسْتَجَبْنا له ووهبنا له يحْيى واصلحنا له زوجَهُ إنّهُمْ كانوا يُسارعُونَ في الخيراتِ ويدعُونَنَا رَغَباً وَرَهباً وكانوا لنا خاشعين ) (الانبياء 21 : 90) .
وفي كلِّ ذلك ، تلميح لنا ، بأنْ ندعو الله تعالى أنْ يرزقنا كما رزقهم الذرّية الصالحة .
أضف إلى ذلك أنَّ السُّنة النبوية ـ القولية والفعلية ـ تشجع على الزواج، المصدر الشرعي والعرفي للانجاب ، وتُنفّر أشدّ التنفير من العزوبيّة والرّهبانية ، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «شرار موتاكم العزّاب» (1).
وتنقل لنا الرغبة النبوية ، بأنْ تكون أمته صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الاَمم يوم القيامة «تناكحوا تكثروا ، فإنّي أُباهي بكم الاَُمم يوم القيامة حتى بالسقط» (2).
ومن يطّلع على أحاديث أهل البيت عليهم السلام ، يلاحظ أنّ حقوق الاَولاد تحتل مكانةً مرموقة في مدرستهم الاِلهية ، وحول حق الولد في الوجود ، يجد أحاديث ترغّب الآباء بانجاب الاَبناء ، لما في ذلك من قوة في العدد، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الصَّدد : «الولد أحد العددين» (3). وأيضاً للاستعانة بهم في أوقات الحاجة أو الضرورة ، يقول الاِمام زين
____________
(1) بحار الأنوار 103 : 220 .
(2) المحجّة البيضاء 3 : 53 .
(3) المعجم المفهرس لالفاظ غرر الحكم 3 : 3171 | 1668 وفيه : (الولد أحد العدوّين) ، غرر الحكم : 73 | 1668 .

( 68 )
العابدين عليه السلام : «من سعادة الرّجل أن يكون له وُلدٌ يستعين بهم» (1).
إنَّ الولد يشكل الامتداد الطبيعي لوالديه ، فمن خلاله ينقل الوالدان صفاتهما وافكارهما واخلاقهما ، وفي كل ذلك امتداد معنوي لوجودهما.
ويبقى أن نشير إلى ان الآباء سوف ينالون الثواب نتيجة لاعمال أولادهم الحسنة من دعاء أو صدقة أو عبادة ، وما إلى ذلك . وهذا ـ بحد ذاته ـ حافز آخر ، يشجع على اتخاذ الذّرية ، من كل ذلك يوفر الولد للوالدين السعادة الدنيوية والاَخروية . وعليه يقول الاِمام الباقر عليه السلام : «من سعادة الرّجل أن يكون له الولد ، يعرف فيه شبهه : خَلقه ، وخُلقه ، وشمائله»(2) .
زد على ذلك ، ان الولد يديم ذكر والديه ، فاسمهم مقرون بإسمه، وبذلك يُبقي اسمهم محفوراً على لوحة الزّمان ، يقول الاِمام علي عليه السلام «الولد الصالح أجمل الذّكرين» (3).
يضاف إلى هذا أنَّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، حاربت الانعزال والرَّهبنة والابتعاد عن الواقع والمجتمع ، وشجعت على الزَّواج كأسلوب شرعي للشروع في تكوين الاُسرة وانجاب الاَطفال ، وفي هذا المجال ، جاء في بحار الاَنوار : أن امرأة سألت أبا جعفر عليه السلام ، فقالت : أصلحك الله إنّي متبتّلة، فقال لها : «وما التبتّل عندك» ؟ قالت : لا أريدُ التزويج أبداً ، قال :
____________
(1) فروع الكافي 6 : 5 | 2 باب فضل الولد .
(2) فروع الكافي 6 : 7 | 2 باب شبه الولد .
(3) المعجم المفهرس لالفاظ غرر الحكم 3 : 3171 | 1665 .

( 69 )
«وَلِمَ» ؟ قالت : التمس في ذلك الفضل ، فقال : «انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة عليها السلام أحقّ به منك ، إنّه ليس أحد يسبقها إلى الفضل»(1).
من كلِّ ما تقدم ، نخرج بفكرة عامة ، هي أن الاِسلام ـ متمثلٌ في القرآن والسُنّة بمعناها الاَعم ، أي قول المعصوم وفعله وتقريره ـ يؤكد ـ تصريحاً وتلميحاً ـ على ضرورة اتّخاذ الاَولاد ، وهو من خلال هذا التوجه ، يضمن لهم (حق الوجود) ، بمعنى : أن يبرزوا من كتم العدم إلى حيّز الوجود ، حتى تستمر الحياة جيلاً بعد جيل ، إلى أن يرث الله تعالى الاَرض ومن عليها .

