( مريم أبنة عمران ) (1) .
أي ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا مريم ابنة عمران ) . مريم التي ( أحصنت ) مريم التي ( فنفخنا فيه من روحنا ) ، مريم التي ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) ، ولأن مقام مريم كان أرفع من مقام امرأة فرعون ، لذا لم يذكرهما دفعة واحدة ، بل ذكرهما في آيتين منفصلتين ، على خلاف تينك الكافرتين اللتين ذكرتا في آية واحدة . ( ومريم ابنة عمران ) التي وصلت من أثر الاحصان والصيانة والعفة ومن أثر تلقي تلك الروح الغيبية إلى ان ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) (2) .
يفهم جيداً من هذه النماذج الأربعة في سورة التحريم أنه لا الرجل النموذجي هو نموذج للرجال ، ولا المرأة النموذجية نموذج للنساء ، يمكن ان يكون الفلاح النموذجي ، نموذجاً للفلاحين ، والصناعي النموذجي ، نموذجاً للصناعيين ، والخطاط النموذجي نموذجاً للخطاطين ، ولكن الإنسان النموذجي ، هو نموذج لجميع الناس ، ولا يختص بالمرأة أو الرجل .
ويجب طبعاً عند تقييم مقام وكمالات مريم عليها السلام عدم نسيان دور أمها ، رغم أن مريم عليها السلام تربت على يد زكريا ، لكن هذا الأمر كان في المرحلة النهائية ، وليس في المرحلة الابتدائية ، كانت أمها أهلاً لأن تلد أم نبي ، وكان لديها ذلك الخضوع الذي جعلها تهدي ابنتها إلى معبد الله . وان قبول الله تعالى هذه الجوهرة كان من أجل أنه يعلم أنه إذا أعطاها فيضاً ستكون أمينة في حفظ الفيض . ورغم ان مريم عليهم السلام تقبلها ربها وهي في
____________
(1) سورة التحريم ، الآية : 12 .
(2) سورة التحريم ، الآية : 12 .
(140)
سن الطفولة :
( فتقبلها ربها بقبول حسن ) (1) .
ولكن الله تعالى كان يعلم ان هذه المرأة لو حصلت على كمال ستكون أمينة على حفظ الكمال .
لقد اعطى الله تعالى فضيلة لعدد كثير من الرجال ، وكان يعلم أنهم ليسوا أهلاً لذلك ، وأنهم سوف يفتضحون في النهاية ، وكان إعطاء الفضيلة لهم من باب ( معذرة إلى ربّكم ) (2) واتمام حجة ، لذا أعطاهم فضيلة ولم يعطهم منصباً ومامورية . لأن الشخص الذي في عمله كشف خلاف ، لو حصل على مأمورية ومنصب يوجه ضربة لأسس الدين الإسلامي اعطى تعالى لبلعم بن باعورا فضيلة ولم يعطه منصباً ، أعطى للسامري فضيلة ولم يعطه منصباً ، لم يكن السامري إنساناً صغيراً ، لقد رأى بعينه الباطنية أثر الملائكة وقال :
( بصرت بما لم يبصروا به ) (3) .
ولكن بدلاً من أن يأخذ فيضاً من ذلك الأثر ، ويواصل طريق موسى وهارون عليهما السلام ويتتلمذ عندهما جاء ونشر عبادة العجل . وكان بلعم بن باعورا شخصاً قال بشأنه الله تعالى :
( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) (4) .
تلك نماذج قرآنية تقوم على ان الله يعلم لمن يعطي منصباً ، ولكنه
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 37 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 164 .
(3) سورة طه ، آية : 96 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 175 .
(141)
يعطي فضيلة حتى يتضح أن البعض يبدل عمداً الفضيلة إلى رذيلة ، ولأن الله تعالى مطلع على بواطن وظواهر الجميع لا يعطي أبداً منصباً رسمياً للذين لهم لاحقة سوء .
( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (1) .
