( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) (1) .
هو من هذا القبيل . الملائكة ليسوا كلهم في مستوى ( حملة العرش ) ، بل بعض الملائكة هم خدّام الإنسان ويكون الإنسان سبباً في ظهور ذلك النوع من الملائكة ، وان هذا يتعلق قطعاً بكيفية حمل الأمانة بواسطة الإنسان وإلى أية درجة يستطيع معرفة هذا الحمل وإيصاله إلى الهدف .

درجات الإنسان من لغة القرآن :
من هذا الإنسان ؟ نقرأ في القرآن أن الإنسان أرقى من مجموعة النظام الدنيوي ويستطيع ان يعمل ما لا تستطيعه السماوات والأرض والجبال ، أحياناً نقرأ في القرآن ان الجبل أفضل وأرقى من الإنسان ، والسماء والأرض أفضل منه ، إذ فهم الإنسان ثقل الأمانة وحملها ، يعبر هذا النظام الدنيوي وإذا ظل بمستوى الظلوم الجهول يصبح مصداق :
( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ) (2) .
الله تعالى يقول للإنسان الذي يفكر في حدود البدن فقط :
( لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ) (3) .
وفي آية أخرى يقول :
( إنك لم تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً ) (4) .
القرآن يقول : إن الإنسان عبر ويعبر السماوات . فإذا لم يستطع ان يوصل هذا الحمل إلى المقصد ، يقول له القرآن : ( لخلق السموات والأرض


(121)

أكبر من خلق الناس ) ويقول :
( أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسوّاها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ) (1) الإنسان يقع بين هذا النفي والإثبات ، أما يصبح أحقر من الحجر أو يذهب أبعد من جميع السماوات .

آلية البدن في جميع النشآت :
يلزم خلال هذا البحث الانتباه إلى أنه رغم ان روح الإنسان تشكل حقيقته . ولكن الإنسان يرافق البدن في كل نشأة ، ففي الدنيا له بدن ، وفي البرزخ ايضاً . وفي القيامة أيضاً ، الكلام ليس في ان الإنسان يكون بلا بدن في نشأة من النشآت ، المقصود هو أن البدن ليس هو حقيقة الإنسان ولا هو جزء من حقيقته . بل هو أداة صرفة ، الآن حيث لدينا في الدنيا جسم وروح ، تقوم الروح بجميع الأعمال ، وتتحمل الروح جميع الآلام والمتاعب أو اللذة والنشاط ، عندما تتعرض اليد إلى ضربة فإن القوة اللامسة هي التي تشعر لا جرم اليد ، كما ان قوة اللمس هذه وهي جزء من شؤون الورح إذا خدّرت وقطعت اليد قطعة قطعة لا تشعر بالألم ، الروح هي التي تشعر ، عندما نأكل ، رغم ان الفك يتحرك والأسنان تلوك ولكن الذائقة تلتذ والذائقة هي من شؤون الروح ، عندما نشرب ماء رغم ان التجرع هو عمل فضاء الفم ولكن الارتواء والشعور برفع العطش يتعلق بالروح . في الألم هكذا وفي النشاط كذلك . فالآن حيث لدينا ابدان ، فان جميع الأعمال تتولاها الأرواح والأبدان أدوات ليست أكثر ، تنقلها الأرواح من مكان إلى مكان (2) .
في جهنم المسألة على هذا المنوال أيضاً . الله تعالى يقول :
____________
(1) سورة النازعات ، الآيات : 27 ـ 29 .
(2) ديوان حكيم الأسرار ، الحاج ملا هادي السبزواري .

(122)

( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ) (1) .
لأن قوة اللمس عموماً منتشرة في جميع جرم البدن خاصة في الجلد ، وقوة اللمس هذه هي بعهدة هذا الجلد ، لذا تتبدل جلودهم لكي يشعروا بالألم أكثر ، لا أن الجلد يتألم ، بل هم يتألمون بجلد جديد ( ليذوقوا العذاب ) بناء على هذا فانه كما أن للإنسان بدناص في الدنيا كذلك له بدن في النشأة الأخرى ولكن كما أن البدن هو فرع في الدينا ، ففي النشأة الأخرى أيضاً يكون البدن فرعاً .