أولاً : حق اختيار والدته:
للولد ـ قبل أن يتلبس بالوجود ـ حقٌ على أبيه ، وهو أن يختار له أمّاً صالحة ، يستودعها نطفته . وقد ثبت علمياً أنّ الصفات الوراثية الجسمية والمعنوية تنتقل عن طريق التناسل .
وقد سبق الوحيُ العلمَ في الكشف عن هذه الحقيقة المهمة ، وحثَّ على تدارك آثارها السلبيّة ، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو الناطق عن الوحي ـ مُوصياً : «تزوجوا في الحِجْزِ الصّالح فانّ العرق دسّاس» (2). ويقول أيضاً: «تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهنّ وأخواتهن» (3).
فمن الاَهمية بمكان أن يختار الاَب الزوجة ذات النسب ، حتى ينقل
____________
(1) بحار الأنوار 103 : 219 .
(2) كنز العمال 16 : 296 | 44559 ، والحِجْز : الاَصل .
(3) كنز العمال 16 : 295 | 44557 .

( 70 )
لولده صفات جسمية ومعنوية عالية ، تشكل له الدرع الواقي من الانحراف والانجرار وراء ضغط الغرائز الهابطة ، وأيضاً يوصي الاِسلام بأن يختار الوالد أم أولاده من ذوات الدين والاِيمان ، فتكون بمثابة صمّام أمانٍ يحول دون جنوح الاطفال عن جادة الحق والفضيلة ، وقد ضرب الله تعالى لنا مثلاً في امرأة نوح ، التي آثرت الكفر على الاِيمان وخانت زوجها في رسالته ، وكيف أثّرت سلبياً على موقف ابنها من قضية الاِيمان برسالة نوح ، وكانت النتيجة أن أوردته مناهل الهلكة : غَرَقاً في الدنيا ، وعذاباً في الآخرة ! ولقد دفعت العاطفة الاَبوية نوحاً عليه السلام إلى مناداة ابنه ليركب في سفينة النجاة مع سائر أهله ، ولكنه كان خاضعاً لتربية أمه المنحرفة ولضغط بيئته الكافرة ، فأصرَّ على الكفر ولم يستجب لنداء أبيه المخلص ، وتشبث بالاسباب المادية العادية فاعتقد أنّ اللجوء إلى الجبل سوف ينقذه من الغرق ، فلا الجبل أنقذه . ولا شفاعة أبيه اسعفته ، فكان من المغرقين .
إقرأ هذه الآيات بتمعن : ( ونادى نوح ربّه فقال ربِّ إنّ ابني من أهلي وإن وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم انّي اعظك أن تكون من الجاهلين ) (هود 11 : 45) .
وهكذا نجد أنّ الاَُم الكافرة متمثلة في امرأة نوح عليه السلام تقف سداً منيعاً أمام إيمان ولدها ، وتشجعه على عقوق إبيه ، وعدم السمع والطاعة له .
وفي مقابل ولد نوح الذي يمثل الرَّفض والتمرّد ، نجد اسماعيل ولد ابراهيم عليهما السلام يمثل الطاعة والامتثال لتوجهات أبيه، وذلك عندما أُوحي
( 71 )
إليه في المنام أن يذبحه ، فلم يترَّدد إسماعيل عليه السلام ـ فيما يوحي به النص القرآني ـ : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قَالَ يا بُنَيَّ إنّي أرَى في المَنَامِ أنّي أذبَحُكَ فانظُر ماذَا تَرَى قَالَ يا أبتِ افعَل ما تُؤمِر سَتَجِدُني إن شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات 37 : 102) .
وهذا الموقف الاِسماعيلي المشرِّف ، لم ينطلق من فراغ ، بل كان نتيجةً طبيعية للتربية الاِبراهيمية ، إذ تمكن إبراهيم عليه السلام من عزل ولده الوحيد عن ضغوط بيئته المنحرفة ، ولعل الاَهم من ذلك أن هاجر ـ أُم إسماعيل ـ كانت امرأة مؤمنة صالحة ، هاجرت مع أبيه وتحملت معه معاناة الجوع والعطش والغربة ، عندما تركها إبراهيم عليه السلام في وادٍ غير ذي زرع ، فكانت صابرة محتسبة ، زرعت في ولدها بذور الحب والطاعة لوالده ولرسالته .
وعلى ضوء الهدى القرآني ، كانت مدرسة أهل البيت عليهم السلام تركّز في توجهاتها التربوية والاجتماعية ، على أهمية ووجوب التفحص والتثبت عند اختيار الزَّوجة ، وأن ينظر الاَب نظرة بعيدة الاَفق يُراعي بها حق أولاده في الانتساب إلى أم صالحة ، ولا ينظر بعين واحدة فيركز عند الاختيار على مالها أو جمالها أو حسبها فحسب .
وصفوة القول : إنّ على الرجل أن يختار لنطفته المرأة المتدينة، فيفرزها عن غيرها ، ويستخلصها لنفسه كما تُسْتَخلص الزّبدة من ماء المخيض . ومن هنا أكد الاِمام الصادق عليه السلام على ذلك بقوله : «تجب للولد على والده ، ثلاث خصال : اختيار والدته ، وتحسين اسمه ، والمبالغة في
( 72 )
تأديبه» (1).
ولا ننسى الاِشارة إلى أنّ السُنّة قد حذّرت من الافتتان بالجمال الظاهري ، وحثّت على النظر إلى الجمال الباطني المتمثل بالطهارة والاِيمان ، فعندما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مُحذراً : «إياكم وخضراء الدّمن» ، قيل: يا رسول الله وما خضراء الدّمن ؟ قال : «المرأة الحسناء في منبت السّوء»(2). كذلك حذرت السنّة المطهّرة من المرأة الحمقاء ، تلك التي لا تُحسن التصرف ؛ لضعف مستحكم في عقلها ، وكشفت عن الآثار السلبية التي تُصيب الاَبناء من جراء الاقتران بالمرأة الحمقاء ، فالحديث النبوي يقول : «إياكم وتزوج الحمقاء ، فإنّ صحبتها بلاء ، وولدها ضياع» (3).
ويبقى إن نشير إلى أن الاِسلام قد حرّم الزِّنا لعلل عديدة : منها ما يتعلق بحق الابناء في الانتساب إلى الآباء الشرعيين ، ومنها ما يتعلق بخلق أجواء عائلية نظيفة توفر للطفل حقه في التربية الصالحة ، وقد حدّد حقوقاً تترتب بدرجة أساسية على الاَم التي تُشكل وعاءً للنسل ، فيجب عليها أن تصون نفسها ونسلها من كل شين ، حتى يبقى الولد قرير العين ، مطمئن النفس بطهارة مولده ، وحتى لا تظهر عليه علامات ولد الزِّنا ، وأمامنا شواهد معاصرة في الحضارة الغربية ، التي تشجع على الاختلاط والتبرج وتطلق العنان للشهوة الجامحة ، وتشكل بذلك أرضية ممهدة للعلاقات غير الشرعية بين الجنسين ، فكان من نتيجة ذلك ازدياد أعداد أولاد الزِّنا
____________
(1) بحار الأنوار 78 : 236 .
(2) بحار الأنوار 103 : 232 .
(3) فروع الكافي 5 : 354 | 1 باب 30 كتاب النكاح .

