المرأة مع النبي « صلى الله عليه وآله » في حياته وشريعته ::: 16 ـ 30
(16)
عزيمة من الطفل الحضري ، وعلى هذه القاعدة المتبعة دفعت به أمه إلى حليمة السعدية ، وهكذا أصبحت حليمة المرأة الثانية في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد رجعت حليمة وزوجها الى أحياء بني سعد ، وهي تحمل معها طفلاً يتيماً لم تتمكن أن تحصل على غيره في الوقت الذي حصلت فيه باقي المرضعات على أطفال أغنياء استلمتهم من أيدي أبويهم محملين بالزاد والمال الوفير ...
    ومنذ أن ضمت ساعداها هذا اليتيم أحست أنه أصبح لها كل شيء وأحست أنها تود جادةً أن تصبح له كل شيء أيضاً ، وما أن سافرت به حتى بدأت تتعشقه وتفنى فيه ولم يستقر بها المقام إلاّ وهي تشعر بأنها تحمل معها كنزاً ثميناً دونه الكنوز ، وعرفت بدافع من أعماقها بأنها هي الرابحة الحقيقية دون سواها من المرضعات؛ وقد بدأت تلوح لها بوادر تؤيد عندها هذا الشعور فقد عمت البركة جميع الحي وتزايد الخير بالزاد والمال ، وقد أفضت بما تراه لزوجها ونبهته إلى بوادر الخير التي أخذت تلوح لهم.
    فقال لها : عسى أن يكون لهذا الغلام شأن وأوصاها


(17)
بالعناية به والحرص عليه؛ ولكن حليمة لم تكن تحتاج الى أي توصية فقد أزدحمت في قلبها جميع عواطف الأمومة تجاه هذا الطفل الصغير ، وتفجر في فؤادها ينبوع من الحنان لا يمكن له أن ينفد أبداً. وقد كانت تقدمه على أولادها ، وتحله في أعلى منزلة من قلبها ورعايتها وبرها وكرمها. وقد اختلقت كثيراً من المعاذير والحجج لتتمكن من استبقائه عندها أكبر مدة ممكنة فما كانت تتمكن أن تنفصل عنه أو أن يفارق أحضانها ويبعد عن ساعديها ، فقد كان بالنسبة لها ينبوعاً للخير والبركة والسعادة والهناء.
    وكذلك كان محمد بن عبد الله أيضاً فهو يحبها ويركن اليها ويحترمها صغيراً وكبيراً ، ويحفظ لها جميلها بكل احترام ، وقد عاشرها سعيداً وفارقها غير قالٍ ، ولا عاتب ، وقد بقي يذكرها بالخير والاعزاز حتى بعد النبوة ، فقد كان صلوات الله عليه يناديها بيا أمي ، وإذا أقبلت اليه أفسح لها مجلساً إلى جواره ، وقد يتفق أن يهوي على صدرها فيقبله وهو أكثر ما يكون براً بها وحدباً عليها ..
    ثمّ يرجع محمد بن عبد الله إلى كنف أمه وجده لكي يحظى برعاية الأم في أوائل صباه ولكي ينشأ في ظل جده


(18)
وتوجيهاته. ولكن القدر سرعان ما يقف معه مرة أخرى لينتزع منه أمه ، وهو لا يزال طفلاً طري العود .. يصحبها في سفرةٍ تقصد بها أخواله ومعهم وصيفتها الأمينة أم أيمن؛ وفي وسط الطريق ، وبين أميال مترامية وصحراء لا متناهية يمد القدر يده لينتزع منه آخر ركيزة له في الحياة فتلحق العلة بأمه وينتزعها الموت من بين يديه.
    ويعود محمد الصغير يتيماً مرة أخرى أو بعبارة أخري يتيماً مرتين ولا تمهله يد الزمن حتى تفقده جده البار الذي كان يعوضه بحنانه عن حنان الأبوةوبعطفه عن عطف الأمومة. وعند هذا يكفله عمه أبو طالب ويفتح له بيته وقلبه ويفسح له في مكانه وحنانه.
    وتكفله فاطمة بنت اسد زوجة عمه الكريمة كأحسن ما تكون الكفالة. تحله في المحل الرفيع من قلبها ورعايتها وتمد له يد العون والحدب بكل ما تستطيع.
    وفاطمة هي المرأة الثالثة في حياة الرسول العظيم فلم تكن تحس أن محمداً يختلف بقليل أو كثير عن أولادها الباقين ، بل إنها كانت تحس بأن لمحمد شأناً يخوله أن يحتل الصدارة في قلبها ، وعواطفها ، وكانت


