( سورة يونس )

* هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون . [ الآية : 5 ]
الضوء والنور مترادفان لغة . وقيل : هو اقوى من النور ، فهو فرط الانارة ، وقد يسمى تلك الكيفية ان كانت من ذات الشيء ضوء ، وان كانت مستفادة من غيرها نوراً .
وقال صاحب الكشف : والتحقيق ان الضوء فرع النور ، يطلق على الشعاع المنبسط ، والنور يطلق على ما للشيء في نفسه ، كالنور القائم بنفس الشمس ، ولهذا يقع على الذوات الجوهرية ، بخلاف الضوء .
وقال الراغب : النور الضوء المنتشر الذي يعين على الابصار ، وهو ضربان : دنيوي ، واخروي ، فالدنيوي ضربان : معقول بعين البصيرة ، وهو ما انتشر من الانوار الالهية ، كنور العقل ، ونور القرآن ، ومنه « قد جاءكم من الله نور » (1) .
ومحسوس بعين البصر ، وهو ما انتشر من الاجسام النيرة ، كالقمرين والنجوم والنيرات ، ومنه « هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً » ومن النور الاخروي قوله تعالى : « يسعى نورهم بين ايديهم » (2) انتهى (3) .
____________
(1) المائدة : 15 .
(2) الحديد : 15 .
(3) مفرادات الراغب : 508 .

( 122 )

والمشهور ان ضياء الشمس ذاتي قائم بذاتها ، غير مستفاد من غيرها ، تستفيد منها سائر الكواكب انوارها المزيلة للظلام .
حتى قال صاحب الهياكل : ان رخش ـ وعنى به الشمس ـ قاهر الغسق ، رئيس السماء ، فاعل النهار ، صاحب العجائب ، عظيم الهيئة ، الذي يعطي جميع الاجرام ضوءها .
والمعروف من الاخبار ان ضوءها مستفاد من نور العرش .
ففي كتاب التوحيد عن ابي ذر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بعد كلام : فيأتيها جبرئيل بحلة ضوء من نور العرش ، على مقادير ساعات النهار في طوله او قصره ، او ما بين ذلك ، فتلبس تلك الحلة ، كما يلبس احدكم ثيابه (1) .
ومخالفته لقواعد الفلاسفة لا يضر ، لما زيفناها في بعض رسائلنا ، وهم في حقيقتها مختلفون :
فقال بعضهم : هي فلك اجوف مملو ناراً ، له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع .
وقال آخرون : هي سحابة .
وقال آخرون : هو جسم زجاجي يقبل نارية في العالم ويرسل عليها شعاعها .
وقال آخرون : هو صفو لطيف ينعقد من ماء البحر .
وقال آخرون : هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار .
وقال آخرون : هو جوهر خامس سوى الجواهر الاربع .
____________
(1) التوحيد : 281 .
( 123 )

( سورة هود )

* وهو الذي خلق السموات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء . [ الآية : 7 ]
في أصول الكافي ، عن محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن داود الرقي ، قال سألت : ابا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن قول الله عز وجل « وكان عرشه على الماء » .
فقال : ما يقولون ؟
قلت : يقولون ان العرش كان على الماء والرب تعالى فوقه .
فقال : كذبوا ، من زعم هذا فقد صير الله محمولاً ، ووصفه بصفة المخلوق ، فلزمه ان الشيء الذي يحمله اقوى منه .
قلت : بين لي جعلت فداك ؟
فقال : ان الله حمل دينه وعلمه الماء قبل ان تكون ارض او سماء او جن او شمس او قمر ، فلما اراد ان يخلق الخلق نشرهم بين يديه ، فقال لهم : من ربكم ؟
فأول من نطق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأمير المؤمنين والائمة ـ عليهم السلام ـ فقالوا : انت ربنا ، فحملهم العلم والدين ، ثم قال للملائكة : هؤلاء حملة ديني وعلمي وامنائي في خلقي وهم المسؤولون الحديث (1) .
قال السيد الداماد : كثيراً ما وقع اسم الماء في التنزيل الكريم وفي
____________
(1) اصول الكافي : 1 / 132 ـ 133 ح 7 .
( 124 )

