أسطورة العبوسة

محاضرات
الشيخ / أحمد الماحوزي

إعداد وتدوين
السيّد محمَّد الرّضوي السيّد مصطفى المَزيدي

دار أهل الذكر



قال رسول الله صلى الله عليه وآله :
« إن الله يبغض المعبس في إخوانه »
مستدرك الوسائل ج 8/ 321 فردوس الخطاب ج 1/153 كشف الخفاء ج 1/289


( 5 )

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العامين ، والصلاة والسلام على نبي الرحمة ومنقذ الأمة محمد وآله الطيبين الطاهرين .
على الرغم من مُضي أكثر من ألف وأربعمائة عام على ولادة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله و حرمان البشر من التشرّف بالنظر إلى صورته الحسّية المباركة ، إلا أن ذكراه بقيت وستبقى ما دامت السماوات والأرض ، وأن نور وجهه الشريف لا زال يتلألأ إشراقاً وكمالاً أمام أنظار المسلمين اليوم وغدٍ ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وآله قمة الكمال الإنساني ، ورمز كل الفضائل ، وآية كل الحسنات ، وتجلي لكل الخيرات ... إنه حقاً هدية الرب للبشرية جمعاء .
ومن هنا صارت كل حركاته وسكناته حجة على البشر ، لأنها تعبير صريح عن تفاصيل الشريعة الربانية ، وتبيان واضح لسنن الدين ، ومرآة صافية للحكمة البالغة .


( 6 )

وقد اختاره الله جل جلاله قدوة وأسوة للبشرية لما امتاز به صلى الله عليه وآله من صفات وطبائع فقال ( لقد كان لكُم في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) (1) .
ولأجل أن نستضيء بنور النبوة أكثر ، ولكي نحذو حذو الرسول صلى الله عليه وآله ، وأن نخطو خطوات نحوه يتطلب منّا أن نتعرف ولو على بعض جوانب حياته الشريفة ، وأن نستوعب ولو بعض مواقفه ، وأن نهتدي بهداه .
وفي هذا المجال كانت ثَمَّ محاضرات ألقاها سماحة الشيخ أحمد الماحوزي ، تعرّض فيها لتفسير الآيات الأُول من سورة « عبس وتولى » وفق ما يقتضيه أولاً البحث القرآني ، وثانياً البحث الروائي .
ولم يكن الغرض الأساسي من تدوين هذه المحاضرات تجريحاً ولا طعناً على أحد ، وإنما هدفنا الأساسي أن نبحث عن الحقيقة في أسطورة العبوسة ونسبتها للنبي صلى الله عليه وآله أو غيره ، حتى يتعرف القارئ والباحث على ما هو الصحيح في المقام .
نسأل الله تعالى أن يتقبل منّا هذا بقبول حسن ، إنه ولي التوفيق .

السيد محمد الرضوي السيد مصطفى المزيدي

____________
(1) الأحزاب : 21 .
( 7 )

بسم الله الرحمن الرحيم

( عَبَسَ وَتَوَلّى * أَن جَآءهُ الأَعمَى * وَمَا يُدريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَو يَذَّكَّر فَتَنفَعَهُ الذِّكرَى * أَمَّا مَنِ استَغنَى * فَأَنت لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيكَ أَلاّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسعَى * وَهُوَ يَخشَى * فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى ) .

سبب نزول السورة
ذهب المفسّرون من العامة إلى أن هذه الآيات الكريمة نزلت في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لمّا عبس في وجه عبدالله بن أم مكتوم حينما جاءه وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل فرعون قريش والوليد بن المغيرة العتل الزنيم وغيرهم من صناديد قريش ليقنعهم بالإسلام ويستميل قلوبهم ، فقال ابن أم مكتوم : يا رسول الله ، أقرأني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله قطعه لكلامه وقال في نفسه : الآن يقولون هؤلاء الصناديد إنما أتباعه


( 8 )