النساء الأسوة في القرآن (1) .
اهتمام القرآن بشخصية المرأة :

القسم الآخر للبحث هو ان نوع الكمالات التي يذكرها القرآن الكريم للمرأة هي من أجل انه كلما شعر القرآن بخطر يؤكد ذلك أكثر فأكثر ، فمثلاً حين ظهور القرآن حيث كان التوحيد في خطر وكان الشرك منتشراً ، نزلت آيات كثيرة من أجل تثبيت التوحيد والقضاء على الشرك ، ولهذا لما كانت حرمة المرأة غير محفوظة أيام نزول القرآن ، لذا أكد على مسألة حرمة المرأة أكثر من حد التوقع ، وذكر لها سهماً في جميع الشؤون وصرح بالتساوي وأمثال ذلك .
وقد ذكر القرآن قصصاً ، وبعد ان يشخص معيار القيمة في الشؤون المتنوعة ، يلاحظ نوع تلك المسائل القيمية ويذكرها ضمن قصص المرأة وضمن قصص الرجل أيضاً .
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 56 .
(123)

القوى الثلاث للنفس :
في الإنسان تكمن ثلاث قوى ، قوة جاذبة ، وقوة دافعة ، وقوة تفكر ، والقرآن الكريم يصور في ثلاثة أقسام جنود العقل والجهل الذين يعودون كلهم إلى الروح وعددهم مائة وخمسون عدداً ( ذكر العدد بعنوان مثال وتمثيل لا تعيين ) خمسة وسبعون عدداً جنود العقل وخمسة وسبعون عدداً جنود الجهل . بعضهم يتعلق بالعلم والفكر وبعض آخر يتعلق بالجاذبة التي يعبر عنها بالشهوة وبعض آخر يتعلق بالدافعة باسم الغضب .
ان ما نراه في انفسنا ونتذكره عن الآخرين هو ان جميع أعمال الإنسان تتلخص في هذه الاقسام الثلاثة وإذا كانت الكتب الأخلاقية تؤكد على هذه المعايير الثلاثة فهو من أجل أن الأخلاق هي لتربية النفس وقوى النفس وان ما كشف حتى الآن هي هذه القوى الثلاث وكل عمل يتعلق بقوته الخاصة .
الإنسان له فكر وقوة تفكر ، له جاذبة وقوة تجذب ، له دافعة وقوة تدفع . كل أعمال الإنسان تعود إلى هذه الشؤون الثلاثة و ( العدالة الكبرى ) هي تعديل هذه القوى الثلاثة .
بعد أن يذكر القرآن الكريم كل هذه الفضائل يأتي لكل واحدة منها بمثال ، سواء في قسم العلم ، أو في قسم الشهوة أو في قسم الغضب .

الأسوات العلمية :
أما في الأقسام العلمية : فإذا كان الكلام عن تعليم الاسماء فانه يحول ذلك إلى الإنسانية ، حين يطرح قضية آدم عليه السلام ويقول :
( فتلقى آدم من ربه كلمات ) (1) .
ورد في تبيين وتفسير ( كلمات ) أن المقصود هي أنوار العترة
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 37 .
(124)

الطاهرة ، وهي مقامات علمية تلقاها آدم عليه السلام . وحصل سبب نجاته ، وكما ان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يضيء هناك ، كذلك فاطمة الزهراء عليها السلام تضيء هناك ، وأن فاطمة الزهراء عليهم السلام أصبحت معروفة ومشهورة لا من أجل ان المرأة تلخصت في فاطمة الزهراء فقط ، بل بسبب أنها أرقى من الأخريات . كما أن المعصومين الآخرين ليسوا معروفين مثل أمير المؤمنين وفي العرف حين يريدون ذكر مثل يضربون مثلاً بالإمام علي ، فكما ان أمير المؤمنين عليه السلام أصبح معروفاً وقدوة بين المعصومين ، كذلك اشتهرت فاطمة الزهراء عليها السلام بين النساء ، وإلا فهناك نساء كثيرات كن يتمتعن بالعصمة وبالكمال المتعارف وفوق المتعارف ، ولكن علة ان فاطمة الزهراء عرفت بين النساء هي نفس العلة التي أدت إلى معروفية الإمام علي بين الأئمة عليهم السلام خلاصة الكلام ، ان المراد من لفظ كلمات في الآية الشريفة ( فتلقى آدم من ربّه كلمات ) هي الاسماء الإلهية ، وأبرز مصداق الاسماء الإلهية هم العترة الطاهرة حيث تسطع من بينهم فاطمة الزهراء عليها السلام .
وفي مقام بيان قوة الجذب وتعريف ملكة العفاف يأتي بتمثيل عن الرجل وعن المرأة أيضاً . والآن يجب ان نرى هل أن الرجل قال في هذه الساحة كلاماً أكثر عفة ، أم أن المرأة ذكرت بياناً أكثر عفة في هذا المقام ؟

يوسف ومريم مظهران للعفة :
قال تعالى في شأن مريم عليهم السلام :
( ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) (1) .
كل منهما كان له مزايا كثيرة من القيم ، ذكرت في القرآن ، ولكن ما هو موضع اهتمام هذا البحث هي ملكة عفتهما . فيوسف أبتلي ونجا بفضل
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 42 .
(125)

العفاف ، ومريم امتحنت ونجت في ظل العفاف . والمهم هو ماذا كان طريق نجاة هذين المعصومين ؟ وماذا كان رد كل منهما حين الخطر وماذا قالا ؟
عندما كان يوسف عليه السلام يمتحن كان تعبير القرآن :
( ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رءا برهان ربّه ) (1) .
أي ان الكلام ليس في مقام الفعل ، وليس في مرحلة المقدمات أيضاً بل في نشأة الاهتمام وهذه هي المرحلة الثالثة . المراد من مرحلة الاهتمام هنا هو ذلك الذي همت به تلك المرأة المصرية ووصلت همتها إلى حد ملاحقة يوسف عليه السلام إلى الفعلية ، ولكن يوسف الصديق عليه السلام ليس فقط لم يكن في العمل ولا في مقدمات العمل ، بل لم يكن هناك قصد وهمة وخيال أيضاً ، بدليل ان الآية الشريفة علقت همة وقصد يوسف بشيء لم يحصل وقالت : ( وهمّ بها لولا أن رءا برهان ربّه ) . لم يقصد لأنه رآى برهان الرب .
وهناك شواهد كثيرة أخرى يذكر الله تعالى يوسف كعبد طاهر ومعصوم . كما في قوله تعالى : ( انه من عبادنا المخلصين ) هذه هي صغرى القياس ، وكبرى القياس هي ما قاله الشيطان من أنه ليس له طريق نفوذ إلى عباد الله المخلصين .
( إلاّ عبادك منهم المخلصين ) (2) .
بناء على هذا ، فباعتراف الشيطان فان يوسف الصديق كان منزهاً عن هذه الآفة ، حيث اعترفت المرأة المفترية أخيراً وقالت :
____________
(1) سورة يوسف ، الآية : 24 .
(2) سورة الحجر ، الآية : 40 .

(126)

( الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه ) (1) .
كما أن الله تعالى شهد أيضاً بنزاهة وقداسة يوسف وقال :
( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) (2) لا ( لنصرفه عن السوء ) .
أما في مسألة مريم عليهم السلام نرى أنها أما بمستوى يوسف الصديق الذي ذكره الله بعنوان عبد مخلص ( من عبادنا المخلصين ) أو هي أعلى منه .
بيان الموضوع هو انه حين جاء الكلام عن عفاف مريم عليهم السلام لم يكن الكلام عن ( همت به وهم بها لولا ان رءا برهان ربه ) ، بل الكلام عن :
( قالت أني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ) (3) .
لذا قال الله تعالى :
( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً ) (4) .
في الآية الآنفة لم يقل تعالى : انها لو لم تر دليلاً إلهياً لكانت رغبت ولكانت نوت ، بل قال : ( قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ) ، كلمة ( إن كنت تقياً ) هذه هي بعنوان أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، أي اتّق ، وكأن الله تعالى يقول لنا ، لا تقوموا بهذا العمل ( إن كنتم مؤمنين ) (5) وهذا التعبير جاء كثيراً في القرآن ، أي اعملوا وفق الإيمان ، أو قوله في آية أخرى :
____________
(1) سورة يوسف ، الآية : 51 .
(2) سورة يوسف ، الآية : 24 .
(3) سورة مريم ، الآية : 18 .
(4) سورة مريم ، الآية : 17 .
(5) سورة آل عمران ، الآية : 175 .

(127)

( فهل أنتم مسلمون ) (1) ( فهل أنتم منتهون ) (2) .
هذا النوع من التعابير المراد به الإرشاد . أي إذا كنتم مؤمنين اعملوا وفق إيمانكم . هنا قالت مريم لهذا الملك المتمثل ان لا يقدم على ذلك العمل إذا كان تقياً . اليس هذا التعبير ألطف من تعبير يوسف ؟ قال الله تعالى في شأن يوسف : إنه لو لم ير برهان ربّه لهمّ ، ولكن لم يهم لأن رأى برهان الرب ، ولكن بشأن مريم ليس فقط انها لم تهم ، بل نهت الملك المتمثل عن هذا الهم أيضاً .
لنر الآن من كان مربي مريم عليهم السلام ؟ كانت امرأة ، مريم لم تترب على يد رجل ، لم تترب على يد أبيها ، بل تربت على يد أمها ، كثير من الناس صالحون ، لكنهم لا يستطيعون ان يكونوا آباء لبنات مثل مريم ، أو أمهات لبنات مثل مريم . هناك شروط كثيرة لازمة حتى يستطيع الإنسان الوصول إلى درجة بحيث يهدي ابنه إلى الله ، والله يتقبل ذلك الابن . أم مريم اعاذت مريم بالله ، والله تعالى اعطاها اللجوء وتقبلها في كنفه .

أثر استعاذة أم مريم :
عندما ولدت مريم ، قالت أمها :
( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان ) (3) .
فقال الله تعالى :
( فتقبلها ربّها بقبول حسن ) (4) .
____________
(1) سورة هود ، الآية : 14 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 91 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 36 .
(4) سورة آل عمران ، الآية : 37 .

(128)

ثم قال :
( وأنبتها نباتاً حسناً ) (1) .
هناك أفراد كثيرون يتقبل الله سعيهم فقط ولي أنفسهم ، ولذا فان الله تعالى لا يقول في شأن جميع الافراد بأنه تقبلهم وأعاذهم بل يقول :
( إنما يتقبل الله من المتقين ) (2) .
ان قبول العمل هو غير قبول ذات العامل . فأعمال كثير من الناس مقبولة . ولكن هل ان جواهر ذواتهم مقبولة أيضاً أم لا ؟ ان الله تعالى قال بشأن مريم : ( فنقبلها ) ولم يقل ( تقل عملها ) بناء على هذا فان أم مريم أعادتها بالله ، فاعطى الله العوذ ، كانت تلك الاستعاذة بالله في جوار المحراب حيث تستجاب وتقول ابنتها : ( إني أعوذ بالرحمن منك ان كنت تقياً ) . حين تراجع الكتب الأدبية يلاحظ ان الذين كانت لديهم معرفة بالمعارف القرآنية يفسرون كلام أم مريم كما قالته ، ولكن الذين لم يصلوا إلى تلك المعارف الرفيعة ، يفسرون كلام أم مريم هذا بتلك التقاليد الجاهلية .

التشبية في بيان أم مريم عليها السلام :
يبين القرآن الكريم قضيّة ولادة مريم عليهم السلام بهذا الشكل :
( فلما وضعتها قالت ربّ انّي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وأنّي سميتها مريم وإنّي أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) (3) .
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 37 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 27 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 36 .

(129)

محل البحث هناك حيث قال : ( وليس الذكر كالأنثى ) . لو دققتم في الكتب الأدبية ترون ان الادباء في تفسير هذه الجملة قمسين : فهناك من يعتبر هذا التشبيه ، تشبيها معكوساً ويقولون : لأ المذكر أفضل من المؤنث والرجل أرقى من المرأة ، فلو قال شخص : ( ليس الذكر كالأنثى ) ، فهنا التشبيه تشبيه معكوس ، وفي الحقيقة يعني ليست الأنثى كالذكر .
وهناك بعض يعتقدون بان التشبيه في الآية جارٍ على الأصل لا معكوس ، بهذا البيان وهو أن الولد لا يستطيع أبداً أداء دور هذه البنت ، ولا يستطيع أي رجل ان يصبح والداً لعيسى ، ولا يستطيع الرجل أبداً أداء عمل هذه المرأة ، وبناء على هذا فالتشبيه تشبيه مستقيم لا معكوس .

دور النساء تثبيت الأديان الإلهية :
أما قسم قوة الدفع ، فهو قسم مبسوط سنبين خلاصته في هذا البحث .
لقد عرض القرآن الكريم رجالاً بصفتهم في مسألة الغضب ومكافحة الظلم ، أما ما طرح في مسألة مكافحة الظلم الفرعوني فهو كفاح النساء .
يذكر القرآن الكريم ثلاث نساء كأمثلة وهن اللواتي حفظن موسى من القتل ، وقمن بتربيته . وكانت كل مسألة تربية موسى الكليم بعهدة أولئك النساء الثلاث . أم موسى ، أخت موسى ، وامرأة فرعون ، فقد قامت تلك النساء الثلاث بمكافحة الوضع السياسي في ذلك الوقت ، حتى كبر هذا الرجل ، قال تعالى :
( وأوحينا إلى أم موسى ) (1) .
عندما ألقت أم موسى ابنها في البحر بأمر الله ، قالت لأخت موسى بأن
____________
(1) سورة القصص ، الآية : 7 .
(130)

تتابع هذا الصندوق ( وقالت لأخته قصّيه ) (1) .
من ناحية أخرى قالت امرأة فرعون :
( لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ) (2) .
من ناحية أخرى هيأت هذه النساء الثلاث الأرضية لنضج وتربية موسى ، حتى طوى بساط فوعون .
واضح جيداً ان الذهاب وراء الصندوق حتى فصر فرعون لم يكن عملاً مهلاً ، كما أن أمّا إذا أمرت ابنتها بأن تتابع هذا الصندوق وتكون على اطلاع على نهاية مسيره ، وإذا كانت نهاية مسيره هي قصر فرعون تذهب وتعرض عليهم الرضاعة وتقول :
( هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ) (3) .
لا يعتبر هذا أيضاً أمراً سهلاً في ذلك اليوم الذي كانوا يلاحقون كل امرأة مرضعة حتى يفهموا ان طفلها الرضيع ولد أم بنت ، لأن المرأة التي مع طفلاً هي التي تكون مرضعاً . ان اقتراح التعريف بامرأة مرضعة غير ليس أمرأً عادياً في مثل ذلك الوضع ودخول في ساحة الخطر ومواجهة موت والإعدام ، علاوة على هذا فان أموته أم موسى كانت سرية أيضاً كانوا على أي حال يسألون عن الرضيع وجنسه ، لأنهم كانوا في حال متابعة مستمرة حتى يقضوا على كل رضيع ولد ، كما قال تعالى :
( يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ) (4) .
____________
(1) سورة القصص ، الآية : 11 .
(2) سورة القصص ، الآية : 9 .
(3) سورة القصص ، الآية : 12 .
(4) سورة القصص ، الآية : 4 .

(131)

فلم يكن امراً عادياً ، هذا الذي تولته أخت موسى ولم يكن عملاً صغيراً ذلك الذي أمرت به أم موسى ، كما ان اقتراح امرأة فوعون لم يكن اقتراحاً سهلاً ، والشخص الذي كان يعيش مع أكبر سفاح في ذلك العصر ، يقول في ذلك المقطع الحساس : ( لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ) ، هذا الاقتراح يبين شهامة وشجاعة هذا المرأة .

خلاصة البحث :
اتضح مما تقدم ان النساء كانت تتولى أفضل عمل من أجل حفظ الأديان ، وذلك في قسم الغضب والشهوة ( العفاف ) ، وفي قسم العلم أيضاً كانت النساء في حد الرجال جزء من الكلمات الإلهية التي انقذت آدم ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) .
بناء على هذا تصبح النتيجة أنه لا يوجد قسم يكون فيه الرجال مقدمين ، ولا يكون للنساء فيه سهم ، ولكن يجب أن تدرك المرأة موقعها أولاً ، وثانياً أن يعطي الآخرون حرمة لهذا الموقع ، وثالثاً يهيئون إمكانات ، ثم يبدأ التقويم ، حيث يظهر في ميدان الامتحان إلى أي حد يمكن ان تنجح المرأة وإلى أي حد يمكن للرجل التقدم .

النساء الأسوة في القرآن (2) :
الأنبياء قدوة الإنسان :

القسم الآخر من البحث يقع في هذا الإطار ، هذا الذي عرفه الله تعالى رسوله بعنوان رحمة تشمل العالم ، وقال :
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (1) ، ( وما أرسلناك إلا كافة
____________
(1) سورة الأنبياء ، الآية : 107 .
(132)

للناس ) (1) ، ( للعالمين نذيراً ) (2) .
وهناك آيات كثيرة أخرى تفهم شمولية دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعالم ( هذه المقدمة ) .
مقدمة أخرى في قوله تعالى في سورة الأحزاب :
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (3) .
عندما نجعل المقدمة الثانية إلى جانب المقدمة الأولى نرى ان كلمة ( لكم ) ليست خطاباً للرجال ، هي خطاب للناس ، وكما بين سابقاً فان طريقة القرآن هي طريقة الحوار ، وفي المحاورة حين يقال الناس فليس مقصود الرجال في مقابل النساء ، بل المقصود هو جماهير الناس ، وطبق مقدمة الأولى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نذيراً للعالمين ، رحمة للعالمين ، قدوة للناس ، عند ذلك ليس صحيحاً أن نقول في المقدمة الثانية : إن الرسول هو قدوة للرجال ، بل هو قدوة للناس ، كما أن الله تعالى قال عن إبراهيم الخليل عليه السلام :
( ملة أبيكم إبراهيم ) (4) .
كلمة ( أبيكم ) هذه هي خطاب للناس لا للرجال ، وقال تعالى :
( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) (5) .
أي تأسوا أيها الناس بإبراهيم والذين مع إبراهيم عليهم السلام وليس أنتم أيها
____________
(1) سورة سبأ ، الآية : 28 .
(2) سورة الفرقان ، الآية : 1 .
(3) سورة الأحزاب ، الآية : 21 .
(4) سورة الحج ، الآية : 78 .
(5) سورة الممتحنة ، الآية : 4 .

(133)

الرجال . لأن ضمير جمع المذكر السالم هذا على أساس ثقافة الحوار هو خطاب للمجتمع ، وليس للرجال .
وقد دعانا الله إلى التأسي بإبراهيم الخليل في آيتين من سورة الممتحنة ، أحداهما هذه الآية ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) والأخرى قوله تعالى :
( لقد كان لكن فيهم اسوة حسنة ) (1) .
هذه الأمثلة تبين ان الانبياء هم أسوة للناس لا للرجال .

الأسوة في نظر القرآن :
إذا أصبح الإنسان صالحاً فهو أسوة لسائر الناس . إذا كان رجلاً فهو أسوة للناس لا للرجال فقط ، وإذا كانت امرأة فهي أيضاً أسوة للناس لا للنساء ، والقرآن الكريم يوضح هذه المسألة بصورة صريحة ، ويذكر أربع نساء بعنوان نساء نموذجيات ( اثنتان منهن نموذج حسن واثنتان نموذج سيىء ) .
المرأة سواء أكانت سيئة أو صالحة ليست مثالاً للنساء ، فحسب ، هي امرأة نموذجية ، وهناك فرق بين كون المرأة الصالحة الجيدة نموذجاً للنساء ، وبين كونها امرأة نموذجية ؟ ان الرجل إذا أصبح جيداً لا يكون نموذجاً للرجال ، بل هو رجل نموذجي. القرآن الكريم يقول : إن الرجل الجيد هو نموذج للناس وليس نموذجاً للرجال والمرأة الجيدة ليست هي نموذجاً للنساء ، بل هي امرأة نموذجية ، والمرأة السيئة ليست نموذجاً للنساء السيئات ، بل نموذج للناس السيئين .
____________
(1) سورة الممتحنة ، الآية : 6 .
(134)

يذكر القرآن الكريم أربعة نماذج من النساء ـ نموذجان للسيئين ونموذجان للمؤمنين في سورة التحريم . وفي جميع هذه الحالات الأربع ليس هناك كلام عن المرأة والرجل ، لا يقول ان أولئك النساء السيئات هن مثال للنساء السيئات ، بل يقول : إنهن نموذج للناس السيئين . وفي الحالتين الأخريين حين يذكر النساء الفاضلات ، لا يقول : إن النساء الفاضلات هن نموذج للنساء الفاضلات بل يقول : إنهن نموذج للناس الفاضلين .

