على صحة مذهب من قال بأن تطويل المدة في لا اله الا الله مندوب اليه مستحسن .
لان المكلف في زمان التمديد يستحضر في ذهنه جميع ما سوى الله من الاضداد والانداد وينفيها ، ثم يعقب ذلك بقوله « الا الله » فيكون ذلك اقرب الى الكمال والاخلاص .
ومن الناس من يقول بأولوية ترك التمديد ، مستدلا بأنه ربما مات في زمان التلفظ بـ « لا » قبل الانتقال الى « الا » .
اقول : وهذا القول مع كونه مخالفا لقواعد التجويد ، ومناقضا لصريح الرواية . مدفوعة بأن من مات في زمن التلفظ بـ « لا » قبل الوصول الى « الا » لا شك انه مات مؤمناً ، لانه عقد بهذه الكلمة قلبه ، ثم اراد ان يخبر بما في ضميره ليكون ذلك دليلاً عليه ، فلم يجد مهلة ، فلم يلزم منه كفره ، وخاصة اذا كان المتلفظ بها مؤمناً .
وانما يلزم كفره او عدم انتقاله منه الى الايمان ان لو وجد من الفرصة ما امكنه ان يقول « الا الله » ثم لم يقل ومات .
وأما ما فصله الفخر الرازي ، واستحسنه الصدر الشيرازي ، واثنى عليه في رسالته المعمولة لتفسير آية الكرسي ، من ان المتلفظ بهذه الكلمة ان كان يتلفظ بها لينتقل من الكفر الى الايمان ، فترك التمديد اولى ، حتى يحصل الانتقال من الكفر الى الايمان بأسرع الوجوه .
وان كان مؤمناً وانما يذكرها للتجويد ، فالتمديد اولى ، لتحصل في زمانه سورة الاضداد في الخاطر وينفيها ، ثم يعقبها بقوله « الا الله » فيكون الاقرار بالالهية اصفى واكمل .
فهو مع كونه غير دافع لما سبق من اولوية ترك التمديد ، فما ذكره من


( 162 )

أولويته معارض به . وانما يدفعه ما ذكرنا مخالف لمذهبه ، فان الانتقال من الكفر الى الايمان على مذهبه قد حصل بمجرد التصديق القلبي ، كما هو مذهب الاشاعرة وهو منهم « وانما جعل اللسان على الجنان دليلاً » .
فهو على مذهبه كاشف عن ايمانه السابق على زمن التلفظ بهذه الكلمة لا مصحح له ومتمم .
نعم ما ذكره يصح على مذهب من قال : ان التصديق وحده ليس بايمان ، بل الايمان هو التصديق بالقلب مع الاقرار بالشهادتين ، كما هو المنقول عن ابي حنيفة ، واليه مال صاحب التجريد .
وبالجملة فالتمديد بها مطلقاً ، كما هو ظاهر الرواية ، حيث رتب تناثر الذنوب على قول لا اله الا الله لا مطلقا بل مقيدا بمد الصوت بها ، ليشعر بعليته للحكم ، مستحسن اليه مندوب .
بل الظاهر عندي ان الغرض من التمديد مجرد اللفظ وتحسينه على ما تقتضيه القوانين التجويدية ، لا الاستحضار المذكور .
فان المتلفظ بالكلمة ان كان عالما بوضع الفاظها ، يستحضر الاضداد وينفيها ، ويثبت الاله الحق بمجرد الالتفات الى معانيها ، مد صوته في « لا » ام لا .
وان لم يكن عالماً ، او كان ولم يكن ملتفتا ، فلم يتسير له الاستحضار ، مد ام لم يمد ، فان المدة لا توجب الاستحضار ، كما لا يخفى علي ذوي الابصار .
واعلم ان ترتب الثواب على قول « لا اله الا الله » مشروط بشروط لا يتحقق بدونها . منها : ان يكون قلبه مواطئا للسانه ، كما ورد في خبر آخر نبوي : ان لا اله الا الله كلمة عظيمة كريمة على الله عز وجل من قالها مخلصاً استوجب الجنة ، ومن قالها كاذباً عصمت ماله ودمه ، وكان مصيره الى النار (1) .
____________
(1) التوحيد : 23 ح 18 .
( 163 )

