( سورة الحشر )

* هو الله الذي لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون . [ الآية : 23 ]
الملك لاصناف المملوكات ، كما قال « ملكوت السموات والارض » (1) فان الملكوت ملك الله زيدت فيه التاء ، كما زيدت في رهبوت ورحموت . يقول العرب : رهبوت خير من رحموت . اي : لين ترهب خير من ان ترحم .
والقدوس : فعول من القدس ، وهو الطهارة ، والقدوس الطاهر من العيوب المنزه عن الانداد والاضداد والاولاد ، والتقديس التطهير والتنزيه .
والسلام : هو الذي سلم من كل عيب ، وبرىء من كل آفة ونقص .
وقيل : معناه المسلم ؛ لان السلامة تنال من قبله ، والسلام والسلامة مثل الرضاع والرضاعة ، وقوله « لهم دار السلام » (2) يجوز ان تكون مضافة اليه ، ويجوز ان يكون قد سمي الجنة سلاماً ؛ لان الصائر اليها تسلم من كل آفة الدنيا ، فهي دار السلامة .
والايمان في اللغة : التصديق ، فالمؤمن المصدق ، اي : يصدق وعده ، ويصدق ظنون عباده المؤمنين ، ولا يخيب آمالهم ، او انه آمنهم من الظلم والجور .
وعن سيدنا الصادق ـ عليه السلام : سمي الباري عز وجل مؤمناً ، لانه يؤمن
____________
(1) الانعام : 75 .
(2) الانعام : 127 .

( 244 )

عذابه من اطاعه . وسمي العبد مؤمناً ، لانه يؤمن على الله فيجيز الله امانه (1) .
والمهيمن : الشهيد ، والله هو الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول او فعل . وقيل : المهيمن الامين . وقيل : الرقيب على الشيء والحافظ له .
والعزيز : هو المنيع الذي لا يغلب ، يقال : من عز بز ، اي : من غلب سلب ، وقد يقال للملك ، كما قال اخوة يوسف « يا ايها العزيز » (2) .
والجبار : هو الذي جبر مفاقر الخلق وكثرهم ، وكفاهم اسباب المعاش والرزق . وقيل : الجبار العالي فوق خلقه ، والقامع لكل جبار ، او القاهر الذي لا ينال ، يقال للنخلة التي لا تنال : جبارة .
والمتكبر : هو المتعالي عن صفات الخلق ، او المتكبر على عتاة خلقه ، إذ نازعوه العظمة .
* هو الله الخالق البارىء المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم . [ الآية : 24 ]
اسناد التصوير اليه سبحانه على الاطلاق ، يدل على بطلان القول بوجود قوة مصورة في الانسان والحيوان يصدر عنها التصوير ، كما ذهبت اليه الفلاسفة بناءً على اصولهم .
وكيف يصح القول باسناده اليها ؟ وهو قوة عديمة الشعور ، وتلك الافعال
____________
(1) التوحيد : 205 .
(2) يوسف : 88 .

( 245 )

في غاية الاتقان والاحكام ، وقد روعي فيها من الحكم والمصالح ما تحيرت فيه الاوهام ، وقصرت عن ادراكها العقول والافهام .
فكل من له عقل سليم وطبع مستقيم ، يحكم بأن امثال هذه الصور العجيبة والاشكال الغريبة ، والنقوش المؤتلفة ، والالوان المختلفة ، مما لا يمكن ان يصدر عن حكيم عليم خبير قدير .
وقد بالغ في ذلك الغزالي حتى نفى مطلق القوى ، وادعى ان الافعال المنسوبة اليها صادرة عن ملائكة موكلة بهذه الافعال ، يفعلها بالشعور والاختيار .


( 246 )



( 247 )

( سورة الجمعة )

* يا ايها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون . [ الآية : 9 ]
استدل المحقق الكاشاني في رسالته بالآية الشريفة على عينية وجوب الجمعة ، فقال : اتفق المفسرون على ان المراد بالذكر المأمور بالسعي اليه في الآية ، صلاة الجمعة ، او خطبتها ، او هما معاً ، كما نقله غير واحد من العلماء .
فكل من تناوله اسم الايمان مأمور بالسعي اليها ، واستماع خطبتها وفعلها ، بعض الاوقات فعليه الدليل ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين ، وفي الآية مع الامر الدال على الوجوب ضروب التأكيد وانواع الحث ما لا يخفى .
قال زين المحققين الشهيد الثاني في رسالته التي الفها في تحقيق هذه المسألة واثبات الوجوب العيني في زمان الغيبة ، وبسط القول فيه بما ملخصه .
ان تعليق الامر في الآية انما هو على النداء الثابت شرعيته لفريضة الوقت ، اربعا كانت او اثنتين ، وحيث ينادي لها يجب السعي الى ذكر الله ، وهو صلاة الجمعة ركعتين واستماع خطبتها ، وكأنه قال : اذا نودي للصلاة عند الزوال يوم الجمعة فصلوا الجمعة ، او فاسعوا الى صلاة الجمعة وصلوها .
قال : وهذا واضح الدلالة لا اشكال فيه ، ولعله السر في قوله تعالى : « فاسعوا الى ذكر الله » ولم يقل فاسعوا اليها ، وانما علقه على الاذان حثاً على فعله لها ، حتى ذهب بعضهم الى وجوبه لها لذلك .