العميان والعبيد ، فعبس في وجهه وأعرض عنه وأقبل على القوم (1) .
فنزلت الآية عتاباً على الرسول صلى الله عليه وآله بما فعله في حق المسكين ابن أم مكتوم ، فكان صلى الله عليه وآله حينما يرى ابن أم مكتوم يقول : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي فيكرمه حتى يستحي ابن مكتوم من كثرة إكرامه له .
وفي رواية عن الخاصة أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وابن أم مكتوم من كثرة إكرامه له .
قال علي بن ابراهيم : كان ابن أم مكتوم مؤذناً لرسول الله صلى الله عليه وآله وكان أعمى ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وعنده أصحابه ، وعثمان عنده ، فقدّمه رسول الله صلى الله عليه وآله على عثمان ، فعبس عثمان في وجهه وتولى عنه ، فأنزل الله ( عبس وتولى ) يعني عثمان ( أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى ) أي يكون طاهراً زكياً ( أو يذكر ) قال : يُذكّره رسول الله صلى الله عليه وآله ( فتنفعه الذكرى ) ثم خاطب عثمان فقال ( أما من استغنى * فأنت له تصدى ) قال : أنت إذا جاءك غني تتصدى له وترفعه ( وما عليك ألا يزّكى ) أي لا تبالي زكياً كان أو غير زكي ،إذا كان غنياً ( وأما من جاءك يسعى ) يعني ابن أم مكتوم ( وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ) أي تلهو ولا تلتفت
____________
(1) الدر المنثور : ج 8/418 نقلا عن الحاكم وابن مردويه .
( 9 )

إليه (1) .
وتحقيق الحال في مقامين :
الأول : فيما يقتضيه البحث القرآني .
الثاني : فيما يعتضيه البحث الروائي .

المقام الأول : البحث القرآني

السورة المباركة جاءت مستنكرة الموقف والحالة التي حدثت مع الأعمى الذي عُبِسَ في وجهه وأُعرض عنه ، فوصفت ذلك المُعَاتَب الذي تولى عن الأعمى وتشاغل عنه بأمور : العبس ، والتولي ، والتصدي للأغنياء ، والتلهي عن الفقراء والمؤمنين ، فقوله تعالى ( عبس وتولى ) إشارة إلى الأولين ، وقوله ( فأنت له تصدى ... فأنت عنه تلهى ) إشارة إلى الثالث والرابع ، فليس المتصدي لفئة معينة والمتلهي عن فئة أخرى شخص آخر غير العابس ، فظاهر سياق الآيات صريح في اتحاد العابس مع المتصدي والمتلهي .
بل منشأ العبس والتولي ليس إلا بسبب الاتصاف بالتصدي والتلهي ، وكأن هاتين الصفتين عادة متبعة وملكة راسخة لدى
____________
(1) تفسير القمي : 430 .

( 10 )

العابس ، لا أنها موقف وانتهى ، والشاهد على ذلك الاتيان بصيغة الفعل المضارع « تصدى » أي تتصدى « تلهى » أي تتلهى (1) ، الصريح على الاستمرارية والتكرار ، ففرق بين قولنا « عثمان عبس في وجوه المؤمنين » وقولنا « عثمان يعبس في وجوه المؤمنين » ، إذ الجملة الأولى لا تفيد إلأ تحقق ذلك في الماضي ، ولا تدل على أن ذلك عادة متبعة أم لا ، بخلاف الجملة الثانية فإنها تدل بصراحة على استمرارية العبس في الوجوه وأن ذلك عادة متبعة وملكة راسخة في عثمان ، فتدبر .
فغرض السورة كما أفاد العلامة الطباطبائي عتاب على مَن يقدم الأغنياء والمترفين على الضعفاء والمساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة (2) .
تفسير الآية
( عبس ) قطّب وكلح ، من العَبس وهو قطوب الوجه وتقبَضه بسبب ضيق الصدر ، ورجل عابس اي كريه الملقى الجهم المحيا ، ومنه اشتق عبّاس ، أي المقطب وجهه أمام أعدائه لكي يرهبهم ويخوفهم (3) .
____________
(1) تصدى فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفاً وكذا تلهى .
(2) تفسير الميزان : ج 20/219 .
(3) وباب العبوس : عبس وكلح وكشر وقطّب وبسل وبسر وكره وتجهّم واقمطر واكفهر ، راجع الألفاظ المؤتلفة : ج 1/206 .