فمن آمن بالله واليوم الاخر وبما جاء به الرسل ، ثم قال : لا اله الا الله ، ترتب عليه ثوابه . فالمطلق مقيد ، او العام مخصص .
وهذا مما انعقد عليه اجماع الامة ، ودل عليه الكتاب والسنة ، قال الله تعالى « ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً » (1) .
وفي صحيح البخاري : عن وهب بن منبه قيل له : اليس لا اله الا الله مفتاح الجنة ، قال : بلى ولكن ليس مفتاح الا وله اسنان ، فان جئت بمفتاح له اسنان فتح لك والا لم يفتح .
ومنها : الولاية لاهل الولاية ، كما يدل عليه قول الرضا ـ عليه السلام ـ بعد ان روى عن جده عن جبرئيل عن الله جل جلاله : لا اله الا الله حصني ، فمن دخل حصني امن من عذابي ، بشروطها وانا من شروطها (2) .
وقال ابو سعيد الخدري : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ذات يوم جالسا وعنده نفر من اصحابه فيهم علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ اذ قال : من قال لا اله الا الله دخل الجنة ، فقال رجلان من اصحابه : فنحن نقول لا اله الا الله ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : انما تقبل شهادة ان لا اله الا الله من هذا وشيعته الذين اخذ ربنا ميثاقهم (3) .
وفي الكافي عن ابان بن تغلب عن الصادق ـ عليه السلام ـ قال : يا أبان اذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث من شهد ان لا اله الا الله وجبت له الجنة .
قال قلت : انه يأتيني من كل صنف من الاصناف ، أفأروي لهم هذا الحديث ؟
____________
(1) الاسراء : 19 .
(2) التوحيد : 25 ح 23 .
(3) بحار الانوار : 93 / 202 ح 40 ، عن ثواب الاعمال .

( 164 )

قال : نعم يا أبان ، انه اذا كان يوم القيامة وجمع الله الاولين والاخرين فيسلب لا اله الا الله منهم الا من كان على هذا الامر (1) .
ومنها ومن نظائرها يظهر ان من لم يكن موالياً لصاحب الولاية جعلت له الفداء ومن بعده من الائمة سلام الله عليهم ، تسلب منه ثمرة لا اله الا الله ، ويكون توحيده وتهليله في الدنيا مجرد تحريك لسان لا ينتفع به في الاخرة .
فلا اشكال ولا منافاة بين الاخبار المطلقة الدالة على ان من قال لا اله الا الله فله الجنة ، او دخل الجنة . والدالة على عدم دخول مخالفينا الجنة ، وان بذلوا جهدهم وبالغوا في العبادات بين الركن والمقام ، حتى صاروا كالشن البالي ، فانهم ليسوا من اهل التوحيد المنتفعين بتوحيدهم في الاخرة ، لما فاتهم من الولاية ، الشديدة الحاجة اليها في تحقق الايمان ، الموجب لدخول الجنة ، فالمطلق بهذا الوجه ايضا مقيد .
ومنها : ان يكون الموحد تاركا للدنيا وزاهدا عنها ، فعن حذيفة عن النبي عليه وعلى آله السلام قال : لا يزال لا اله الا الله ترد غضب الرب جل جلاله عن العباد ما كانوا لا يبالون ما انتقص من دنياهم اذا سلم دينهم ، فاذا كانوا لا يبالون ما انتقص من دينهم اذا سلم دنياهم ثم قالوها ردت عليهم ، وقيل : كذبتم ولستم بها صادقين (2) .
وهذا بعينه حال ابناء دهرنا هذا ، نعوذ بالله منهم اجمعين .
ومنها : الموافاة على التوحيد ، كما تدل عليه رواية ابي ذر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله : ما من عبد قال لا اله الا الله ، ثم مات على ذلك الا دخل الجنة (3) .
____________
(1) أصول الكافي : 2 / 520 ـ 521 .
(2) بحار الانوار : 93 / 197 ح 23 ، عن ثواب الاعمال .
(3) كنز العمال : 1 / 46 ح 120 وص : 57 ح 183 .