الاحاديث الشريفة على العلم ، وعلى العقل القدسي الذي هو حامله ، واسم الارض على النفس المجردة التي هي بجوهرها قابلة للعلوم والمعارف .
ومنه قوله عز سلطانه « وترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج » (1) على ما قد قرره غير واحد من ائمة التفسير ، فكذلك قول مولانا ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في هذا الحديث . الماء تعبير عن الجوهر العقل الحامل لنور العلم من الانوار العقلية القدسية (2) .
وتعقبه بعض (3) من تأخر عنه ، بأن هذه التأويلات في الاخبار جرأة على من صدرت منه ، والاولى تسليمها ورد علمها اليهم .
ويحتمل ان يكون المراد بحمل دينه وعلمه على الماء انه تعالى جعله مادة قابلة لان يخلق منه الانبياء والاوصياء ، الذين هم قابلون وحاملون لعلمه ودينه .
او ان علمه لما كان قبل خلق الاشياء غير متعلق بشيء من الموجودات العينية ، بل كان عالما بها وهي معدومة ، فلما اوجد الماء الذي هو مادة سائر الموجودات ، كان متعلقا لعلمه به وبما يوجد منه ، فلعل هذا الكلام اشارة اليه ، مع انه لا يمتنع ان يكون الله افاض على الماء روحا واعطاه علما (4) .
أقول : كل من قال بوجود العقل المجرد ذاتا وفعلا ، قال بقدمه المستلزم لقدم العالم ، والقائل بالقديم سوى الله وان كان اماميا ، كافر باجماع المسلمين .
كما صرح به آية الله العلامة في جواب من سأله عمن يعتقد التوحيد والعدل والنبوة والامامة ، ولكنه يقول بقدم العالم ، ما يكون حكمه في الدنيا والاخرة ؟
____________
(1) الحج : 5 .
(2) التعليقة على اصول الكافي : 319 ـ 320 المطبوع بتحقيقنا .
(3) المراد به صاحب بحار الانوار قدس سره « منه » .
(4) مرآة العقول : 2 / 81 ـ 82 .

( 125 )

متى اعتقد القدم فهو كافر بلا خلاف ، فان الفارق بين المسلم والكافر ذلك ، وحكمه في الاخرة حكم باقي الكفار بالاجماع (1) .
وبمثله قال المعقب قدس سره في الفرائد الطريفة في شرح الصحيفة (2) ، وصرح فيه بأن حدوث العالم من ضروريات الدين .
فقوله هنا بكون هذا التأويل جرأة لا كفراً : اما مراعا منه للسيد ، ولا موضع لها ، اذ الحق أحق ان يتبع . او غفلة منه عما يلزمه .
وهذا من السيد مع قوله بالحدوث الدهري والزمان التقديري واصراره عليه غريب .
واغرب منه قوله بوقوع اسم الماء في القرآن والحديث على العقل المجرد القائم بذاته كثيرا .
ولو كان الامر على ما زعمه ، لكان القول بالقديم بالزمان ، مما لا مدفع له ، فكيف صار كفراً عندهم ؟
وعلى تقدير وقوع اسم الارض في الآية على النفس المجردة والماء على العلم ، لا يلزم منه وقوعه على ذلك العقل القديم ، كيف ؟ وهم ينكرونه ويكفرون القائل به .
مع ان في التفاسير المشهورة المتداولة ، كتفسير الزمخشري والبيضاوي ومجمع البيان وما شاكلها ، ليس منه عين ولا اثر . والعجب ممن يدعي كثرة وقوع شيء لم يقع قط .
وبالجملة وقوع اسم الارض على النفس المجردة والماء على العلم في الآية ، لو سلم له ذلك ، مع انه تفسير بالرأي الممنوع ، لا يستلزم وقوع اسم الماء على العقل المجرد ذاتاً وفعلاً في القرآن والحديث .
____________
(1) اجوبة المسائل المهنائية : 88 ـ 89 .
(2) الفرائد الطريفة : 109 المطبوع بتحقيقنا .

