ومن الواضح أن التعبيس والتولي والتصدي للأغنياء لغناهم والتلهي عن الفقراء قول سوء .
سهم كما في الروايات المستفيضة « المثل الأعلى لله » وقد وصف الله سبحانه وتعالى الوليد بن المغيرة بأنه عبس وبسر ، فالقول بأن العابس والمتولي هو الرسول جرأة عليه صلى الله عليه وآله وجعله في مصاف أعداء الله عز وجل ، بل يكون حال العتل الزنيم الوليد بن المغيرة أهون من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لأنه عبس في وجوه الأعداء والمناوئين .
ولا أحد يشك بأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله هو الإنسان الكامل فلو كان هو العابس والمتولي لما كان هو المصداق الأتم للإنسان الكمال وللخلق الإنساني .
عتاب الرسول على أخطاء أمته
هذا كله : على فرض استفادة أن العابس هو رسول الله صلى الله عليه وآله من الرواية الثانية ، واستفادة ذلك محل إشكال ، إذ القول المنسوب له عليه السلام على لسان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله « والله لا يعاتبني الله فيك أبداً » لا يستلزم كون العابس هو بأبي وأمي وأهلي ومالي وأسرتي ، إذ عتاب الزعيم على أفعال رعيته مما لا يخفى على أحد ، حتى بالنسبة للقادة الصغار ورؤساء القبائل والقرى ، فكيف بمن بعثه الله لهداية وتربية
____________
عليه السلام وعن نهج البلاغة للشريف الرضي ، وفي 2/284 عن الاحتجاج فراجع .
( 52 )

البشر ففي قوله تعالى ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) نسب الذنب إلى الرسول الأكرم مع أنه في عدة من الروايات الذنوب المغفورة في ذنوب شيعته وأصحابه المخلصين .
ففي صحيحة عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : قول الله في كتابه ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) قال : ما كان له ذنب ، ولا همَ بذنب (1) ، ولكن الله حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له (2) .
فالعتاب هنا من هذا النمط ، فترجيح الرواية الثانية علىالأولى بعد كل هذه الأمور ، تقليد للعامة وتأثّر بهم وتقديم رواياتهم على روايات الخاصة ، وهو عكس ما أوصى به أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام ، أضف إلى أنه تنقيض لحق سر العالمين صلى الله عليه وآله الذي لا ينبغي ترك الأولى في حقه ولا يجوز ، فكيف ينسب إليه العبس والتقطيب والتصدي لأعداء الله والتلهي
____________
(1) روى الصدوق في الأمالي : 159 مجلس 21 حديث 8 ، وكمال الدين : 524 ، بسند صحيح جداً جداً عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام قال : إن داود عليه السلام خرج ذات يوم يقرأ الزبور ... فإذا على الجبل نبي عابد يقال له حزقيل ... فقال داوود عليه السلام : يا حزقيل ، هل هممت بخطيئة ، فقال حزقيل : لا ؛ فإذا كان حزقيل لم يهم بخطيئة وهي أعم من المعصية فكيف بمن هو أطهر خلق الله قاطبة .
(2) تفسير القمي : 2/314 ، ومثلها رواية المروزي رواها الصدوق ورواية المفضل بن عمر رواها الطبرسي في تفسيره وغيرها .

( 53 )

والتشاغل عن أحبائه .
لا ، ولن ، ولم
هذا مضافاً إلى أن قوله « لا يعاتبني الله فيك أبداً » في مقام النفي ، والنفي بـ« لا » كما حقق في النحو يقتضي نفي ذلك قبلاً وبعداً ، ويفيد عدم امكان ذلك في حق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، المؤكد بقوله « أبداً » .
فالنفي بـ« لم » كقولنا : لم أذهب إلى البيت ، يقتضي نفي ذلك في السابق .
والنفي بـ« لن » يقتضي نفي ذلك في الزمان اللاحق وهناك خلافٌ في نفيه للسابق .
أما « لا » فهي للنفي مطلقاً ، فقولنا : لا يأكل زيد السمك ، عدم أكله ذلك أعم من الماضي والحاضر (1) .
ونفي العتاب عنه ليس فيه قدحاً لأحد وتكرار هذه المقولة عند رؤية ابن أم مكتوم حتى لا يقال بأن الذي عبس هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، والتعريض بهذه المقولة للعابس الحقيقي ليس فيه بأس ، إذ آيات الذكر الحكيم وخطابات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في التعريض بالمنافقين والكافرين
____________
(1) فهو كقول الصادق عليه السلام في حقّ عمر بن حنظلة « إذا لا يكذب علينا » فدخول « لا » على الفعل المضارع يفيد نفي الكذب مطلقاً عن عمر بن حنظلة ، لا أنه لم يكذب علينا في هذه المقولة .
( 54 )