( 165 )

وبالجملة المراد بالموحد الذي لا يعذب بالنار اذا كان محسناً ، بأن يكون توحيده يحجزه عما حرم الله ، وهو علامة اخلاصه ، او يدخل الجنة ولو بعد تعذيب برزخي اذا كان مسيئاً ، هو من كان موالياً ثم مات على ذلك ، والا فتسلب عنه فوائد لا اله الا الله .
فالاخبار المطلقة الواردة في هذا الباب ، كقوله ـ صلى الله عليه وآله : من مات ولم يشرك بالله شيئا احسن او اساء دخل الجنة . (1) وقول الصادق ـ عليه السلام : ان الله حرم اجساد الموحدين على النار . (2) وما شاكل ذلك مقيدة بما ذكرنا . فلا اشكال ولا تدافع .
ثم لما كان مبدأ الكمالات وجوب الوجود ، كما ان منشأ النقائص امكان الوجود ، فالمعبود بالحق هو الذي ثبت له وجوب الوجود وانتفى عنه الامكان .
فمعنى « لا اله الا انت » لا واجب الوجود الا انت ، فحينئذ يصح تقدير الممكن والموجود في خبر « لا » النافية للجنس .
اما الاول ، فلان مفهومه ان الله يمكن ان يكون واجب الوجود ، فحينئذ يندفع فساده المشهور ، وهو ان اللازم امكان وجوده تعالى لا ثبوت وجوده ، فلا يتم التوحيد ، بأن ما يمكن ان يكون واجب الوجود ، فهو واجب الوجود ، والا يكون : اما ممتنع الوجود او ممكنه ، وعلى التقديرين لا يكون واجب الوجود ، والا لزم الانقلاب .
وأما الثاني ، فلان فساده وهو ان اللازم نفي وجود الشريك لا نفي امكانه ، مندفع بأن نفي وجوب الوجود عما سواه يستلزم نفي امكان وجوب الوجود ايضا ، والا لثبت له نقيضه ، وهو امكان وجوب الوجود ، فيثبت له وجوب الوجود كما سبق ، هذا خلف .
____________
(1) التوحيد : 30 ح 32 .
(2) التوحيد : 20 ح 7 .

( 166 )

وأما ما قيل من عدم الحاجة الى الخبر وان « الا الله » مبتدأ وخبره « لا اله » اذ كان اصل الله اله ، فلما اريد الحصر زيد لا والا ، ومعناه الله معبود بالحق لا غيره .
ففيه انه مع كونه مخالفا لما عليه النحاة من وجوب تقدير الخبر ، يرد عليه ان الاعتراض باق على حاله ، اذ لا معنى لرفع ذات الاله ، بل لا بد من نفي وجوده او امكانه .
ومنهم من قال : ان هذه الكلمة نقلت شرعا الى نفي الامكان والوجود عن اله سوى الله ، مع الدلالة على وجوده تعالى ، وان لم يدل عليه لغة .
وفيه ان هذه الكلمة مشهورة بكلمة التوحيد ، فمن قالها فهو موحد ، وان لم يعلم او يثبت عنده الحقائق الشرعية ، وكذا تقدير مستحق للعبادة لا يدل على نفي التعدد مطلقا ، بل على نفي المستحق فقط .
والصوفية لما رأوا دلالتها مفهوما على وجود غيره تعالى وراموا التفصي عنه اولوها بحمل كلمة « الا » على معنى الغير ، وجعلوها بدلاً عن محل اله المنفي ، فصار المعنى : انتفى غيره تعالى مطلقا لا في صفة الالوهية .
وهذا هو التوحيد العامي الذي هو نفي الشرك الاعظم الجلي ، المثبت بالدليل المعقول والمنقول ، قالوا : والمناقشة بأنه لا يلزم من انتفاء غيره ثبوته ، مندفعة ؛ اذ لا شك في وجود موجود ما .
وما ذهب اليه السوفسطائية ، من انه لا موجود في الحقيقة ، بل هو خيال ووهم . فهو خيال موهوم ، وامر بطلانه معلوم .
وأنت وكل من له ادنى بصيرة اذا صرف بصيرته نحو هذا الكلام يعرف ان الغرض منه نفي الوهية ما سوى الله واثبات الوهيته ، لا نفي ما سواه بالكلية واثبات وجوده فقط .
وهل يليق بالحكيم العليم ان يقول في كتابه العزيز الى رسوله الكريم


( 167 )