( 126 )

فما استشهد به على اثبات المدعى ، فهو تقدير تمامه لا يشهد له ، وهو لم يذكر آية ولا رواية ولا قولاً يعبأ بقائله يدل على ذلك الوقوع .
ومن الغريب ان يحمل اللفظ على خلاف ظاهره المخالف لا جماعهم واخبارهم من دون شاهد من الكتاب والسنة ، ولا دليل قاطع من العقل .
فان ادلة وجود العقل مدخولة ، فلا يمكن اثباته بها ، وما لا يكون ثابتا بالدليل العقلي اذا كان مخالفا لاجماعهم واخبارهم ، فهو باطل ولا يميل الى تجويز الباطل عاقل .
فقوله ان الماء في هذا الحديث عبارة عن الجوهر العقل القدسي ، مجرد دعوى بلا دليل ، لا يشهد له عقل ولا نقل ، لان لفظ الماء لم يوضع في اللغة ولا في الشرع للعقل الاول ، ولا علاقة بينهما مصححة ، ولا قرينة هنا ليكون الاطلاق مجازيا .
ولم يذهب اليه احد من مفسري المتكلمين في آية ، ولا احد من المحدثين في رواية ، فالتعبير عنه به من دون شياع استعماله فيه ، بل ومع عدم استعماله فيه قطعا ، من قبل التعبير عن آسمان بريسمان من غير قرينة .
فكيف يصح هذا ويسوغ لعاقل ، ولا سيما لمثل السيد الداماد الحكيم المتكلم المتشرع العارف بمحاورات العرب ومواقع استعمالاتهم ، ان يقول به لا على وجه الاحتمال والامكان ، بل على سبيبل القطع ، كأنه اقام عليه قاطع البرهان .
وبمثل هذا التأويل القبيح المستكره ضل وأضله من أضل ، ثم غلطه في التأويل ودعواه ما لا اصل له فيه ، وحمله الكلام على ما لا يحتمله ، كله سهل في جنب اعتقاده هذا لو مات عليه ولم يرجع عنه ، نعوذ بالله منه .
والظاهر ان هذا خطر بباله ، فكتبه ذاهلا عما يلزمه من المفاسد ، او كان ذلك لشدة ميله ومحبته على ما نسجه الفلاسفة وخمنوه ، فكان كما ورد في الخبر : حبك للشيء يعمي ويصم .


( 127 )

ونحن نرجو من الله الكريم ان يكون قد هداه قبل مشاهدته الدار الاخرة ، برجوعه عن هذا الاعتقاد السخيف المخالف للاجماع والاخبار المستلزم للكفر ، اعاذنا الله من موبقات الاسلام ، وما يمنعنا عن الوصول الى دار السلام بمحمد وآله الكرام عليهم السلام .
أقول : وفي كلام المعقب ايضا نظر .
أما أولاً : فلان معنى خلق شيء من شيء جعل ذلك الشيء ، وهو مدخول من مبدأ تكونه ومنشأ وجوده ، كخلق الانسان من الطين او النطفة ، قال الله تعالى « ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين» (1) .
فالانبياء والاوصياء لكونهم من سنخ الانسان ، مخلوقون : اما من طين ، او من ماء مهين وهي النطفة .
فكيف يقال : انهم خلقوا من تلك المادة ، وهي بدون الحياة غير قابلة للعلم والدين ، ومعها لان يخلق منها سادة الانبياء والاوصياء المرضيين .
والظاهر من كلامه ان مراده ان وصف الماء بأنه حامل لدينه وعلمه مجاز ، باعتبار انه سيصير جزءً مادياً لمن هو حامل لدينه وعلمه ، وهذا كما ترى مع انه لا اختصاص له بالماء ، بل سائر العناصر كذلك .
الا ان يقال : ان الماء لما كان اول حادث من اجرام هذا العالم خص بذلك ، وهذا بعيد من كلامه .
ثم ان الحديث انما دل على ان حملة هذا العلم والدين ، هم نبينا واوصياؤه لا قاطبة الانبياء والاوصياء ـ عليهم السلام .
وأما ثانيا ، فلان معنى حمل العمل ، لكونه عرضا من الكيفيات النفسانية القائمة بها هو الاتصاف به ، فكل من اتصف بعلم فهو حامله ، وذلك العلم
____________
(1) المؤمنون : 13 .
( 128 )

