( سورة ابراهيم )

* وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار . [ الآية : 34 ]
عدم امكان احصاء نعم الله ، وذلك لان كل حادث مسبوق بأسباب غير متناهية ، ولكل دخل في وجوده ، فهو نعمة عليه .
وذلك لما تقرر عندهم ان العلة التامة للحادث لا بد وان تشتمل على امور غير متناهية متعاقبة ، والا يلزم التخلف عن العلة التامة ، فهذه كلها نعم عليه سابقة على الوجود غير متناهية .
ومن البين ان الحادث زمان وجوده متناه ، ولا يمكن احصاء الغير المتناهي في زمان متناه ، ضرورة ان احصاء الغير المتناهي يستدعي زماناً غير متناه .
واليه اشار سيدنا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فيما نقل عنه ان المراد بتلك النعمة نعمة الوجود ، وكذلك ان اريد بها النعم اللاحقة المسبوقة بالوجود لا يمكن احصاؤها ، لان في كل نفس نعميتن يلزمهما نعم اخرى ، ظاهرة وباطنة ، داخلة وخارجة .
بل الظاهر ان كل ما له دخل في نظام العالم ، فهو نعمة على ذلك الشخص ، اذ لولاه لاختل نظامه ، وباختلاله اختل ذلك الشخص ، كما لا يخفى .


( 142 )



( 143 )

( سورة النحل )

* فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . [ الآية : 98 ]
ظاهر هذه الآية الشريفة يفيد وجوب الاستعاذة ، او استحبابها عند قراءة القرآن مطلقاً ، حتى انه لو قطعها في الاثناء بكلمة غير القرآن ، ثم اراد قراءته ، فعليه ان يستعيذ ثم يقرأ ، فيلزم وجوبها او استحبابها في كل ركعة يقرأ فيها .
ولكن الظاهر انه لم يذهب اليه احد من علمائنا ، فكأنهم حملوها على الاستحباب ، وانما اخرجوا منه غير الركعة الاولى من سائر الركعات ، للاجماع والاخبار ، فانها ايضا ظاهرة في الاستحباب في الركعة الاولى فقط .
وقال البيضاوي : والجمهور على انه للاستحباب ، وفيه دليل على ان المصلي يستعيذ في كل ركعة ؛ لان الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره قياساً (1) .
وهذا جيد ، لو كان مراده بالقياس هو القاعدة ، كما يقال : وقد يحذف كذا قياساً ، وحذف حرف الجر من « ان » قياس .
وأما اذا كان مراده به هو القياس الفقهي المحتاج الى الاصل والعلة ، فلا ، لعدم ظهورهما هنا وبطلانه ، فالتكرر والعموم ليس للقياس ، بل للعموم العرفي المفهوم من مثل هذه العبارة عرفاً ، كما في قوله تعالى : « واذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا » (2) الآية.
____________
(1) انوار التنزيل : 1 / .
(2) المائدة : 6 .

( 144 )



( 145 )

( سورة الكهف )

* قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً . [ الآية : 109 ]
قد تطلق الكلمة مجازاً على معاني الالفاظ ، والموجودات العينية ، والعلم بالالفاظ ، كما ورد في حق عيسى ـ عليه السلام ـ « وكلمته القاها الى مريم » (1) وقال الله تعالى « اليه يصعد الكلم الطيب » (2) .
وكما قيل : بسائط الموجودات حروف ، ومركباتها كلمات .
والمراد بالكلمات هنا متعلقات علمه تعالى ، وهي كعلمه تعالى غير متناهية . وماء البحر لكونه جسماً متناهياً ، لما ثبت من تناهي الابعاد ، فلو ضم مثله اليه لكان مجموعهما متناهياً .
لان الحاصل من حكم المتناهي الى المتناهي متناه ، ومعلوم ان المتناهي ينفد قبل نفاد غير المتناهي ، بل لا نفاد له ولا نسبة بينهما ، فالمفهوم هنا غير معتبر ، فتأمل .
____________
(1) النساء : 171 .
(2) فاطر : 10 .