« فاعلم انه لا اله الا الله » (1) ويريد به وحدته في الوجود ؟ ! وهو يفيد وحدته في الالوهية .
وهم بمثل هذا التأويل المستكره يضلون ويضلون ، فطوبى للذين هم كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله : يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين (2) .
وعلى تأويلهم هذا ، فمعنى كون هذه الكلمة توحيد انها تفيد ان الوجود واحد ، ويلزم منه ان يكون الاله واحداً ، فتكون دلالتها على وحدة الوجود مطابقة ، وعلى وحدة الاله التزاماً .
وهذا كما ترى صرف للكلام عن وجهه ، بل ابطال له بالكلية . وانما صرفوه الى ذلك ، وهم يعلمون قطعاً انه ليس المراد به ذلك ، لتغرير الناس في دعوتهم الى مذاهبهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة ، فنزلوا القرآن على طبق رأيهم ومذهبهم ، وفسروه بأهوائهم واشتهائهم ، على علم منهم قطعاً انه غير مراد به ، فذرهم وما يشتهون .
ومنهم من رام ان يصرف عنه ، ويذب ما يرد عليه ، وهو يقول بالوحدة ، فقال : اعلم ان الذكر القلبي من اعظم علامات المحبة ، لان من احب احداً ذكره دائماً أو غالباً .
وان اصل الذكر عند الطاعة والمعصية سبب لفعل الطاعة وترك المعصية ، وهما سببان لزيادة الذكر ورسوخه ، وهكذا يتبادلان الى ان يستولي المذكور ، وهو الله سبحانه على القلب ويتجلى فيه .
فالذاكر حينئذ يحبه حباً شديداً ، ويغفل عن جميع ما سواه حتى نفسه ، اذ الحب المفرط يمنع عن مشاهدة غير المحبوب .
____________
(1) محمد : 19 .
(2) اختيار معرفة الرجال : 1 / 10 .

( 168 )

وهذا المقام يسمى مقام الفناء في الله ، والواصل الى هذا المقام لا يرى في الوجود الا هو ، وهذا معنى وحدة الوجود ، لا بمعنى انه تعالى متحد مع الكل ، لانه محال وزندقة ، بل بمعنى ان الموجود في نظر الفاني هو لا غيره ، لانه تجاوز عن عالم الكثرة ، وجعله وراء ظهره وغفل عنه فافهم انتهى .
ولنا على ابطال وحدة الوجود رسالة مفردة وجيزة ، نقلنا فيها زبدة اقوالهم وعمدة ما تشبثوا به عليها ، واشرنا فيها الى ما فيه وعليه ، فليطلب من هناك .


( 169 )

( سورة الحج )

* هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم . [ الآية : 19 ]
قال في نهاية ابن الاثير : فيه « ان رجلاً أتاه وعليه مقطعات له » أي : ثياب قصار ، لانها قطعت عن بلوغ التمام .
وقيل : المقطع من الثياب كلما يفصل ويخاط من قميص وغيره ، وما لا يقطع كالارز والاردية .
ومن الاول حديث ابن عباس في وقت صلاة الضحى « اذا تقطعت الظلال » أي : قصرت ، لانها تكون بكرة ممتدة ، فكلما ارتفعت الشمس قصرت .
ومن الثاني حديث ابن عباس في صفة نخل الجنة « منها مقطعاتهم وحللهم » ولم يكن يصفها بالقصر لانه عيب .
وقيل : المقطعات لا واحد لها ، فلا يقال للجبة القصيرة مقطعة ، ولا للقميص مقطع ، وانما يقال لجملة الثياب القصار مقطعات واحد ثوب (1) انتهى .
وانما قصرت ثياب اهل النار وقطعت دون بلوغ التمام ، لتناسب هيئآتهم صورهم في القباحة والشناعة ؛ لان الثياب القصار عن بلوغ التمام عيب تحدث في لابسها قباحة المنظر وكراهة المحضر .
وظني ان هذا الوجه اعذب مما افاده الشيخ البهائي في الاربعين ، حيث قال :
____________
(1) نهاية ابن الاثير : 4 / 81 ـ 82 .
( 170 )