محموله . ومن المعلوم ان متعلق العلم وهو المعلوم ، لا يكون متصفا بذلك العلم ، فكيف يقال هو حامله ؟
وأما ثالثاً ، فلانه تعالى قبل خلقه الاشياء انما كان عالماً بها ، بالعلم الاجمالي الحاصل له من علمه بذاته الذي هو عين ذاته من غير حاجة له في ذلك الى امر مغاير لذاته .
ولا شك ان متعلق هذا العلم وهو ذاته بذاته ، كان موجودا عينياً . وأما علمه بالاشياء وهي معدومة بغير هذا الطريق ، فلا يتصور له معنى ، لانه فرع ثبوتها وتمايزها ، ولا تمايز بينها ، فكيف كان عالماً بها وهي معدومة ؟ والعلم بها يقتضي التمايز .
وأما رابعاً ، فلان ظاهر كلامه يفيد ان الماء اول موجود عيني تعلق به علمه تعالى ، ولا كذلك هو .
أما اولاً ، فلما جاء في السفر الاول من التوراة : ان الله خلق جوهراً ، فنظر اليه نظر الهيبة ، فذابت اجزاؤه فصارت ماءاً ، ثم ارتفع منه بخار كالدخان ، فخلق منه السموات ، وظهر على وجه الماء زبد ، فخلق منه الارض ، ثم ارساها بالجبال .(1) وعلى هذا فذلك الجوهر اول موجود عيني تعلق به علمه تعالى .
وأما ثانياً ، فلما ورد في الخبر عن سيد البشر انه قال : اول ما خلق الله نوري . (2) وفي رواية : روحي . وفي اخرى : القلم . فكان ذلك النور او الروح او القلم او موجود عيني تعلق به تعالى ، لا هذا الماء .
وأما خامساً ، فلان الماء لو كان قد افيض عليه الروح واعطي له العلم والدين ، فاما مع كونه محلا وقابلا لذلك الفيض ، او لا معه .
فان كان الاول والمبدأ الفياض لا بخل فيه ولا منع من جانبه ، فلم اخذ منه
____________
(1) الملل والنحل : 2 / 64 .
(2) عوالي اللآلي : 4 / 99 .

( 129 )

الروح وسلب عنه العلم والدين .
وان كان الثاني ، كان ذلك وضعا للشيء في غير محله ، فكان ظلماً ، وهو تعالى غني عن ذلك ، وقد ورد من وضع الحكمة في غير أهلها جهل ، ومن منع اهلها ظلم ، فأعط كل ذي حق حقه .
وقال الفاضل الصالح المازندراني في شرح قوله « وحمل دينه وعلمه الماء » اي : حمل الماء عبادته وطاعته ، او سلطانه ومعرفته وعلمه بحقائق الاشياء ، وخواصها وآثارها وكمياتها ومقاديرها وكلياتها وجزئياتها ، على ما هي عليه في نفس الامر .
ولا يبعد ان يقال : تحميل ذلك على الماء باعتبار ان فيه جزءً مادياً لمحمد وآله الطاهرين .
وقال بعض المحققين : المراد بالماء هنا العقل القدسي الذي هو حامل عرش المعرفة ، هذا كلامه (1) .
وفيه نظر يعرف مما سلف .
ثم انت خبير بأن لا منافاة بين قوله « اول ما خلق الله نوري او روحي او القلم » وبين ما في التوراة ، لان هذا في الجوهر الجسمانية ، وذلك في الجواهر الروحانية .
وانما المنافاة بينه وبين ضعيفة داود الرقي السابقة ، لان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لما كان اول من تشرف بعناية الله وصار مظهر جلاله وجماله ، والمقرر عندهم ان اول خلق الله اشد مناسبة بذاته تعالى ، اذ لا واسطة بينه وبين خالقه ، كان هو حامل دينه وعلمه بلا واسطة .
فكيف يقال : ان الله حمل دينه وعلمه الماء قبل ان يخلق النبي وآله ـ عليهم السلام ـ فلما خلقهم واقروا بربوبيته حملهم العلم والدين .
____________
(1) شرح الكافي للعلامة المازندراني : 4 / 149 .
( 130 )