( 146 )



( 147 )

( سورة مريم )

* وان منكم الا واردها كان على ربك حتماً مقضياً . [ الآية : 71 ]
ان قلت : ظاهر كثير من الاخبار المستفيضة ان المؤمن الموالي لا يدخل النار الكبرى ، وهذه الاخبار ينافي بظاهرها قوله تعالى « وان منكم الا واردها كان على ربك حتماً مقضياً » فانه صريح في انه لا يبقى بر ولا فاجر الا يدخلها .
قلت : الورود غير الدخول ، كما تدل عليه صحيحة الحسين بن ابي العلاء عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ في هذه الأية ، حيث قال ـ عليه السلام ـ أما تسمع الرجل يقول : وردنا ماء بني فلان ، فهو الورود ولم يدخله (1) .
ويشيده قوله تعالى : « ولما ورد ماء مدين وجد عليه امة من الناس يسقون » (2) فانه ـ عليه السلام ـ ورد الماء ولم يدخله .
وعن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ سئل عن المعنى ، فقال : ان الله تعالى يجعل النار كالسمن الجامد ويجمع عليها الخلائق ، ثم ينادي المنادي ان خذي اصحابك وذري اصحابي ، فوَ الذي نفسي بيده لهي اعرف بأصحابها من الوالدة بولدها (3) .
قيل : والفائدة في ذلك ما روي في بعض الاخبار ، ان الله تعالى لا يدخل احدا الجنة حتى يطلعه على النار وما فيها من العذاب ، ليعلم تمام فضل الله
____________
(1) تفسير القمي : 2 / 52 .
(2) القصص : 23 .
(3) مجمع البيان : 3 / 526 .

( 148 )

عليه ، وكمال لطفه واحسانه اليه ، فيزداد بذلك فرحاً وسروراً بالجنة ونعميها .
ولا يدخل احداً النار حتى يطلعه على الجنة وما فيها من انواع النعيم والثواب ، ليكون ذلك زيادة عقوبة له وحسرة على ما فاته من الجنة ونعيمها .
وورد في بعض (1) الاخبار ان هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل « ان الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون » (2) وعلى هذا فلا اشكال .
____________
(1) تفسير القمي : 2 / 52 .
(2) الانبياء : 101 .

( 149 )

( سورة طه )

*الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى . [ الايتان : 5 ـ 6 ]
« الرحمن » مبتدأ ، و « على العرش » متعلق بقوله « استوى » وهو خبر مبتدأ ، والجملة خبر مبتدأ محذوف ، اي : هو الرحمن استولى عليه وملكه ولا شريك له .
والعرش جميع ما سوى الله ، او سرير الملك ، جعلوه كناية عن الملك . يقال : فلان على العرش ، يراد انه ملك واستولى ، وان لم يقعد على السرير البتة .
وعن وهب : ان الارضين السبع على عاتق الملك ، والملك قدماه على الصخرة ، وهي ياقوتة من الجنة ، والصخرة على قرني ثور من الفردوس ، والثور على ظهر حوت من الكوثر ، والحوت على البحر ، والبحر على جهنم ، وجهنم على متن الريح ، ومتن الريح على حجاب من ظلمة ، والحجاب على الثرى ، والى الثرى ينتهي علم الخلائق من اهل السموات واهل الارض ، فذلك قوله تعالى « له ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى » .
وقيل : ما تحت الثرى هو التراب الرطب مقدار خمسمائة عام تحت الارض ، ولولا ذلك لاحرقت النار الدنيا وما فيها ، وهي الصخرة التي تحت الارض السابعة ، وهي صخرة خضراء فيها كتب الكفار اسمها سجين .
وقيل : ان الارض على الماء ، والماء على الحوت ، وهو على الصخرة ، وهي


( 150 )

على قرني الثور ، وهو على الثرى ، ولا يعلم ما تحته الا الله تعالى (1).
* وان تجهر بالقول فانه يعلم السر واخفى [ الآية : 7 ]
اي : وان تجهر بذكر الله ودعائه ، فاعلم انه غني عن جهرك ، فانه يعلم السر واخفى . والسر ما لا يرفع به صوته ، واخفى ما يحدث به نفسه ولا يلفظ به .
وقيل : السر ما حدث به غيره خافضا به صوته ، واخفى ما خطر بباله ، او كلم به نفسه .
وقيل : السر ما تفكرت فيه ، واخفى ما لم يخطر ببالك وعلم الله ان نفسك تحدث به بعد زمان .
* فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى [ الآية : 12 ]
روى الصدوق عليه الرحمة في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده عن سعد بن عبد الله القمي انه سأل القائم ـ عليه السلام ـ عن مسائل ، من جملتها انه قال قلت : فأخبرني يا بن رسول الله عن أمر الله تبارك وتعالى لنبيه موسى ـ عليه السلام ـ « فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى » فان فقهاء الفريقين يزعمون انها كانت من اهاب الميتة .
فقال ـ عليه السلام : من قال ذلك فقد افترى على موسى ـ عليه السلام ـ واستجهله في نبوته ، لان الامر فيها ما خلا من خطيئتين : اما ان تكون صلاة موسى ـ عليه السلام ـ فيها جائزة او غير جائزة .
فان كانت صلاته جائزة ، جاز له لبسهما في تلك البقعة ، اذ لم تكن مقدسة
____________
(1) راجع نور الثقلين : 3 / 368 ـ 372 .
( 151 )