ولعل السر في ثياب اهل النار مقطعات ، كونها اشد اشتمالاً على البدن ، فالعذاب بها اشد (1) .
وفي تفسير علي بن ابراهيم في ذيل كريمة « فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار » في صحيحة ابي بصير عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ حديث يذكر فيه شدة عذاب جهنم ، نعوذ بالله منه : ولو ان سربالاً من سرابيل اهل النار علق بين السماء والارض ، لمات اهل الارض من ريحه ووهجه (2) .
* ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وان الله سميع بصير . [ الآية : 61 ]
ايلاجه تعالى الليل في النهار وبالعكس ، ادخاله احدهما في الاخر : اما بالتعقيب بأن يأتي به بدلاً مكانه وذلك كلي ، او بالزيادة والنقصان وهذا اكثري .
بيانه : ان كل ما زاد في النهار نقص من الليل وبالعكس ، واطول ما يكون من النهار يوم سابع عشر حزيران عند حلول الشمس آخر الجوزاء ، فيكون النهار حينئذ خمس عشر ساعة والليل تسع ساعات ، وهو اقصر ما يكون من الليل .
ثم يأخذ في النقصان والليل في الزيادة الى ثامن عشر ايلول عند حلول الشمس آخر السنبلة ، فيستوي الليل والنهار ، ويسمى الاعتدال الخريفي ، فيصير كل منهما اثنتا عشر ساعة .
ثم ينقص النهار ويزيد الليل الى سابع عشر من كانون الاول عند حلول
____________
(1) الاربعون : 58 ح 5 .
(2) تفسير القمي : 2 / 81 .

( 171 )

الشمس آخر القوس ، فيصير الليل خمس عشر ساعة ، والنهار تسع ساعات ، فتكون الليل في غاية الطول ، والنهار في غاية النقصان .
ثم يأخذ الليل في النقصان والنهار في الزيادة الى سادس عشر آذار عند حلول الشمس آخر الحوت ، فيستوي الليل والنهار ، ويسمى الاعتدال الربيعي . ثم يستأنف .
قال الشيخ البهائي قدس سره في تفسير قوله ـ عليه السلام ـ « يولج كل واحد منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه » اي : يدخل كلاً من الليل والنهار في الاخر ، بأن ينقص من احدهما شيئا ويزيده في الاخر ، كنقصان نهار الشتاء وزيادة ليله ، وزيادة نهار الصيف ونقصان ليله .
فان قلت : هذا المعنى يستفاد من قوله ـ عليه السلام ـ « يولج كل واحد منهما في صاحبه ، فأي فائدة في قوله ـ عليه السلام ـ « ويولج صاحبه فيه » ؟ .
قلت : مراده ـ عليه السلام ـ التنبيه على أمر مستغرب ، وهو حصول الزيادة والنقصان معاً في كل من الليل والنهار في وقت واحد ، وذلك بحسب اختلاف البقاع ، كالشمالية عن خط الاستواء ، والجنوبية عنه ، سواء كانت مسكونة اولا .
فان صيف الشمالية شتاء الجنوبية وبالعكس ، فزيادة النهار ونقصانه واقعان في وقت واحد لكن في بقعتين ، وكذلك زيادة الليل ونقصانه .
ولو لم يصرح ـ عليه السلام ـ بقوله « ويولج صاحبه فيه » لم يحصل التنبيه على ذلك ، بل كان الظاهر من كلامه ـ عليه السلام ـ وقوع زيادة النهار في وقت ونقصانه في آخر ، وكذا الليل ، كما هو محسوس معروف للخاص والعام .
فالواو في قوله ـ عليه السلام ـ « ويولج صاحبه فيه » واو الحال باضمار مبتدأ ، كما هو المشهور بين النحاة (1) انتهى .
أقول : كون الواو للحال مبني على تقدير المبتدأ ، كما في نجوت وارهنهم
____________
(1) مفتاح الفلاح : 107 ـ 108 .
( 172 )