( 11 )

قال الأصمعي : إذا زَوى (1) ما بين عينيه فهو قاطب وعابس ، فإذا كشر عن أنيابه مع العبوس فهو كالح ، فإذا زاد عبوسه ، فهو باسر ومُكفَهِرٌّ ، وإذا كان عبوسه من الهم فهو ساهم ، فإذا كان عبوسه من الغيظ وكان مع ذلك منتفخاً فهو مُبرطم (2) .
فكلما تحقق العبس لا بد وأن يتحقق الضيق الصدري وعدم الاشتهاء النفسي أولاً ثم يظهر أثر ذلك على قسمات الوجه ، وهو في بعض موارده ملازم للتكبر والتعالي ولذا قال الله تعالى في حق الوليد بن المغيرة ( ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر ) وهو صفة ذميمة ولو وقع من الإنسان مرة واحدة ، لاستلزامه الاستهانة والاستخفاف بالآخرين .
العبس وعدم الشعور به
وكون الأعمى لا يشعر بالعبوس لا يعني عدم قبحه ، فعدم معرفة الانسان من اغتابه لا تجعل الغيبة من المباحات ، مع أنّا لا نسلم أن ابن أم مكتوم لم يشعر بعملية العبس من قبل العابس ، إذ لم يقتصر هذا العابس بالعبس بل أعرض وتولى ، فإن كان المعبوس في وجهه أعمى لم ير العبس فإن تولى العابس عنه مما لا يخفى عليه كما أن رؤية الحاضرين عملية العبس كافية في الحكم بقبحها شعر بذلك المعبوس في وجهه أم لا .
____________
(1) أي تقبض وتكلّح .
(2) فقه اللغة وسر العربية : 139 .

( 12 )

العبس وعدم التأذي
وعدم التأذي والتأثّر من العابس لا يستلزم عدم قبح التعبيس في وجوه المؤمنين ، إذ لعل ذلك بسبب الروحية العالية التي يمتلكها المعبوس في وجهه ، فكثير من المؤمنين لا يتأذون من غيبتهم واتهامهم وتكفيرهم ، وهذا لا يعني أن من اغتابهم واتهمهم لم يرتكب الذنب والمعصية ، فالأذية النفسية شيء والحرمة والإباحة والقبح شيء آخر ولا ملازمة ذاتية بينهما ، حتى يجزم بعدم القبح والحرمة عند عدم الأذية .
هذا مع ما تكشفه عملية العبس من ضيق نفسي منشأه الخلق السيء والصدر الضيق ، فالعتاب في الآية أولا وبالذات على تلك النفسية التي تَتَنَفّر من الفقراء والمؤمنين وتَتَحَبّب إلى الأغنياء مهما كانوا .
عبس المضايقة لا الاحتقار
والقول : بأن هذا العبس ليس عبس احتقار ، بل هو أقرب إلى عبس المضايقة النفسية التي توجد تقلصاً في الوجه عندما يقطع أحد على الانسان حديث (1) .
لا يستلزم : رفع القبح من هذه العملية ، ولو كان هذا التفصي والهروب من الإشكال صحيحاً لكانت الغيبة وبقية الصفات المذمومة أيضاً كذلك ، فَنُقسّم الغيبة إلى غيبة منشؤها الحقد
____________
(1) من وحي القرآن : ج 24/66 .
( 13 )

والحسد ، وغيبة منشؤها الضيق النفسي بأفعال الآخرين ، فنلتزم بحرمة الأولى دون الثانية ، مضافاً إلى أن العابس لم يكتف بالعبس بل أعرض وتولى وكان ممن يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء الخاشعين المؤمنين (1) .
* ( وتولى ) أي أعرض بوجهه ، كقوله تعالى ( إلا من تولى وكفر ) وقوله ( فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) ولعل منه ( ومن يولهم يومئذ دبره ) كناية عن الفرار من الزحف إذ يلازمه عادة الإعراض وجهاً عن الأعداء ، والذي يقتضيه سياق الآيات أيضاً أن التولي في المقام فعل سلبي آخر صدر من العابس ، فهو على غرار قوله تعالى ( ثم عبس وبسر ) .
* ( أن جاءه الأعمى ) أي عبس وتولى بسبب مجيء الأعمى ، والأعمى في المصطلح القرآني عادة ما يكون بمعنى أعمى القلب وفاقد الايمان المشار إليه في قوله تعالى ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (2) وقوله ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ) (3) وقوله ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) (4) .
وعليه فالأعمى هنا ليس بالضرورة أن يكون أعمى البصر
____________
(1) ولو كان هذا العبس عبس مضايقة ولا محذور فيه فَلِمَ هذا العتاب الشديد اللهجة على شيء ليس فيه محذور ، وراجع صفحة : 32 .
(2) الحج : 46 .
(3) الإسراء : 72 .
(4) الرعد : 19 .