مطهرة بأقدس (1) واطهر من الصلاة . وان كانت صلاته غير جائزة فيهما ، فقد اوجب على موسى ـ عليه السلام ـ انه لم يعرف الحلال من الحرام ، وما علم ما تجوز فيه الصلاة وما لم تجز ، وهذا كفر (2) .
أقول : لا يخفى ما في هاتين الملازمتين من النظر ، لان جواز الصلاة فيهما لا نسلم انه يستلزم جواز لبسهما في تلك البقعة المقدسة لمكان الاحترام .
الا يرى انه يجوز لنا ان نصلي في نعالنا هذه ، ولا ندخل بها المشاهد المقدسة المطهرة ، بل نخلعها لنباشر تلك البقاع المتبركة بأقدامنا تبركاً واحتراماً .
ولذلك قيل : انه ـ عليه السلام ـ امر بخلع نعليه ، لان الحفوة تواضع وادب ، ولذلك طاف السلف حافين .
وعلى تقدير تسليم الاستلزام ، فليس كلما يجوز ، يفعل لمكان الاحترام قيل : انه امر بخلع نعليه ، فان بساط الحق لا يوطأ بنعلين .
مع ان عدم جوازها فيهما لا يستلزم عدم جواز لبسهما مطلقا ، اذ ليس كلما لا تجوز الصلاة فيه لا يجوز لبسه ، لجواز لبسه في غيرها ، وفي غير تلك البقعة المباركة ، ولذا امر ـ عليه السلام ـ بخلعهما فيها احتراماً .
فظهر انه لا يلزم من عدم جوازها فيهما عدم معرفته ـ عليه السلام ـ الحلال من الحرام ، فالملازمة ممنوعة ، والسند ما مر .
وبالجملة فللخصم وهو عامة العامة ـ فان ذلك كان مذهبا لهم ـ ان يختار هذا الشق الثاني ويمنع الملازمة ، ويقول : انه ـ عليه السلام ـ كان عارف الحلال من الحرام ، وعالما بأنه لا تجوز الصلاة فيهما ، وكان يخلعهما في حالها ، الا انه كان يلبسهما في غيرها .
فلما وصل الى تلك الوادي وكانت مقدسة امر بخلعهما ليباشر الوادي
____________
(1) في المصدر : وان كانت مقدسة مطهرة ، فليست بأقدس الخ .
(2) كمال الدين : 460 .

( 152 )

