وما يدرك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى » ولا إخلال بالبلاغة والفصاحة حينما يُأتى بضمير المخاطب كما لا يخفى .
إن قلت : إنما لم يأت بضمير المخاطب إجلالاً للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، إذ العبوس مما لا ينبغي أن يصدر عنه .
قلت : قوله تعالى «أما من استغنى فأنت له تصدى ... فأنت عنه تلهى ) أشد تقريعاً وعتاباً وتوبيخاً فَلِمَ جيئ فيها بضمير المخاطب ، فمن باب إجلال النبي صلى الله عليه وآله كان ينبغي أن يأتي بها بضمير الغائب كعبس وتولى .
ضمير المخاطب
ودعوى : أن قوله تعالى ( فأنت له تصدى ... فأنت عنه تلهى ) المخاطب به هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، فالمقصود من « أنت » أي أنت يا رسول الله ، وبما أن المتصدي للأغنياء والمتلهي عن الفقراء متحد مع الذي عبس وتولى لا شخص آخر ينتج أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله هو الذي عبس وتولى .
نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة (1)
في غاية الفساد : وذلك لأن القرآن كله خطاب للرسول الأكرم لا يعني بالضرورة أن يكون هو المقصود من الآية ، فلا بد من التفريق بين كونه خطاباً له وبين كونه المقصود من الخطاب وفيه
____________
(1) وهي من القواعد التي ينبغي أن يلتفت إليها في تغسير القرآن الكريم .
( 27 )

نزلت الآية (1) .
ولبيان ذلك إليك آيات من القرآن الكريم تقرر هذا المطلب وتثبته :
1/ قوله تعالى ( ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) خطاب للرسول صلى الله عليه وآله ، ولكن ليس هو المقصود من هذا الخطاب ، إذ لم يكن ثمَّ أبٌ وأمٌ للرسول آنذاك .
2/ وقوله تعالى ( وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) فليس هو المقصود بهذا الحكم وإن كان هو المخاطب ، إذ رسول الله كما هو مسلم عند الكل له الحق في أن يتزوج أكثر من أربع .
3/ وقوله تعالى ( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) فالخطاب وإن كان متوجاً إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ولكن ليس هو المقصود منه ، إذ قد عصم الله تعالى رسوله من الذنب الصغير فكيف بالشرك العظيم .
وغيرها من الآيات الكثيرة جداً ، فالقرآن الكريم كما في
____________
(1) فتعجب بعض المعاصرين ـ في أنه إذا كانت الآية غير متوجة ومخاطبة للرسول فلمن هي إذن مخاطبة ؟ هل هي متوجهة إلى شخص مجهول من بني أمية ـ منشأه عدم التفريق بين المخاطب وبين المقصود من الخطاب ، وأنه ليس بالضرورة أن يكون المخاطب هو المقصود من الخطاب ، ومن يلتزم بأن المخاطب هو المقصود يقحم نفسه في نسبة الذنب والمعصية والجهل للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وهذا ما لا يقبله المسلم العادي .
( 28 )

الروايات نزل بـ« إياك أعني واسمعي يا جارة » (1) وهو مثل يضرب لمن يتكلم بكلام يريد به غير المخاطب ، وما أكثره في القرآن الكريم .
فعن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن عليه السلام مما سأله المأمون : فقال : أخبرني عن قول الله عز وجل ( عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم ) .
قال الرضا عليه السلام : هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة ؛ خاطب الله عز وجل بذلك نبيه صلى الله عليه وآله وأراد به أمته ، وكذلك قوله تعالى ( لن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) وقوله تعالى ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) قال : صدقت يا بن رسول الله (2) .
وعن محمد بن سعيد الأذخري وكان ممن يصحب موسى بن محمد بن علي الرضا أن موسى أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فيها ، وأخبرني عن قول الله عز وجل ( فإن كنت في شك مما نزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك ) من المخاطب بالآية فإنك أن المخاطب النبي صلى الله عليه وآله
____________
(1) تفسير العياشي 1/10 والكافي : 2/631 حديث 14 معتبرة عبد الله بن بكير ، ثم قال الكليني وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال : معناه ما عاتب الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وآله فهويعني به ما قد مضى في القرآن مثل قوله ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) عنى بذلك غيره .
(2) عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج 1/408 ، باب 37 حديث 1 .