مالكاً ، وقمت واصك وجهه .
وحاصل الجواب : ان معنى الجهة الحالية وان كان مفهوماً من الاولى ، فيكون تأكيداً ، الا انها ذكرت للتنبيه .
وأنت خبير بأن ايلاج كل واحد منهما في صاحبه يتضمن حصول الزيادة والنقصان معاً في كل واحد منهما بحسب اختلاف البقاع ؛ اذ لا يمكن ايلاج الليل في النهار في بقعة إلا حال إيلاج النهار في الليل في بقعة اخرى وبالعكس ، وزيادة النهار يتضمن نقصانه حال زيادته ، وكذلك الليل في بقعتي الشمالية والجنوبية عن خط الاستواء ، فالتنبيه حاصل بدون ذكرها .
وانما ذكرت للتصريح بما علم ضمناً ؛ لانه لما كان أمراً مستغرباً لم يكتف في الدلالة عليه بالتضمنية ، بل دل عليه بالدلالتين التضمنية والتصريحية ايماء لطيفاً الى شأن الامر .
ثم أقول : اختلاف البقاع في العرض الشمالي والجنوبي وانتقال الشمس عن مدار من المدارات اليومية بحركتها الخاصة ، يوجب ان يدخل بعض زمان الليل في زمان النهار وبالعكس في البقاع الشمالية عن خط الاستواء والجنوبية عنه ، في كل يوم بليلته من ايام السنة في جميع الافاق الا في المستقيم والرحوي ، وهذا معنى قوله « يولج كل واحد منهما في صاحبه » .
وكذا اختلاف طول البقاع مع الحركة الاولى ففي حال زيادة زمان النهار ونقصان الليل وبالعكس في البقاع المذكورة بحسب الاختلافات العرضية ، يدخل بعض زمان الليل في النهار وبالعكس في الاماكن الشمالية عن خط الاستواء المختلفة في الطول ، وكذا الجنوبية عنه المختلفة فيه بحسب هذا الاختلاف ، وهذا معنى قوله « يولج صاحبه فيه » .
فالحالية تأسيس ؛ لانها اشارة الى نوع آخر من الزيادة والنقصان ، وعليه يتفرع وجوب صوم احد وثلاثين يوماً في صورة ، وثمانية وعشرين في اخرى ، على المسافر من بلد الى آخر بعيد عنه بعد رؤية الهلال .


( 173 )

ويحتمل عكس ذلك ، بأن يكون الاولى اشارة الى ما يكون بالاختلافات العرضية مع الحركة الخاصة الشمسية .
ويحتمل ان يكون معنى الاولى ادخال كل من الليل والنهار مكان الاخر بدلاً منه في كل البقاع ، فعبر عن احداث النهار مع امتلاء العالم بالليل وبالعكس بالايلاج . ومعنى الثانية ادخال بعض زمان كل منهما في زمان الاخر في كل يوم بليلته في كل البقاع بحسب اختلافاتها العرضية والطولية في حال الادخال الاول .
ويحتمل العكس ، وعليه فالحالية تأسيس ، ومعنى الجملتين اكثر مما سبق ، ويتحقق معناهما في كل الافاق حتى في الرحوي في بعض ايامه .
ثم الحكمة في نقصان كل منهما وزيادة الاخر على التدريج ظاهرة ، اذ لو كان دخول احدهما على الاخر ، وذلك بحركة الشمس بغتة لأضر بالابدان والثمار وغيرهما ، كما ان الخروج من حمام حار الى موضع بارد دفعة يضر البدن ويسقمه .


( 174 )



( 175 )

( سورة المؤمنون )

* قد افلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون . [ الايتان : 1 ـ 2 ]
الخشوع في الصلاة خشية القلب ، والزام البصر موضع السجود . وبالجملة هو حضور القلب وتأثره وخوفه وطمعه .
ويظهر ذلك بالتوجه التام الى الصلاة ، والى الله تعالى ، بحيث يظهر اثر البكاء في العين ، والاضطراب في القلب ، واستعمال الاعضاء الظاهرة على الوجه المندوب .
وترك المكروهات ، مثل العبث بثيابه وجسده ، والالتفات يميناً وشمالاً ، بل النظر الى غير المسجد حال القيام ، والتمطي ، والتثأب ، والفرقعة ، وغير ذلك مما بين في الفروع وورد في الاصول .
في مجمع البيان : عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ انه رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته ، فقال : أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه .
ثم قال الشيخ : وفي هذا دلالة على ان الخشوع في الصلاة يكون بالقلب والجوارح . فأما بالقلب ، فهو ان يفرغ قلبه بجمع الهمة لها والاعراض عما سواها ، فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود . وأما بالجوارح ، فهو غض البصر والاقبال عليها ، وترك الالتفات والعبث (1) .
وأورد عليه : ان اقبال الجوارح الى العبادة ليس له معنى ظاهر ؛ لان الاقبال
____________
(1) مجمع البيان : 4 / 99 .
( 176 )