وبالجملة روحه اول ما تعلقت به القدرة الازلية ، لما سبق ان الله تعالى لما خلقه كان الله ولم يكن معه شيء آخر ، كان هو مجمع صفاته الذاتية ، من العلم والحياة والقدرة والارادة وغيرها ، فكان هو اول موجود عيني تعلق به علمه تعالى لا غير .
وهم لما غفلوا عن هذا اخذوا في تأويل هذا الخبر بمثل هذه التكلفات .
ولو جاز مثل هذه الاحتمالات ، لجاز ان يقال : ان المراد بالماء في هذا الخبر ما نقل عن تاليس المطلى : ان المبدأ الاول ابدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعدومات كلها ، فانبعث من كل صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأول ، فحمل الصور ومنبع الموجودات هو ذات العنصر . وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي الا وفي ذات العنصر صورة ومثال منه فيكون قوله « ان الله حمل علمه الماء » اشارة الى هذا .
هذا وظني ان الاولى : اما رد علمه الى قائله ، كما قال به هذا القائل قدس سره ، وليته كان يكتفي بهذا القدر . او طرحه لضعفه ومنافاته الخبر المشهور المنصور .
ويحتمل قوياً ان يكون من موضوعات عبد الرحمن بن كثير ، فانه ضعيف كان يضع الحديث كما صرحوا به . ومثله في الضعف والكذب سهل بن زياد الادمي الرازي ، فلا اعتماد على ما روياه ، وخاصة اذا خالف المشهور وناقض المنصور .
فان قلت : قد ورد ان اول ما خلق الله العقل (1) .
قلت : اول ما خلقه هو نفس النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وهي من حيث انها تدرك الاشياء كما هي عقل ، ومن حيث انها يهتدى بها نور ، ومن حيث انها باعث حياة الخلق بالمعرفة والعبادة روح ، ومن حيث انها مظهر الحقائق
____________
(1) عوالي اللآلي : 4 / 99 .
( 131 )

والدقائق قلم .
وأما قول بعض الحكماء : ان النفوس حادثة بحدوث الابدان ، فغير مسلم ، كيف وكثير من الروايات ناطقة بخلافه .
منها : صحيحة بكير بن اعين عن الباقر ـ عليه السلام ـ المذكورة في الكافي : خلق الله ارواح شيعتنا قبل ابدانهم بألفي عام (1) .
وفي رواية اخرى : ان الله خلق الارواح قبل الاجساد بألفي عام (2) .
واليه ذهب قوم ، منهم الصدوق رحمه الله حيث قال : انها الخلق الاول ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وآله : اول ما ابدع الله سبحانه هي النفوس المقدسة المطهرة ، فأنطقها بتوحيده ، ثم خلق بعد ذلك سائر خلقه (3) .
وعنه ـ صلى الله عليه وآله : اول ما خلق الله عز وجل ارواحنا ، فأنطقنا بتوحيده وتمجيده ، ثم خلق الملائكة ، فلما شاهدوا ارواحنا نورا واحدا استعظموا امورنا ، فسبحنا لتعلم الملائكة انا خلق مخلوقون وانه منزه عن صفاتنا ، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا الحديث .
وفي رواية اخرى : يا محمد اني خلقتك وعلياً نوراً ـ يعني روحاً بلا بدن ـ قبل ان اخلق سمواتي وارضي وعرشي وبحري ، فلم تزل تهللني وتمجدني (4) .
وفي مسند احمد بن حنبل عن زاذان عن سلمان ، قال : سمعت حبيبي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : كنت انا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى قبل ان يخلق آدم بأربعة عشر الف عام (5) .
____________
(1) اصول الكافي : 1 / 438 ح 9 .
(2) اصول الكافي : 1 / 438 ح 1 .
(3) رواه في رسالته في الاعتقادات : 75 .
(4) اصول الكافي : 1 / 440 ح 3 .
(5) المناقب لابن المغازلي : 89 .

( 132 )