( 29 )

أليس قد شك فيما أنزل الله عز وجل إليه ، فإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذا أنزل الكتاب .
قال موسى : فسألت أخي علي بن محمد الهادي عليهما السلام عن ذلك قال : أما قوله ( فإن كنت في شك ) فإن المخاطب بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكون في شك مما أنزل الله عز وجل (1) ، ولكن قالت الجهلة : كيف لا يبعث إلينا نبيا من الملائكة ، إنه لم يفرق بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق فأوحى الله عز وجل إلى نبيه ( فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك ) بمحضر من الجهلة هل يبعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة وإنما قال : وإن كنت في شك ولم يقل ولكن ليتبعهم كما قال له صلى الله عليه وآله فقل ( تعالوا ندع أبناءنا ... فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) ولو قال : تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيبون للمباهلة ، وقد عرف أن نبيه صلى الله عليه وآله مؤدى عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، وكذلك عرف النبي صلى الله عليه وآله أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه (2) .
____________
(1) وهذا موضع الشاهد ، فهو صلى الله عليه وآله المخاطب ولكنه ليس المقصود من الخطاب ، لكونه من الشك ، وهل يمكن أن يبعث الله رسولاً شاكاً في رسالته ؟!!
(2) علل الشرائع : 156 باب 107 حديث 1 .

( 30 )

وفي صحيحة ابراهيم بن عمر رفعه إلى أحدهما في قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله ( فإن كنت ... ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لا أشك ولا أسئل (1) .
فمن حيث السياق لا يمكن الجزم ـ بل الظن ـ بكونها نازلة في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، إذ القرآن مليء بالآيات النازلة بنحو « إياك اعني واسمعي يا جارة » (2) ، ومن يتتبع الخطابات القرآنبة يستظهر أنه حينما يكون المخاطب والمقصود هو النبي صلى الله عليه واله حينما يكون ذلك الخطاب محفوف بهالة من الاحترام والتقدير وعادة ما يكون بهذا التعبير « يا أيها النبي ، يا أيها الرسول » .
والعجب : من البعض احتمل أو رجّح كون الآية نازلة في النبي صلى الله عليه وآله وأنه هو العابس في وجه لبن أبي مكتوم بشهادة قوله تعالى ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ) (3) وقوله ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) (4) ، فنسب إلى
____________
(1) علل الشرائع : 157 باب 107 حديث 2 .
(2) وسيأتي بيان بعض الثمار من كون القرآن نازل بهذه الطريقة فانتظر .
(3) الأنعام : 52 .
(4) الكهف : 28 .

( 31 )

الرسول من دون أن يشعر الطرد المفضي إلى الظلم كما هو ذيل الآية وإطاعة الغافلين عن ذكر الله (1) .
وصفوة القول : أنه لو جعل كل آية فيها عتاب وتأنيب وتوبيخ أن المخاطب والمقصود بها هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لكانت صفاته بأبي وأمي في القرآن الكريم ما يلي : العابس ، الطارد ، مريدُ لزينة الحياة الدنيا ، مطيع للغافلين ، شاك فيما أنزل عليه ، الراكن لعبدة الأوثان والأصنام ، المذنب ... الخ .
مع أن القرآن في آيات أُخر وصفه بأنه : رحمة للعالمين ، الرؤوف ، العطوف ، الرحيم ، ذو الخلق العظيم ، مزكي أنفس الخلائق ومعلمهم الكتابة والحكمة ، وهذه لا تتلاءم مع ما تقدم من صفات وسمات .
معنى الآيات وتحديد العابس
هذا كله من حيث سياق الآيات وقد عرفت أنها لا تدل على أن المقصود هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، أما من حيث المعنى فلا شك في كون العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي غيره صلى الله عليه وآله لأمور :
الأول : أن العبس وهو التقطيب في الوجه صفة ذميمة ـ كما تقدم ـ وُصف بها في القرآن الكريم العتل الزنيم المشرك الكافر
____________
(1) هذا وقد ورد في روايات العامة أن الطارد للمؤمنين هو عمر بن الخطاب وسيأتي ذكرها فانتظر .
( 32 )

الوليد بن المغيرة في قوله ( ثم عبس وبسر ) فلا يمكن أن يتلبس بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ولو لمرة واحدة ، كيف !! وهو الذي قال عنه القرآن ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وقوله ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) .
وسُئلت عائشة عن خلقه فقالت : كان خلقه القرآن ، فمن يكون خلقه عظيماً لا يمكن أن يتلبس بالضيق القلبي والعبس والتقطيب في وجوه المؤمنين ، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (1) والرحمة والتعبيس والتقطيب لا يجتمعان دوماً وأبداً .
كما يتنافى مع قوله صلى الله عليه وآله في الحديث المعروف عند الخاصة والعامة « أدبني ربي فأحسن تأديبي » وقول الصادق عليه السلام « إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فقال ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (2) .
هذا وقد عُرف من أخلاقه صلى الله عليه وآله أنه ما كان ليومئ على كافر قد استحل قتله وأُهدر دمه ، فكيف يعبس في وجه المؤمن والخاشع .
____________
(1) التوبة : 128 ، فهو صلى الله عليه وآله حريص على الناس جميعاً المشرك وغيره ، ولكنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وعبسه في وجوه المؤمنين خلاف مقتضى الرأفة والرحمة .
(2) الكافي : ج 1/باب 108 .