( 14 )

وفاقد العينين ، بل يمكن أن يكون المقصود منه أعمى القلب والايمان ، وتتبع موارد استعمال هذه الكلمة في سائر آيات الذكر الحكيم لعله يرجّح كون المراد من الأعمى في هذه السورة هو أعمى القلب ، إذ هو الأطار العام لاستعمال هذه اللفظة .
إن قلت : إن بقية آيات السورة قرينة على أن المراد من العمى هو العمى الظاهري ، مضافاً إلى أن السياق العام للآية كاشف عن واقعة حصلت فنزلت هذه السورة .
قلت : بل العكس هو الصحيح ، إذ قوله ( وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ) قرينة على أن هذا الأعمى إنما جاء طلباً للتزكية ـ وهو الإيمان والإسلام ـ أو التذكرة ، والانسان لا يطلب الشيء إلا بعد فقده ، وفقد ذلك هو العمى باصطلاح القرآن .
فلو خلّينا والظهور القرآني لا يمكن أن نجزم بكون الأعمى من كان فاقداً للبصر الظاهري ، بل هو أعم من ذلك ومن العمى القلبي ، فتخصيص أو تقييد الآية بالعمى الظاهري بحاجة الى دليل ، وترجيح أن العمى القلبي هو المقصود من الآية له وجه وجيه ولا مجازفة فيه .
ومن جزم بكون الأعمى هو أعمى البصر فَلِمَكان الرويات المصرحة بنزولها في ابن أم مكتوم وبحثنا الأن في ما هو مقتضى الظهور القرآني وتفسير القرآن بالقرآن ، وسيأتي البحث في


( 15 )

الظهور ومقتضى البحث الروائي وانسجامه مع ما استظهرناه من كتاب الله أو عدم انسجامه .
* ( وما يدريك لعله يزكى ) أي لا تدري لعل هذا الأعمى يتزكى ويتطهر بالعمل الصالح ، والتزكية هي التخلية والاقتلاع عن الآثام والمعاصي وعلى رأسها الكفر والشرك بالله تعالى .
( أو يذكر فتنفعه الذكرى ) بأن يتحلى بالطاعات والأعمال الصالحة والصفات الحسنة إن كان زكياً مؤمناً ولم يرتكب الموبقات ، فالآيتان تشيران إلى حالتي التخلية والتحلية ، والمقصود من الأولى التخلية والاقتلاع عن المعاصي والموبقات المسمات في الذكر الحكيم بـ« التزكية » ، والثانية هو التحلي والاتصاف بالسمات الحسنة والأعمال الصالحة حتى تكون نفسه صالحة (1) .
ومن ذلك يعلم أن مهمة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله تزكية البشر المشار إليه في قوله تعالى ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) وتذكرة المؤمنين المشار اليه بقوله ( فذكر إن نفعة الذكرى ) وقوله ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر ) وقوله ( فذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين ) .
____________
(1) وللمزيد من التفصيل في مصطلحي « التخلية والتحلية » راجع ما ذكرناه في « الأسفار الأربعة العرفانية » صفحة : 11 .
( 16 )