بقدميه تبركاً واحتراماً ، والصلاة في اهاب الميتة بعد دبغه وان جازت على مذهب الخصم ، الا ان المانع لا مذهب له .
نعم لا تجوز الصلاة بل الانتفاع مطلقاً باهابها ، وان دبغ على مذهبه ـ عليه السلام ـ ومذهب شيعته ، وهذا كلام آخر لا يكون حجة عليهم ، وهو ـ عليه السلام ـ في صدد الاحتجاج عليهم ، فتأمل .
ثم قال القمي : قلت فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيهما ، قال : ان موسى ـ عليه السلام ـ ناجى ربه بالواد المقدس ، فقال : يا رب اني قد اخلصت لك المحبة مني ، وغسلت قلبي عمن سواك ، وكان شديد المحبة لاهله ، فقال الله تبارك وتعالى : « اخلع نعليك » أي : انزع حب اهلك من قلبك ان كانت محبتك لي خالصة ، وقلبك من الميل الى من سواي مغسولاً (1) انتهى .
وبين شدة محبته لاهله واخلاصها لله وغسله قلبه عما سواه منافرة ، والتعبير عن نزع حب الاهل بخلع النعلين بصيغة التثنية بعيد .
وفي معاني الاخبار : اخلع نعليك اي ارفع خوفيك ، يعني خوفه من ضياع اهله ، وقد خلفها تمخض ، وخوفه من فرعون ، ثم قال : وروي ان نعليه كانتا من جلد حمار ميت (2) .
وقيل : « فاخلع نعليك » اي : فرغ قلبك عن ذكر الدارين .
وقيل : معناه فرغ قلبك من الاهل والمال .
وفي الفقيه سئل الصادق ـ عليه السلام ـ عن قول الله عز وجل لموسى « فاخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى » قال : كانتا من جلد حمار ميت (3) .
____________
(1) كمال الدين : 460 .
(2) علل الشرائع : 66 . روي في كتاب علل الشرائع هذين الحديثين اعني كونهما من جلد حمار ميت وقوله « ارفع خوفيك » مسندين عن الصادق ـ عليه السلام ـ « منه » البحار : 13 / 63 .
(3) من لا يحضره الفقيه : 1 / 248 ، برقم : 750 .

( 153 )

وكان ذلك مذهباً للعامة ، فتكلم عنه بما يوافقهم للتقية .
وفي قوله « غسلت قلبي عمن سواك » دلالة على انه كان فيه سواه ولكنه غسله عنه .
وهذا دون ما نقل عن سيدنا أمير المؤمنين سلام الله عليه انه قال في جواب اعرابي سأله بقوله : بم نلت من المنزلة والزلفى ؟ قعدت على باب قلبي ، فلم ادع ان يدخله سوى الله . صلى الله عليه وعلى من انتسب اليه .


( 154 )



( 155 )

( سورة الانبياء )
* يسبحون الليل والنهار لا يفترون . [ الآية : 20 ]
في الاكمال عن الصادق ـ عليه السلام ـ انه سئل عن الملائكة اينامون ؟ فقال : ما من حي الا وهو ينام خلا الله وحده ، والملائكة ينامون ، فقيل : يقول الله عز وجل « يسبحون الليل والنهار لا يفترون » قال : انفاسهم تسبيح (1) .
كذا في الصافي في تفسير الآية المذكورة (2) .
وهو بظاهره يخالف العقل والنقل .
أما الاول ، فلان جمهور المليين على ان الملك شخص سماوي متكون من جنس العناصر التي منها تكونت السموات العنصرية ، فهو حي ناطق متحرك بالارادة ، مأمور تابع للاوامر الالهية ، والنوم حال يعرض للحيوان عند استرخاء اعصاب الدماغ من رطوبات الابخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الاحساس رأساً .
وعلى هذا فليس للملك نوم ، لانه وان كان كان حياً الا انه ليس بحيوان ، لانتفاء ما هو المأخوذ في تعريفه عنه ، ولعدم الابخرة هناك ، لانها تابعة للغذاء ، وهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، وانما يعيشون بنسيم العرش ، كما في رواية اخرى عن الصادق ـ عليه السلام (3) .
وهو مع ذلك بعمومه المستفاد من الاستثناء ينافيه ما صرح به الحكماء ،
____________
(1) اكمال الدين : 666 ح 8 .
(2) تفسير الصافي : 3/ 334 .
(3) بحار الانوار : 59 / 174 .

( 156 )