والعصاة فوق حد الإحصاء .
العابس والدور الرسالي
وما في : تفسير « من وحي القرآن » من تعيّن كون العابس هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وترجح الرواية الثانية على الأولى بدعوى أن الحديث عن رجل من بني أمية لا تتناسب مع أجواء الآيات لأن الظاهر من مضمونها أن صاحب القضية يمتلك دوراً رسالياً ويتحمل مسؤولية تزكية الناس ، حتى يفرض توجيه الخطاب إليه للحديث معه عن الفئة التي تحمل مسؤولية تزكيتها (1) .
غير صحيح لأمور :
الأول : كون العابس له دوراً رسالياً لا يلزم منه وليس بالضرورة أن يكون هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، إذ كل المسلمين آنذاك مطالبون بنشر الرسالة وبث الهداية في المجتمع المكي وغيره .
الثاني : استفادة أن العابس له دور رسالي أول الكلام ، إذ ليس بالضرورة أن يكون العابس له ذلك ، إذ الموقف كان بحضرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، وكان هم هذا العابس إسلام أصحاب رؤوس الأموال والمترفين من صناديد قريش لما يترتب على إسلامهم من قوة وعزة للإسلام ، فحينما يأتي الغني يتصدى
____________
(1) تفسير من وحي القرآن : ج 24/75 .
( 55 )

له هذا العابس وحينما يأتي الفقير والمستضعف يتلهى عنه ولا يرغب في إسلامه حتى لا يقال بأن الداخلين في الإسلام ما هم إلا أراذل مكة وباديء الرأي والفقراء والعبيد .
فنزلت هذه السورة بعد ذلك الموقف مع الأعمى ترشد وتأمر المسلمين إلى المساواة في الدعوة ، وأن لا يفرقوا بين الغني والفقير والصغير والكبير والعبد والسيد والرجل والمرأة ، وأن لا تكون في نفوسهم حزازة من إسلام الفقراء والمساكين ، فعزة الدين ليس بإسلام الأغنياء والمترفين (1) ، وإنما عزته بالتقوى والخشوع لله تعالى من أي شخص كان فقيراً أو غنياً فليس للغنى والفقر أي قيمة في عزة الإسلام وقوته ، بل لله العزة ولرسوله وللمؤمنين حتى وإن كان من الفقراء والعبيد ، إذ قد كان لهم دور كبير جداً في تقدم الإسلام وازدهاره كما ينبأ بذلك التاريخ .
____________
(1) إن قلت : بأن الإسلام كما في القول المأثور قام على ثلاث : أخلاق محمد صلى الله عليه وآله ومال خديجة عليهما السلام وسيف علي عليه السلام ، فالمال له دور في تقدم الإسلام وعزته ، وعليه يكون للغني قيمة واهتمام زائد على الفقير .
قلت : هذا في فرض انفاق هذا الغني المسلم أمواله في خدمة الإسلام وتوظيفها في نشر الرسالة ، وواقع الحال من أكثر الصحابة الأغنياء خلاف ذلك ، والشاهد عليه حينما نزلت آية المناجات ( ذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) لم يتقدم أحد من الصحابة الأغنياء وكذا الفقراء إلا علي عليه السلام فهو الذي فاز بتطبيق هذه الآية ولا غرو في ذلك فإنه يقاتل على تأويل وتطبيق القرآن كما قاتل الرسول صلى الله عليه وآله على تنزيله كما في الحديث الصحيح المروي عن طريق الخاصة والعامة .