( 33 )

فحينما أهدر صلى الله عليه وآله دم عبد الله بن أبي سرح فبعد فتح مكة غيّبه عثمان حتى اطمأن الناس ثم أحضره عند رسول الله صلى الله عليه وآله وطلب له الأمان ، فصمت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله طويلاً ثم آمنه ، فأسلم وعاد ، فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه : لقد صمت ليقتله أحدكم ، فقال أحدهم : هلا أومأت إلينا ؟ فقال : ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين (1) .
الثاني : أن العابس كما تقدم هو المتصف بكونه متصدياً للأغنياء ولاهياً عن الفقراء والمؤمنين ، والرسول الأكرم يجلّ أن كون خلقه كذلك ، فلا فرق عنده بين العبد والسيد والعربي والأعجمي ، بل عمدة المسلمين آنذاك كانوا من العبيد والمستضعفين ، فكونه يَتصدى للأغنياء ويَتلهى عن الفقراء ليس من أخلاقه الكريمة العظيمة (2) وعصمته المطلقة تأبى ذلك .
____________
(1) الكامل في التاريخ : 1/166 ، تاريخ ابن خلدون : 2/460 ، تاريخ اليعقوبي : 2/60 .
(2) ولو قيل لمن أثبت أن العابس والمتصدي والمتولي هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله : أنك ممن تتصدى للأغنياء وتتلهى عن الفقراء لَمَا قَبِلَ ذلك في حق نفسه ولو لمرة واحدة ولا نزعج من هذه النسبة ، ولو أن مخبراً أخبرنا بأن المرجع الفلاني أو العالم الكذائي عبس في وجه بعض المؤمنين الفقراء وتلهى عنه ، لنسبناه إلى الاشتباه أو كذبناه في دعواه ، فكيف نقبل ذلك في حق نور الأنوار وحجة الجبار والآية المخزونة والرحمة الموصولة ، الذي لولاه لما خلق الله السماوات والأرض ، ولما خلق الأفلاك وبرأ النسمات ، الموصوف في القرآن الكريم بالخلق العظيم والرحمة المبسوطة على العالمين جميعاً .

( 34 )

ولو تنزلنا وجارينا من يقول بأن العبس لا يتنافى مع أخلاقه الكريمة ولا يقدح في عصمته ، مع ذلك لا يمكن أن نقول بأنه هو المقصود بالعبس في هذه الآيات الكريمة ،لكون منشأ العبس والتولي ليس إلا حب التصدي للأغنياء ـ بعد أن بيّنا أن العابس هو المتصدي والمتلهي لا شخص آخر ـ وهذا الحب يلازمه التنفّر عن الفقراء والمستضعفين .
الثالث : أن الرسول مأمور بخفض الجناح للمؤمنين ( واخفض جناحك للمؤمنين ) ، ومأمور بالإعراض عن المشركين ( فاصدع بما تأمر وأعرض عن المشركين ) وكلا الآيتين من سورة الحجر (1) وقد نزلت قبل سورة عبس ، فالالتزام بكون الآية نازلة في الرسول معناه أن الرسول صلى الله عليه وآله أعرض عن المؤمنين وخفض الجناح للمشركين .
الرابع : كان بإمكان الرسول صلى الله عليه وآله أن يلفت انتباه ابن أم مكتوم أنه مشغول مع القوم وأن يأتي له في وقت آخر حتى يكون بخدمته ، لا أن يعبس في وجهه ويعرض عنه ، ولو كان هكذا لما توانى ابن أبي مكتوم في تلبية طلب الرسول صلى الله عليه وآله ، لأنه يرجو من كل قلبه أن يُسلم صناديد قريش
____________
(1) قال تعالى في سورة الحجر ( واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين ... فاصدع بما تأمر وأعرض عن المشركين )، ومثلها قوله تعالى في سورة القلم ( فاعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ) .
( 35 )