والاخبار في ذلك اكثر من ان تحصى ، وبعضها يدل على ان ارواحهم كانت متعلقة بأبدان مثالية ، ولا استبعاد فيه ، اذ كما يجوز تعلق الارواح بعد خراب الابدان بأبدان مثالية ، جاز تعلقها بها قبل تعلقها بهذه الابدان ، كما دل عليه كثير من الاخبار .
وليس هذا من التناسخ الممنوع في شيء ، كما قررنا في تعليقاتنا على الاربعين للشيخ بهاء الدين رحمه الله .
والقول بأن تلك النفوس في تلك المدة المتطاولة ان كانت كاسبة فأين مكسوباتها ، وان لم تكن بل كانت مهملة معطلة لزم التعطيل ، مع انه لا وجه لتعطلها مع بقائها وبقاء ما تعلقت هي بها من الابدان المثالية .
فيلزم ان يكون لكل انسان منهم علوم وكمالات ، او نقصان وجهالات ، ولا اقل من ان يتذكر شيئا من احوال ذلك البدن ، لان محل العلم والتذكر انما هو جوهر النفس الباقي .
الا يرى ان اهل الاخرة يتذكرون كثيرا من احوال الدنيا ، حتى يقول اهل الجنة لاهل النار « ان قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً » (1) .
مجاب بأن توغلهم في هذا البدن ، شغلهم عن ذلك ومنعهم ، ولذلك كان غير المتوغلين منهم كأئمتنا صلوات الله عليهم متذكرين بأحوال ذلك البدن .
حيث اخبروا بأنهم كانوا يعبدون الله بالتسبيح والتهليل ، وبأن الملائكة لما استعظموا شأنهم سبحوا ، ليعلموا انهم مخلوقون مربوبون ، وان الله منزه عن صفاتهم ، الى غير ذلك من احوال ذلك البدن ، كما هو مذكور في محله .
فان قلت : يؤيد قول الحكماء قوله تعالى : « ثم انشأناه خلقاً آخر » (2) اراد به الروح ، ولفظة « ثم » تفيد التراخي ، فدلت على ان خلقها بعد تكون البدن .
____________
(1) الاعراف : 44 .
(2) المؤمنون : 14 .

( 133 )

قلت : دلالة الآية عليه ظنية ، لجواز ان يراد بقوله « ثم انشأناه » جعل النفس متعلقة بالبدن ، فيلزم منه عدم تقدم تعلقها لا عدم تقدم ذاتها ، والرواية وان كانت ظنية المتن ، الا انها قطعية الدلالة ، وفي القول بها جمع بين الدليلين ، وهو اولى من الغاء احدهما رأساً .
والاظهر ان يقال : ان المراد بالعرش في الآية العالم الجسماني ، كما هو احد معانيه المستفادة من الاخبار ، يعني : كان بناء العالم الجسماني على الماء .
وذلك ان اول ما ابدعه الله تعالى من الاجسام هو الماء ؛ لانه قابل لكل صورة ، ثم حصلت الارض منه بالتكثيف والهواء والنار بالتلطيف ، اذ الماء اذا لطف صار هواءً ، وتكونت النار من صفوة الماء ، والسماء تكونت من دخان النار ، كذا نقل عن تاليس الملطى في رواية اخرى عنه .
ويقال : انه اخذه من التوراة ، لكنه ينافيه ما سبق نقله عن السفر الاول من التوراة ، فتذكر .
قال صاحب الملل والنحل : نقل عنه ان المبدع الاول هو الماء ، ومنه ابدع الجواهر كلها من السماء والارض وما بينهما ، فذكر ان من خموده تكونت الارض ، ومن انحلاله تكون الهواء ، ومن صفوة الهواء تكونت النار ، ومن الدخان والابخرة تكونت السماء ، ومن الاشعال الحاصل من النار الاثير تكونت الكواكب ، فدارت حول المركز دوران المسبب على السبب بالشوق الحاصل اليه .
ثم قال : ان تاليس الملطى انما تلقى مذهبه من المشكاة النبوية (1) .
يعني نقل عن التوراة . وقريب منه ما ورد في طريق اهل البيت ـ عليهم السلام .
وفي روضة الكافي عن ابي جعفر ـ عليه السلام ـ في حديث طويل ، ولكنه تعالى كان اذ لا شيء غيره ، وخلق الشيء الذي جميع الاشياء منه ، وهو
____________
(1) الملل والنحل : 2 / 63 ـ 64 .
( 134 )