( 56 )

هذا إن أحسنا الظن بالعابس وحملنا عمله على الصحة وفسرنا قوله تعالى ( وما عليك ألا يزكى ) أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام بعد أن بلغت ما عليك ، أما إذا كان معنى الآية أي لا تبالي زكياً كان الغني أو غير زكي كما ذكر ذلك علي بن ابراهيم في تفسيره والسيد المرتضى (1) وغيرهما ـ وهو ظاهر بل صريح الآية كما تقدم ـ فهذا التوجيه لا وجه له أصلاً .
الثالث : أن منشأ ذهابه إلى كون العابس له دور رسالي قوله تعالى ( وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ) فلو لم يكن له دور رسالي لم يأت له من يخشى طلباً للهداية والتزكية ، ونحن قد أجبنا على مثل هذا وقولنا بأن هذا الخطاب من قبيل « إياك أعني واسمعي يا جارة » ومن يسافر مع آيات الذكر الحكيم يجد أماكن كثيرة الخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وآله والمقصود غيره ، ومن لا يلتفت إلى هذه القاعدة يتصور بأن المقصود هو شخص النبي صلى الله عليه وآله .
* وسبب هذا النمط من الخطاب على ما نستوحيه من تفسير « من وحي القرآن » ولنعم ما استظهره وَلَيتَه جزم به في المقام : ليكون الخطاب للأمة من خلال النبي صلى الله عليه وآله ليكون
____________
(1) تنزيه الأنبياء : 163 ، حيث قال « وكيف يقول له ( وما عليك ألا يزكى ) وهو صلى الله عليه وآله مبعوث للدعاء والتنبيه ، وكيف لا يكون عليه ذلك » قلت وهو الذي يقتضيه السياق وظاهر الآية فتدبر جيداً ، وإنما أُستظهر التفسير الآخر لوهم أنها نازلة في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله .
( 57 )

ذلك أكثر فاعلية وتأثيراً ايجابياً في أنفسهم ، لأن النبي صلى الله عليه وآله إذا كان يخاطب بهذه الطريقة في احتمالات الانحراف والموارد المستعبدة فكيف بغيره .
ثم أضاف : أن القسوة الملحوظة في الآيات في الحديث مع النبي صلى الله عليه وآله تمثل ظاهرة واضحة في أكثر الآيات التي تتصل بسلامة الدعوة واستقامة خطها ، حتى يفهم الدعاة من بعد النبي صلى الله عليه وآله بأن عليهم أن يقفوا في خط الاستقامة حتى بالمستوى الذي لا يمثل تصرفهم فيه عملاً غير أخلاقي ، لأن الغفلة عن الخطوط الدقيقة في المسألة قد تجرُّ إلى الانحراف بطريقة لا شعورية (1) .
كما أنه هناك سبباً آخراً وهو الذي يقتضيه الخلق القرآني ومراعات المشاعر والأحاسيس وعدم فسح المجال للناس للانحراف والضلال ، فلو كانت الآيات تخاطب من نزلت فيه بشكل مباشر وتحدده من بين المسلمين بصفاته وأفعاله الخارجية لتأذى من ذلك وأصبح عار عليه وعلى من يأتي بعده من أهله ، ولربما ازداد في غيّه وجهله وقد يرتد عن دينه ويحارب الإسلام والمسلمين ، من هنا اقتضت الحكمة الإلهية توجيه كل ذلك إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله .
وهذا أسلوب متخذ لدى كل المربّين ، من عدم خطاب
____________
(1) تفسير من وحي القرآن : ج 24/66 .
( 58 )

العاصي والمذنب بشكل مباشر حتى لا يتأذى ويصر على ذنبه ومعصية ، بل خطابه عن طريق مخاطبة جميع الناس أو أعز الأصدقاء إليه أو ولي أمره وكأنه هو الذي فعل ذلك الذنب وتلك المعصية .
ويمكن أن يستظهر هذا من قول الإمام الهادي عليه السلام جواباً على أسئلة يحيى بن أكثم : أما قوله ( فإن كنت في شك ) فإن المخاطب بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكون في شك مما أنزل الله عز وجل (1) ، ولكن قالت الجهلة : كيف لا يبعث إلينا نبيا من الملائكة ، إنه لم يفرق بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق فأوحى الله عز وجل إلى نبيه ( فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك ) بمحضر من الجهلة هل يبعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة وإنما قال : وإن كنت في شك ولم يقل ولكن ليتبعهم كما قال له صلى الله عليه وآله فقل ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ... فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) ولو قال : تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيبون للمباهلة ، وقد عرف أن نبيه صلى الله عليه وآله مؤدى عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، وكذلك عرف النبي صلى الله عليه وآله أنه صادق فيما
____________
(1) وهذا موضع الشاهد ، فهو صلى الله عليه وآله المخاطب ولكنه ليس المقصود من الخطاب ، لكونه من الشك ، وهل يمكن أن يبعث الله رسولاً شاكاً في رسالته ؟!!
( 59 )

يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه (1) .
وهناك أمر رابع سيأتي ذكره في ما بعد ، مستند إلى القراءة التي نسبت إلى الإمام الباقر عليه السلام من قراءته قوله تعالى « تُصدى ، تُلهى » بضم التاء على هيئة الفعل المبني للمجهول .
وليُعلم : أنّا في مقام نفي كون العابس والمتولى هو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، أما كونه عثماناً أو رجلاً آخر من بني أمية ، أو أن الأعمى هو ابن أم مكتوم أو غيره فلا يهمّنا ذلك بعد نفي كون الآيات نازلة في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، فليكن العابس عثمان أو غيره لا يهم .
مثائل الآيات
فهذه الآيات على غرار قوله تعالى ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ) (2) وقوله ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً ) (3) إذ ذكر في أسباب النزول أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة
____________
(1) علل الشرائع : 156 باب 107 حديث 1 .
(2) الأنعام : 52 .
(3) الكهف : 28 .

( 60 )

ومطعم بن عدي والحرث بن نوفل وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل جاؤوا في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب فقالوا يا أبا طالب لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له ، فجاء أبو طالب النبي صلى الله عليه وآله فحدثه بلذلك فقال عمر بن الخطاب لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون من قولهم ، فأنزل الله عزجل ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه من ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين ... أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ، فلما نزلت الآية أقبل عمر بن الخطاب فأتى النبي صلى الله عليه وآله فاعتذر في مقالته (1) .
فليس الذي همَّ بطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي هو الرسول صلى الله عليه وآله مع أن الخطاب موجه إليه ، وإلا لكان من الظالمين ، ولكون ذلك ظلم جاء عمر بن الخطاب واعتذر عمّا بدر منه من ظلم لهذه الفئة المستضعفة (2) ، وللأسف الشديد ذهب جماعة من المفسرين ومنهم بعض الخاصة ـ احتمالاً ـ كون الذي هم بالطرد هو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله .
فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أول ما بدأ بالدعوة غالب
____________
(1) تفسير الطبري ج 7/202 ، تفسير ابن كثير : ج 2/136 .
(2) وكان على رأسهم ابن مسعود والمقداد وعمار وبلال .

( 61 )

من أتبعه كان من المستضعفين من الناس والفقراء والعبيد والإماء ولم يتبعه من الأشراف إلا القليل القليل ، وهكذا هو شأن كل الأنبياء على مرّ التاريخ المشار إليه في الذكر الحكيم ( وما نراك اتبعك إلا الذين هو أراذلنا باديء الرأي ) فالمحيط الذي كان يعيشه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله هو محيط الفقراء والمستضعفين والمعدمين فهو أبو اليتامى والمساكين .
ومن الطبيعي أن صناديد قريش والمترفين من أهل مكة المعروفين بالتكبّر والخيلاء لا يمكنهم ولا يعجبهم الجلوس مع الفقراء والمساكين ومع العبيد والمستضعفين ، وكان هناك بعض من الصحابة المجالسين للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والمحيطين به يهمهم إسلام وإيمان المترفين من أهل مكة والأشراف من قريش ممّا أدى إلى عدم اهتمامهم بالفقراء والمستضعفين الطالبين للإسلام والساعين نحو الخشوع والإيمان .
فإذا أقبل إلى الرسول صلى الله عليه وآله أحد المترفين والأشراف هيّؤوا الأجواء المناسبة له ووسعوا له المجالس وأقبلوا عليه بكل ما يمتلكون من صفات حسنة وكلمات طيبة وجعلوا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله يتصدى له ، أما إذا جاء أحد من المستضعفين والفقراء لهووا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وأشغلوه عن التصدي والتعرض له ، وإلى هذه الحالة تشير قراءة


( 62 )