( 73 )
وما يرافق ذلك من مظاهر شاذّة كظاهرة أولاد الشوارع ، وتفشي الجريمة والسرقة ، الاَمر الذي أدّى إلى تمزق النسيج الاجتماعي ، وهو أمر يهدد المجتمع الغربي عموماً بعواقب وخيمة .
ولقد حذّرت مدرسة أهل البيت عليهم السلام من تلك العواقب من قديم الزمان ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : «ألا أخبركم بأكبر الزِّنا ؟.. هي امرأة توطئ فراش زوجها ، فتأتي بولد من غيره فتلزمه زوجها، فتلك التي لا يكلمها الله ولا ينظر إليها يوم القيامة ، ولا يزكيها ، ولها عذاب عظيم»(3)، وفي هذا الحديث إشارة إلى اختلال واختلاط الانساب فيصادر الزِّنا حق الابناء في الانتساب إلى آبائهم .
ويبين الاِمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام علة تحريم الزِّنا بقوله : «حُرم الزِّنا لما فيه من الفساد من قتل النفس ، وذهاب الانساب ، وترك التربية للاَطفال ، وفساد المواريث ، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد» (2)
ولا يخفى ان هذه الامور فيها اعتداء صارخ على حق الطفل في الحياة والانتساب والتربية والميراث . ولقد وجّه أحد الزنادقة سؤالاً إلى أبي عبدالله عليه السلام ، لِمَ حرّم الله الزِّنا ؟ فأجابه الامام برحابة صدر وسعة أفق قائلاً : «لِمَا فيه من الفساد ، وذهاب المواريث ، وانقطاع الاَنساب ، لا تعلم المرأة في الزِّنا من أحبلها ، ولا المولود يعلم من أبوه..» (3).
ولقد أصاب الاِمام عليه السلام بذلك كبد الحقيقة ، من أن الزّنا يصادر حق
____________
(1) بحار الأنوار 79 : 26 .
(2) بحار الأنوار 79 : 24 .
(3) بحار الأنوار 103 : 368 .