الماء الذي خلق الاشياء منه ، فجعل نسب كل شيء الى الماء ، ولم يجعل للماء نسباً يضاف اليه ، وخلق الريح من الماء (1) .
وحمل بعض (2) المتفلسفة العرش في الآية على العالم الجسماني ، والماء على المادة التي لها قبول خير وشر ، كالماء القابل للتشكلات المختلفة .
ثم قال : ولك ان تعمم المادة التي عبر عنها بلسان الشرع بالماء بما يشمل مادة الارواح ، فان التحقيق الاتم يقتضي ان لا تخلو الارواح من مادة ، وهي منشأ امكانها الذاتي القابل للوجود الخاص ، ومبدأ استعدادها الفطري ، لامتثال امر « كن » في علم الله سبحانه .
فان كل ممكن جسما كان او روحا ، فهو زوج تركيبي ، له عدم من نفسه ، ووجود من ربه ، تميز عدمه بذلك الوجود ، وتخصص به ، احدهما بمنزلة المادة والاخر بمنزلة الصورة .
وباعتبار تقدم القابل على المقبول ورد اول ما خلق الله الماء ، ولكون القابل ليس من عداد المخلوق بل هو شرط له ورد اول ما خلق الله العقل .
أقول : قد عرفت ان اولية الاول بالاضافة الى الجواهر الجسمانية ، والثاني بالنسبة الى الجواهر الروحانية ، وهو الاول بالحقيقة ، والمراد به نفس النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لانها من حيث تدرك الاشياء كما هي عقل ، وليس المراد به ما يقوله الفلاسفة ، لانه يباين قواعد الملة .
والمذكور في بعض الروايات ان الله خلق الماء ثم خلق منه الارض ، ثم مكث ما شاء ، ثم خلق من دخان ساطع من الماء السماء .
والتوفيق بين قوله « هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى
____________
(1) روضة الكافي : 8 / 94 .
(2) المراد به صاحب الوافي في بعض رسائله « منه » .

( 135 )

الى السماء فسواهن سبع سموات » (1) وقوله « ءأنتم اشد خلقاً ام السماء بناها * رفع سمكها فسواها * واغطش ليلها واخرج ضحاها * والارض بعد ذلك دحاها » (2) .
يقتضي ان يكون الله خلق الارض اولاً جرماً صغيراً ، ثم خلق السماء طبقة واحدة ، ثم دحا الارض وخلق ما فيها ، ثم جعل السماء سبع طبقات . واصول الفلاسفة تباين ذلك كله على وجه لا يمكن الجمع بينهما بوجه .
فحمل الماء على المادة القديمة ، والقول بأن بناء العالم الجسماني كان على الماء ، اي : المادة قاصدا بذلك تطبيق النقل على العقل ، عديم الفائدة .
هذا وظاهر تفاسير العامة تفيد انهم حملوا العرش على الجسم المحيط بجميع الاجسام ، وهو ايضا احد معانيه المستفادة من الاخبار (3) ، والماء على الجسم المعروف .
قال البيضاوي بعد قوله تعالى : « وكان عرشه على الماء » لم يكن حائلاً بينهما ، لا انه كان موضوعا على متن الماء ، واستدل به على امكان الخلأ ، وان الماء اول حادث بعد العرش من اجرام هذا العالم . ثم قال وقيل : كان الماء على متن الريح (4) .
اقول : وعلى هذا القول لا يلزم امكان الخلأ ، ولكنه يخالفه ما سبق من
____________
(1) البقرة : 29 .
(2) النازعات : 27 ـ 30 .
(3) يظهر من الاخبار ان العرش يطلق على الجسم المحيط بجميع الاجسام وعينه ، مع ما فيه من الاجسام ، وهو العالم الجسماني ، ونحن قد اشرنا اليه آنفاً وسابقاً . وقد يراد به جميع ما سوى الله في الارواح والاجسام . وقد يطلق على علم الله المتعلق بما سواه ، وبناء ضعيفة داود عليه . وقد يراد به علم الله الذي اطلع عليه انبياءه وحججه ـ عليهم السلام ـ « منه » .
(4) انوار التنزيل : 1 / 554 .

( 136 )