( 248 )

وكذا القول في تعليق الامر بالسعي ، فانه امر بمقدماتها على ابلغ وجه ، واذا وجب السعي اليها وجبت هي ايضا بطريق الاولى ، ولا معنى لايجاب السعي اليها مع عدم ايجابها ، كما هو ظاهر (1) انتهى كلامه .
اقول : وبالله التوفيق (2) « اذا » الشرطية ليست بناصة في العموم لغة ، لكونها من سور المهملة ، ودعواهم ان المستعملة في الآيات الاحكامية تكون بمعنى « متى » و « كلما » فتفيد العموم عرفاً ، نحو « اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » (3) « فاذا قرأت القرآن فاستعذ »(4) « واذا حييتم بتحية فحيوا » (5) غير مسلمة .
وعموم الاوقات في الايات ليس لدلالتها عليه ، بل للاجماع والاخبار .
والمراد بالنداء الاذان ، يعني : اذا اذن في يوم الجمعة للصلاة . واللام فيها للعهد ، والمعهود صلاة الظهر المذكورة في قوله « واقم الصلاة لدلوك الشمس » (6) وامثالها .
وهي ـ اي : الظهر ـ اول صلاة صلاها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وهي الصلاة الوسطى التي خصها الله من بين الصلوات اليومية بالامر بالمحافظة
____________
(1) الشهاب الثاقب : 15 ـ 16 .
(2) الغرض من هذا التفصيل الايماء الى كيفية الاستدلال بالآية ، وطريقة الاستنباط منها ، وفيه تعريض على المستدل ، فان المراد بكون آية مثلاً دليلا على حكم ، انه يستنبط من منطوقها او مفهومها ذلك الحكم ، ويستدل بها عليه بعد العلم بضوابط الاستدلال من غير ان يستعان فيه بقول زيد وعمرو « منه » .
(3) المائدة : 6 .
(4) النحل : 98 .
(5) النساء : 86 .
(6) الاسراء : 78 .

( 249 )

عليها ، بعد الامر بالمحافظة على الجميع ، كما دلت عليه الاخبار وصرحت به الاخيار .
وذلك لان اللام منها لا يحتمل ان يكون للجنس ولا للاستغراق ، وهو ظاهر ، ولا للعهد الذهني ؛ لانه موضوع للحقيقة المتجددة في الذهن ، وارادة الفرد المنتشر منه محتاجة الى القرينة ، وليست فليست ، مع انه غير مستلزم للمطلوب ، فتعين كونه للعهد الخارجي ، ولا عهد في موضع من القرآن بصلاة الجمعة .
فان قلت : العهد الخارجي على ثلاثة اقسام : الذكري ، وهو الذي تقدم لمصحوبه ذكر ، نحو « انا ارسلنا الى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول » (1) والعلمي ، وهو الذي تقدم لمدخوله علم ، نحو « بالواد المقدس طوى » (2) « اذ يبايعونك تحت الشجرة » (3) لان ذلك كان معلوما عندهم . والحضوري ، نحو « اليوم اكملت لكم دينكم » (4) فيجوز ان يكون المراد هنا الثاني ، اذ لا مانع له دون الاول .
قلت : هذا مع انه خارج عن موضع استدلالهم انما يصح ان لو ثبت بطريق صحيح ان نزول الآية انما كان بعد علمهم بوجوب صلاة الجمعة ، واشتهارها وشيوعها فيما بينهم ، ودون ثبوتها خرط القتاد .
وكيف لا ؟ وهم انما يثبتون اصل وجوبها بالآية ، فكيف يصح هذا الاحتمال والحال هذه ؟ بل صرح بعض مثبتي وجوبها بأنها ما كانت معهودة ولا مشروعة قبل نزولها .
هذا و « من » : اما للابتداء ، وعلامته صحة ايراد « الى » او ما يفيد معناه في
____________
(1) المزمل : 16 .
(2) طه : 12 .
(3) الفتح : 18 .
(4) المائدة : 3 .