( أما من استغنى ) أي من كان ذا ثروة وغنى ، وقيل أي من استغنى عن الايمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن (1) واكتفى بماله .
* ( فأنت له تصدّى ) أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام به ، وعن ابن عباس : تصدى تقبل عليه بوجهك ، فالتصدي هو إقبال الانسان على الشيء بكلّه قلباً وقالباً (2) .
قال الزجاج : الأصل تتصدى ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين ، ومن قرأ تصدى بإدغام التاء فالمعنى أيضاً تتصدى إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد (3) .
وقد قرأ ابن كثير ونافع « تصَّدى » بتشديد الصاد ، وقرأ عاصم وابو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي « تَصَدّى » بفتح التاء والصاد وتخفيفها ، وقرأ أُبي بن كعب وابو الجوزاء وعمرو بن دينار « تتصدى » بتاءين مع تخفيف الصاد ، والمعنى واحد في
____________
(1) تفسير أبي السعود : ج 9/108 ، وغيره .
(2) قال القرطبي في تفسيره ج 19/214 : « فأنت له تصدى » أي تعرض له وتصغي لكلامه والتصدي الإصغاء .. وأصله تتصدد من الصد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري صدد داره أي قبالتها نصب على الظرف ، وقيل من الصدى وهو العطش أي تَتَعرض له كما يتعرض العطشان للماء والمصاداة المعارضة .
(3) زاد المسير : ج 9/28 .

( 17 )

الكل (1) ، وقرأ ابن مسعود وابن السميفع والجحدري « تُصَدى » بتاء واحدة مضمومة وتخفيف الصاد (2) ، وقد نسبت هذه القراءة للباقر عليه السلام (3) ، وسيأتي وجه متين لهذه القراءة .
* ( وما عليك ألا يزّكى ) ذهب مشهور المفسرين من العامة أن معنى الآية : أن وظيفتك الإبلاغ سواء آمن السامع أم لم يؤمن فلا يلزمك شيء من عدم تطهره وإيمانه (4) .
وذهب علي بن ابراهيم القمي في تفسيره أن معنى الآية هكذا : أي لا تبالي زكياً كان أغير زكي إذا كان غنيّاً (5) .
____________
(1) وظاهر « تفسير الأمثل » أن « تصدى » فعل أمر ، فأنت له تصدى بمعنى توجه إليه وجاهد في هدايته على ما أصابته الثروة من غرور ، وبطلانه أوضح من أن يخفى ، لأمور من أهمها : المقابلة بين « تصدى » و « تلهى » ، فالآيات في سياق الأخبار لا الإنشاء ، فـ« تصدى » فعل مضارع لا فعل أمر .
(2) راجع زاد المسير : ج 9/27 وغيره .
(3) تفسير الفخر الرازي : ج 31/56 ، روح المعاني : ج 30/41 .
(4) تفسير الطبري المتوفي سنة 310 : ج 30/52 ، تفسير البغوي : ج 4/446 ، فتح القدير : ج 5/383 ، زاد المسير : ج 9/27 ، واختاره من الخاصة : الطبرسي في تفسيريه ومغنية في الكاشف ومكارم في الأمثل ، وفي تفسير من وحي القرآن : « وما عليك ألا يزكى » فلن تتحمل أية مسؤولية من خلال ابتعاده عن الخط المستقيم ، وتمرده عن تطلعات الروح إلى آفاق الطهارة وسماوات الصفاء لأنك لم تقصر في الإبلاغ ، ولم تدخر أي جهد فيما حركته من الوسائل التي تملكها وفيما استخدمته من الأساليب التي تحركها في اتجاه التزكية للناس جميعاً ، وقد سمعوا ذلك كله وأصروا على الاستكبار والتمرد ... الخ .
(5) واختاره الفيض الكاشاني والمرتضى الكاشاني المتوفي سنة 1115 في تفسيره المعين والطهراني في متنيات الدرر والشيخ الكرمي في تفسيره المنير وغيرهم ،

( 18 )