حديث الروضة .
ويوافقه ما في تفسير علي بن ابراهيم بسند صحيح في حديث الابرش انه قال لابي عبد الله ـ عليه السلام : اخبرني عن قول الله « او لم ير الذين كفروا ان السموات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما » (1) فما كان رتقهما ؟ وبما كان فتقهما ؟
فقال ابو عبد الله ـ عليه السلام : يا أبرش هو كما وصف نفسه ، وكان عرشه على الماء ، والماء على الهواء ، والهواء لا يحد ، ولم يكن يؤمئذ خلق غيرهما ، والماء يؤمئذ عذب فرات ، فلما اراد الله ان يخلق الارض امر الرياح فضربت الماء حتى صار موجاً ، ثم ازبد فصار زبداً واحداً ، فجمعهم في موضع البيت ، ثم جعله جبلاً من زبد ، ثم دحا الارض من تحته .
فقال الله تبارك وتعالى « ان اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً » (2) ثم مكث الرب تبارك وتعالى ما شاء .
فلما اراد ان يخلق السماء امر الرياح فضربت البحور حتى ازبدت ، فخرج من ذلك الموج والزبد من وسطه دخان ساطع من غير نار ، فخلق منه السماء ، وجعل فيها البروج والنجوم ، ومنازل الشمس والقمر واجراها في الفلك .
وكانت السماء خضراء على لون الماء الاخضر ، وكانت الارض غبراء على لون الماء العذب ، وكانا مرتوقتين ليس لهما ابواب ، ولم تكن للارض ابواب وهي النبت ، ولم تمطر السماء عليها ، فنبت ففتق السماء بالمطر ، وفتق الارض بالنبات ، وذلك قوله « أو لم ير الذين كفروا » الآية .
فقال الابرش : والله ما حدثني بمثل هذا الحديث احد قط ، اعد عليّ ، فأعاده عليه ، وكان الابرش ملحداً فقال : وانا اشهد انك ابن نبي ثلاث مرات (3) .
____________
(1) الانبياء : 30 .
(2) آل عمران : 96 .
(3) تفسير القمي : 2 / 69 ـ 70 .

( 137 )

ولا يذهب عليك ان قوله ـ عليه السلام ـ « ولم يكن يومئذ خلق غيرهما » اي : خلق من هذا العالم الجسماني ، يدل على ان العرش بمعنى الجسم المحيط لم يكن يومئذ مخلوقاً ، والا لكان الهواء محدوداً .
وقوله « والهواء لا يحد » ينفيه ، فالمراد بكونه على الماء ما اشرنا اليه سابقاً ، والله اعلم بالصواب ، والصلاة على رسوله وآله الاطياب .
* الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار . [ الآية : 8 ]
حاصل معنى الآية الشريفة والله يعلم : « الله يعلم ما تحمل كل انثى » من ذكر وانثى ، وتام الخلق وناقصه ، وواحداً واثنين او اكثر .
« وما تغيض الارحام » اي : وما تنقص من تسعة اشهر في الحمل « وما تزداد » عليها ، فنقصان الارحام وضعها لاقل من تسعة اشهر ، وزيادتها وضعها لاكثر منها .
او المراد من النقصان السقط ، ومن الزيادة تمام الخلق ، واقل مدة الحمل ستة اشهر ، فقد يولد الولد لهذه المدة ويعيش .
« وكل شيء » في علمه بقدر معين لا يجاوزه ولا ينتقص عنه .


( 138 )



( 139 )

( سورة الرعد )

* الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب . [ الآية : 28 ]
وذلك لان الذاكر في ذكره اذا توجه الى المذكور ، وهو الله تعالى ، غفل عن غيره ، فيذهل عن اسباب القلق والاضطرار ، ما يدهش الافئدة والالباب ، فعند ذلك يطمئن قلبه ويسكن .
واعلم ان للذكر درجات :
الاولى : ان يكون باللسان مع غفلة القلب .
الثانية : ان يكون بالقلب مع عدم استقراره فيه وعدم توجهه اليه إلا بتكلف واجتهاد .
الثالثة : أن يكون بالقلب مع إستقرار فيه ، بحيث لا يتوجه القلب الى غيره الا بالتكلف .
الرابعة : ان يكون بالقلب مع استقراره فيه واستيلائه عليه ، بحيث لا يشغل عنه اصلاً .
وانما يطمئن القلب بذكر الله اذا وقع على احد الوجوه الثلاثة الاخيرة على اختلاف مراتبها . وأما الاول ، فلا ، وان كان لا يخلو من فائدة ، فانه يمنع من التكلم بالباطل ، ويجعل اللسان معتادا بالخير .
فاللائق بحال الذاكر ان يحضر قلبه وان لم يحضره ، فاللائق به ان لا يتركه ، فان اللسان آلة الذكر كالقلب ، ولا يترك احدهما بترك الاخر ، فان لكل عضو عبادة ، وما لا يدرك كله لا يترك كله .