انما يكون بالقلب .
ويمكن ان يجاب عنه : بأن اقبال الجوارح عبارة عن النظر الى موضع السجود ، الى آخر ما هو المشهور ، وعدم الالتفات يميناً وشمالاً ، وعدم العبث ، الى غير ذلك ، كما سبق اليه الايماء ، فتأمل .
* والذين هم لفروجهم حافظون * الا على ازواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . [ الآيات : 5 ـ 7 ]
ظاهر الآيات الشريفة انحصار سبب الاباحة في الزوجية وملك اليمين على سبيل الانفصال الحقيقي ، بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فتحليل الامة بلفظ الاباحة والتحليل محتاج الى الدليل .
فان كان هو النص عن الائمة ـ عليهم السلام ـ فهم لا ينصون على خلاف الكتاب . كيف ؟ وهم صرحوا بأن : اذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط (1) .
فأخبار تحليل الامة : فاما متروك الظاهر ، كما هو مذهب السيد في الانتصار ، حيث قال في مقام دفع تشنيع العامة عن الخاصة : معنى قوله « يجوز للرجل ان يبيح مملوكته لغير » انه يعقد عليها عقد النكاح الذي فيه معنى الاباحة ، ولا يقتضي ذلك ان النكاح ينعقد بلفظ الاباحة (2) .
وكونه مبنياً على اصله من عدم العمل بالاخبار الاحاد اشبه .
____________
(1) اصول الكافي : 1 / 69 .
(2) الانتصار : 118 .

( 177 )

او متروك العمل ، ولذا ذهب كثير من اصحابنا المتقدمين الى عدم استباحه بلفظ الاباحة والتحليل ، وهو المشهور بين الجمهور ، والاحتياط يقتضيه ، وان كان الاقوى انها يستباح بذلك .
أما أولاً ، فلأصالة الاباحة ، والآية تدفعها .
وأما ثانياً ، فلشمول الآية لها ، فان الملك يشمل العين والمنفعة ؛ اذ مقتضاه اباحة التصرف على سائر الوجوه ، وهو مشترك بين العين والمنفعة ، وملك المنفعة اعم من ان يكون تابعاً لملك الاصل او منفرداً ، والتحليل تمليك منفعة .
ويؤيده « او ما ملكت » اذ لو اريد العين لقيل « أو من ملكت » وبذلك يظهر عدم المخالفة بين الخبر والكتاب .
وأما ثالثاً ، فلان الامة بحكم اصل الكفر محل لقبول تملك كل مسلم ، فاذا ملكها مالك منع غيره من الانتفاع بها ، فاذا اباح وطأها زال المانع ، فبقيت على حكم الاصل .
وانما لم يجز تحليلها بلفظ الهبة والاجارة ونحوهما ؛ لان الاباحة والحرمة ليس مدارهما على مجرد العقل ، ولا على معنى يدرك في ذات المباح يقتضي اباحته ، وفي المحرم يقتضي حرمته ، بل هما تعبد محض متلقى من الشارع والشارع انما حللها بلفظ التحليل ، لا بالهبة والاجارة ونحوهما .
ثم لا يذهب عليك ان الآية تدل على ان المتمتع بها زوجة ، والا لكانت محرمة ، لعدم دخولها في ملك اليمين .
وبالجملة انهم لما حكموا باباحة المتعة وتحليل الامة وجب دخولهما في المنفصلة ، والا لكانا باطلين ، فالمتعة داخلة في الازواج .
قال في الكشاف : فان قلت : هل فيه دليل على تحريم المتعة ؟ قلت : لا ؛ لان المنكوحة نكاح المتعة من جملة الازواج اذا صح النكاح (1) .
____________
(1) الكشاف : 3 / 26 ـ 27 .
( 178 )