كما أن كل من له حظاً من الأخلاق الحسنة إذا كان مشغولاً مع قوم في حديث مهم ودخل عليه من يقطع كلامه مع القوم يلتفت إلى المعترض ويقول له بأدب ولطف : لو سمحت دعني والقوم ، وأجل حديثك إلى وقت آخر ، فكيف بالموصوف في القرآن بانه خلقه عظيم وأنه شفوق وعطوف ورؤوف بالمؤمنين .
الخامس : لو كان المقصود من الآيات هو النبي صلى الله عليه وآله فكيف نلائم بين قوله تعالى مدحاً للرسول ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) (2) وبين قوله ( وما عليك ألا يزّكى ) ، إذ هو صلى الله عليه وآله مخاطب ومقصود بتزكية الناس جميعاً فكيف يخاطب في هذه السورة بأنه ليس مسؤولاً عن تزكية قومه ، فيتعين ما ذهب إليه القمي قدس سره من كون معنى الآية : لا تبالي أزكي كان الغني أم لم يكن ، واذا تعيّن هذا التفسير ـ وهو كذلك ـ فالقول بأن المقصو منه هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله جرأة وإنكار لما هو ضروري .
قال السيد المرتضى : وكيف يقول له ( وما عليك ألا يزكى ) وهو صلى الله عليه وآله مبعوث للدعاء والتنبيه ، وكيف لا يكون
____________
(1) البقرة : 192 .
(2) بناءً على التفسير الأول للآية فراجع .

( 36 )

عليه ذلك (1) .
إن قلت : أن ما فعله ابن أم مكتوم كان نوعاً من أساءة الأدب ، فيحسن تأديبه بالإعراض عنه والعبوس (2) .
قلت : لو كان ذلك صحيحاً إذن فَلِمَ هذا العتاب من قبل الله عز وجل على أمر يستحقه ابن أم مكتوم ، أضف إلى أن العتاب متوجه بصورة مؤكدة على من يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء ، فمنشأ الإعراض عن ابن أم مكتوم لكونه من فئة الفقراء والمحتاجين ، فلهذا تأكّد العتاب والتوبيخ وتغلّظ .
ومنه تعرف جواب ما في تفسير « من وحي القرآن » من قوله : أن « العبوس » لن يكن عبوس احتقار ، وإنما كان عبوس مضايقة بسبب قطع ابن أم مكتوم لكلامه مع صناديد قريش ، إذ لو كان كذلك يأتي نفس الجواب لِمَ هذا العتاب الشديد على عبوس منشأه المضايقة لا الاحتقار ، وما الربط بين العبوس المضايقي والتصدي للأغنياء والتلهي عن الفقراء والمؤمنين ؟!! .
وحدة الحال
وقوله : إن دراستنا لعلاقة النبي صلى الله عليه وآله بهذا الأعمى تدل على أن هناك صلة وثيقة بينهما بحيث كان يدخل على النبي صلى الله عليه وآله وهو جالس بين زوجاته ، وقد اشتهرت الرواية التي تتضمن دخوله عليه وعنده عائشة وأم سلمة ، فقال
____________
(1) تنزيه الأنبياء : 163 .
(2) تفسير الفخر الرازي : ج 31/55 .

( 36 )

لهما : احتجبا فقالتا : إنه أعمى ، فقال : أنتما ؟ ... بالإضافة الى استخلافه عليها عند خروجه إلى الغزو فإنه يدل على عمق الصلة منذ البداية ... أن ذلك كله قد يوحي بوحدة الحال بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله بحيث يغيب عن العلاقة أي طابع رسمي ، مما يجعل أعراض النبي صلى الله عليه وآله اعتماداً على ما بينه وبينه من الصلة التي تسمح له بتأخير الحديث معه إلى فرصة أخرى من دون أن يترك أي أثر سلبي في نفسه (1) لا سيما إذا كان ذلك لمصلحة الدين التي تهم أي مسلم في زمن الدعوة الأول أن يحصل النبي على إيمان أي شخص من كفار قريش الوجهاء في مجتمعهم باعتبار أن ذلك يخفف العذاب والحصار على المسلمين المستضعفين ومنهم ابن أم مكتوم ، وبذلك يكون أعرض النبي صلى الله عليه وآله عنه كإعراضه عن أحد أفراد أصحابه أو عائلته اتكالاً على ما بينه وبينه (2) .
ففيه : أولا أنا لا نسلم بهذه الوحدة إذ شأن ابن أم مكتوم كشأن بقية الصحابة ، ولكونه أعمى لا تحرز من دخوله بيوت النبي صلى الله عليه وآله ، وما ذكره من روايات منقولة عن العامة وأهل الحشو إن سلّمنا بصحتها (3) فقاصرة عن اثبات وحدة الحال ، واستخلافه على المدينة مرتين لا يلازم ذلك .
____________
(1) وقد تقدم أن عدم التأثر لا يلازم عدم القبح فراجع مستهل البحث .
(2) من وحي القرآن : ج24/66 .
(3) مع أنها خارجة عن موضوع الحجية .