امرأة لوط وامرأة نوح :
يبين القرآن الكريم نموذجاً للناس السيئين بنقل قصة امرأتين سيئتين ويقول :
( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً لله وقيل ادخلا النار مع الداخلين ) (1) .
هنا لا يقول الله تعالى « ضرب الله مثلاً للآتي كفرن » ولا يقول « ضرب الله مثلاً للنساء الكافرات » لا يقول ان الله ذكر نموذجاً للنساء السيئات ـ بل يقول ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا ) لا ( للنساء ) ولا ( للآتي كفرن ) بناء على هذا يتضح إن ( للذين كفروا ) هذه لا تعني الرجال الكافرين بل تعني الناس الفاسقين والمجرمين ، والمرأة السيئة هي نموذج للناس السيئين لا نموذج للنساء السيئات ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوحٍ وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً ) المقصود هنا من الخيانة هي الخيانة الرسالية والعقائدية والثقافية ، ولذا قال لنا الله تعالى :
____________
(1) سورة التحريم ، الآية : 10 .
(135)

( لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) (1) .
الخيانة للنبي ، تعني سوء التعامل مع دينه ، الخيانة لله ، أي سوء السلوك تجاه الايمان هذه هي الخيانة الله والبني ، وعندما قال هنا : إن امرأة لوط وامرأة نوح خانتا هذين النبيين وأحدهما من الأنبياء إولي العزم والآخر حافظ الشريعة إبراهيم عليه السلام أي لم تؤمنا برسالتهما ، وهاتان نموذج للناس الكافرين .
بناء على هذا يتضح انه إذا كان الكلام عن ( الذين ) و ( آمنوا ) وأمثال ذلك ، فان المقصود حسب لغة الحوار ، هم الناس ، وليس الرجال ، وإذا أصبحت امرأة سيئة فهي نموذج لناس سيئين ، وليس نموذجاً لنساء سيئات وفي هذه الآية ( وقيل ادخلا النار مع الداخلين ) رغم ان ( ادخلا ) كم هي تثنية مذكر فهي تثنية مؤنث أيضاً . فالمقصود بذكر ( الداخلين ) بصورة جمع مذكر سالم ، هو الناس الجهنميين وليس الرجال الجهنميين . هذان نموذجان للنساء السيئات .

امرأة فرعون ، نمودج الناس المؤمنين :
يذكر القرآن الكريم نموذجين جيدين من النساء أيضاً بصفتهن أسوة ، وقد قال الله تعالى بشأن النساء الفاضلات اللواتي عدهن نموذجاً للناس المؤمنين :
( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) (2) .
إن تعبير القرآن في هذه الآية ليس من امرأة فرعون هي نموذج للنساء
____________
(1) سورة الأنفال ، الآية : 27 .
(2) سورة التحريم ، الآية : 11 .

(136)

الصالحات بل أن المراة الصالحة هي نموذج للمجتمع الإسلامي ، والمجتمع الرفيع يتأسى بهذه المرأة ، لا ان النساء فقط يجب ان يأخذن منها درساً . بل المجتمع الإسلامي يجب أن يأخذ منها الدرس . إن الله تعالى لم يقل في هذه الآية : « وضرب الله مثلاً لللآتي آمن امرأة فرعون » بل قال : ( وضرب الله للذين آمنوا امرأة فرعون ) هذه المرأة كانت تعيش في بيت كان صاحبة يقول : ( أنا ربكم الأعلى ) (1) ويقول : ( ما علمت لكم من إله غيري ) (2) . إن جملة ( لا إله إلاّ أنا ) تشير إلى الحصر مثل ( لا إله إلا الله ) وهذا الحصر ادعاه فرعون . الله تعالى يقول :
( سبح اسم ربك الأعلى ) (3) .
الأعلى هو مفهوم يرافقه الحصر ، لهذا لا يمكن وجود اثنين بعنوان الأعلى ، ولكن فرعون كان يدعي الانحصار والأعلى ، كان يدعي الربوبية والتوحيد ، الربوبي أيضاً ، وكان يقول : انني الإله الوحيد في مثل هذا البيت نشأت امرأة هي نموذج الناس المتدينين ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ) .
ثم يذكر القرآن فضائل لهذ المرأة ويرى أهمها في بعد الدعاء حيث أخذت في هذا الدعاء ست نكات عظيمة . أصبحت هذه المرأة نموذجاً للنساء الصالحات بسبب انها قالت في الدعاء : ( إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) .
هل ان امرأة فرعون تريد الجنة أم الله ؟ لقد طلبت الجنة عند الله ؟
____________
(1) سورة النازعات ، الآية : 24 .
(2) سورة القصص ، الآية : 38 .
(3) سورة الأعلى ، الآية : 1 .