الإمام الباقر عليه السلام لقوله « تُصدى ... تُلهى » بضم التاء على صيغة الفعل المبني للمجهول (1) .
وهذا السلوك هو السائد في كل المجتمعات وأصحاب الدعوات إلا من عصم الله ، من تقديمهم للغني والتعرض والإقبال عليه وتأخيرهم للفقير والمستضعف والتلهي والتشاغل عنه ، فحينما عبس رجل من الصحابة في وجه ابن أبي أم مكتوم وكان من تلك الفئة الذين يهمهم التعرض للأشراف والأغنياء نزلت هذه الآية بالمناسبة مشيرة إلى ذلك المرض الذي يصاب به أصحاب الدعوات من توهمهم أن الأغنياء والأشراف لهم حق الأولوية في الدعوة إذ بإسلامهم اسلام جمع عظيم ممن يتبعهم ويدين بولايتهم .
وقد غاب عن ذهنهم أن الله لا يريد إسلاماً وإيماناً منشأه العصبية القبلية والطمع الدنيوي ، بل يريد إسلام الطمأنية والاعتقاد القلبي الصادق المتكئ على الإيمان بأحقانية هذه الرسالة الخالدة ، ولذا كانت دعوة الرسول إلى الكل بمستوى واحد ، إن لم نقل بأنه هناك بعض الاهتمام والتأكيد لطبقة الضعفاء والمستضعفين ، على خلاف كل الدعوات التي أول ما تبدأ تبدأ
____________
(1) وبناءاً على هذه القراءة لا يمكن أن يحتمل أن العابس له دور رسالي فضلاً عن أن يجزم به ، إذ الخاشع الساعي يأتي إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وهذا العابس يلهي الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله عن التصدي له .
( 63 )

بأصحاب رؤوس الأموال والوجهاء والأشراف من الأقوام .
قاعدة الأهم والمهم
فما هي : كثيرٍ من الكلمات من تبرير عَبس الرسول صلى الله عليه وآله وتلهيه وانشغاله عن ابن أم مكتوم (1) لقاعدة أن الأهم مقدم على المهم ، بتقريب أن إسلام صناديد قريش والأغنياء منهم اسلام لجمع عظيم فاعتراض ابن أم مكتوم بين الرسول صلى الله عليه وآله وأشراف قريش قطع للخير الكثير لغرض قليل وخير ضئيل (2) .
خاطئ : إذ ذلك لا يقل قبحاً من عملية التعبيس والتلهي عن المؤمنين والخاشعين ، لما ذكرناه آنفاً من رفض الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله اسلامَ الطمع والعصبية القبلية ، إذا اسلام كهذا لا يسمن ولا يغني من جوع ، وضره على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى المؤمنين أكثر من نفعه ، وهو الذي أوجد أكبر مشكلة واجهها الرسول صلى الله عليه وآله وهي مشكلة النفاق ، إذ ليس المنافقون إلا مِن فئة مَن كان اسلامه للطمع والعصبية ، وفئة قليلة أظهرت الإسلام خوفاً ، فعمدة المنافقين من كان اسلامه للطمع والعصبية .
ولو أن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله يرغب في إسلام
____________
(1) بعد ذهابهم إلى أن العابس هو الرسول صلى الله عليه وآله .
(2) تفسير الفخر الرازي : ج 31/54 .

( 64 )

أصحاب الأمول أكثر من رغبته في إسلام الفقراء والمستضعفين لكانت سيرته تختلف عما كانت عليه ، وذلك لأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وأوليائه عليهم السلام لا نظر لهم إلى تلك الامتيازات الاعتبارية التي يتفاخر بها الناس ويتباهون ( إعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة تفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ) فكثرة الأموال والأولاد لا يعجب الله ورسوله وإنما يعجب الكفار .
فهذه القاعدة كبروياً صحيحة ، ولكنها لا تنطبق على المقام .
روايات العامة
وروايات العامة في سبب نزول الآية كلّها مرددة بين ضعف السند والإرسال فيه ، لأنها تنتهي إلى كل من أنس بن مالك وابن عباس وعائشة ، أما الأول فإنه مدني لم يكن بمكة وقت نزول الآية وكان صغيراً أيضاً ، وأما الثاني وعائشة فإما أن يكونا رضعين أو لم يولدا ، ولو أن هذه السورة نزلت في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لَمَا انحصر رواية ذلك عن أناس لم يدركوا الواقعة ، ولكان ابن أم مكتوم له في كل يوم مجلساً يذكر فيه سبب نزول الآية وأن الذي جاء رسول الله وهو يخشى ليس إلا هو ، فهو الخاشع الساعي بنص القرآن الكريم وليس هناك وسام أشرف وأفضل من


( 65 )