وأما التحليل ، فقال بعضهم : انه داخل في الازواج ، وجعله كالعقد المنقطع ، فيفتقر الى مهر وتقدير مدة ، والاصل خلافه ، بل هو داخل في ملك اليمين ، فلا صداق فيه ولا اجل .
وجعله بعضهم قسماً آخر بنفسه ، وخص الآية بغيره . قال : فانه غير عزيز ، على ما اشتهر انه ما من عام الا وقد خص حتى هذا .
وهو بعيد ؛ لان انواع النكاح على ما ورد في رواية حسن بن زيد عن الصادق ـ عليه السلام ـ منحصرة على ثلاثة اوجه : نكاح بميراث ، ونكاح بلا ميراث ، ونكاح بملك يمين (1) .
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وآله : ايها الناس احل لكم الفروج على ثلاثة معان : فرج موروث وهو البتات ، وفرج غير موروث وهو المتعة ، وملك ايمانكم (2) .
وقد سبق ان المتعة داخلة في الازواج ، فلا بد ان يكون التحليل : اما داخلاً فيها ، او في ملك الايمان ، فلا يكون قسماً آخر ، والا لكان باطلا .
والاخبار الصحيحة المستفيضة الصريحة في جوازه تنافيه ، ولذلك سلم الاصحاب الحصر في الآية ، وادخلوا التحليل في احدهما ، والاخبار الواردة فيه ـ وهي العمدة ـ اكثر من ان تحصى ، بل نقلوا الاجماع قبل ظهور المخالف وبعده على جوازه .
ولكنه ليس لنا حجة على خصومنا ، فانهم لا يقبلون اجماعنا ولا اخبارنا وبالعكس ، وانما الحجة عليهم ما سبق من اصالة الاباحة ، وشمول الآية ، وكون الامة في الاصل محلاً لقبول تملك كل مسلم .
وبذلك يندفع تشنيعهم علينا في تلك المسألة .
____________
(1) الخصال : 119 ، التهذيب : 7 / 241 ح 2 .
(2) تهذيب الاحكام : 7 / 241 ح 3 .

( 179 )

بل نقول : لما ثبت بالعقل والنقل عصمة ائمتنا وطهارتهم وشرف اصولهم وعدالتهم ، وان النبي قرنهم بالكتاب العزيز الذي يجب اتباعه ، وهذا يدل على علمهم .
ثبت ان قولهم حجة وجب قبوله واتباعه ، قبل او لم يقبل ، فان عدم قبول قول من قوله حجة لا ينفي حجيته ، والا لزم ان تكون اخبار الانبياء واقوالهم حجة على من لم يقبلها ، واللازم باطل بالاتفاق .
فاذن لا شناعة على من قبل قول من وجب قبوله ، وان انكر غيره تبعاً للآخرين ، وهذا بعينه حال السابقين علينا من المؤمنين والكافرين .
هذا وفي رواية جميل عن فضيل ، قال قلت لابي عبد الله ـ عليه السلام : جعلت فداك ان بعض اصحابنا روى عنك انك قلت اذا احل الرجل لاخيه المؤمن جاريته ، فهي له حلال .
فقال : نعم يا فضيل .
قلت له : فما تقول في رجل عنده جارية نفيسة وهي بكراً احل لاخ له ما دون الفرج أله ان يقتضيها ؟
قال : لا ليس له الا ما احل له منها ، ولو احل له منها قبلة لم يحل له ما سوى ذلك .
قلت : أرأيت ان هو احل له ما دون الفرج فغلبته الشهوة فاقتضها ؟
قال : لا ينبغي له ذلك .
قلت : فان فعل ذلك ايكون زانياً ؟
قال : لا ، ولكن خائناً ويغرم لصاحبها عشر قيمتها (1) .
والظاهر ان تحليل القبلة يستلزم تحليل المس ، فالمراد انه لم يحل له ما سوى ذلك من الاقتضاض والوطىء والخدمة وغيرها ؛ لان الضابط في تحليل الامة
____________
(1) تهذيب الاحكام : 7 / 244 ح 16 .
( 180 )

الاقتصار على ما تناوله اللفظ فما دونه .
فان قلت : ان الزنا عبارة عن وطىء المرأة قبلاً أو دبراً بغير عقد ولا ملك ولا شبهة ، بل عمداً عالماً بالتحريم ، وها هنا كذلك ، فينبغي ان يكون زانياً لا خائناً فقط .
قلت : انه لم يحل له ما دون الفرد الا وقد علم انه ينجر الى ذلك ، فكأنه أحل له ذلك ضمناً ، ولكنه لما لم يصرح به وقد تصرف في ملكه بما لا اذن له فيه صريحاً كان خائناً ، فتأمل فيه .