من ان النفس الناطقة لا تنام بتة ، لانها في وقت النوم تترك استعمال الحواس الظاهرة ، وتبقى محصورة ليست بمجردة على حدتها ، فتعلم كل ما في العوالم وكل ظاهر وخفي .
ولو كانت هذه النفس تنام لما كان الانسان اذا رأى في النوم شيئا يعلم انه في النوم ، بل لا يفرق بينه وبين ما كان في اليقظة ، الى هنا كلام افينقورس الحكيم .
فان قلت : كلامه مبني على تجردها ، ولم يقم دليل عقلي عليه ، فلعل بناء الحديث على انها جسم سماوي روحاني ، كما قال به اكثر النصارى ، وطائفة من المسلمين ، وعلى هذا فلا دليل على امتناع نومها .
قلت : قوله « ولو كانت هذه النفس تنام ، لما كان الانسان اذا رأى في المنام شيئا يعلم انه في النوم ، بل لا يفرق بينه وبين ما كان في اليقظة » دليل واضح عليه .
فان كل نائم ما دام نائماً مسلوب عنه العلم والادراك : اما لتعطله ، او تعطل الآلة ، فنومها مع علمها اذا رأت في النوم شيئا بأنها في النوم ، لا يجتمعان ضرورة ، مادياً كان النائم ام مجرداً .
وليس كلامنا هنا في تجردها ، بل في عدم نومها ، وهو يثبت بهذا الدليل ، وكيف يصح القول بأن ما خلا الله كائناً ما كان ينام ، مع قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ المجمع على روايته عن العامة والخاصة : عيني تنام وقلبي لا ينام .
فان كان المراد به النفس الناطقة المجردة ، كما هو احد اطلاقيه ، فهو يؤيد قول الحكماء : ان هذه النفس لا تنام .
وان كان المراد به ما هو المفهوم من ظاهر هذا اللفظ في عرف العام ، فهو ما خلا الله جل وعز ، وقد اثبت له عدم النوم .
واعلم ان اطلاق القلب على العقل شايع لغة وعرفاً ، وبذلك فسر في قوله


( 157 )

تعالى : « ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب » (1) .
ومن قال : قلب واع يتفكر في الحقائق ، اراد به ما قلناه ؛ لان التفكر من صفات العقل دون العضو المخصوص المتشكل بشكل مخصوص صنوبري ؛ لان ذلك موجود في الصبيان والمجانين مع عدم تحقق التذكر لهم .
وبالجملة يظهر من هذا الحديث المتفق عليه ان قلبه ـ صلى الله عليه وآله ـ وهو غير الله لا ينام ، ولا شك ان قلبه حي يصح ان ينام ولا ينام ، والا فلا وجه لسلبه عنه واختصاصه به .
اللهم الا ان يقال : المراد ان قلبي لا ينام في الاكثر . وفيه بعد .
وأما الثاني ، فلما مر ، ولما قال سيدنا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في خلقة الملائكة : وملائكة خلقتهم واسكنتهم سمواتك ، فليس فيهم فترة ، ولا عندهم غفلة ، ولا فيهم معصية ، هم اعلم خلقك بك ، واخوف خلقك لك ، واقرب خلقك منك .
واعلمهم بطاعتك ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الابدان ، لم يسكنوا الاصلاب ، ولم تضمهم الارحام ، ولم تخلقهم من ماء مهين .
انشأتهم انشاءً ، فأسكنتهم سمواتك ، واكرمتهم بجوارك ، واتمنتهم على وحيك ، وجنبتهم الافات ، ووقيتهم البليات ، وطهرتهم من الذنوب ، ولولا قوتك لم يقووا ، ولولا تثبيتك لم يثبتوا ، ولولا رحمتك لم يطيقوا ، ولولا انت لم يكونوا .
أما أنهم على مكانتهم منك ، وطاعتهم اياك ، ومنزلتهم عندك ، وقلة غفلتهم عن امرك ، لو عاينوا ما خفي عنهم منك ، لا أحتقروا اعمالهم ، ولا زرؤا على انفسهم ، ولعلموا انهم لم يعبدوك حق عبادتك ، سبحانك خالقاً ومعبوداً ، ما احسن بلاؤك عند خلقك (2) .
____________
(1) ق : 37 .
(2) بحار الانوار : 59 / 175 ـ 176 .

( 158 )

ويمكن ان يكون للملائكة نحو اخر من النوم غير نوم العيون ، ولذلك اضافه اليها لتفيد التخصيص .
فيمكن ان يغلب نومهم على سائر حواسهم ، ولا يغلب على عيونهم ، كما انه كان في نبينا ـ صلى الله عليه وآله ـ يغلب على عينه ولا يغلب على قلبه .
او يكون المراد بالنوم الغفلة من باب ذكر السبب وارادة المسبب . يعني : انهم احياناً يغفلون عن اوامر الله ، كما يشير اليه قوله ـ عليه السلام ـ « وقلة غفلتهم عن امرك » .
فيكون المراد ان غيره سبحانه يكون له نوع غفلة ، بخلافه فانه لا غفلة له اصلاً ، لا جزئية ولا كلية تمنعه عن حسن قيامه بتدبير الخلق وحفظه ، كما اشار اليه بقوله « لا تأخذه سنة ولا نوم » (1) فيكون عدم النوم والغفلة من خواصه سبحانه ، وعليه فما من حي الا وهو ينام خلا الله وحده .
وهذا التوجيه وان كان بعيداً عن لفظ الحديث ، الا ان التوفيق بين الاخبار مهما امكن خير من طرح بعضها رأساً ، والعلم عند الله وعند اهله .
* وذا النون اذ ذهب مغاضباً فظن ان لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين . [ الايتان : 87 ـ 88 ]
في كتاب التوحيد باسناده المتصل الى ابن عباس عن النبي ـ صلى الله
____________
(1) البقرة : 255 .
( 159 )