أن يشهد القرآن لشخص بأنه خاشع ساعي نحو الإيمان والتزكية والعمل الصالح .
هذا مع اختلاف الروايات في تحديد من كان الرسول صلى الله عليه وآله يناجيه ، ففي بعضها أنه عتبة وشيبة ، وفي أخرى أنه جمع من وجوه قريش منهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة ، وفي رواية ثالثة أنه عتبة والعباس وأبو جهل ، وفي رابعة أنه العباس وأمية وصفوان ،وقد قيل بأن ابن أم مكتوم لم يجتمع مع المذكورين في مكة .
قال ابن العربي الفقيه : أما قول علمائنا أنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون أنه أمية بن خلف والعباس ، وهكذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما ولا حضرا معه وكان موتهما كافرين أحدهما قبل الهجرة والآخر ببدر ولم يقصد قط أمية المدينة ولا حضر عنده مفرداً ولا مع أحد الثلاثة (1) .
مراجعات في عصمة الأنبياء
ولقد صدر كتاب ضخم تحت عنوان « مراجعات في عصمة الأنبياء » لبعض الكتّاب من الخاصة صنّف فيه اتجاهات المفسرين في سبب نزول الآية إلى ثلاثة :
الأول : القائلون بعدم نزولها في الرسول ، وهم على فئتين :
____________
(1) تفسير القرطبي : ج 19/212 .
( 66 )

الأولى الجازمون بذلك ، والثانية المرجحون في عدم نزولها في النبي مع إمكان كونها نازلة فيه .
الثاني : القائلون بنزولها في النبي صلى الله عليه وآله ، وهم أيضاً على فئتين : الأولى الجازمون بذلك ، والثانية المرجحون نزوله فيه مع إمكان كونها نازلة في غيره (1) .
الثالث : والمتوقفون والمحايدون .
ثم ذكر جماعة من المفسرين المرجحين والقائلين بعدم نزولها في النبي صلى الله عليه وآله ، مع إمكانية نزولها فيه من دون أن يمسّ ذلك بعصمته وأخلاقيته ، من هذه الجماعة الطبرسي في مجمع البيان ، والسيد ابن طاوس والمجلسي ومكارم الشيرازي والسبحاني والسيد كاظم الحائري وغيرهم .
وما نسبه ـ إلى هؤلاء المفسرين والمحققين من عدم الجزم بكونها نازلة في غير الرسول صلى الله عليه وآله ، وأن نزولها فيه له وجه ودليل علمي لكن الدليل الأقوى قام على عدم نزولها فيه ـ خلافٌ صريحٌ لظاهر كلماتهم ، بل هم من الجازمين بعدم نزولها في النبي صلى الله عليه وآله ، وكونها نازلة فيه قولا افتراضياً لا دليل علمي له .
____________
(1) من المرجّحين والقائلين بنزولها في النبي صلى الله عليه وآله ابن أبي جامع العاملي والشيخ جواد مغنية والسيد محمد حسين فضل الله ، أما السيد محسن الأمين فقد جزم بذلك .
( 67 )

توضيح ذلك : إذ هذه السورة من الأدلة التي تمسك بها جماعة من العامة والحشوية على عدم عصمة الأنبياء والمرسلين ، فكان جواب الأعلام عليهم نفي نزولها في النبي صلى الله عليه وآله لقطع أصل الاستدلال بها ، ثم البحث العلمي يقتضي التنزّل ومجارات الخصم في كونها نازلة في الرسول صلى الله عليه وآله ، لا لكون ذلك ممكناً وله وجه عند المستدل على عصمة الأنبياء كما توهمه هذا الكاتب من الخاصة ، بل لسد جميع المنافذ التي توسل بها الخصم لإثبات عدم عصمة الأنبياء في غير الوحي (1) .
والشاهد على ذلك أنهم ليسوا في مقام ذكر الدليل على نزولها في الرسول صلى الله عليه وآله ، بل في مقام نفي أن يكون ذلك منافياً للعصمة على فرض أنها نازلة فيه صلى الله عليه وآله ، بعد نفي أن تكون نازلة في النبي الأكرم صلى الله عليه وآله .
قال الطبرسي : بعد أن ذكر كلام الشريف المرتضى المتقدم في نفي نزول الآية في الرسول صلى الله عليه وآله : فإن قيل فلو صح الخبر الأول (2) فهل يكون العبوس ذنباً أم لا ، فالجواب أن العبوس والانبساط مع الأعمى سواء إذ لا يشق عليه ذلك فلا يكون
____________
(1) إذ التوسل فقط بنفي كونها نازلة في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لا ينفع فحسب في افحام الخصم ، لإمكانه أن يقول بأن الأحاديث الصحيحية عندي دلت على أن نزول الآية كان في الرسول ، وإن لم تكن صحيحة عندك .
(2) الذي روته العامة في نزولها في النبي صلى الله عليه وآله وقد تقدم ذكره في مستهل البحث ، و« لو » للفرض .