( 74 )
الابن في الانتساب لاَبيه ؛ كما كشف لنا الاِمام الصادق عليه السلام عن علامات ولد الزِّنا ، وفي حديثه الآتي إشارة للآثار السلبية التي يفرزها إنكار حق المولود في الولادة الطبيعية والشرعية ، قال عليه السلام : «إنّ لولد الزّنا علامات : أحدها بغضنا أهل البيت ، وثانيها أنّه يحنّ إلى الحرام الذي خُلق منه ، وثالثها الاستخفاف بالدّين ، ورابعها سوء المحضر للنّاس ، ولا يسيء محضر إخوانه إلاّ من ولد على غير فراش أبيه ، أو حملت به أمّه في حيضها»(1) .
من كلِّ ما تقدم ، اتضح لنا ، أنّ الاِسلام يحث على اختيار المرأة الصالحة، ويعتبر ذلك من حقوق الولد على أبيه ، وأيضاً للولد ـ قبل ان يُخلق ـ حق عظيم على أُمُّه، بأن تحصّن نفسها وتحافظ على عفّتها ، ولا تنزلق إلى الزّنا فتحرم المولود من حق الانتساب إلى أبيه ، وتضيّع حقه في الاِرث والتمتع بالسمعة الطيّبة .

ثانياً : حقوق ما بعد الولادة :
1 ـ حق الحياة :
إنَّ للطفل ـ ذكراً كان أو أُثنى ـ حقّ الحياة ، فلا يبيح الشرع لوالديه أن يطفئا شمعة حياته بالوأد أو القتل أو الاجهاض . ولقد شنَّ الاِسلام حملة قوية على عادة (الوأد) التي كانت متفشية في الجاهلية، وتساءَل القرآن مستنكراً ومتوعداً : ( وإذا الموؤدة سُئلت * بأيّ ذنب قتلت) (التكوير81: 8 ـ 9) واعتبر ذلك جريمة كبرى لا يمكن تبريرها ـ بحال ـ
____________
(1) بحار الأنوار 75 : 279 ـ 280 .

( 75 )
حتى في الحالات الاضطرارية كحصول المجاعة . وكانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر ، كما في قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) (الانعام 6 : 151) . وفي آية أُخرى : (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) (الاِسراء 17 : 31) .
والملاحظ في الآية الاَولى ، إنّه تعالى قدّم رزق الآباء على رزق الاَبناء، وفي الآية الاخرى ، نجد العكس ، إذْ قدّم رزق الاَبناء على الآباء ، فما السرّ في ذلك ؟ وهل كان التعبير عفوياً ؟ بالطبع لا ؛ لاَن التعبير القرآني قاصد ودقيق ، لا يقدّم كلمة أو يُؤخر أُخرى إلاّ لغاية وحكمة .
وعند التأمل العميق نجد ان قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم من املاق) (الانعام 6 : 151) . توحي بأن الفقر موجود بالفعل ، والمجاعة قائمة ، ولمّا كان اهتمام الاِنسان في تلك الازمان يتمحور حول نفسه ، يخشى من هلاكها ، لذا يُطمئنه الخالق الحكيم في هذه الآية بانّه سوف يضمن رزقه أولاً ، ومن ثم رزق أولاده في المرتبة الثانية ، يقول له : ( نحن نرزقكم وإياهم ) أي يا أصحاب الاِملاق نحن نأتي برزقهم أيضاً .
بينما في الآية التالية ، يقول تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) (الاِسراء17:31) ، أي : خوفاً من فقر سوف يقع في المستقبل ، وبتعبير آخر : من فقر محتمل الوقوع ، وهنا يُطمئنه الرَّبّ تعالى بضمان رزق أبنائه أولاً ؛ لاَنّه يخاف إن جاءه أولاد أن يأتي الفقر معهم فيقول له مُطمئناً : (نحن نرزقهم وإياكم ) .
فالمعنى ـ في الآيتين ـ ليس واحداً ، وكلّ آية تخاطب الوالدين في ظرف معين ، ولكن تتحد الآيتان في الغاية وهي الحيلولة دون الاعتداء
( 76 )
على حياة الاَبناء . ثم إنّ الجاهلية كانت تمارس سياسة التمييز بين الجنسين بين الذكر والاَُنثى فتعتدي على حياة الاِناث بالوأد الذي كان يتمّ في صورة بشعة وقاسية ، ويفتقد إلى أدنى العواطف الاِنسانية ، حيثُ كانت البنت تُدفن وهي حية !..
ينقل مؤلف المختار من طرائف الاَمثال والاَخبار :
(سُئل عمر بن الخطاب عن أعجب ما مرَّ به في حياته .
فقال : هما حادثتان: كلمّا تذكرت الاَولى ضحكت ، وكلمّا تذكرت الاَُخرى بكيت..
قيل له : فما الاَُولى التي تُضحكك ؟
قال : كنت في الجاهلية أعبد صنماً من العجوة ، فإذا دار العام أكلت هذا الصنم ، وصنعت من البلح الجديد صنماً غيره !
قيل له : وما الاَُخرى التي تبكيك ؟
قال : بينما كنت أحفر حفرة لوأد ابنتي ، كان الغبار يتناثر على لحيتي ، فكانت ابنتي هذه تنفض عن لحيتي هذا الغبار ، ومع ذلك فقد وأدتها)(1)!!!
إزاء هذه الممارسات الهمجية ، الوحشية ، الخالية من الاِنسانية ، والتي كانت تُرتكب في عصر الجاهلية ، عمل الاِسلام على تشكيل رؤية جديدة لحياة الاِنسان ، رؤية تعتبر الحياة ليست حقا فحسب ، بل هي أمانة إلهية
____________
(1) المختار من طرائف الاَمثال والاَخبار ، نبيه الداموري : 29 ، الشركة العالمية للكتاب ط 1987م .