قال العلامة الطباطبائي : قيل : ما نافية ، والمعنى ليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الأعراض والتلهي عمن أسلم والإقبال عليه ، وقيل : ما للاستفهام الإنكاري ، والمعنى وأي شيء يلزمك أن لم يتطهر من الكفر والفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ ، وقيل : المعنى ولا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر والفجور ، وهذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله (1) .
ووجه الأنسبيّة والتعيّن ثلاثة أمور :
الأول : ما أشار إليه قدس سره من كون الآيات في مقام العتاب وسياق التوبيخ ، فلو كانت الآية في مقام بيان حرص العابس والمتولي على إسلام الآخرين لكان ذلك مدحاً ومنقبة له ، فلا تتناسب مع العتاب والذم والتوبيخ ، فتكون كقوله تعالى ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) (2) .
الثاني : إن تصدي وتعرض العابس إنما هو لمكان صفة
____________
وهو ظاهر السيد المرتضى .
(1) تفسير الميزان : ج 20/220 .
(2) والحرص على إسلام الناس وهدايتهم مما لا شك في حسنه ومطلوبيته ، بل من الصفات الكمالية الممدوح بها النبي الأمي صلى الله عليه وآله في القرآن الكريم ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) فهو صلى الله عليه وآله يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته وحريص على الناس وهدايتهم ، أما تعامله مع المؤمنين فالاهتمام والعناية والرأفة والرحمة بهم تفوق حد التصور ، كيف !! وهو الذي بعث رحمة للعامين .

( 19 )

الاستغناء لا غير كما هو صريح قوله ( أما من استغنى فأنت له تصدى ) أي أما المتصف بالغنى فله تتعرض ، والتصدي أما أن يكون الهدف منه طلب الهداية للغني أو لأجل الاستفادة المادية منه ، وإطلاق الآية يشمل الحالتين .
ولذا نجد بعض المسلمين والصحابة في الصدر الأول يتصدون لهداية الأغنياء من الكفار والمشركين ، ويتركون هداية الفقراء والمستضعفين ، بل هذا السلوك متخذ عند أكثر الرساليين وأصحاب الدعوات والمبادئ على طوال التاريخ ، من تركيزهم على الأغنياء وأصحاب الجاه والثروة والسمعة الاجتماعية وتركهم للفقراء والمستضعفين ، توهماً وظناً بأن هداية أصحاب الأموال والسمعة هي المجدية لنشر الرسالة والهداية .
وهناك سلوك آخر لدى الكثير ومنهم بعض الصحابة ، من تصديهم للأغنياء وأصحاب الجاه طمعاً في أموالهم أو مداهنة لهم ، مع عدم المبالاة بإيمانهم أو محاولة هدايتهم .
فقوله تعالى ( أما من استغنى فأنت له تصدى ) بيان حال السلوك الأول ، وقوله ( وما عليك ألا يزكى ) إشارة إلى السلوك الثاني ، وتأكيد على أن هذا العابس لا يتصدى للأغنياء ويترك الفقراء من أجل هدايتهم بل يتصدى لهم لمكان غناهم ولا يهمه بعد ذلك آمنوا أو لم يؤمنوا ، وكلا السلوكين يرفضهما القرآن


( 20 )

ويتشدد العتاب والتوبيخ على أصحاب السلوك الثاني (1) .
ومن ذهب من الخاصة تبعاً لعامة المفسرين من كون معنى الآية أي ليس عليك حساب وبأس في عدم إيمانهم وإسلامهم بعد أن بلّغت ما عليك ، فإنما كان لتوهم كونها نازلة في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وأنه هو العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي ، فالدخول بهذه العقلية في تفسير الآية هو الذي أفضى وأنتج هذا المعنى من التفسير ، ولو كان ـ وهو محال ـ كون العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي هو الرسول لكان هذا التفسير هو المتعين لا غير (2) .
____________
(1) أما الأمر الثالث فراجع صفحة 31 خامساً .
(2) ولذا لا بد في عملية التفسير من ترك الاعتقادات والمرتكزات الفكرية والثقافية ـ وكذا الروايات ـ على جانب والدخول في تفسير القرآن بعيداً عن كل ذلك ، حتى يتم عرض الأفكار والآراء والاعتقادات والروايات على القرآن ، لا العكس أو محوالة التوفيق مهما أمكن بين ما يعتقده الانسان وما في القرآن ، ولو كان التوفيق خلافاً لمقتضى الظهور والصراحة القرآنية .
ولذا ورد عنهم عليهم السلام كما سيأتي ما خالف كتاب ربنا لم نقله ، وفي رواية أخرى فهو زخرف ، وضابطه معرفة صحة الرواية وكذبها كما جاء في الروايات عنهم هو عرضها على كتاب الله ، والعرض لا يتحقق إلا بعد معرفة المراد القرآني .
وعليه فلا بد أولاً من معرفة المراد القرآني وتفسير القرآن بالقرآن ، ثم بعد ذلك الانتقال إلى خطوة أخرى وهي تفسير القرآن بالروايات المأثورة والأحاديث المروية ، وملاحظة هل أن ما استُظهر من كتاب الله من معاني تؤيده الروايات ويقرّه العقل أم لا ، هذه هي الخطوات السليمة لمعرفة واستيعاب القرآن الكريم ، واقحام الخطوة التالية لترجيح أحد المعاني المستظهرة في الخطوة الأولى على بقية المعاني