( 68 )

ذنباً ، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق وينبه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد ويعرفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه ... (1) .
فنجد أن الطبرسي رحمه الله ليس في مقام ذكر الدليل على صحة نزولها في النبي صلى الله عليه وآله ، بل في مقام افتراض ذلك وأنه لا ينافي العصمة .
وقال ابن طاووس : هذا قول كثير من المفسرين (2) ، ولعل المراد معاتبة من كان على الصفة التي تضمنتها السورة على معنى « إياك أعني واسمعي يا جارة » وعلى معنى قوله تعالى في آيات كثير يخاطب به النبي صلى الله عليه وآله والمراد به أمته دون أن تكون هذه المعاتبة للنبي صلى الله عليه وآله ، وإنما كان يعبس لأجل ما يمنعه من طاعة الله ، وأين تقع المعاتبة على من هذه صفته (3) .
قلت : وليس في كلامهم ما يدل صراحة على استوجاهه نزول
____________
(1) مجمع البيان : ج 5/437 ، أما ما ذكره في جمع الجوامع فهو عين رواية العامة ، فإن كان البناء هو الاعتماد على رواياتهم فلا بد من المتابعة مطلقاً لا في خصوص المورد ، إن قلت : يصح متابعتهم في ماهو مؤيد لرواياتنا ، قلت : هذا في ما إذا لم يكن هناك تعارض وتضارب بين الروايات ، ومعه فلا بد من المصير إلى خلاف ما رووه .
(2) من العامة والحشوية .
(3) مراجعات في عصمة الأنبياء : 465 نقلاً عن سعد السعود لابن طاووس .

( 69 )

الآيات في الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، إذ فرّق بين كون الآية خاطباً الرسول وبين كونه هو المقصود ، وتصريحه أن ذلك قول كثير من المفسرين لا يلازم تصويبه لهم كما أن قوله في ذيل كلامه « وإنما كان يعبس ... » خارج عن موضع الكلام ، إذ الذي يمنعه من طاعة الله ليس هو المؤمن الذي يخشى الله وإنما هو المشرك العابد للوثن ، فهو صلى الله عليه وآله يعبس في وجوه المشركين امتثالاً لقوله تعالى ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) وقوله ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) وقوله ( وليجدوا فيكم غلظة ) وقوله ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) .
وقال المولى المجلسي : أقول بعد تسليم نزولها فيه صلى الله عليه وآله كان العتاب على ترك الأولى ، أو المقصود منه إيذاء الكفار وقطع أطماعهم عن موافقة النبي صلى الله عليه وآله لهم ، وذمهم على تحقير المؤمنين كما مر مراراً (1) .
فقوله قدس سره « بعد تسليم » أي أنّا لا نسلم وإنما نذكر ذلك من باب الفرض والتنزل ، وهذا واضح لمن طالس وخالط كلمات الأعلام في الفقه والأصول والتفسير ، فهو تسليم افتراضي لإقناع الخصم وإلقاء الحجة عليه ونقاشه في كل ما تمسك به من عدم حجية دليله من جهة ومن عدم إفادة دليله ما يبتغيه منه بعد تسليم
____________
(1) البحار : ج 17/78 .
( 70 )

حجيته من جهة أخرى .
فتوجيه المجلسي قدس سره بعد افتراضه نزولها في الرسول صلى الله عليه وآله لا يعني عدم رفضه لنزول السورة في النبي صلى الله عليه وآله وقطعه بذلك ، وهذا واضح جداً فكيف خفي عليه !!
وقال الشيخ السبحاني بعد أن نفى كون الآيات نازلة في الرسول الاكرم : على فرض صحة الرواية الأولى لابد أن يقال : أن الرواية إن دلت على شيء فإنما تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله كان موضع عنايته سبحانه ورعايته فلم يكن مسؤولاً عن أفعاله وحركاته وسكناته فقط ، بل كان مسؤولاً عن نظراته وانقباضه ملامح وجهه ... الخ (1) .
وقال مكارم شيرازي : وعلى فرض صحة الرأي الأول في شأن النزول - وفرض المحال ليس بمحال ـ فإن فعل النبي صلى الله عليه وآله والحال هذه لا يخرج من كونه « تركاً للأولى » وهذا ما ينافي العصمة للأسباب التالية ... (2) .
فكونها نازلة في الرسول عنده من المحالات الوقوعية كما هو نص كلامه ، لا أنه قول علمي له دليله الخاص فيمكن وقوعاً أن تكون الآية نازلة فيه صلى الله عليه وآله ، فذكره في فئة المرجحين في عدم نزول الآية في الرسول مع إمكان نزولها فيه غفلة واضحة
____________
(1) مفاهيم القرآن : ج 5/133 .
(2) الأمثل : ج 19/362 .