( 77 )
أودعها الله سبحانه وتعالى لدى البشر ، وكل اعتداء عليها بدون مبرِّر شرعي يُعد عدواناً وتجاوزاً يستحق الاِدانة والعقاب الاَخروي ، فليس من حق أية قوة غير إلـهية سلب هذه الوديعة المقدسة ، والله تعالى هو واهب الحياة ، وله وحده الحق في سلبها .
وأيضاً عمل الاِسلام على تشكيل وعي اجتماعي جديد بخصوص الاَُنثى، وقد كان الجاهليون لا تطيب نفوسهم بولادتها كما يقول القرآن الكريم : (وإذا بُشّر أحدُهُم بالاُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسودّاً وهُو كظيم * يتوارى من القوم من سُوء ما بُشِّر به أيُمسِكُهُ على هُون أم يَدسُهُ في التُّراب ألا ساءَ ما يحكمون )(النحل 16 : 58 ـ 59). ولقد اختار النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أفضل السُّبل لاِزالة هذا الشعور الجاهلي تجاه الاَنثى ، والذي كان يتسبب في زهق أرواح مئات الفتيات كل عام ، ففضلاً عن تحذيره من العواقب الاُخروية الجسيمة المترتبة على ذلك ، اعتبر من قتل نفساً بغير حق جريمة كبرى ينتظر صاحبها القصاص العادل .
ومن جانب آخر زرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وعيهم أن الرّزق بيد الله تعالى ، وهو يرزق الإناث كما يرزق الذكور ، فأشاع بذلك أجواء الطمأنينة على العيش ، وكان الجاهليون يقتلون الإناث خوف الفقر . أضف إلى ذلك استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغةً وجدانيةً شفافة ، فتجد في السُنّة القولية عبارات تعتبر البنت ريحانة ، والبنات هن المباركات ، المؤنسات ، الغاليات ، المشفقات.. وما شابه ذلك ، وكشاهد من السُنّة القولية وردّ (عن حمزة بن حمران يرفعه قال : أتى رجل وهو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأُخبر بمولود أصابه ، فتغيّر وجه الرّجل !! فقال له النبيّ : «ما لكَ» ؟ فقال : خير ، فقال : «قُل» . قال: خرجت والمرأة تمخض ، فأُخبرت أنّها ولدت جارية !! فقال له
( 78 )
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «الاَرض تقلّها ، والسَّماء تظلّها ، والله يرزقها وهي ريحانة تشمّها..» (1)؟ . وقد أكد الاِمام علي عليه السلام ، ذلك التوجه النبوي بقوله : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بُشّر بجارية ، قال : ريحانة ، ورزقها على الله عزّ وجلّ»(2) .
ولقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُنموذجاً حياً يعدُّ قدوةً في السلوك مع ابنته فاطمة عليها السلام ، ينقل الحسني في سيرة الاَئمة عن بنت الشاطئ في حديثها عن بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لما ولدت فاطمة (استبشر أبواها بمولدها ، واحتفلا به احتفالاً لم تألفه مكة في مولد أنثى) (3)، ويظهر ذلك أيضاً من الاَسماء والالقاب العديدة التي منحها إياها صلى الله عليهما ، فقد نقل الحسني عن الاُستاذ توفيق أبي علم ، في كتابه أهل البيت : (إنّ للسيدة فاطمة الزهراء تسعة أسماء فاطمة ، والصدّيقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والمحدثة ، والزهراء ، والبتول ، وسيدة نساء أهل الجنة ، واضاف إلى ذلك (أبو علم) أنه كان يُطلق عليها : أم النبي ؛ لاَنّها كانت وحدها في بيته بعد موت أمّها ، تتولى رعايته والسهر عليه) (4)، وتنقل كتب السيرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يمنحها حبّه ، ويسبغ عليها عطفه بحيث أنه كان اذا سافر كانت آخر الناس عهداً به ، وإذا رجع من سفره كانت أولَ الناس
____________
(1) فروع الكافي 6 : 5 | 6 باب فضل البنات من كتاب العقيقة .
(2) البحار 104 : 98 .
(3) سيرة الاَئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاَول : 65 ـ 67 ، دار التعارف للمطبوعات ط1406 هـ.
(4) سيرة الاَئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاول : 65 ـ 67 ، دار التعارف للمطبوعات ط 1406 هـ .