( 38 )

أضف إلى أن وحدة الحال والتي بمعنى غياب الطابع الرسمي ، بين الرسول صلى الله عليه وآله وبين ابن أم مكتوم ـ إن سلمنا بها ـ لا يعني الخروج عن الآداب الشرعية والعبس في وجوه الأهل والأصدقاء ، فرفع التكلف مع الأصدقاء لا يعني التجرأ عليهم واستحقارهم وعدم الاهتمام بهم وقلة الأدب معهم ، فالمرفوع مع الأهل والأصدقاء هو التكلف لا الأدب ، فما في القول المشهور « بين الأحباب تسقط الآداب » معناه تسقط الكُلفة والرسميات ، وفي هذا قال ضرار واصفاً لأمير المؤمنين عليه السلام « كان فينا كأحدنا ... » .
أضف أن الآخرين قد لمسوا منه نفوره من ابن أم مكتوم وهذا كاف في الحكم بالقبح ، بتقريب أنه سوف يتبادر للحاضرين ان الذي يدعوهم إنما يدعوهم لكونهم أغنياء ، وإنه لو كان ابن أم مكتوم من الأغنياء لما عامله هذه المعاملة .
كلمات بعض الأعلام في نزول الآية
قال الفيض الكاشاني : وأما ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبي صلى الله عليه وآله دون عثمان فيأباه سياق مثل هذه المعاتبات الغير اللائقة بمنصبه وكذا ما ظهر بعدها إلى آخر السورة كما لا يخفى على المتأمل بأساليب الكلام ، ويشبه أن يكون مختلقات أهل النفاق والحشوية الذي من عادتهم الافتراء على الأنبياء ونسبة السوء إليهم في بعض الأمور ، وذلك لغرض


( 39 )

مخصوص وهو أن ما نسب إلى بعض ولاة أمورهم وما صدر من القبائح عنهم وصح صدوره لا يكون قادحاً في إمارتهم ، ولذا ينسبون بعض الأمور إلى أعاظم الأنبياء خلطاً للمبحث (1) .
وقال السيد المرتضى : أما ظاهر الآية فغير دال على توجهها إلى النبي صلى الله عليه وآله ، ولا فيها ما يدل عل أنها خطاب له ، بل هي خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه ، وفيها ما يدل عند التأمل على أن المعني بها غير النبي صلى الله عليه وآله لأنه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبي صلى الله عليه وآله في القرآن ولا خبر من الأعداء المبايين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين .
ثم وصفه بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء وهذا مما لا يصف به نبينا صلى الله عليه وآله من يعرفه فليس هذا مشبهاً لأخلاقه الواسطة وتحننه على قومه وتعطفه ... وقيل : إن هذه السورة نزلت في رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان منه هذا الفعل المنعوت فيها ، ونحن إن شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي أن نشك في أنها لم يعن بها النبي صلى الله عليه وآله ، وأي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم والإقبال على الأغنياء الكافرين والتصدي لهم ، وقد نزه الله النبي صلى الله عليه وآله عما دون هذا في التنفير بكثير (2) .
____________
(1) مقتنيات الدرر ج 12/67 .
(2) تنزيه الأنبياء : 119 .

( 40 )

وقال شيخ الطائفة الطوسي : وهذا فاسد (1) ، لأن النبي صلى الله عليه وآله قد أجل الله قدره عن هذه الصفات ، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب ، وقد وصفه بأنه ( لعلى خلق عظيم ) (2) وقال ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (3) وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ومن عرف النبي صلى الله عليه وآله وحسن أخلاقه وما خصه الله تعالى به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة حتى قيل إنه لم يكن يصافح أحداً قط فينزع يده من يده ، حتى يكون ذلك الذي ينزع يده من يده ، فمن هذه صفته كيف يقطب في وجه أعمى جاء يطلب الإسلام ، على أن الانبياء عليهم السلام منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما هو دونها لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والإصغاء إلى دعائهم ، ولا يجوَّز مثل هذا على الانبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم (4) .
وقال العلامة الطباطبائي : وليس الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي صلى الله عليه وآله ... وقد عظم الله خلقه صلى الله عليه وآله إذ قال ـ وهو قبل نزول هذه سورة ( وإنك لعلى
____________
(1) أي القول بكونها نازلة في الرسول صلى الله عليه وآله .
(2) القلم : 4 .
(3) آل عمران : 159 .
(4) تفسير التبيان : ج 10/268 .

( 41 )

خلق عظيم ) والآية واقعة في سورة « ن » التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك ، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول البعثة ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفوراً والتلهي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا .
وقال تعالى أيضاً ( وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين ) فأمر بخفض الجناح للمؤمنين والسورة من السور المكية والآية في سياق قوله ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) النازلة في أوائل الدعوة .
وكذا قوله ( لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم وأخفض جناحك للمؤمنين ) وفي سياق الآية قوله ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصور منه صلى الله عليه وآله العبوس والإعراض عن المؤمنين وقد أمر باحترام إيمانهم وخفض الجناح وأن لا يمد عينه إلى دنيا أهل الدنيا .
على أن قبح ترجيح غنى الغني ـ وليس ملاكاً لشيء من الفضل ـ على كمال الفقير وصلاحه بالعبوس والإعراض عن الفقير والإقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الانساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي .


( 42 )

وبهذا وما تقدمه يظهر الجداب عما قيل : إن الله سبحانه لم ينهه صلى الله عليه وآله عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلا بعده وأما قبل النهي فلا .
وذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلا في هذا الوقت تحكم (1) ممنوع ، لو سلّم فالعقل حاكم بقبحه ومعه ينافي صدوره كريم الخلق وقد عظّم الله خلقه صلى الله وآله قبل ذلك إذ قال ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وأطلق القول والخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها (2) .
وقال الشيخ مكارم الشيرازي : إن المشهور بين المفسرين في شأن النزول هو نزولها في شخص النبي صلى الله عليه وآله ، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى (3) .

المقام الثاني : البحث الروائي

وفي هذا المقام لا توجد إلا روايتان مرسلتان (4) :
الأولى : صرحت أن العابس هو عثمان بن عفان .
والثانية : ربّما يستفاد منها أن العابس هو الرسول الأكرم صلى
____________
(1) أي بلا دليل وحجة .
(2) تفسير الميزان : 20/223 .
(3) التفسير الأمثل : ج 19/364 ، وقصده مفسيرين العامة دون الخاصة .
(4) ومعنى الإرسال : عدم اتصال سند الرواية إلى المعصوم .

( 43 )

الله عليه وآله ذكرهما الطبرسي في مجمع البيان .
قال : روي عن الصادق عليه السلام أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى الله عليه وآله فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه .
* وقال : وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم ، قال : مرحباً ، والله لا يعاتبني الله فيك أبداً ، وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي صلى الله عليه وآله مما يفعل به (1) . وبما أن الروايتين مرسلتان فلا يمكن الاعتماد عليهما وترجيح أحدهما على الأخرى ، إذ الترجيح فرع الحجية ، ولا حجية لهما للإرسال ، والفاصلة بين الطبرسي والإمام الصادق عليه السلام كبيرة جداً ، فلو كان المرسل هو الكليني في الكافي ، أو الصدوق في كل كتبه وبالخصوص في كتابه « من لا يحضره الفقيه » أو علي بن ابراهيم في كتابه التفسير (2) لأمكن اعتبار هذا
____________
(1) مجمع البيان : 0/664 .
(2) فقد ذهب سيد الفقهاء والمجتهدين الخوئي قدس سره ـ مع ماهو معرف عنه من التشدد والصرامة في التوثيق ـ إلى وثاقة كل من وقع في تفسير علي بن ابراهيم ، فما عن بعض المعاصرين « كليات في علم الرجال » من عدم اعتبار تفسير علي بن ابراهيم لعدم السند الصحيح إليه وكون مقدمة الكتاب ـ الموثقة لرجاله اجمالا ـ ليس لعلي بن ابراهيم وإنما لتلميذه العباس ـ ، وسوسة زائدة ، وهروباً من وصم الخاصة برواية

( 44 )

الإرسال .
أضف إلى أن الطبرسي رحمه الله لم يلتزم في تفسيره بنقل أحاديث الخاصة فقط ، إذ قد أكثر وأسرف في نقل روايات العامة إلا في موارد قليلة ، بل من يتصفح تفسيره إن لم يكون له علم بعقيدته لا يشك في أنه من أبناء العامة المعتدلين المحبين لاهل بيت النبوة موضع الرسالة ، فلعل هاتين المرسلتين من روايات العامة وأحاديثهم سيما الرواية الثانية التي استفيد منها أن العابس هو الرسول صلى الله عليه وآله ، وايعازهما للإمام الصادق عليه السلام لا يصحح أنها من روايات الخاصة ،إذ العامة تروي عنه كثيراً ولم يمتنع عن الرواية عنه إلا البخاري في صحيحة الحاوي على عدة من الروايات الصريحة والناصة على تحريف القرآن الكريم (1) .
____________
أحاديث تحريف القرآن ، مع أن صحيح البخاري ومسلم فيهما أحاديث تفوق مما في هذا التفسير المبارك مع صراحتها ، بخلاف ما في هذا التفسير فأنهما ظاهرة في التحريف فتحمل على بعض المحامل التي تتلاءم مع قوله تعالى ( إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
(1) كآية الرجم وهي « إذا زنيا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم » وكان عمر يصرّ عليها ويقول : لولا أن يقول الناس إن عمر زاد في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي ، صحيح البخاري : ج 4/152 ، ودعوى أن هذا ليس من القول بتحريف القرآن بل هو من نسخ التلاوة ضعيف للغاية إذ أن عمر يصر على أن هذا مما سقط من القرآن ولو كان الأمر بيده لكتب هذه الآية في المصاحف ، وكثير من الروايات أيضاً في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وباقي الصحاح والسنن