الله تعالى يعلم لمن يعطي مأمورية ، الله تعالى ليس كالبشر العاديين يعطي لشخص إبلاغاً ، ثم يحصل كشف خلاف ويقول إني لا أبصر ما في الباطن . إن الله تعالى يقبل الذين يعلم أنهم ثابتون وملتزمون بحسن اختيارهم . وكانت مريم من هذه النماذج ، . بناء على هذا رغم انها لم تقم بعمل في أول ولادتها ، ولكن كان معلوماً أن الله إذا اعطاها فضيلة ، تلتزم وتثبت على حفظها ، لذا تولت رعايتها في بداية ولادتها ، أمّا مثل امرأة عمران ، فبعد أن أرادت الوفاء بنذرها ، أودعتها في المعبد ، ومن ذلك الحين وما بعده :
( وكفّلها زكريا ) (2) .
أي جعل الله سبحان وتعالى زكريا كفيلاً لها ، و ( كفّل ) في هذه الجملة أخذت مفعولين ( المكفّل ) هو الله ، والله تعالى كفل مريم تحت رعاية زكريا ( وكفلها زكريا ) لا ( تكفلها زكريا ) ، لم يتكفل زكريا إلا بالوحي الإلهي ، لم تكن القرعة وقعت باسم زكريا بصورة تلقائية ، لذا قال تعالى : إنهم اقترعوا وكانوا الكثير يحبون تربية هذه الطفلة .
( وما كنت لديهم إذ يختصمون ) (3) .
____________
(1) سورة الأنعام ، الآية : 124 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 37 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 144 .
(142)
واقترعوا وخرجت القرعة باسم زكريا ، بمشيئة الله .
( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) (1) .
ويقول الله تعالى بأنه نظم الخطة بنحو يكون فيه هو المكفل ويكون زكريا متكفلاً ، ومريم تحت الكفالة ، وهذا في مرحلة البقاء حيث تربيتها ورشدها ، وإلا ففي بداية ولادتها وتكونها وظهورها وهجرتها من الرحم إلى الحضن ، كانت في ظل تربية تلك الامرأة .
تقييم مقام مريم عليها السلام بنظر المفسرين :
يذكر القرآن الكريم نماذج كثيرة ، وأحد تلك النماذج هو مؤشر تربية ورشد وحياة وعبادة وعفاف مريم عليها السلام . إن ما يبينه القرآن الكريم بشأن مريم عليها السلام هو انه :
( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) (2) .
كما أن الملائكة ، تكلمت مع مريم وسمعت كلام مريم أيضاً ، بل أن مريم رأت الملائكة ، بل إنها أيضاً جعلت على مرأى منهم . وهذه تعابير رفيعة للقرآن بشأن مريم عليها السلام وأن ملائكة كثيرة تكلمت معها وسمعت كلامها ، وهذا القول الذي كان بصورة شفهية تبدل إلى شهود . وفي موضع آخر . وفي مقام تبيين مقام مريم الرفيع قال تعالى :
( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي وأركعي مع الراكعين ) (3) .
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 144 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 37 .
(3) سورة آل عمران ، الآيتين : 42 ـ 43 .
(143)
كما بشرتها بالمسيح عليه السلام :
( إذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ) (1) .
وفي تبيين حياة مريم عليها السلام اعتبرت مجموعة من ( أهل الاعتزال ) كالزمخشري ـ في الكشاف ـ الذين سلكوا طريق التفريط ، أن مشاهدة الملائكة ، وسماع كلام الملائكة هو أما بعنوان ( كرامة لزكريا ) أو عدوه ( إرهاص عيسى ) ، وظنوا ان تلك المرأة لا تستطيع الوصول إلى هذا المقام ، وتتمتع بالكرامة ، وتسمع كلام الملائكة وتتلقى بشارة الاصطفاء من الملائكة وتتلقى منها البشارة بكونها أصبحت أما لنبي ، لذا قالوا : إن كل هذه الفضائل التي حظيت بها مريم هي إما بعنوان معجزة لزكريا أو بعنوان إرهاص عيسى ، كما تقع مجموعة أمور خارقة للعادة قبل القيامة يعبر عنها بعنوان ( أشراط الساعة ) ، كذلك قبل ظهور أو ميلاد نبي تقع مجموعة أمور خارقة للعادة وهي علامة ظهور نبي ، وعبروا عن هذه الأمور الخارقة للعادة في الكتب الكلامية بعنوان ( إرهاص ) .
أما أهل الافراط كالقرطبي وهو من المفسرين المعروفين من أهل السنة ، وغيره ممن يشاطره الفكر فيعتقدون أن مريم كان لديها منصب النبوة ، لذا نزلت عليها ملائكة كثيرة ، وأخبرتها عن الوحي ، وأعلنت لها مسألة صفوتها وطهارتها عن طريق الإلهام وبشرتها بانها أصبحت أما لنبي وغير ذلك ، ولأن مريم تلقت وحي الملائكة ونزلت عليها الملائكة ووصل كلامها من رتبة المشافهة إلى المشاهدة فهي نبي ، لأن كل شخص نزلت عليه الملائكة وجاءت بالوحي ورآى الملائكة هو نبي .
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 45 .
(144)
أما الإمامية الذين يسيرون في طريق القسط والعدل فيهم يعتقدون ان جميع هذه المقامات والكرامات تتعلق بمريم عليها السلام أي هي وصف لحال الموصوف لا متعلق الموصوف ـ ويجب عدم وصفها لحساب إعجاز زكريا ، ومن ناحية أخرى فإن مريم عليها السلام لم تصل إلى مقام الرسالة والنبوة التشريعية ، وهاتان المسألتان يبينهما مفسروا الإمامية بالاستناد إلى الظواهر القرآنية .
المسألة الأولى : أن جميع هذه الكرامات تتعلق بمريم عليها السلام ، بدليل ظواهر القرآن ان الملائكة تكلمت ولكن ليس فقط بعنوان هاتف غيب وملاك باطن ، بل أصبحت مشهودة لها ، كما أن هذه الخطابات والنداءات تجلت أحياناً بصورة تمثل أيضاً ، كما جاء في القرآن الكريم :
( فتمثل لها بشراً سوياً * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت نقياً ) (1) .
فقال الملك :
( إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً ) (2) .
ظاهر هذه الآيات هو أن مريم عليهم السلام تلقت لوحدها هذه المقامات ومقام مريم أدّى لأن يطلب زكريا من الله ذرية :
( هنالك دعا زكريا ربه ) (3) .
علاوة على أن التوصية بالقنوت ودوام العبادة والخضوع المستمر ، والسجود والركوع هو دليل على مقام مريم ، كما أن الأوصاف التي ذكرها
____________
(1) سورة مريم ، الآيتين : 17 ـ 18 .
(2) سورة مريم ، الآية : 19 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 38 .
(145)
الله تعالى لهذه المرأة ، دليل على أن شخصية مريم أدت إلى أن ترى الملائكة وتتكلم معها وتسمع كلامها ، أو عندما ذكر الله تعالى مريم بأنها :
( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) (1) .
أو في قوله تعالى :
( وأمه صديقة ) (2) .
أي أن عيسى له أم كانت تصدق كلام الغيب ، لم تكن صادقة فقط ، بل إنها عدت من الصديقين ، وأن كونها صديقة وتأييد الله لصحة هذا الموضوع دليل على أن جميع هذه الفضائل لمريم عليها السلام .
أما ان يعتقد الزمخشري ومن يشاطره الرأي بأن هذه الكرامات كانت بسبب زكريا أو أنها كانت إرهاصات نبوة المسيح عليه السلام فذلك ليس لأن المرأة لا تستطيع الوصول إلى هذا المقام ، بل على أساس تفكير المعتزلة غير صحيح .
من أنه ليس المرأة فقط بل لا يستطيع أي رجل أيضاً ، الوصول إلى مقام الكرامة ، والأنبياء فقط يمكن ان تحصل لهم معجزة ، ولا يستطيع غير الأنبياء ان يتمتع بكرامة ، سواء كان رجلاً أو امرأة ، وهذا الكلام قد أبطل في محله ؛ لأن الكرامة غير المعجزة ، المعجزة تختص بالأنبياء ، ولكن الكرامة ثابتة لجميع أولياء الله .
مع هذا التوضيح وهو أن خرق العادة إذ اقترن بادعاء النبوة ، وامتزج بالتحدي ، فيسمى هذا معجزة وإلا فهو كرامة .
____________
(1) سورة التحريم ، الآية : 12 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 75 .
(146)
أما ما تصوره الافراطيون مثل القرطبي ـ في الجامع ـ وغيره ممن يحمل هذا الفكر فكان على أساس قياس منطقي ، لكن لم يتكرر الحد الوسط في ذلك القياس أو لم تنظم الكبرى مع كليتها ، ولأن القياس لم يكن تتوفر فيه شروط الانتاج المنطقي ، فقد أصيبوا بالمغالطة من هذه الناحية .
وبيان المغالطة هو أن القرطبي قال في تفسيره : إن الوحي نزل على مريم عليها السلام ، ونزلت الملائكة وتكلمت معها ، ولم يكن هذا الحوار في حدود المشافهة فقط بل وصل إلى حد المشاهدة ، وكل شخص ينزل عليه الوحي ويسمع كلام الملائكة ويصل من الكلام الشفهي إلى الشهودي هو نبي ، فمريم عليها السلام نبيّ .
المقدمة الأولى لهذا القياس وهي صغرى صحيحة ، أي أن مريم عليها السلام لم تتكلم مع الملائكة بصورة شفهية فقط بل رأت الملائكة شهوداً وتمثلت لها . أما المقدمة الثانية أي كبرى القياس التي تقول : إن كل شخص رأى الملائكة وتلقى الوحي هو نبي ، فانها لست كلية .
أقسام الوحي ودفع مغالطة :
الوحي نوعان : 1 ـ وحي ( انبائي ) 2 ـ وحي ( تشريعي ) . والنبي هو الشخص الذي لا يرى فقط الملائكة في مسائل الرؤية الكونية والمعارف وأمثال ذلك و يسمع كلامهم و .. بل يتلقى عطاء الوحي في المسائل التشريعية أيضاً ، يتلقى الشريعة من الملائكة ويتولى مسؤولية قيادة المجتمع ويتعلم الأحكام المولوية ويبلغها إلى الناس ، وليس كل شخص يتلقى الوحي يكون نبياً ، ورغم أن النبي هو الشخص الذي ينزل عليه الوحي ، ولكن ليس كل من نزل عليه الوحي يكون نبياً ، لأن الوحي أنبائي أحياناً ، وأحياناً تشريعي فتكون النبوة نبوة أنبائية أحياناً ، ونبوة تشريعية أحياناً .
(147)
مسألة النبوة التشريعية التي يبينها الله في القرآن الكريم بصورة رسالة ـ لأنها أمر تنفيذي ، ويرافقها حشر مع الناس ، ويتولى قيادة الحرب والسلم وتولي المسائل المالية وتوزيع الأموال وتنظيم أمر المجتمع ـ هذا النوع من النوبة يجعله الله تعالى للرجال ، قال تعالى في سورة يوسف وسورة النحل :
( ما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (1) .
فالرسالة ، أي قيادة المجتمع ، أي مسألة التشريع والنبوة التشريعية ، وبيان الحلال والحرام ، والواجب والمستحب ، والمكروه والمباح وأمثال ذلك ، هي نبوة ورسالة خاصة وضعت بعهدة الرجال لأنها مقام تنفيذي ، ولكن النبوة الأنبائية بمعنى أن يطلع شخص عن طريق الوحي على ما يجري في العالم ، وما هو مستقبل العالم ؟ ويرى مستقبل نفسه ، ويطلع على مستقبل الآخرين أيضاً ، وهذا النوع من النبوة يعود إلى الولاية وليس إلى النبوة التشريعية والرسالة التنفيذية ، ورغم أن هذا النوع من النبوة هو سند لكل رسالة ونبوة تشريعية ، ولكنه لا يختص بالرجال ، بل إن النساء يستطعن أيضاً الوصول إلى هذا المقام .
فإذا كان مراد القرطبي وأصحابه في الفكر إثبات نبوة أنبائية لمريم عليه السلام فان جميع العرفاء ، الحكماء والمفسرين يقبلون هذا ، وإذا كان مقصوده النبوة التشريعية ، وان مريم عليها السلام كان لديها رسالة وكانت تتلقى الوحي التشريعي ، فذلك مرفوض ، ولا يمكن استنباطه من الآيات ، ولا تشعر به الروايات بل على خلاف ذلك أقيم ويقام الدليل على أن الأعمال التنفيذية هي للرجل وليس للمرأة ، لذا يرفض مفسروا الإمامية تفكير
____________
(1) سورة النحل ، الآية : 43 .
(148)
المعتزلة كالزمخشري وكذلك يرفضون تطرف أشخاص كالقرطبي .
مريم الصديقة :
ذكر القرآن الكريم مريم بصفة صديقة وهي مبالغة في التصديق ، بمعنى أنها ليست مصدقة فقط ، ليست فقط صادق وصديق بل هي صديقة .
الصديقون هم جماعة ترافق الأنبياء والصالحين والشهداء وهم معاً في قافلة . هؤلاء هم سادة القافلة السائرة في طريق الله . الأشخاص العاديون سواء النساء أو الرجال يسألون من الله في صلاتهم وأدعيتهم وعباداتهم أن ( أهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ) وقد حدد الله ، المنعم عليهم في سورة النساء فقال :
( ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ) (1) .
الشخص الذي يكون مطيعاً لله ورسوله يلتحق بمسافري القافلة التي أهلها عبارة عن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ثم يقول : ( وحسن أولئك رفيقاً ) . هؤلاء رفاق جيدون لأنه : « سل عن الرفيق قبل الطريق » (2) .
فإذا سقط الإنسان امسكوه ، وإذا سار في طريق الإفراط والتفريط قوموه ، وإذا شعر بالتعب أعانوه ، وإذا شعر بالعجز منحوه قوة ، لذا قال ( وحسن أولئك رفيقاً ) .
وهذا لا يختص بالنساء بان يقلن : إلهي أرنا طريق مريم ، بل أن جميع المصلين يدعون أن يدلهم الله على طريق الصديقين ، ومريم هي جزء من
____________
(1) سورة النساء ، الآية : 69 .
(2) نهج البلاغة ، الرسالة 31 .
(149)
الصديقين أيضاً ، إن الرجال عندما يدعون في جميع الصلوات بأن يهديهم الله صراط الأنبياء والصديقين ، فان مرادهم ليس الصديقين بمعزلٍ عن مريم بل الصديقين الذين منهم مريم ايضاً .
إن سر أن مريم عليها السلام صديقة ليس بسبب أنها صدقت الأخبار العادية ، وأنها تصدق ما يصدقه الآخرون ، بل أنها صدقت بشيء لم يصدقه الآخرون ، وأيدت صحة شيء كان الآخرون يعدونه مستبعداً على أساس هذا الأستبعاد اتهموها ، في حين أن مريم لم تطلب آية وعلامة لقبول هذا الأمر غير العادي .
شبهة تفوق مريم عليها السلام على زكريا عليه السلام :
إن المتطرفين الذين أفتوا بنبوة مريم أرادوا القول : أن مريم أرقى من زكريا ، لأن زكريا عندما سأل الله سبحانه :
( ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) .
أو ما جاء في سورة مريم من أن زكريا قال :
( ربّ إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقياً ) (1) .
فقد طلب من الله ذرية صالحة ( ذرية أي ابن ، سواء كان هذا الابن بلا فصل أو مع الفصل ، سواء كان واحداً أو أكثر من واحد ، وسواء كان مذكراً أو مؤنثاً ، كل هذه يقال لها ذرية ) ، كما جاء في محل آخر من القرآن أنه قال :
( فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ
____________
(1) سورة مريم ، الآية : 4 .
(150)
رضياً ) (1) .
عند ذلك نادته الملائكة :
( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى مصدقاً ) (2) .
ويحيى هذا :
( مصداقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين ) (3) .
وعندما بشرت الملائكة زكريا كبير السن بأنه أصبح أباً . سأل زكريا من الله :
( ربّ اجعل لي آية ) (4) .
طلب من الله أن يجعل له آية وعلامة حتى يفهم هل هذه البشارة هي حق أم لا ، أو يفهم متى تتحقق هذه البشارة . ولكن مريم عليها السلام عندما سمعت البشارة من الملائكة أطمانت وصدقت لأنها كانت صديقة ، ولم تطلب من الله تعالى علامة بناء على هذا نستنتج أن مقام مريم أعلى من زكريا .
علة طلب آية من قبل زكريا :
هذا الاعتقاد غير صائب ؛ لأنه يجب عدم إنزال نبي من مقامه العظيم لتكريم مقام شخص غيره ـ مريم عليها السلام .
____________
(1) سورة مريم ، الآيتين : 5 ـ 6 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 39 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 39 .
(4) سورة مريم ، الآية : 10 .
(151)
أما أن زكريا عليه السلام طلب آية ، فإن حق المسألة هو أن هذه الآية لم تكن لشك كان لديه بل كان كما قال إبراهيم عليه السلام :
( ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) (1) .
أي ، إلهي أرني كيف تحيي الموتى ، فقال تعالى له : ( أو لم تؤمن ) فقال إبراهيم بلى ، ولكن من أجل يصل إلى مقام ارفع ، ويصل إلى درجة فيصبح مظهر ( هو المحيي ) ، وإلا فهو معتقد بالمعاد ويعلم أن الله يحيي الموتى ، ولكنه أراد أن يفهم كيف يحيي الله الموتى ، وطبعاً هذا أيضاً ليس بتلك الصورة التي يريه الله كيف يحيي الموتى ، بل أراد أن يجعله الله مظهراً لـ ( هو المحيي ) فيحيا على يده الموتى ، وهذا هو أعلى مقام سأله إبراهيم الخليل عليه السلام .
هذا الطريق الأبراهيمي علمه إبراهيم عليه السلام لأبنائه في ان يطلبوا أيضاً من الله تعالى آية لحظة بلحظة حتى يصلوا إلى مقام الطمأنينة ويجدوا النفس المطمئنة .
مراحل اليقين :
إذا اتضحت لشخص مسألة بواسطة البرهان ، فلديه مرحلة من الطمأنينة ، وإذا تبدل برهانه من علم اليقين إلى عين اليقين سيرى ماذا يجري في العالم ويرى كيف يحيي الله الموتى ، وهذه مرحلة أيضاً ، ولكن المرحلة الأعلى من عين اليقين هي مرحلة حق اليقين ، أي ان الإنسان يصل إلى درجة بحيث يشاهد ـ هو المحيي ـ في نفسه ، لأن ـ المحيي ـ هو وصف من الأوصاف الفعلية لله ، والأوصاف الفعلية خارجة عن الذات الأقدس ـ على
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 260 .
(152)
عكس الأوصاف الذاتية ـ والشيء الذي هو خارج الذات يكون ممكن الوجود ، وعليه فان الإنسان يستطيع ان يصبح عينه ، لذا رغم أن منطقة الذات هي منطقة ممنوعة ، وكذلك هي حدود الأوصاف الذاتية أيضاً ، ولكن إذا تنزلنا من هاتين المنطقتين الممنوعتين ووصلنا إلى مقام الفعل ، ندخل منطقة ( الفراغ ) وفي هذه المنطقة يكون المكان مفتوحاً للإنسان السالك ويمكنه أن يكون مظهر الأوصاف الفعلية لله ، لذا أصبح عيسى المسيح مظهر الخالق وأمثال ذلك .
أحياناً يفهم الإنسان بالبرهان العقلي أن إحياء الموتى ممكن ، وهذا هو علم اليقين ، وأحياناً يمضي في خدمة المسيح ويشاهد كيف أن روح القدس فيضاً إلى المسيح وأمثاله ، لذا يصل من علم اليقين إلى عين اليقين . ولكن أحياناً يصبح الإنسان مظهر هو المحيي ويحيي الموتى كالمسيح ، وفي كثير من الحالات كالعترة الطاهرة عليها السلام حيث يصبح الإنسان في المرحلة الثالثة أي منطقة الفراغ وفي منطقة الأوصاف الفعلية سالكاً ، ويصل إلى مقام حق اليقين ، أي يصبح مظهر هو الخالق وهو المحيي .
هذا الطريق أوضحه إبراهيم الخليل عليه السلام لجميع السالكين عموماً وللأنبياء ، من ذرية إبراهيم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ خصوصاً ، لذا طلب زكريا عليه السلام آية وعلامة حتى يصل أخيراً إلى مقام الطمأنينة ويعلم كيف تتحقق هذه المسألة .
الله تعالى يقول للآباء والأمهات أنهم ليسوا مظهر الخالق ؛ لأن ما يقوم به الأب والأم هو الامناء وليس الخلق .
( أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ) (1) .
____________
(1) سورة الواقعة ، الآيتين : 58 ـ 59 .
(153)
ولكن أحياناً يصل الإنسان إلى درجة يصبح باطنه مظهر هو الخالق .
بناء على هذا إذا كان لزكريا مقام رفيع بحيث يستطيع أن يربي أبنا مثل يحيى ، وإذا هيّأ الله تعالى زكريا وزوجته لتربية وظهور يحيى الشهيد ، يجب عدم القول : أن مقام مريم هو أعلى من مقام زكريا ؛ لأن زكريا طلب آية وان مريم صدقت بلا علامة .
لذا لا محل لإفراط السقر طبيين ولا محل لتفريط الزمخشريين ، بل الاعتقاد الوسط والمعتدل هو أن هذه المرأة قطعت جميع المقامات ؛ كما أن نوع الإنسان ـ من النساء والرجال ـ يستطيع الوصول إلى تلك المقامات ، لأن النبوة الأنبائية ممكنة لغير الأنبياء أيضاً ، ولكن النبوة التشريعية والرسالة وهي أمر تنفيذي خاصة بالرجال الأولياء .
ان مقام الطمأنينة واليقين هو نتيجة تهذيب النفس وتزكية القلب والنفس ، وهو طريق جامع بين المرأة والرجل ، إن نتيجة تهذيب النفس هي أن يأنس الإنسان بما وراء الطبيعة ويصبح من أهل الشهود وكما ينجح الرجال في هذا المسير في التكلم مع الملائكة تنجح النساء أيضاً في التكلم مع الملائكة وتلقي بشارتها ، وهذه المسألة عرضت علاوة على القرآن ، في صحف الأنبياء السابقين ـ عليهم السلام بشكل كامل أيضاً ، وهي مسالة كلامية ، ولا يوجد في هذه الناحية أي اختلاف بين الشرائع الإلهية ولا أي تمايز بين الكتب الإلهية .
النساء الأسوة في القرآن (3) :
بشارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام وزوجته :
في مسألة إبراهيم عليه السلام كما يتكلم خليل الله مع الملائكة ، ويتلقى بشارة الملائكة فان زوجته أيضاً تتكلم مع الملائكة وتتلقى بشارة الملائكة
(154)
وليس ان المرأة لا تستطيع الوصول إلى مقام بحيث يتكلم معها الملك .
لقد بشر الله تعالى في زمن كهولة وشيخوخة خليل الله ، بشره بغلام ، وهذه البشارة أعلنت لزوجة إبراهيم بنفس الشكل الذي أبلغ لإبراهيم بواسطة الملائكة ، أي أن أبا إسحاق تلقى البشارة وأم إسحاق تلقت أيضاً بشارة الملائكة . جاء في قضية خليل الرحمن أن الملائكة حين بشرت إبراهيم عليه السلام بغلام قالت : ( فبشرناه بغلام حليم ) (1) .
فقال إبراهيم عليه السلام :
( أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ) (2) .
إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا الكلام بعنوان ( استبعاد ) ، بل بعنوان ( تعجب ) . هنا قال إبراهيم الخليل مندهشاً :
( أبشرتموني على أن مسّني الكبر ) (3) .
فقالت الملائكة :
( بشّرناك بالحق فلا تكن من القانطين ) (4) .
عند ذلك قال إبراهيم الخليل :
( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) (5) .
إن معنى اليأس هو إن يفكر الإنسان انه وصل إلى درجة لا يستطيع الله ـ معاذ الله ـ حل مشكلته . وهذا اليأس هو في حد الكفر ، ولا يحق لأي
____________
(1) سورة الصافات ، الآية : 101 .
(2) سورة الحجر ، الآية : 54 .
(3) سورة الحجر ، الآية : 54 .
(4) سورة الحجر ، الآية : 55 .
(5) سورة الحجر ، الآية : 56 .
(155)
أحد أن يكون يائساً ؛ لأن الله وعد ان يعفو عن الذنب ويتجاوز عن المذنب ، كما ان الإنسان يجب أن لا يصبح مغروراً ، ويلزم أن يمضي دائماً بين الخوف والرجاء .
كان هذا خلاصة الكلام في مسألة بشارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام ، وقد طرح ما يعادل هذا التعامل مع زوجة إبراهيم في سورة هود :
( وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) (1) .
فقالت زوجة إبراهيم عليه السلام :
( قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ) (2) .
عظمة المرأة في قاموس الوحي :
يتضح من هذا التقييم أن عظمة المرأة كانت موجودة في قاموس الوحي قبل نزول القرآن ايضاً ، ولا تختص بالقرآن ، بل إنها طرحت في الإنجيل والتوراة وصحف إبراهيم أيضاً ، فالتكلم مع الملائكة وتلقي بشارتهم ، وطرح الكلام عليهم ، وسماع كلامهم ، كل هذه هي حالات كانت المرأة مساهمة كالرجل في جميع ميادينها . وإذا كان أبو نبي تكلم مع الملائكة ، فإن أم النبي تحادثت معهم أيضاً . لذا نرى أنه تعالى عندما يذكر النساء في القرآن ، يعد أم مريم أو نفس مريم جزءاً من آل عمران ويجعلها في زمرة الأصفياء . قال تعالى في القرآن :
____________
(1) سورة هود ، الآية : 71 .
(2) سورة هود ، الآيتين : 72 ـ 73 .
(156)
( ان الله أصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ) (1) .
والمقصود من عمران هذا هو عمران أبو مريم ، وليس عمران أبو موسى ، لأن عمران أبا موسى لم يرد اسمه في القرآن ، أساساً . ثم قال الله تعالى :
( إذ قالت امرأة عمران ربّ اني نذرت لك ما في بطني محرراً ) (2) .
إن الله تعالى عرف هاتين الإمرأتين بعنوان صفوة الناس في العالم . وفي نهج البلاغة نقرأ ان أمير المؤمنين عليه السلام قال بشأن فاطمة الزهراء عليها السلام .
« قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري » (3) .
فالإمام يذكرها بعنوان صفية أي هي صفوة الله ، مريم هي صفوة الله أيضاً ؛ وأم مريم هي صفوة الله حسب الظاهر أيضاً ، لأن آل ، يعني أهل ، وأم مريم كانت أهل عمران ، أي ان عمران الذي هو أبو مريم يعدّ رأس سلسلة هذه الأسرة ، ويقال للمنسوبين لهذه الأسرة آل عمران ؛ فكلتا الامرأتين مصطفاة لله .
____________
(1) سورة آل عمران ، الآيتين : 33 ـ 34 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 35 .
(3) نهج البلاغة ، تحقيق صبحي الصالح الخطبة 202 .