( 79 )
عهداً به ، وكان إذا رجع من سفر أو غزاة ، أتى المسجد فصلى ركعتين ، ثم ثنّى بفاطمة (1).
صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استشف من وراء الغيب السر المكنون فيها.. وأن الذّرية الطاهرة من بضعته الزَّهراء عليها السلام ، وأنهم سوف يتابعون المسيرة التي بدأها ولن يفترقوا عن الكتاب حتى يردوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحوض ، ولكن الصحيح أيضاً أنّ النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يرسم لنا صورة مشرقة في التعامل مع البنت ، ذلك النوع من التعامل الاجتماعي الذي غيبته الجاهلية . ولقد سار أئمة أهل البيت عليهم السلام على خطى جدّهم العظيم ، واقتفوا آثاره في تغيير النظرة التمييزية السائدة ، التي تحط من الاَُنثى لحساب الذكر ولا تقيم لها وزناً .
قال الحسن بن سعيد اللّخمي : ولد لرجل من أصحابنا جارية ، فدخل على أبي عبدالله عليه السلام ، فرآه متسخّطاً ، فقال له أبو عبدالله عليه السلام : «أرأيت لو أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إليك ! : أن أَخْتَارُ لك ، أو تختار لنفسك ، ما كنت تقول» ؟ قال : كنت أقول : يا ربِّ تختار لي ، قال عليه السلام : «فإنّ الله قد اختار لك»(2). بهذه الطريقة الحكيمة أزاح الاِمام الصادق عليه السلام رواسب الجاهلية المتبقية في نفوس الآخرين .
على ان الاَكثر إثارة في هذا الصَّدد أن بعضهم اتّهم زوجته بالخيانة ، لا لشيء إلاّ لكونها ولدت جارية ! وعندئذ دحض الاِمام الصادق عليه السلام هذا الرأي السقيم ، الذي لا يستقيم على سكة العقل ولا الشرع ، وكشف
____________
(1) أُنظر سيرة الاَئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاول : 68 .
(2) فروع الكافي 6 : 10 | 10 باب فضل البنات .

( 80 )
عن الرؤية القرآنية البعيدة .
عن ابراهيم الكرخي ، عن ثقة حدّثه من أصحابنا قال : تزوجت بالمدينة ، فقال لي أبو عبدالله عليه السلام : «كيف رأيت» ؟ قلت : ما رأى رجل من خيرٍ في امرأة إلاّ وقد رأيته فيها ، ولكن خانتني ! فقال : «وما هو» ؟ قلت : ولدت جارية ! قال : «لعلّك كرهتها ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيُّهم أقرب لكم نفعاً ) (النساء 4 : 11) (1).
وعن الجارود بن المنذر قال : قال لي أبو عبدالله عليه السلام : «بلغني أنّه ولد لك ابنة فتسخطها ! وما عليك منها ؟ ريحانة تشمَّها ، وقد كُفيت رزقها..» (2)
ولابدّ من التنويه على ان الاِمام الصادق عليه السلام قد قلب النظرة التمييزية التي تُقدِّم الذَّكر على الاَنثى ، رأساً على عقب ، وفق نظرة دينية أرحب ، وهي أن البنين نِعَمٌ ، والبنات حسنات ، والله تعالى يَسأل عن النِعَم ويثيب على الحسنات.. قال عليه السلام في هذا الصدد : «البنات حسنات، والبنون نِعمة، فانما يثاب على الحسنات ، ويُسأل عن النعمة» (3).
وعلى ضوء ماتقدم نجد أن مدرسة أهل البيت عليهم السلام مارست عملية (الاِخلاء والاِملاء) :
إخلاء العقول من غواشي ورواسب الجاهلية ، وانتهاكها الصارخ لحق المولود في الوجود .

____________
(1) فروع الكافي 6 : 8 | 1 باب فضل البنات .
(2) فروع الكافي 6 : 9 | 9 باب فضل البنات .
(3) فروع الكافي 6 : 9 | 8 باب فضل البنات .