عليه وآله ـ انه قال : ما من الكلام كلمة احب الى الله عز وجل من قول لا اله الا الله ، وما من عبد يقول لا اله الا الله يمد بها صوته ، فيفرغ الا تناثر ذنوبه تحت قدميه ، كما يتناثر ورق الشجر تحتها (1) .
أقول : وانما صارت هذه الكلمة احب الكلمات الى الله عز وجل ، لانها اعلى كلمة واشرف لفظة نطق بها في التوحيد ، دالة على وجوده تعالى مفهوماً ، وعلى وحدته منطوقاً ، وعلى استجماعه جميع صفات الكمال ، وتنزهه عن جميع النقائض .
وليس في الاذكار ما يدل على ذلك دونها ؛ لانها : اما تمجيد ، او تنزيه ، بخلاف هذه الكلمة فانها جامعة بينهما ، منطبقة على جميع مراتب التوحيد ، توحيد الذات والصفات والافعال .
او يقال : لما كان الشريك وهو من يمنع صاحبه ان يتصرف فيما اشتركا فيه على ما يريد ، وهذا ينافي السلطنة والملك ابغض الاشياء اليه تعالى ، ولذا لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
كان احب الاشياء اليه نقيضه ، وهو التوحيد المدلول عليه بـ « لا اله الا الله » فكانت احب الكلمات اليه تعالى .
وبما قررناه ظهر وجه ما في خبر آخر نبوي : ما قلت ولا قال القائلون قبلي مثل لا اله الا الله (2) .
وفي آخر عنه ـ صلى الله عليه وآله : قال الله جل جلاله لموسى : يا موسى لو ان السموات وعامريهن والارضين السبع في كفة ، ولا اله الا الله في كفة ، مالت بهن لا اله الا الله (3) .
____________
(1) التوحيد : 21 ـ 22
(2) التوحيد : 18 ح 1 .
(3) التوحيد : 30 ح 34 .

( 160 )

وفي آخر عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ ايضا : الايمان بضع وسبعون شعبة ، افضلها قول لا اله الا الله (1) .
وفي آخر علوي : ما من عبد يقول لا اله الا الله الا صعدت تخرق كل سقف ، لا تمر بشيء من سيئآته الا طلستها ، حتى تنتهي الى مثلها من الحسنات فتقف (2) .
وفي آخر باقري : ما من شيء اعظم ثواباً من شهادة ان لا اله الا الله (3) .
وفي آخر صادقي : قول لا اله الا الله ثمن الجنة . (4) ونظائرها في الاخبار كثيرة .
وبالجملة احسن افراد الذكر قول لا اله الا الله ، لانها رأسها ، فينبغي الاكثار من قولها . وقد وردت في فضلها وشرفها واسرارها وخواصها من طريق الخاصة والعامة ما لا يكاد يحصى .
ولذا اختاره اهل السلوك لتربية السالكين ، وتهذيب المريدين ، وقد جمعت بين نفي الوهية ما سوى الله واثبات الوهيته ، وهي متعلقة بالجنان واللسان .
ومتفاوتة فيه ، فمنها : ما يكون باللسان وحده من غير حضور القلب ، وهي اضعف المراتب . ومنها : ما يكون به مع استقرار واستيلاء بحيث يغفل عما عدا المذكور ، وهي المرتبة العليا والدرجة القصوى ، واليه الاشارة بقوله تعالى « ولذكر الله اكبر » (5) .
ثم لا يذهب عليك ان قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « يمد بها صوته » يدل
____________
(1) كنز العمال : 1 / 35 ح 52 .
(2) التوحيد : 21 ح 12 .
(3) التوحيد : 19 ح 3 .
(4) التوحيد : 21 ح 13 .
(5) العنكبوت : 45 .