( 71 )

جداً .
وقال السيد كاظم الحائري : لنفترض أن التفسير الآخر هو الصحيح ، وهو أن الخطاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وأن الله تعالى عاتب رسوله ... فلنتأمل شيئاً ما لنرى ما هو الذنب الذي صدر من رسول الله صلى الله عليه وآله (1) .
وخلاصةً : عدم الدقة في تفهم كلمات الأعلام ولوازم المسائل المطروحة لديهم ، وعدم التفريق بين ما هو في مقام الافتراض والتنزل وما هو في مقام الاستوجاه ، هو الذي أدى إلى اشتباه هذا الكاتب من الخاصة وعزوه ذهاب جملة من المحققين والأعلام إلى إمكان نزول السورة في الرسول صلى الله عليه وآله وأن القول بذلك رأياً علمياً (2) ولكن هناك قول أقوى منه ، مع أن ظاهر بل صريح كلماتهم أن القول بكون السورة نازلة في الرسول ليس بقولٍ علمي بل هو محض افتراض وتنزل ومجارات .
ولعمري : اتعاب النفس والجهاد بالقلم في سبيل نفي كل شائبة ومغمز مطلقاً عن ساحة الأنبياء والمرسلين والأولياء لهو أنجع وأنفع وأثوب وأفضل وأحسن من إثبات ما يسمى بـ« ترك الأولى » لبعض الأنبياء والرسل بتأويلات وتوجيهات مختلفة ترجع في
____________
(1) مراجعات في عصمة الأنبياء : 473 نقلاً عن الإمامة وقيادة المجتمع ، والكتاب لا يحضرني .
(2) أي رأياً له دليله الخاص به ، لكن هناك دليل أقوى منه ، من قبيل تعبير الفقهاء « أن وجوب كذا وكذا له وجه ، أو لا يخلو من قوة ، إلا أن الصحيح كذا وكذا وكذا » .

( 72 )

لبّها إلى الخدشة في ساحة الأنبياء والرسل في بعض الموارد الخاصة الجزئية التي لا تتنافى مع العصمة .
فالتأدب مع الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم سر العالمين النبي الأمّي صلى الله عليه وآله يقتضي ويوجب علينا رفض كل ما يشينهم عليهم السلام حتى وإن كان ما يسمى بـ« ترك الأولى » أو تأويل المعصية بتأويلات باردة ظاهرها نفي المعصية عنهم ولبّها اثبات ذلك بوجه من الوجوه ، وأن لا نتشبث في إثبات « ترك الأولى » لغير النبي الأمي صلى الله عليه وآله (1) بالأحاديث المرسلة والمروية عن حشوية العامة (2) .
ولا شك أن نسبة العبس والتولي لمن بعثه الله رحمة للعالمين والجزم أو ترجيح أن السورة نزلت فيه ـ بنظر الألمعي ـ منافٍ للتأدب وفيه جرأة واضحة ، والوجدان هو الحاكم .
كما أن من مقتضيات التأدب معهم عليهم السلام انتقاء الألفاظ والكلمات التي تتلاءم مع عظمتهم وقدسيتهم ، والابتعاد عن الألفاظ المجملة المتشابهة المطاطية القابلة للحمل على عدة من المعاني خوفاً من أن يفهم الناس خلاف ما هو المراد من المقصود من ترك الأولى ، وحتى لا يقع الإنسان في مصادمات ويورط نفسه
____________
(1) إذ ترك الأولى كما تقدم في حقه خلاف عصمته المطلقة وكماله الأتم وخلقه الأكمل وعصمته العظمى .
(2) بل لا بد من دليل قطعي ولا تقبل أحاديث الآحاد .

( 74 )

في مشاكل مع من يتحمس لتنزيه الأنبياء والمرسلين ونفي كل ما يشينهم ويخدش في ساحتهم ، وحتى لا يضطر كذلك إلى تفسير كلامه وتأويله وبيان مراده الجدي بما يتناسب مع ترك الأولى .
عصمنا الله وإياكم من الزلل والاشتباه وأخذ بأيدينا لما في الصلاح والفلاح وحشرنا مع زمرة الأنبياء والمرسلين والشهداء والصديقين ، وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين .