( سورة الانعام )

* واذ قال ابراهيم لابيه آزر أتتخذ اصناماً آلهة اني أراك وقومك في ضلال مبين . [ الآية : 74 ]
الذي كان أبا ابراهيم حقيقة اسمه تارخ ، وأما آزر فانما كان جده لامه او عمه ، على الخلاف فيه .
ولا شك ان اهل اللغة يطلقون اسم الاب على العم تارة ، وعلى الخال اخرى ، لقوله تعالى : « ورفع ابويه » (1) وكان يعقوب وخالته ، ماتت امه فتزوجها .
وعلى جد الام ، لانه اب احد الابوين ، ومنه قولهم يا بن رسول الله للحسنين وسائر الائمة ـ عليهم السلام .
واما صرنا الى ذلك لاجماعنا على ان آباء نبينا الى آدم كلهم مسلمون موحدون لقوله ـ صلى الله عليه وآله : لم يزل ينقلني الله من اصلاب الطاهرين الى ارحام المطهرات حتى اخرجني في عالمكم هذا . والكافر غير موصوف بالطهارة ، لقوله تعالى : « انما المشركون نجس » (2) .
والاقوى ان يستدل عليه بقوله « ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب » (3) فانه صريح في ان ابويه لم يكونا كافرين ، لانه انما يسأل المغفرة لهما يوم القيامة ، فلو كانا كافرين لما سأل ذلك ، لقوله « فلما تبين له انه عدو الله
____________
(1) يوسف : 100 .
(2) التوبة : 28 .
(3) ابراهيم : 41 .

( 102 )

تبرأ منه » (1) .
ومن قال : أنه دعا لابيه ، لانه كان وعده ان يسلم ، فلما مات على الكفر تبرأ منه .
فقوله فاسد ؛ لان دعاءه هذا كان بعد الكبر ، وبعد ان وهب له اسماعيل واسحاق ، وقد تبين له وقتئذ عداوة ابيه الكافر ، لقوله « فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له اسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً» (2) فلا يجوز ان يقصده بدعائه هذا .
وذهب ابو الصلاح الى ان آباء الانبياء كلهم يجب ان يكونوا على التوحيد والاسلام ، ولم يفرق بين نبينا وغيره في وجوب تنزيه آبائه على الشرك بالله .
ويؤيده قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ في حديث جابر بن عبد الله : ان الانبياء والاوصياء مخلوقون من نور عظمة الله جل ثناؤه ، ويودع الله انوارهم اصلابا طيبة وارحاما طاهرة ، يحفظها بملائكته ، ويربيها بحكمته ، ويغذوها بعلمه الحديث .
وهو كما يدل على اسلام آباء الانبياء وتوحيدهم ، كذلك يدل على اسلام آباء الاوصياء وتوحيدهم .
وظاهر كلام شيخنا البهائي قدس سره في مفتاح الفلاح (3) انه يذهب مذهب ابي الصلاح ، ولكن قوله « عندنا » يدل على ان ذلك ايضا اجماعي ، وليس كذلك .
____________
(1) التوبة : 114 .
(2) مريم : 49 .
(3) مفتاح الفلاح : 31 .

( 103 )

* الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون . [ الآية : 82 ]
« الذين آمنوا » اي : صدقوا بحقائق الاشياء بعد تصوراتها على ما هي عليه في نفس الامر : اما البراهين والدلالات ، او بالرياضات والمجاهدات .
« ولم يلبسوا ايمانهم » وتصديقاتهم الحقة واعتقاداتهم اليقينية .
« بظلم » بما هو خلاف الواقع من الجهل المركب ؛ اذ الظلم انتقاص الحق ووضع الشيء على خلاف ما هو عليه . او لم يشوبوا تلك التصديقات بالظنون والاوهام والشكوك والشبهات المنافية لما عليه الامر في نفسه .
« أولئك » الموصوفون بتلك الصفات الفاضلة .
« لهم الامن » عن العقاب ، وهم المختصون بالامان عن كل ما يبعدهم او يشوشهم .
« وهم مهتدون » بعد تخلصهم عن العلائق الجسدانية ، والتنزه عن الهيئآت البدنية الى عالم القدس ، فيقعدون بعد مفارقتهم الابدان العنصرية في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً .
* يا آيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . [ الآية : 90 ]


( 104 )

قال جماعة : رجس خبر لمضاف محذوف ، وهو تعاطي هذه الاشياء . اذ الذي تستخبثه العقول وتعافه (1) ، تعاطيها على الوجوه المقتضية للمفاسد الظاهرة المشهورة والمتعلقة بها .
كشرب الخمر وما يتعلق بها من حفظها وبيعها وشرائها للشرب ، ولعب الميسر وما يتعلق به ، وعبادة الانصاب وتعظيمها وما يتعلق به ، والاستقسام بالازلام وما يتعلق به ، فلا تصح ارادة النجس منه .
وان جعل « رجس » خبراً للخمر ، وهو مرجوح ، وقدر خبر المذكورات ، فلا يصح حمله على النجس ايضا ؛ لاقتضائه كون المعنى في بعض الاخبار مختلفا ، مع ان الظاهر في امثاله الاتفاق . وكون المذكور قرينة على المحذوف ، وحمل الرجس على النجس وغيره على سبيل عموم المجاز او الاشتراك ، وارادة كل منهما بالنسبة الى البعض مع عدم القرينة ، في غاية البعد .
وكذا جعله خبراً للخمر ، وجعل خبر البواقي من عمل الشيطان بعيد .
وكذا حمله على النجس ، وجعله خبراً للكل وارتكاب التجوز في الاسناد بالنسبة الى بعض ؛ لان مقتضى اللفظ ان يكون المعنى والاسناد بالنسبة الى الجميع واحداً .
فاذن : اما ان يراد بالرجس المأثم ، او العمل المستقذر ، الذي تعاف منه العقول ، كما يوجد في كلام جماعة من المفسرين .
وبالجملة حمله على معناه الحقيقي ، وارتكاب بعض تلك الوجوه البعيدة ، مرجوح بالنسبة الى حمله على ما ذكرنا من المعاني مجازاً ، سلمنا التساوي ، لكن لابد للترجيح من دليل .
قال الفاضل الاردبيلي رحمه الله في ايات احكامه : لا دلالة في هذه الآية على نجاسة الخمر ، ولهذا قال الصدوق : ان الله عز وجل حرم شربها ، لا الصلاة
____________
(1) عاف الرجل الطعام او الشراب يعافه عيافاً ، اي : كرهه فلم يشربه ـ الصحاح .
( 105 )

في ثوب اصابته ، فتأمل .
والاخبار مختلفة في ذلك ، والاصل يؤيده . نعم ان ثبت كون الرجس بمعنى النجس الشرعي فقط ، لدلت عليه ، لكنه لم يثبت ، ثم نقل اقوال اللغويين .
الى ان قال : فالاجماع الذي نقله في التهذيب على كون الرجس بمعنى النجس غير معلوم ، وكتب في الحاشية : فيه تأمل .
لان مقصود الشيخ ان اجماع الفقهاء والمفسرين على ان الرجس في الآية بمعنى النجس ، فمخالفة اصل اللغة لا يضر باجماعه ، فهذا التفريع ليس بجيد ، فافهم .
ثم قال الاردبيلي رحمه الله : وبالجملة لا دلالة في الآية على نجاسة الخمر ، وهو ظاهر ، بل لا دلالة في الاخبار ايضا لاختلافها ، والجمع بحمل ما دل على وجوب الغسل على الاستحباب اولى من حمل ما يدل على عدمه على التقية (1) .
اقول : وذلك لان الحمل على التقية في قوة الاطراح ، فلا ينبغي المصير اليه الا عند الضرورة . وحمل الاوامر والنواهي في اخبارنا على الاستحباب والكراهة شايع .
فالجمع بين الاخبار بهذا الوجه اوجه ، كما ذكره رحمه الله ، مع اعتضاد اخبار الطهارة بالاصل ، وكثرة الصحيح منها ، ووضوح دلالتها ، وبعد التأويل ، وبالعمومات الدالة ، على طهورية الماء على العموم ، ومن جملتها الملاقي للخمر ، بل بظاهر القرآن ايضا .
فانه اذا وجد ماءً ملاقياً للخمر ، يلزم بمقتضى القول بالتنجيس الاجتناب عنه ، ومقتضى الايات الوضوء والغسل به وعدم العدول الى التيمم .
أقول : ومرجع ضمير « فاجتنبوه » فيه وجوه :
____________
(1) زبدة البيان : 42 .
( 106 )

منها : ان يكون راجعا الى المحذوف ، وهو التعاطي ، اختاره الكشاف (1) .
وان يكون عائداً الى عمل الشيطان ، ذكره الطبرسي (2) .
وان يكون راجعاً الى الرجس ، واحتمله الطبرسي (3) .
وان يكون عائداً الى المذكورات بتأويل ما ذكر .
وفهم الاجتناب المنهي عنه على وجه يمكن جعله دليلاً للنجاسة ، انما يتم على بعض تلك الوجوه ، ولا ترجيح له على غيره ، فلا يتم الاستدلال .
على ان الظاهر ان المراد الاجتناب في الجميع على نسق واحد ، مع ان الظاهر من الاجتناب في الخمر الشرب وما اشبهه ، كتحريم الامهات .
* فالق الاصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم . [ الآية : 96 ]
الاصباح مصدر سمي به الصبح .
قيل : المراد فالق ظلمة الاصباح ، وهو الغبش في اخر الليل ، وكأن الافق كان بحراً مملواً من الظلمة ، ثم انه تعالى شق ذلك البحر المظلم ، بأن اجرى فيه جدولاً من النور . فالمعنى : فالق ظلمة الاصباح بنور الاصباح . وحسن الحذف للعلم به .
او المراد فالق الصباح بضياء النهار واسفاره ، ومنه قولهم انشق عمود الفجر وانصدع .
او المراد مظهر الاصباح بواسطة فلق الظلمة ، فذكر السبب واراد المسبب .
____________
(1) الكشاف : 1 / 642 .
(2 ـ 3) مجمع البيان : 2 / 239 .

( 107 )

او الفالق بمعنى الخالق ، وعن ابن عباس والضحاك : الفلق بالسكون بمعنى الخلق . واما الفلق بالتحريك ، فهو ضوء الصبح ، لانه بمعنى مفعول .
* قل انني هداني ربي الى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . [ الآية : 161 ]
قال راغب الاصفهاني في مفرداته : الملة كالدين ، وهما اسمان (1) لما شرع الله لعباده على لسان الانبياء ، ليتوصلوا بها الى جوار الله .
والفرق بينها وبين الدين ، ان الملة لا تضاف الا الى النبي الذي تستند اليه ، نحو « اتبع ملة ابراهيم » (2) .
ولا تكاد توجد مضافة الى الله ، ولا الى آحاد امة النبي ، ولا تستعمل الا في جملة الشرائع دون آحادها ، فلا يقال للصلاة : ملة الله ، كما يقال : دين الله ، واصل الملة ، من امللت الكتاب (3) انتهى .
ويرد عليه ما في الصحيفة السجادية الملقبة بزبور آل محمد ـ صلى الله عليه وآله : اللهم وثبت على طاعتك نيتي ـ الى قوله ـ عليه السلام : وتوفني على ملتك وملة نبيك محمد اذا توفيتني .
حيث اضاف الملة الى الله تعالى . الا ان يقال : المراد انها لا تضاف الى خصوص لفظة الجلالة ، وهو عن السياق بعيد .
____________
(1) في المصدر : وهو اسم .
(2) النحل : 123 .
(3) مفردات الراغب : 471 ـ 472 .

( 108 )

وفي نهاية ابن الاثير : الملة الدين ، كملة الاسلام واليهودية والنصرانية . وقيل : هي معظم الدين ، وجملة ما يجيء به الرسل (1) .
أقول : فظهر ان ما ورد في كلامهم من قولهم ـ عليهم السلام ـ « على ملة ابراهيم ودين محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ » مجرد تفنن في العبارة ، اريد بهما معنى واحد من غير ملاحظة امر آخر .
أو يقال : ان الذين لما كان اعم واشرف باضافته احيانا الى الله والى آحاد امة النبي ايضا ، وكان محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ اشرف المخلوقات واتم الموجودات ، وكان مبعوثا على كافة اهل الارض ، وكانت ملته البيضاء اشرف الملل واعمها واتمها .
كان المناسب ان يضاف الدين اليه تشريفا لمنزلته ، واجلالا لمرتبته ، والملة الى ابراهيم قضاءاً لحق العبارة ، وجرياً في مقام الفصاحة والبلاغة .
او يقال : الغرض هنا هو الاشعار بأن ما يجب على هذه الامة بالاضافة الى ما جاء به خليل الرحمن هو التصديق بجملة ما جاء به اجمالا ، من غير حاجة الى التصديق بآحاد شرائعه تفصيلاً .
بخلافه بالنسبة الى ما جاء به حبيب الرحمن ، فانه يجب على امته ان يصدقوه تفصيلا فيما علم تفصيلا واجمالا فيما علم اجمالا مع الاقرار باللسان ، وهذا هو الايمان عند اكثر الامامية ، هذا ما خطر بالبال ، والله اعلم بحقيقة الحال .
____________
(1) نهاية ابن الاثير : 4 / 360 .
( 109 )

( سورة الاعراف )

* واذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون . [ الآية : 204 ]
ظاهر الآية الشريفة وان كان وجوب الاستماع والانصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغيرها ، اماماً كان او مأموماً ، الا انهم نقلوا عدم وجوبهما بالاجماع ، الا في الصلاة للمأموم حال قراءة الامام ، فيجب عليه ترك القراءة في الجهرية وما يسمع ولو همهمة ، واليه ذهب ابن حمزة .
على ما نقله عن الشهيد في الذكرى ، قال : واوجب الانصات لقراءة الامام على ظاهر الآية ، ثم قال : وحمله الاكثر على الندب (1) .
اقول : ولعله خصها بذلك مع عمومها ، لصحيحة زرارة عن الباقر ـ عليه السلام ـ قال : وان كنت خلف امام فلا تقرأن شيئا في الاولتين وانصت لقراءته ، ولا تقرأن شيئا في الاخيرتين ، فان الله عز وجل يقول للمؤمنين « واذا قرىء القرآن » يعني في الفريضة خلف الامام « فاستمعوا له وانصتوا » فالاخيريان تبعتا للاولتين (2) .
ولعله ـ عليه السلام ـ اشار بذلك الى سبب النزول ، او الى ان « اذا » الشرطية ليست للعموم ، فانها من سور المهملة .
ودعواهم ان المستعملة في الايات الاحكامية ، نحو « اذا قمتم الى
____________
(1) الذكرى : 277 .
(2) من لا يحضره الفقيه : 1 / 392 .

( 110 )

الصلاة » (1) « فاذا قرأت القرآن فاستعذ » (2) « واذا حييتم بتحية » (3) تفيد العموم عرفا وتكون بمعنى « متى » و « كلما » ممنوعة ، وعموم الاوقات في الايات على تقدير التسليم ، ليس لدلالتها عليه ، بل للاجماع والاخبار .
وفي الكشاف : انهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، فأمروا باستماع قراءة الامام (4) .
فاللام للعهد ، والمعهود القرآن الذي يقرأه الامام حال الصلاة ، واطلاقه على الكل والجزء شايع ، وسيأتي في حديث ابن الكواء .
وحينئذ فيمكن حمل الامر على الوجوب فقط ، كما هو اصله ، وذهب اليه ابن حمزة ، وعلى الندب كما هو رأي الاكثر ، وعلى الرجحان المطلق الشامل لهما .
وبما قررناه يندفع ما اورده الفاضل الاردبيلي رحمه الله على ابن حمزة بقوله : انه بعيد من جهة اطلاق عام كثير الافراد وارادة فرد خاص قليل (5) .
ولعل مراده ان دلالة الآية عليه بانفرادها من دون انضمام الاخبار ، وسبب النزول بعيد ، وهو كذلك ، الا ان ما قلناه غير بعيد عن سنن التوجيه ، فافهم .
وانما اوجب الانصات واريد به القراءة لاستلزامه له ، كما سنشير اليه ، فلا بعد فيه من هذه الجهة ايضا ، كما ظنه قدس سره ، ولا سيما اذا كانت على طبقه رواية صحيحة مفسرة له بذلك .
ثم قال طاب مثواه : ويمكن حمل الآية على عموم رجحان الاستماع
____________
(1) المائدة : 6 .
(2) النحل : 98 .
(3) النساء : 86 .
(4) الكشاف : 2 / 139 .
(5) زبدة البيان : 130 .

( 111 )

والانصات ، ويكون التفصيل بالوجوب في بعض اوقات الصلاة ، وبالاستحباب في الباقي معلوما من غيرها . او يحمل على استحبابهما ، للاجماع على عدم وجوبهما الا ما اخرجه الدليل ، وهو الاخبار الدالة على وجوب ترك قراءة المأموم في موضعه (1) .
أقول : وأما ما رواه الشيخ في التهذيب ، عن معاوية بن وهب ، عن الصادق ـ عليه السلام ـ انه قال : ان علياً ـ عليه السلام ـ كان في صلاة الفجر ، فقرأ ابن الكواء وهو خلفه « ولقد اوحى اليك والى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين » (2) .
فانصت علي ـ عليه السلام ـ تعظيماً للقرآن حتى فرغ من الآية ، ثم عاد في قراءته ، ثم اعاد ابن الكواء الآية ، فأنصت علي ـ عليه السلام ـ ايضا ، ثم قرأ فأعاد ابن الكواء .
فأنصت علي ـ عليه السلام ـ ثم قال « فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون »(3) ثم أتم السورة ثم ركع .(4)
فمحمول على الاستحباب ، توفيقاً بينه وبين صحيحه زرارة ، ويشعر به ايضا قوله ـ عليه السلام ـ « تعظيماً للقرآن » مع ما مر من الاجماع على عدم وجوب الانصات في هذه الصورة .
ثم من الظاهر ان استحباب الاستماع ان يكون فيما اذا لم يستلزم السكوت الطويل المخرج عن كونه قارئا ، والا فلا استحباب بل يحرم ، لوجوب الموالاة في القراءة المأمور بها . وذهب الشيخ الى القول بعدم المنافاة بيني الانصات للقراءة
____________
(1) زبدة البيان : 130 .
(2) الزمر : 65 .
(3) الروم : 60 .
(4) تهذيب الاحكام : 3 / 36 ح 39 .

( 112 )

والقراءة .
قال : ولا يمتنع ان يجب على من يصلي خلف من لا يقتدى به ان ينصت للقراءة ، ومع هذا تلزمه القراءة لنفسه (1) .
وغرضه انه يمكن القراءة مع الاستماع والانصات ، كما ذهب اليه الاردبيلي ايضا . وفيه تأمل .
أما أولاً ، فلما في الصحاح : انصت له وانصته اي سكت واستمع كلامه (2) .
وفي نهاية ابن الاثير : انصت انصاتاً اذا سكت سكوت مستمع (3) .
وأما ثانياً ، فلان انصاته ـ عليه السلام ـ الى فراغ ابن الكواء من الآية ، ثم عوده الى القراءة ، وهكذا الى تمام المرات الثلاث ، صريح في ان المراد به ترك القراءة والتوجه الى سماعه والتدبر فيه ، فتدبر فيه .
وأما ثالثاً ، فلان حمل الآية على التأسيس خير من حملها على التأكيد ، كما يلزم مما ذكراه ، فتأمل .
____________
(1) تهذيب الاحكام : 3 / 35 .
(2) صحاح اللغة : 1 / 268 .
(3) نهاية ابن الاثير : 5 / 62 .

( 113 )

( سورة التوبة )

* يا ايها الذين آمنوا انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ... [ الآية : 28 ]
قال الفاضل الاردبيلي بعد تفسير كريمة « انما المشركون نجس » : ويستفاد من الآية احكام منها : كون الكفار مكلفين بالفروع . ومنها : عدم تمكين المسلمين لهم ، بمعنى منعهم عن دخوله ، بل قيل : هو المراد من النهي الى آخر ما افاده هناك (1) .
أقول : انهم اختلفوا في ان الكفار هل هم مكلفون بالفروع مع انتفاء شرطها وهو الايمان حتى يعذبوا بها كما يعذبون بالايمان ام لا ؟ فالاكثر على الاول .
قالوا : لا شرط في التكليف بفعل حصول شرطه الشرعي ، بل يجوز التكليف به وان لم يحصل شرطه شرعا ، خلافا لجمهور الحنفية ، وابي حامد الاسفرائني من فقهاء الشافعية ، وتبعهم على ذلك بعض متأخرينا كالقاساني في تفسيره الصافي (2) .
قالوا : لو كلف الكافر بها لصحت منه ، اذ الصحة موافقة الامر ، واللازم منتف .
واجيب بأنه غير محل النزاع ؛ اذ لا نريد انه مأمور بفعلها حالة كفره .
نعم يصح منه بأن يؤمن ويفعل ، كالجنب والمحدث حالة الجنابة امرا به بعد التطهير .
____________
(1) زبدة البيان : 39 ـ 40 .
(2) تفسير الصافي : 4 / 353 .

( 114 )

قالوا : لو وقع التكليف بالفروع لوجب القضاء ولا يجب .
واجيب بمنع الملازمة ؛ اذ القضاء انما يجب بأمر جديد ، وليس بينه وبين وقوع التكليف ولا صحته ربط عقلي ، فلا يستلزم احدهما .
ثم من الدليل على انهم مكلفون قوله سبحانه « ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين » صرح بتعذيبهم بتركهم الصلاة ، ولا يحمل على المسلمين ، اذ « ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين » (1) ينفيه .
وقوله تعالى : « فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى » (2) ذمه على ترك الجميع ومنه الصلاة ، فيكون مذموماً بتركها .
وقوله عز وجل « لا يدعون مع الله الهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة »(3) حيث جعل العذاب المضاعف جزاءً لهم على الافعال المذكورة ، ومنها قتل النفس والزنا .
وقوله « يا أيها الناس اعبدوا ربكم » (4) « وان اعبدوني هذا صراط مستقيم » (5) ونحوهما من الاوامر العامة بالعبادات ، فان الكفار مندرجون تحتها ، فوجب عليهم هذه العبادات وجوبها على غيرهم .
وتخصيص العبادة المأمور بها فيهما بالايمان لصدقها عليه ، مع انه خلاف الاصل والظاهر مما لا مخصص له سوى الاحتمال ، وهو لا يصلح للتخصيص .
____________
(1) المدثر : 42 ـ 45 .
(2) الحاقة : 31 ـ 32 .
(3) الفرقان : 68 ـ 69 .
(4) البقرة : 21 .
(5) يس : 61 .

( 115 )

واذ قد تقرر هذا فنقول : يمكن استفادة الحكم الاول ، وهو كون الكفار مكلفين بالفروع من توجه صريح النهي في « لا يقربوا » اليهم ، فنهوا ان يقربوه ، وهو تكليف لهم .
الا انهم لما لم يكونوا قابلين للخطاب لبعدهم عن ساحة عز الحضور ، خص المؤمنين به تنبيها على ذلك ، فالمؤمنون يبلغون ذلك النهي اليهم ، ويقولون : انتم انجاس ، والانجاس لا يجوز دخولهم المسجد ، والتكليف لا يستلزم كون المكلف مخاطبا به خطاب مشافهة ، بل يجوز ان يخاطب اخر بتبليغه الى المكلف ، كما في كثير من التكاليف الشرعية ، ويدل عليه قول علي ـ عليه السلام ـ حين نادى ببراءة الا يحج بعد عامنا هذا مشرك .
وأما استفادة الحكم الثاني ، وهو عدم تمكين المؤمنين لهم من النهي ، فمبني على جعله من باب الكناية ، كما في « يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان » (1) نهاه عنه ، والمراد نهيهم عن اتباعه والافتتان به ، لانهم لو اتبعوه لامتحنهم ، والكناية لا تنافي الحقيقة ، فيجوز ارادة المعنى وهو نهي المشركين ان يقربوه ، مع ارادة لازمه ، وهو نهي المسلمين عن تمكينهم منه ؛ لانه لو مكنوهم لدخلوه ، كما كانوا يدخلونه .
والفرق ان ارادة اللازم اصل ، وارادة المعنى تبع ، كما أومأنا اليه ، وذلك غير ارادة مجموع المعنيين ، بل ارادة كل واحد منهما معاً ، كما بين في الاصول .
لا يقال : ان اللفظ اذا دل بأقوى الدلالتين لا يدل بأضعفهما ؛ لان القوة والضعف متنافيان .
لانا نقول : لا نسلم ذلك ، وانما يكون كذلك لو كانت الدلالة الضعيفة والقوية من جهة واحدة ، وهما فيما نحن فيه ممنوع ، ضرورة انهما من جهتين مختلفتين : احداهما بالمطابقة ، والاخرى بالالتزام .
____________
(1) الاعراف : 27 .
( 116 )

فظهرت ثمرة الخطاب وفائدته من غير ان يكون فيه تعسف ولا جمع بين الحقيقة والمجاز ، وكذلك ليس فيه ما يجري مجرى التكليف بالمحال ، لانهم يتمكنون من امتثاله حال الكفر ، لتحقق شرط الامتثال ، وهو فهم المكلف التكليف ، وهو الذي جعلوه شرطا لصحته ، كما فصلناه في بعض رسائلنا ، وليس بشرط في التكليف بفعل حصول شرطه الشرعي ، وهو هنا الايمان ، بل يجوز التكليف به وان لم يحصل شرطه .
وبما قررناه لا يتوجه اليه ما اورده عليه محمد بن عبد الفتاح التنكابني المشهور بالسراب بقوله : النهي في « لا يقربوه » اما متعلق بالمسلمين بمعنى منع المسلمين المشركين عن الدخول ، واما متعلق بالمشركين .
فعلى الاول كون الكفار مكلفين بالفروع ليس من احكام الآية ، وعلى الثاني ليس عدم تمكين المسلمين لهم من احكامها ، فعدهما من الاحكام لا وجه له .
ثم قال : فان قيل : منع المسلمين اياهم عن الدخول انما هو بمقتضى النهي عن المنكر ، فليس عدم التمكين حينئذ من الاحكام المستفادة من الآية ، والقول بأن مراده من جعل كل واحد من الامرين من احكام الآية انما هو على تقدير خارج عن اسلوب الكلام انتهى .
وذلك لانا نختار ان النهي متعلق بهما معا ، ولكن تعلقه بالمؤمنين اصالة وبالذات وبالمشركين تبعا وبالعرض ، نظيره ما قالوه في طويل النجاد ، انه يجوز ارادة طول النجاد مع ارادة طول القامة .
وفي كلام صاحب المفتاح ما يدل على ان اللفظ المستعمل في الحقيقة والمجاز ، حقيقة باعتبار معناه الحقيقي ، فان الحقيقة قسمان : قسم يراد به معناه الحقيقي ، ولازمه وهو الكناية .
وذهب الحاجبي الى انه مجاز ؛ لان المعنى الحقيقي هو المفهوم بقيد الانفراد ، فاذا استعمل اللفظ في المجموع يبطل معناه الحقيقي ، فيكون اللفظ


( 117 )

مستعملاً في المجموع بوضع ثان ، كما في عموم المجاز .
والحق ان اللفظ موضوع لمفهوم الحقيقة مطلقا ، مع قطع النظر عن الانفراد والاجتماع ، فاذا استعمل في معناه الحقيقي والمجازي لم يبطل معناه الحقيقي ، لكن يكون مجازا في ارادة كل منهما ، لتجاوزه عن معناه الحقيقي ، وقد بين ذلك في الاصول .
وكذلك لا يرد على البيضاوي ما اورده عليه ملا ميرزا محمد بن الحسن الشيرواني بقوله : من الاوهام الفاضحة والاغلاط الواضحة ما ذكره في تفسير هذه الآية .
حيث قال : وفيه دليل على ان الكفار مخاطبون بالفروع ، ولا يخفى ان سياقها ظاهر في انها تكليف للمؤمنين بمنعهم من المسجد ، وما بعدها وهو « وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله » ايضا دليل عليه .
ثم قال : وانت خبير بأنه لو كان المراد نهي الكفار وخطابهم وتكليفهم مع قطع النظر عن المؤمنين ، ولم يكن له تعلق بالمؤمنين ، لم يكن للخطاب بالمؤمنين حاصل وثمرة ، الا ان يكون المراد خطابهم اياهم وتبليغهم لهم .
وفيه تعسف ، وحمل الآية على تكليف المؤمنين بالمنع ، وعلى تكليف المشركين بعدم القرب معاً ، قريب من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، على ان تكليف الكفار بما يشترط فيه الكفار ويتوقف عليه ، يجري مجرى تكليف المحال ؛ لانهم لا يتمكنون من امتثاله حالة الكفر ولا حالة الايمان لو وقع بدل الكفر ، بخلاف سائر الفروع ، فان الكافر لو بدل الكفر بالايمان وقت الزوال لتمكن من ايقاع الصلاة الصحيحة الشرعية ، الى هنا كلامه .
وانت خبير بأن علاوته هذه مع انها واهية في نفسها لما عرفته ، منقوضة بكون الجنب مثلا منهيا عن دخوله المسجد .
لانا نقول : تكليفه بما يشترط فيه الجنابة ويتوقف عليها ، يجري مجرى تكليف المحال ؛ لانه لا يتمكن من امتثاله حالة الجنابة ولا حالة الطهارة لو وقعت


( 118 )

بدل الجنابة ، فما هو جوابه عن هذا فهو جوابنا عن ذاك .
وحله : كما سبق ان الامتثال لا يتوقف على الايمان ولا يمنعه الكفر ، والا يلزم منه الدور فيما اذا كان المأمور به هو الايمان ، وانما هو موقوف على قدرة المكلف وتمكنه وفهمه التكليف .
ولا شك ان الكافر حالة كفره متمكن من الامتثال بهذا المعنى ؛ اذ هو قادر عليه ، فيصح منه كف النفس عن الدخول ، فيكون ممتثلاً وعاملاً بمقتضى النهي وعدمه ، فيكون عاصياً وتاركاً لمقتضاه .
نعم لا يترتب عليه اثر الصحة بمجرد موافقة الامر ، بل لا بد وان يكون مسبوقا بالايمان ، وهو امر آخر لا ينفعه رحمه الله .
نعم يرد على البيضاوي ان الآية ليست دليلاً على كونهم مخاطبين بالفروع ، بل غاية الامر استفادته منها ، كما اومأ اليه الفاضل الاردبيلي ، وذلك لانهم انما يطلقون الدليل على ما هو نص او ظاهر ، لا على ما هو متساوي الاحتمالين ، او خلاف الظاهر .
ولعله اراد بالدليل هنا غير ما يفهم من هذا اللفظ بحسب العرف ، بل ما يندرج فيه الاحتمال ، وان لم يكن معروفا فيهم ؛ لانه يبعد عن مثله الغفلة عن عدم كونها دليلا عليه بالمعنى المتعارف .
كيف لا ؟ وهو قد رأى ان صاحب الكشاف نقل عن عطا انه قال : نهى المشركين ان يقربوه راجع الى نهي المسلمين عن تمكينهم منه ، واقتصر عليه ولم يذكر احتمالا اخر كما اومأ اليه الاردبيلي بقوله : بل قيل : هو المراد من النهي .
ثم الظاهر ان صاحب الكشاف انما اقتصر على مجرد نقل قول عطا ، ولم يحتمل في الآية ما احتمله البيضاوي وغيره ، لانه حنفي الفروع ، وابو حنيفة زعم ان الكفار غير مكلفين بالفروع كما سبق في اول المسألة ، وقد نقله عنه ايضا شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله في شرحه على اللمعة .
وأما البيضاوي ، فلما كان شافعي الفروع ، والشافعي يقول بكونهم مكلفين


( 119 )

بها ، كما هو مذهب الاكثر ، حمل الآية ردا على الكشاف ، وزعماً منه انه الظاهر منها ، حتى انه جعلها دليلاً عليه .
والظاهر ان ذلك انما صدر منه لحرصه على المذهب وتعصبه على تصحيحه كما هو دأبهم ، وقد قيل : ان حبك الشيء يعمي ويصم .
وبالجملة هما على طرفي الافراط والتفريط . وأما الفاضل الاردبيلي رحمه الله ، فلما امعن النظر في الآية ورأى انها تحتملهما معاً ، لانتفاء منع الجمع ، حملها عليه رداً عليهما ، وهو الحق ، كذلك يفعل الرجل البصير .
اقول : وفي دلالة الآية الشريفة على نجاستهم العينية مناقشتان :
الاولى : انها تتوقف على اثبات ان لفظ « النجس » حقيقة شرعية في المعنى المعهود بين الفقهاء ، او ساعد على ذلك عرف يعلم وجوده في زمن الخطاب ، وكلاهما في حيز المنع .
والثانية : ان النجس مصدر ، فلا يصح وصف الجثة به الا مع تقدير كلمة « ذو » ولا دلالة معه ، لجواز ان يكون الوجه في نسبتهم الى النجس عدم انفكاكهم من النجاسات العرضية ، لانهم لا يتطهرون ولا يغسلون ، والمدعى نجاسة ذواتهم .
والجواب : ان المصادر يصح الوصف بها اذا كثرت معانيها في الذات ، كما يقال : زيد عدل ، فالوصف بالمصدر صحيح .
لكن منهم من قدر كلمة « ذو » وجعل الوصف بها مضافة الى المصدر .
ومنهم من جعله وارداً على جهة المبالغة باعتبار تكثير الوصف في الموصوف ، حتى كأنه تجسم منه ، والظاهر كونه ارجح من الاول ، وعليه تعويل المحققين .