( 45 )

البحث التنزّلي
وإذا غضضنا الطرف عن السند والإرسال فإن الصناعة الدرائية والروائية والأصولية تقتضي ترجيح الرواية الأولى لاعتضادها بما في تفسير علي بن ابراهيم وقد تقدم تفسيره للآية ، والاشكال بأنه لم يصرح بكون ذلك رواية ، في غاية الضعف ، إذ ليس المقام في تفسير الآية حتى يقال لعله اجتهاد منه بل في سبب النزول وفيمن نزلت الذي لا سبيل لمعرفته إلا بالرواية (1) .
* ومع عدم التسليم بذلك هناك مرجحات أخرى للرواية الأولى وهي :
الأول : أن الرواية الثانية مخالفة للقرآن الكريم الواصفة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بأنه ذو خلق عظيم وأنه رؤوف
____________
والمسانيد والمعاجم صريح في سقوط آيات بل سور قرآنية وليس هو من نسخ التلاوة الموهوم .
فعن ابي موسى الأشعري أنه جمع قراء البصرة فكانوا ثلاث مئة رجل وقال لهم في كلام له : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها « لو كان لابن آدم واديان من مال لا بتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب » وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ، فأنسيتها ، غير أني حفظت منها « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون يوم القيامة ، راجع صحيح مسلم ج 3/100 ، صحيح الترمذي ج 5/666 ، والمستدرك ج 2/224 ، ومسند أحمد ج 5/131 ، 132 وغيرهم كثير ، « الرضوي » .
(1) مؤيداً بما ذكره الشيخ الطوسي في التبيان 10/269 من كون الآيات نزلت في رجل من بني أمية .

( 46 )

بالمؤمنين عطوف عليهم ، وقد أمر الأئمة عليهم السلام أصحابهم بعرض الأحاديث على كتاب الله فإن وافقت كتاب الله فهي ، وإلا ضربت عرض الحائط .
ففي صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله عزوجل أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإلا فالذي جاءكم به أولى به (1) .
وفي صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام قال : خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى ، فقال : أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم بخلاف كتاب الله فلم أقله (2) .
العبس وترك الأولى (3)
فإن قيل : أن العبس من ترك الأولى فلا ينافي العصمة (4) وخلقه العظيم وكونه بالمؤمنين رؤوف رحيم .
ففيه :
1/ أن العبس لو سلمنا أنه من ترك الأولى فهو مقبول في حق
____________
(1) الكافي : 1/55 .
(2) الكافي : 1/56 ، والأحاديث في ذلك متعددة .
(3) ترك الأولى من أمثلته ترك الأهم والاشتغال بالمهم .
(4) ذكر ذلك جمع من المفسرين العامة ، ومن الخاصة على فرض كون الآيات نازلة في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله .

( 47 )

بقية الأنبياء دون النبي الخاتم صلى الله عليه وآله (1) .
2/ كما يمكن القول بأن ترك الأولى إن كان متصوراً في بقية الأنبياء والمرسلين لكن ذلك فيما كان قبل النبوة والاجتباء لا ما كان بعد الاجتباء ، فتناول آدم عليه السلام من الشجرة كان من ترك الأولى وكان ذلك قبل اجتبائه ثم بعد ذلك اجتباه الله تعالى بقوله ( وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه فتاب عليه وهدى ) (2) وعليه فلا يتصور ترك الأولى بعد الاجتباء فتدبر .
3/ أن ترك الأولى وأن كان لا ينافي العصمة النسبيّة ، فيمكن أن تجتمع العصمة بدرجة معينة مع ترك الأولى ، لكن هذا فيما كان العمل المتعنون بكونه تركاً للأولى مرتبطاً بالله وبالرسول ، دون ما إذا كان مرتبطاً بالرسول وبقية البشر ، وبتعبير آخر العبس ترك للأولى بالنسبة للمحرمات المرتبطة بالأحكام الشرعية المدونة في رسائل الفقهاء ، أما بالنسبة للأخلاق فهو منافٍ لها لا أنه من ترك الأولى ، هذا حسب ما يقتضيه الخلق العادي فكيف بمن وصف بأن خلقه عالٍ وعظيم بلسان الوحي ، فمما لا يمكن أن يتصور في حقه العبس والتقطيب في وجوه المستضعفين أصحاب القلوب الرقيقة والحساسة .
____________
(1) ومما ينبغي أن يلاحظ أن الفعل المتعنون تحت عنوان « ترك الأولى » إنما هو كذلك بالنسبة لنا لا بالنسبة للرسول فتدبر .
(2) طه : 121 .