(19)
تتابعه بعينها وهو ينمو إلى الشباب الزاهر ، ثمّّ يكتمل شبابه ويغدو رجلاً ملء السمع والبصر.
    كانت ترى فيه حصناً ورصيداً لها في مستقبل أيامها وكانت تستمد من وجوده العزيمة والمضاء. ولشد ما كانت تعتز بأن تراه وهو يحتضن وليدها الغالي علي فهي فخورة بهذا الاحتضان الروحي ومتفائلة به خيراً.
    فمحمد هو أول شخص أبتسم له ابنها علي بعد اذ خرجت به من الكعبة ، وهي تحمله بين ساعديها الحنونين ، فهي لا تنسى أبداً أن علياً ولد في الكعبة وفي أشرف بقعة فيها ، وها هو عليُّها العزيز ، وقد أخذ ينمو ويترعرع تحت رعاية وتوجيهات ابن عمه الصادق الأمين محمد بن عبد الله ومحمد رسول الله أيضاً بعد إذ غدا شابا.
    وفي أوج شبابه لم يكن لينسى لفاطمة بنت أسد حبها ولم يكن ليتنكر لحنانها مطلقاً ، فهو لها كولدها في كل أدوار حياته وفي كل أحواله ، وقد استخلص لنفسه ولدها علي بعد إذ عمت المجاعة في مكة.
    وكان عمه أبو طالب كثير العيال مرهقاً بتكاليف


(20)
العيش ، وكان رسول الله قد استقل في ذلك الحين ببيته ومع زوجه خديجة ومنذ أن فتح لابن عمه بيته وقلبه لم يفترق عنه يوماً واحداً في كل الظروف والملابسات.
    وكانت فاطمة بنت أسد ترى هذا الامتزاج العاطفي بين ابنها وابن عمه فتسر له ، وتفرح فيه فهي تُكْبر محمداً وتعجب فيه وتعتمد عليه ، وتركن إليه ، وكان الاثنان يحلانها محل الأم لا فرق بين ابنها وابن عمه.
    فقد جاء في الروايات أن الإمام علي بن أبي طالب لما أخبر رسول الله بوفاة أمه قال : إن أمي قد توفيت يا رسول الله ، فيرد عليه رسول الله بل أمي أيضاً يا علي .. وناهيك عما تحمل هذه الكلمة من تسلية للإبن الفاقد أمه ، وما تعطي للأمة من دروسٍ في الوفاء والإخلاص ، وحفظ الجميل ، وقد أعطاها ثوبه المبارك لتلف به مع كفنها كي يكون لها ستراً ومعاذاً ، وجلس على قبرها بعد أن انفض الجمع ، وأخذ يدعو لها ويسأل الله أن يجزيها عنه خيراً ويستعيد في فكره أيامها معه ، إذ هو طفل صغير ، وحنانها عليه حينما كان يتيماً وحيداً ، ورعايتها له وهو شاب فتي. وأخيراً قام عن قبرها وهو حزين كئيب.


(21)
    فقد كانت هي المرأة الثالثة التي دخلت في حياته صلوات الله عليه والتي نشأ في ظلال عواطفها إلى حين استقر به المطاف عند قرينته خديجة بنت خويلد.
    خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وقد كانت سيدة نساء عصرها كمالاً وجمالاً ومكانة ، وكرامة ، فهي سليلة دوحُة ثابتة الفروع ، وفرع شجرة عميقة الجذور ، وقد عرفت بين قومها بسمو الروح وعلو الهمة وقوة الشخصية ، وثبات الفكرة وصواب الرأي ، وقد كانت مع كل هذه الثروات المعنوية والأدبية ثرية في مالها أيضاً ، وقد كانت تفتش عمن تستودعه المال ليتاجر لها به على أن يكون أميناً صادقاً مخلصاً. فهي جادة في طلب ضالتها من بين شباب قريش وشيوخها ، وبما أنها امرأة لا تتاح لها المراقبة الدقيقة كانت تحتاج إلى صاحب ثقة تتمكن أن تودعه مطمئنة مرتاحة.
    ومحمد بن عبد الله كان يفتش بدوره أيضاً عمن يدفع له مالاً يتاجر له به. فهو وإن كان فتى قريش الأول ومحط أنظارهم جميعاً ، ولكنه لم يكن ليستغني عما


(22)
يحتاج إليه غيره من رجال قريش. ويسمع كما يسمع غيره أن خديجة بنت خويلد تفتش عمن يتاجر لها بمالها فيتقدم إليها عارضاً عليها استعداده للقيام بهذه المهمة.
    وخديجة بنت خويلد تلاقي عرضه بالقبول بل بالرضاء ، والاطمئنان فهي تعرف محمد بن عبد الله وتعرف عنه الكثير أيضاً ، ولم يكن في مكة من لا يعرف محمداً الصادق الأمين.
    فخديجة راضية لهذه الشركة ومتفائلة بها خيراً وتدفع له أموالها ، وهي واثقة من أنها قد سلمتها ليد أمينة حريصة على أداء الأمانة ، ولذلك فقد أخلدت إلى راحة نفسية عميقة وظلت تنتظر رجوع محمد بن عبد الله وغلامها ميسرة الذي أرسلته مع محمد ، ورجع محمد ورجع معه ميسرة.
    وكان صلوات الله عليه يحمل لها معه الربح الزاكي الوفير وتخلد خديجة بنت خويلد إلى غلامها ميسرة تسأله عمن رافق في السفر وتحلف عليه أن يشرح لها كل ما وجده منه وما رآه عليه ، وهي على شبه يقين من أن غلامها سيقص عليها من أمر رفيقه عجباً ، وغلامها مندفع يعدد لها مناقب محمد ، ويصف لها حركاته وسكناته والإعجاز في


(23)
سلوكه ، وأسلوبه وكل شيء فيه ، وهي منصتة له بقلبها وفكرها وبكل جارحة فيها تستزيده ولا تنكر من حديثه شيئاً ، ولا تستغرب منه خبراً ، فهي قد عرفت أن محمداً بن عبد الله رجل لا كالرجال وقد سمعت عنه ما جعلها على يقين من أن له في مستقبله شأناً سماوياً.
    وخديجة في ذلك الحين امرأة في نهاية العقد الرابع من عمرها ، وكانت قد تزوجت ومات عنها زوجها ، وهي في ريعان الشباب.
    خديجة بنت خويلد ـ وقد أثرت عليها شخصية محمد بن عبد الله ، واستولت على أفكارها وأمانيها روحه السامية بكل ما فيها من معاني الكمال ـ تود من صميم قلبها أن تقرن به حياتها الثمينة ، وأن تكون له كأروع ما تكون الزوجة الوفية المخلصة.
    نعم خديجة بنت خويلد الغنية بمالها وجمالها وعزها ، ومجدها تبعث الى محمد بن عبد الله الصادق الأمين وتطلب اليه الزواج حباً في شخصه ، وتفانياً في روحه ونفسه.
    وقد كان صلوات الله عليه في ذلك الحين شاباً في


(24)
أواسّط العقد الثالث من عمره المبارك وهو يتمتع بكل معاني الكمال من الجمال والعزة والكرامة وسمو المكانة وعلو الرتبة وقوة الشخصية وقد كان يتمكن بسهولة أن يخطب له أي فتاة من فتيات قريش مهما علت بشأنها وجمالها.
    فهو منار شباب قريش والمقدم عليهم في كل مضمار ، ولكنه بدافع خفي وجد نفسه يندفع الى خديجة بنت خويلد السيدة التي تكبره بخمسة عشر سنة متجرداً عن العواطف الشهوانية ، والأهواء المادية مترفعاً عن كل ما يصبو إليه غيره من متعة جسدية ، وغايات رخيصة.
    فهو كان يرى في الزواج شركة روحية مقدسة لا تطغو عليها المادة ولا تتحكم فيها النزعات الحيوانية.
    فالزواج في نظر الرسول الأعظم امتزاج روحين ، ووحدة هدف ، وغاية وتعانق قلبين طاهرين قبل أن يكون صلة جسدية.
    ومن أجدر من خديجة بنت خويلد بأن تحتل في قلب محمد وفي حياته مكان الصدارة ، وفعلاً فقد دخلت خديجة في حياة رجلها الخالد كإمرأة رابعة ، ولكنها لم


(25)
تدخل في حياته وهو محمد بن عبد الله فحسب ، بل وهو رسول الله وخاتم أنبيائه أيضاً.
    وهكذا كانا مفترقين ثمّ جمعهما القدر السماوي دون أن يشعرا ليضم ثروة خديجة إلى دعوة محمد؛ وما أحوج الدعوة إلى رصيد تسلك به الطريق ، وقد وجد كل منهما ضالته المنشودة في قرينه وصفيه ، فخديجة بنت خويلد ربيبة الترف والدلال والمتقلبة في أحضان النعمة والثراء ، تفنى في رجلها الحبيب الفقير وتتعرف في كل لحظة على معنى من معانيه ، يزيدها فناءً فيه ويحبّب إليها ذلك الفناء.
    ومحمد بن عبد الله أحسن رجال قريش شكلاً وأعرقهم أصلاً وأصدقهم لساناً وأقواهم جناناً وأذيعهم صيتاً وأعلاهم درجةً وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف يخلص لزوجته الوفية خديجة وهي في الأربعين من عمرها المبارك. يخلص لها خلوص الزوج الواثق ويركن الى حنانها وعطفها ركون الإبن إلى أمه.
    وخديجة هي رابعة امرأة دخلت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن أتراه كان نسي النساء الثلاث اللاتي تقدمنها ...


(26)
أتراه قد أهمل ذكرهن أو تجاهل وجودهن في حياته الماضية ؟
    كلا؛ فإن محمداً بن عبد الله لم يكن من النمط الذي ينسى من أحبوه ، أو يتجاهل ذكر من لم يتجاهلوه.
    وما أكثر ما كان يسرح مع أفكاره في ساعات عزلته ، ويرجع بها إلى الوراء إلى أيام حداثته ، وصباه الأول ، من عهد أمه آمنة إلى مرضعته حليمة ، إلى زوجة عمه الكريمة فاطمة بنت أسد ، ويقف معهن عند كل لمحة حب ، أو لفتة عطف ، ويدعو لهن بالرحمة والغفران. وكان يرى حياته الماضية ، وكأنها شريط يتتابع ويتلاحق أمام عينيه بكل ما يحمل هذا الشريط من إكرام وآمال ومحن ، ومصاعب.
    ثمّ يعود ليستقر بأفكاره عند واقعه الحالي ، ويُركِّز على خديجة هذه السيدة الطاهرة التي يحس بها كقوة خفية تشد ظهره ، وتسند كيانه ، وكأنه كان يعلم أنها سوف تقف معه ، إذ لا واقف غيرها ، وتصدقه حين لا مصدق سواها. وتمضي السنون تتلاحق ، والأحداث تتابع ومحمد بن عبد الله هو وخديجة بنت خويلد يشقان


(27)
طريقهما معاً في الحياة وقد ظللتهما سماء الحب وأحاطتهما يد الأخلاص والوفاء.
    وكان صلوات الله عليه كثيراً ما يعتكف الساعات الطوال في غار حراء ، يعتزل بها الدنيا بروحه وفكره ، وجسده ، ويروح يسبح في ملكوت السماوات.
    وما أكثر ما كانت تستبطئه خديجة وتفتقد قدومه في وقته المعين ، فتذهب بنفسها غير واثقة من أن تنيب عنها خادمه أو ترسل دونها رسولاً. تذهب لتفتش عنه في الأماكن التي تعلم أنه يزورها دائماً ، وخصوصاً غار حراء .. فقد كان هو الخلوة المفضلة لدى رسول الله (ص).
    وقد كانت خديجة تحمل له بيدها الطعام والماء ، ولا تذهب إلاّ للإطمئنان على سلامته ، فقد كانت تشجعه على هذا الاعتكاف لثقتها من أن وراء هذه الخلوات رسالة مقدسة سوف يحملها بعلها الغالي.
    ولذلك فلم تكن تتبرم لغيابه أو تعتب عليه وكانت تشعر بروحها وهي تذهب معه أينما ذهب ، فهي معتكفة معه في الغار ، وهي سارحة واياه في البراري والقفار ،


(28)
فإن فاتها أن تسايره جسمياً فإنها لم تكن لتفارقه روحياً ، وفكرياً.
    وكانت تتابع حركاته وسكناته بعينها الساهرة الحنون وهي رفيقة به عطوفة عليه ..
    وفي أحد الأيام يدخل على خديجة زوجها المصطفى بعد أن كان قد أمضى في غار حراء الساعات الطوال ، فتنشط لاستقباله هاشّة باشَّة ولكنها تنكر منه حاله ولونه وتنكر منه ما يبدو عليه من ضعف وإعياء ، فهو شاحب اللون مجلل بالعرق ، ويطلب إليها أن تدثره ، وهو يرتعد. فتدثره خديجة وهي ملحاحة في التعرف إلى ما يخامره ، فلم تعهد بمحمد ضعفاً ، ولم يصدف لها أن رأت الأضطراب بادياً عليه كما تراه الآن وهي تعلم أن زوجها الحبيب لا يضعف ، ولا يتخاذل لأي سبب مهما كان مؤثراً ومهما كان صعباً. ولذلك فهي تسأله في إصرار وإلحاح وهو يتهرب من الجواب ويماطل في الرد ، ولكن خديجة الزوجة وخديجة الرفيقة والصديقة تأبى إلاّ أن تتعرف إلى حاله ، وتفهم السبب كيما لا تتأخر عن موقفها الطبيعي في السير معه في كل مضمار ، وإلى كل غاية.


(29)
    وأخيراً يخبرها الرسول بما سمع ويشرح لها ما أحس ويقص عليها خبر الروح الذي فاجأه في غار حراء وقال له : إقرأ فيجيبه ما أنا بقارئ فيكررها عليه ثلاثاً ، ويرد الجواب نفسه ثلاثاً أيضاً فيقول ، الروح : ( إقرأ بأسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * إقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم )
صدق الله العظيم
    وهنا تسأله خديجة وهي في نشوة روحية نشطة : ألم تسأله من أنت ، ألم تسأله عن إسمه ؟ فيجيبها صلوات الله عليه قائلاً : سمعته يقول : أنا جبرئيل جئت أبلغك رسالة ربك ، ثمّ يردف ، وكأنه يريد أن يبث خديجة ما يحس وأن يشاركها بأفكارها.
    قال : لقد خشيت على نفسي.
    فتجيبه رضوان الله عليها باندفاع وحماس.
    كلا والله ، ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، وتصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة.


(30)
    بهذه الكلمات البليغة الحكيمة ردت خديجة على زوجها مشجعة مصدقة ، وكلها أطمئنان إلى صدق محمد بن عبد الله ، ثمّ ينزل عليه الوحي ليأمره بأن ينذر وأن يبلغ ويدعو إلى رسالة السماء ، وينهض رسول الله لكي ينذر وتنهض خديجة أيضاً تهب معه بكل طاقاتها وإمكانياتها المعنوية ، والعاطفية ، والمادية.
    ومضت تواكب سيره المبارك في كل مضمار ، وعندما خرج ليصلي في المسجد لأول مرة ، وخرج معه إبن عمه علي بن أبي طالب (ع) ، كانت خديجة ثالثتهما في الصلاة لم تقعد بها خيفة ولم يثنها عن اندفاعها الإسلامي تردد أو شك فهي تعرف محمداً كما لا يعرفه غيرها من الناس ، وتثق فيه ثقة مطلقة.
    وهذه إحدى نواحي الإعجاز في النبي ، فإن أكثر عباقرة التاريخ كانوا يعانون الأمرَّين من تصرفات زوجاتهم ، وعدم تصديقهن بعبقريتهم ، فإن الإنسان الاعتيادي مهما كان عبقرياً فذاً لا يمكن له أن يخلو من نقص ، ونقاط ضعف إذا فرض فأمكن له أن يخفيها عن
المرأة مع النبي « صلى الله عليه وآله » في حياته وشريعته ::: فهرس