( 21 )

ومثله ما في « من وحي القرآن » من قوله : « إن مدلول الآيات يوحي بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يستهدف من حديثه مع هؤلاء الصناديد تزكيتهم الفكرية والروحية والعملية ، بعيداً عن مسألة الاهتمام بغناهم من ناحية ذاتية » (1) .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله كذلك ورب الكعبة ، ولكن الذي نستوحيه من الآيات أن الاهتمام إنما هو للغني لغناه ، وإلا !! الاهتمام للغني لتزكيته مع عدم الطمع في ماله مما يقبح العتاب عليه والتوبيخ فيه ، وكيف يعاتب عكلى صفة لا يتخلق بها إلا من كان ذو حظ عظيم وخلق عال وإيمان عميق ، والذي أجبره على هذا « الاستيحاء » هو دخوله في تفسير الآيات بعقلية أنها نزلت في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، ولو افترضنا محالاً أنها نزلت فيه صلى الله عليه وآله لكان ما قاله هو الحق الذي يجب أن يتبع .
( وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى ) قرأ ابن مسعود وابن مصرف وابو الجوزاء « تَتَلهى » بتاءين ، وقرأ اُبي كعب وابن السميفع والجحدري « تُلهى » بتاء واحدة خفيفة
____________
والاحتملات هو منشأ أكثر الاشتباهات التي وقع فيها المفسرن والفقهاء والمجتهدون .
(1) من وحي القرآن : ج 24/67 ، ومثله ما في أعيان الشيعة من كون تصدي العابس للأغنياء ليس لغناهم وتلهيه عن الفقراء لا لفقرهم وإنما لقطعهم حديثه مع من يرجو إسلامه .

( 22 )

مرفوعة ، قال الزجاج : أي تتشاغل عنه ، يقال لهيت عن الشيء ألهى عنه إذا تشاغلت عنه (1) ، فالتلهي هو تعمد التشاغل وقصد الإعراض ، فهو قبال التصدي الذي هو تعمد التعرض وقصد الإقبال .
ومن خلال المقابلة بين التصدي والتلهي يستظهر أن هؤلاء الساعين نحو الخشوع هم من الفقراء والمستضعفين ، فالأية وإن لم يكن لسانها « وأما ذو العالة والفقير فأنت عنه تلهى » لكن من خلال التقسيم المردد بـ« إما » يعرف أن من سمات هؤلاء الساعين نحو الخشوع هي الفقر والعالة والاحتياج .
التصدي = المحاولة الرسالية
وما في : تفسير « من وحي القرآن » من كون التصدي بمعنى المحاولة الرسالية وبذل الجهد في سبيل تغيير أولئك المترفين والمستكبرين ، والسعي لإصلاحهم وتزكيتهم حيث يقول ( فأنت له تصدى ) لتحاول بجهدك الرسالي أن تمنحه زكاة الروح وطهارة الفكر ، فيما تحسبه من النتائج الكبيرة لذلك على مستوى امتداد الإسلام في قريش (2) .
كلام متين : فإن الرسول صلى الله عليه وآله لم يألُ جهداً في هداية قومه ، والسعي بشتى الطرق والوسائل لهدايتهم وإدخالهم في دين الله ، لكن صريح الآية لا يساعد على ذلك حتى وإن قلنا
____________
(1) زاد المسير : ج 9/27 .
(2) من وحي القرآن : ج 24/74 .

( 23 )

تنزلاً أنها نازلة في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وأنه هو المعني بها (1) ، إذا التصدي للأغنياء والمترفين في الآية يقابله التلهي عن الفقراء والمعدمين (2) ، فلوجه المقابلة نعرف أن التصدي هو الاهتمام والتقدير والاحترام للأغنياء ، ويقابله التلهي عن الفقراء .
ولو كان التصدي بمعنى المحاولة الرسالية لكان الرسول له محاولة رسالية لهداية المترفين دون المستضعفين مع أنه مأمور بأن يساوي في دعوته بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسيد والعبد والرجل والمرأة والصغير والكبير ، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، فتفسير التصدي بمعنى المحاولة الرسالية ليس تفصياً عن المحذور ، فهو من قبيل تغيير قولة عمر بن الخطاب المشهورة في رزية الخميس « إن الرجل ليهجر » إلى « أن رسول الله غلب عليه الوجع » ، وقولنا في المجنون بأنه مصاب بمرض عقلي ، فالنتيجة واحدة ولكن وقع اللفظ على القلب أهون .
وعليه : فلا بد أن يكون معنى التصدي في الآية بمعنى التعرض والاهتمام والاحترام ، والتلهي بمعنى التشاغل وعدم
____________
(1) ومنشأ تفسير التصدي بما ذكر لقناعته بنزول الآية في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، فهو المخاطب والمقصود معاً .
(2) أما من استغنى ... وأما من جاءك يسعى وهو يخشى .

( 24 )

المبالاة ، فالآية تدعو إلى المساواة في الدعوة إلى الإسلام ، إذ هو الواجب الملقى على عاتق الرساليين ، وهداية الناس وعدمها بيد الله تعالى المشار إليه في قوله ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) ، فليس الآية فقط في مقام توبيخ العابس بل حتى لو لم يتحقق العبس لا بد من المساواة في الدعوة والتبليغ .
عتابٌ وتوبيخ
قال العلامة الطباطبائي : وفي الآيات الأربع عتاب شديد ويزيد شدة باتيان الآيتين الأوليين في سياق الغيبة ـ ضمير الغائب ـ لما فيه من الإعراض عن المشافهة والدلالة على تشديد الإنكار وإتيان الآيتين الأخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ وإلزام الحجة بسبب المواجهة بعد الإعراض والتقريع من غير واسطة .
قال : وفي التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان إعمى فاقدا للبصر وكانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحري أن يُرحم ويخص بمزيد الإقبال والعطف لا أن ينقبض ويعرض عنه (1) .
وقال ابن زيد لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله كتم من
____________
(1) تفسير الميزان : 20/219 .
( 25 )

الوحي شيئاً كتم هذا عن نفسه (1) .
ومن كل ما مرّ تعرف وهن من قال : أن الآيات لا لَوم فيها ولا عتاب على النبي ولا على الأعمى وإنما هي في واقعها تحقير وتوبيخ للمشركين الذين أقبل عليهم النبي صلى الله عليه وآله بقصد أن يستعملهم ويرغبهم في الإسلام (2) .
قلت : أما الأعمى فكما قال ، وأما العابس فالقول بعدم توجه العتاب واللوم إليه سدّ لحجية ظواهرالقرآن بل صريحه ، وأما المشركين فلا تعرض لهم في الآية من قريب ولا من بعيد ، ومنشأ تصريحه بذلك ـ هو كما قلنا في غيره ـ دخوله في تفسير الآية بعقلية أنها نازلة في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله .
سياق الآيات وتحديد العابس
هذا فيما يرتبط بصفات العابس ، أما من هو العابس ، فسياق الآيات لا يدل على أن العابس هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، إذ قوله « عبس وتولى » فعلان ماضيان والضمير « هو » لغائب ، فلو كان العابس هو الرسول صلى الله عليه وآله لقال تعالى « يا أيها النبي لِمَ عبست وتوليت أن جاءك الأعمى (3) ،
____________
(1) تفسير الطبري : ج 30/50 ، وكلامه صحيح إذ الآية صريحة على أنها في مقام العتاب والتوبيخ ، لكن تطبيقها على الرسول لم يصب فيه .
(2) تفسير الكاشف للشيخ المرحوم جواد مغنية العاملي : 7/510 .
(3) على غرار قوله تعالى ( يا أيها النبي لِمَ تحرّم ما أحل الله لك ) .