(137)

الآخرون يطلبون الجنة ، ويطلبون من الله في أدعيتهم ( جنات تجري من تحتها الأنهار ) (1) ، لكن المرأة أرادت الله أولاً ثم طلبت عند الله بيتاً ، لم تقل : ( رب ابن لن بيتاً في الجنة ) ، ولم تقل : ( ربّ ابن لي بيتاً عندك في الجنة ) بل قالت : ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) ذكرت أولاً عند الله ثم تكلمت عن الجنة ، أي إذا كان الكلام عن ( الجار ثم الدار ) (2) ، فإن هذه المرأة طبقت هذا المعنى في مسألة المقامات الإنسانية وطلبت الله أولاً ثم جنة عند الله . طلبت أولاً لقاء الله واللذة المعنوية ، ثم اللذة الظاهرية ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) .
قد يكون هناك من يقول : ( ربّ ابن لي بيتاً في الجنة ) ثم يقول أخيراً ( عندك ) ، أي يقول ( الدار اثم الجار ) ، لكنها كانت هكذا تفكر ( الجار ثم الدار ) الله ثم الجنة ) ، ولذا قالت ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) . طبعاً هناك فرق كبير بين الجنة التي تكون عند الله عند الله والجنة التي تجري من تحتها الأنهار .

تولي وتبري امرأة فرعون :
إن هذين الطلبين ، أحدهما لقاء الله والآخر الجنة ، أي أحدهما ( جنة اللقاء ) والآخر ( جنات تجري من تحتها الأنهار ) ، في هذه الأدعية الستة ، أو هذا الدعاء الذي فيه سنة مطالب ، يعودان إلى التولي ، والطلبات الأربع الأخرى تعود إلى التبري ، 1 ـ ( ونجني من فرعون ) 2 ـ ( وعمله ) 3 ـ ( ونجني من القوم الظالمين ) 4 ـ وأعمالهم وهي محذوفة .
عندما قالت ( ونجني من فرعون وعمله ) لم يكن طلبها ان ينجيها الله
____________
(1) سورة الفرقان ، الآية : 10 .
(2) بحار الأنوار ، ج 10 ، ص 25 .

(138)

من عذاب فرعون ، يمكن ان يقول شخص إلهي نجني من الظالم ، ولكنه حين يصل إلى السلطة يمارس الظلم ، أما هذه المرأة فلم تطلب من الله نجاتها من فرعون فقط ، بل طلبت الخلاص من عمله وهو الشرك ، لم تطلب النجاة من ظلمه فقط ، بل طلبت الخلاص من الظلم ، طلبت النجاة من أن تكون مظلومة أو ظالمة ، طلبت النجاة من الوقوع في شركه ومن التفكير في ادعاء الربوبية ( ربّ نجني من فرعون وعمله ) ثم قالت : ( ونجني من القوم الظالمين ) قد يتخلص الشخص من فرعون ولكنه يقع في فخ آل عمران أو سائر الظالمين ، لذا عرضت الطلب الخامس ( ونجني من القوم الظالمين ) وحذفت ( أعمالهم ) بقرينة ( نجني من فرعون وعمله ) وحذف ( ما يعلم جائز .
بناء على هذا فهذه المرأة التي تفهم بهذه الدرجة العالية وفي طلباتها يوجد تبري وتولي وتسأل من الله مسائل اجتماعية وفردية ، هل أن هذه المرأة النموذجية هي نموذج للنساء ؟ أم انها نموذج للمجتمع ؟ قال الله تعالى : ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا ) ، ولم يقل : ( ضرب الله مثلاً للنساء ) أو ( اللاتي آمنّ ) ، لهذا يتضح انه ليس لدينا نموذج للنساء ، لدينا امرأة نموذجية ، ولكنها ليست نموذجاً للنساء . المرأة النموذجية هي نموذج للناس .

مقام مريم عليها السلام الخاص القرآن :
النموذج الرابع الذي جاء في القرآن الكريم هو مريم عليه السلام . وهذا النموذج ذكر في سورة التحريم كالنماذج الثلاثة الآنفة . بعد أن قال تعالى : ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ) ، قال في الآية اللاحقة تكريماً لمقام مريم عليه السلام الخاص :