( 48 )

فصحيح أن العبس لا ينافي العصمة من الذنوب والمحرمات لكنه ينافي الأخلاق العادية فضلاً عن الأخلاق العالية العظيمة ، فلا يمكن القول به في حق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، إذ مع تحققه يكون غير معصوم بهذا المستوى ، وقد قامت الأدلة على أن النبي الأمي صلى الله عليه وآله مؤيد بروح القدس لا يسهو ولا يلهو ، فمن باب الأولوية القطعية أنه لا يتصف بصفة العبس في وجوه المؤمنين ، فنفي السهو عنه معناه نفي كل ما هو بمستواه أو أشدّ منه ، ومن الواضح أن التعبيس والتقطيب ليس بمستوى السهو قبحاً ، وعليه فنفي الأقل قبحاً عنه صلى الله عليه وآله يستلزم نفي الأشد كما لا يخفى .
أضف إلى أن العابس ـ كما قلنا مراراً ـ لم يكتف بعملية العبس بل تولى وأعرض مع ما هو من عادته وطبيعته من التصدي للأغنياء والتلهي عن الفقراء والمستضعفين .
الثاني : أن الرواية الثانية موافقة للعامة ورواياتهم ، وقد استفاضت الأخبار عن طريق أهل البيت عليهم السلام أنه إذا اختلفت الأخبار عنهم يؤخذ بما خالف العامة ويترك ما وافقهم .
ففي صحيحة الحسن بن جهم قال : قلت للعبد الصالح عليه السلام : هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم ؟ فقال : لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا ، فقلت : فيروى عن أبي عبد الله عليه السلام شيء ، ويروى عنه خلافه ، فبأيهما نأخذ ؟ فقال : خذ بما


( 49 )

خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه (1) .
قلت : قال الرضا عليه السلام « شيعتنا المسلَمون لأمرنا ، الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منا » وقال الصادق عليه السلام « كذب من زعم أنه من شيعتنا وهو متمسك بعروة غيرنا » .
الثالث : أن الآيات في مقام عتاب وتأنيب وتوبيخ للعابس المتولي وقد ورد عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما عاتب الله نبيه فهو يعني به من قد مضى في القرآن مثل قوله ( لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) (2) عني بذلك غيره (3) .
وعن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن عليه السلام مما سأله المأمون : فقال : أخبرني عن قول الله عز وجل ( عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم ) .
قال الرضا عليه السلام : هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة ؛ خاطب الله عز وجل بذلك نبيه صلى الله عليه وآله وأراد به أمته ، وكذلك قوله تعالى ( لئن أشركت ليحبطن عملك
____________
(1) الوسائل : أبواب صفات القاضي باب 9 حديث 29 ، 30 ، 31 ، 32 ، 33 ، 34 ، 24 ، 46 ، 1 ، وغيرها .
(2) الإسراء : 74 .
(3) تفسير العياشي : ، ورواه الكليني مرسلاً وقد تقدم ذكره في مستهل البحث ، هذا وقد أجمعت الطائفة ـ كما في عدة الشيخ الطوسي ـ على العمل بمرسلات ابن أبي عمير في الأحكام الشرعية فكيف بغيرها .

( 50 )

ولتكونن من الخاسرين ) وقوله تعالى ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) قال : صدقت يابن رسول الله (1) .
فيكون العابس ليس هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله إذ لا أحد يشك بأن الآية فيها عتاب وتوبيخ ، فإذا كان قوله ( عفا الله عنك ) وفيه عتاب خفيف ليس هو المقصود منه فما هو أشد منه في التأنيب والتوبيخ من باب الأولوية القطعية ليس هو المقصود منه ، من قبيل قوله تعالى ( ولا تقل لهما أفٍ ) فإذا كان « الأف » منهي عنه فما هو أشد منه كذلك للأولوية القطعية .
الرابع : وهو ضابطة كلية شاملة لكل آيات الذكر الحكيم وهي قول الباقر عليه السلام لمحمد بن مسلم « يا محمد إذا سمعت الله ذكر أحداً من هذه الأمة بخير ، فهم نحن ، وإذا سمعت الله ذكر قوماً بسوء ممن مضى ، فهم عدونا » (2) وقول أمير المؤمنين عليه السلام « سموهم بأحسن أمثال القرآن ـ يعني عترة النبي صلى الله عليه وآله ـ هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا »(3) .
____________
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج 1/408 ، باب 37 حديث 1 .
(2) تفسير العياشي : 1/13 ، بسنده عن محمد بن مسلم ، وللعياشي إلى ابن مسلم أكثر من ستة طرق ، فلا يتوهم عدم تصحيح السند للإرسال وحذف مستنسخ الكتاب أسانيده .
(3) تفسير العياشي : 1/13 عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عن أبيه عن جده عليهم السلام ، ونقله في البحار ، ونقله في البحار : ج 2/99 عن الإرشاد للشيخ المفيد في خطبة طويلة للأمير