( 81 )
واملاء العقول بافكار الاِسلام الحضارية، التي تبين للاِنسان مكانته في الكون ، وتصون حياته ، وتكفل حريته وكرامته ، وتراعي حقوقه منذ نعومة أظفاره ، وعلى الخصوص حقه في الوجود ، وعلى الاَخص حق البنات في الحياة .
2 ـ حق الولد في الاسم الحَسن :
للبعض أسماء جميلة ، تحمل معاني سامية ، وتولّد مشاعر جميلة ، فتجذبك للشخص المسمى بها كما يجذب شذا الاَزهار النحل . وللبعض الآخر أسماء سمجة ، مفرغة من أي مضمون ، وتحسّ عند سماعها بالضيق والاشمئزاز . وما أعظم التأثير النفسي والاجتماعي للاِسم ، الذي نطلقه على اطفالنا ، فكم من الاَولاد قد أرّق اسمه البشع ليله ، وقضَّ مضجعه ، نتيجة الاستهزاء والازدراء الذي يلاقيه من مجتمعه ، فيتملكه إحساس بالمرارة والتعاسة من اسمه الذي أصبح قدراً مفروضاً عليه كالوشم على الجلد تصعب إزالته ، وهناك بالطبع نفوس قوية ، لم تسمح لسحابة الاسم السوداء أن تنغص حياتها ، فعملت على تغيير اسمها السيء واستأصلته.. كما يستأصل الجرّاح الماهر خلية السرطان .
ولم يهمل الاِسلام كدين يقود عملية تغيير حضارية كبرى ، شأن الاسم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بتغيير الاسماء القبيحة أو الاسماء التي تتنافى مع عقيدة التوحيد ، واعتبر من حق الولد على والده ، ان يختار له الاسم المقبول ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ أوّل ما ينحل أحدكم ولده الاسم الحسن ، فليحسن أحدكم اسم ولده» (1). وقد بيّن في حديث آخر الاَبعاد
____________
(1) بحار الأنوار 104 : 130 .

( 82 )
الاَخروية المترتبة على الاسم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «استحسنوا أسماءكم فإنكم تُدعون بها يوم القيامة : قُم يا فلان ابن فلان إلى نورك ، وقم يا فلان ابن فلان لا نور لك» (1) .
جدير ذكره ان أحسن الاَسماء أسماء الانبياء والمرسلين والاَئمة عليهم السلام والصالحين ، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم موصياً : «سمّوا أولادكم أسماء الانبياء»(2) ، ويقول الاِمام الباقر عليه السلام : «أصدق الاَسماء ما سُمّي بالعبوديّة ، وخيرها أسماء الاَنبياء صلوات الله عليهم» (3)، . والملفت للنظر ان الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقدر ما كان حريصاً على تغيير الاَسماء القبيحة في الرّجال والبلدان ، كان سخياً بالمقابل في منح الاَسماء الحسنة لاَهل بيته عليهم السلام وأصحابه والمحيطين به . تروي كُتب السيرة : ان بشرى ولادة الحسن عليه السلام عندما زفت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأطلّ على الحياة سبطه الاَول من حبيبته ووحيدته فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين ، سارع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى دار فاطمة ، فَدُفع إليه هذا المولود المبارك ، فأخذه بيديه ، وأذَّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ثم قال لعلي عليه السلام : «أي شيء سميت ابني ؟ قال : ما كنت لاسبقك بذلك » ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم :« ولا أنا سابق ربي به . فهبط » جبريل : فقال : يا محمد ، إنّ ربك يُقرئك السلام ، ويقول لك : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبيَّ بعدك ، فسمِّ ابنك هذا باسم ولد هارون ، فقال :« وما كان اسم ابن هارون يا جبريل ؟» قال : شُبَّر ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم :
____________
(1) فروع الكافي 6 : 22 | 10 باب الاسماء والكنى .
(2) بحار الأنوار 104 : 92 .
(3) بحار الأنوار 104 : 129 .

( 83 )
«إنّ لساني عربي »، فقال : سمِّه الحسن . فسمّاه حسناً وكنّاه أبا محمد (1).
ولما وُلِد الحسين عليه السلام : (جيء به إلى جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستبشر به، وأذّن في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، فلما كان اليوم السابع ، سمّاه حسيناً ، وعق عنه بكبش ، وأمر أُمّه أن تحلق رأسه ، وتتصدق بوزن شعره فضة كما فعلت بأخيه الحسن ، فامتثلت..) (2).
إنّ التعاليم النبوية التي تؤكد على حق الولد في الاسم الحَسِن ، لم تنطلق من فراغ ، أو تثار من أجل الترف ، بل تنطلق من منظار حضاري ، ينظر للعواقب المترتبة على غمط هذا الحق أو التهاون فيه ، فالتعاليم النبوية تتفق مع معطيات العلم الحديثة بدليل : (ان علم النفس قد اكتشف ـ أخيراً ـ علاقة وثيقة بين الاِنسان واسمه ولقبه . ويضرب علماء النفس لنا ـ مثلاً ـ رجلاً اسمه (صعب) فإن دوام انصباب هذه التسمية في سمعه ووعيه ، يطبع عقله الباطن بطابعه ، ويَسِمُ أخلاقه وسلوكه بالصعوبة.. وذلك لا ريب هو سر تغيير الرَّسول أسماء بعض الناس ، الذين كانت أسماؤهم من هذا القبيل ، فقد أبدل باسم (حرب) اسماً آخر هو (سمح) فهناك ـ إذن ـ وحي مستمر توحيه أسمائنا ويلوّن إلى حدٍ كبير طباعنا) (3).
لقد وضع الاَئمة عليهم السلام نصب أعينهم هذا الحق وضرورة مراعاته ، وثمة شواهد عديدة على ذلك منها ، قول الاِمام موسى الكاظم عليه السلام : «أوّل ما
____________
(1) الاِمام الحسن بن علي ، محمد حسن آل ياسين : 16 ، ط . الاولى.
(2) في رحاب أئمة أهل البيت 2 : 47 .
(3) مواطنون.. لا رعايا ، خالد محمد خالد : 22 .

( 84 )
يبرّ الرّجل ولده أن يسمّيه باسم حسن ، فليحسن أحدكم اسم ولده»(1).
كما بين الإمام الصادق عليه السلام المنافع التي يجنيها من ينحل أولاده اسماً يحاكي به أسماء الاَئمة عليهم السلام ، فعندما قيل لابي عبدالله عليه السلام : جعلت فداك إنّا نسمّي بأسمائكم وأسماء آبائكم فينفعنا ذلك ؟ فقال : «إي والله وهل الدّين إلاّ الحبّ ؟ قال الله : ( إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم (2).
فالاسم ـ تبعاً لما تقدم ـ ليس مجرد لفظ يُكتب بالمداد على شهادة الميلاد ، بل هو حق طبيعي للمولود ، يعيّن هويته ، وتتفتح نفسه الغضة على مضمونه البديع.. كما تتفتح براعم الزّهور في الربيع .
3 ـ حق التأديب والتعليم :
لاشك أن السنوات الاَُولى من عمر الطفل ، هي أهم مراحل حياته ، ومن هذا المنطلق يؤكد علماء التربية على ضرورة الاهتمام الزائد بالطفل ، وأهمية تأديبه بالآداب الحسنة .
قال سيد الموحدين ، الاِمام علي عليه السلام مبيّناً أهمية الاَدب وأرجحيته على غيره.. : «خير ما ورّث الآباءُ الاَبناءَ الاَدبَ» (3).
وقال عليه السلام : «إنّ الناس إلى صالح الاَدب ، أحوج منهم إلى الفضّة
____________
(1) فروع الكافي 6 : 21 | 3 باب الاسماء والكنى .
(2) بحار الانوار 104 : 130 . والآية من سورة آل عمران 3 : 31 .
(3) غرر الحكم .

( 85 )
والذّهب» (1) .
وسلّط حفيده الاِمام الصادق عليه السلام أضواءً معرفية أقوى ، فكشف عن العلة الكامنة وراء تفضيل الاَدب على المال بقوله : «إنَّ خير ما ورّث الآباء لاَبنائهم الاَدب لا المال ، فإنّ المال يذهب والاَدب يبقى..» (2).
وينبغي الاِشارة إلى أن موضوع (أدب الاَطفال) قد احتل مساحةً واسعة من أحاديث أهل البيت عليهم السلام ، فنجد تأكيداً على المبادرة إلى تأديب الاَحداث قبل أن تقسو قلوبهم ويصلب عودهم ؛ لاَن الطفل كورقة بيضاء تقبل كل الخطوط والرُسوم التي تنتقش عليها ، يقول الاِمام علي لولده الحسن عليهما السلام : «إنما قلب الحدث كالاَرض الخالية ، ما أُلقي فيها من شيء قبلته ، فبادرتك بالاَدب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل لبّك» (3).
وكان ذلك ديدن الاَئمة عليهم السلام ، فمع ما كانوا عليه من العصمة يولون لاَدب أولادهم عناية خاصة ، وكان أبوهم علي عليه السلام أديب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يتبعه اتّباع الفصيل لاَمه ، فأورث أدبه الراقي لاَولاده من بعده ، وكلاهما يضيء من مشكاةٍ واحدة هي مشكاة الوحي ، يقول صادق أهل البيت عليهم السلام : «أدّبني أبي بثلاث.. قال لي : يابنيَّ من يصحب صاحب السّوء لا يسلم ، ومن لا يقيّد ألفاظه يندم ، ومن يدخل مداخل السّوء يتّهم» (4).

____________
(1) غرر الحكم.
(2) روضة الكافي 8 : 207 / 133، والمراد بالأدب هنا : العلم ، صرح بهذا مسعدة بن صدقة راوي الحديث.
(3) بحار الانوار 77 : 201.
(4) بحار الانوار 78 : 261.