( 250 )

مقابلتها ، اي : اذا نودي ناشئاً من مؤذني يوم الجمعة الى الصلاة ، فعليكم السعي الى ذكر الله ، فاللام هنا مفيدة لمعنى الانتهاء ، كالباء في قولنا « اعوذ بالله من الشيطان الرجيم » .
واما بمعنى « في » كما اومأنا اليه ، فانه في الظروف كثيراً ما يقع بمعناه ، « من بيننا وبينكم حجاب » (1) وكنت من قدامكم ، ولعله من اظهر الوجوه ، فان المراد بالنداء هنا ما يقع في وسط الجمعة وعرضه ، لا ما يقع في اوله وابتدائه ، تأمل فيه .
واما للتعليل ، مثله « ما خطيئاتهم اغرقوا فادخلوا ناراً »(2) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (3) .
واما للتبيين ، وهو اظهار المقصود من امر مبهم ، فهو هنا بيان لـ « اذا » لان قولك وقت نداء الصلاة « وجب عليكم السعي اليها » مبهم ، فاذا قلت : الذي هو يوم الجمعة ، ظهر المقصود ورفع الابهام .
واما للتبعيض ، ومعناه : اذا نودي بعض يوم الجمعة .
واما زائدة على القول بجوازها في الآيات .
وفي الآية صنوف التأكيد وضروب الحث والمبالغة في طلب الخير والاستباقة اليه ، حيث عبر عن الذهاب الى ذكر الله بالسعي المفيد للاسراع في المشي والمبالغة فيه ، ثم امر بترك البيع .
ثم قال : السعي والترك انفع لكم عاقبة ان كنتم من اهل العلم ، وهو مشعر بأن من لم يفعلهما فهو ليس من اهله ، بل هو ممن لم يميز بين الخير والشر والصلاح والفساد ، ولم يفرق بين الضار والنافع .
____________
(1) فصلت : 5 .
(2) نوح : 25 .
(3) عوالي اللآلي : 1 / 44 ح 55 .

( 251 )

ولعل الوجه فيه ان يوم الجمعة يوم مبارك مضيق على المسلمين ، وهو يوم العمل والتعجيل ، وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبد مؤمن فيها شيئاً الا اعطاه ، وفيه يضاعف العمل ، ويغفر للعباد ، وينزل عليهم الرحمة ، من وافق منكم يوم الجمعة فلا يشتغلن بشيء غير العبادة .
ولكن الناس لما لم يحيطوا به علماً ، وكانوا فيه من الزاهدين ، ومنه ومن فضائله من الغافلين ، حثهم عليه وامرهم بترك جميع اسباب المعاش في ذلك الوقت ، وقال « هو خير لكم » لان ما عندكم ينفد وما عند الله باق ، والعاقل لا يؤثر الفاني على الباقي .
هذا والاضافة في ذكر الله للعهد ، لان تعريفها باعتباره ، لا تقول غلام زيد الا لغلام معهود باعتبار تلك النسبة ، لا لغلام من غلمانه ، وإلا لم يبق فرق بين النكرة والمعرفة ، والمعهود هو الصلاة ، لانه لم يسبق غيرها .
ولذلك قال المستدل قدس سره بعد ما بلغ الى درجة الفهم والانصاف ، وتخلى عن التعصب والاعتساف في تفسير الصافي وهو كاسمه : فان الاسماء تنزل من السماء« فاسعوا الى ذكر الله » يعني الى الصلاة ، كما يستفاد مما قبله ومما بعده .
ولم يقيدها بالجمعة ، ولا استدل بها على وجوبها ، بل اكتفى بذكر نبذ من الاخبار ، كما هو دأبه في هذا التفسير ولذلك وضعه .
ثم قال : والاخبار في وجوب الجمعة اكثر من ان تحصى (1) .
وقد عرفت ان المراد بالصلاة في الآية هو الظهر ، فمن ادعى ان المراد بالذكر صلاة الجمعة او خطبتها ، او هما معاً ، فعليه الدليل ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين .
وبالجملة الاستدلال بالآية على وجوبها العيني موقوف على اثبات تلك
____________
(1) الصافي : 5 / 175 .
( 252 )

المقدمات الممنوعة ، ودون اثباتها خرط القتاد ، وعلى تقدير دلالتها عليه ، فهو مخصوص بأهل زمانه ـ صلى الله عليه وآله .
لما تقرر في الاصول من ان الخطابات العامة المشافهة الواردة على لسان الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ليست خطابات لمن بعدهم ، وانما يثبت حكمها لهم بدليل آخر من نص او اجماع او غيرهما ، واما بمجرد الصيغة فلا .
فالآية بانفرادها لا تدل على وجوبها العيني في هذا الزمان ، بل لا بد في الدلالة عليه من انضمام امر آخر من نص او اجماع ، وهما غير ظاهرين .


( 253 )

( سورة المنافقون )

* يا ايها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرين . [ الآية : 9 ]
استدل القائلون بوجوب صلاة الجمعة بالآية الشريفة على وجوب عينيتها ، وذلك انهم فسروا الذكر الموجود في الآية بصلاة الجمعة ، ولكن لا دلالة للاية الشريفة عليها بوجه من الوجوه .
وأما المفسرون ، فانهم لم يفسروا الذكر هاهنا بصلاة الجمعة .
قال في الكشاف بعد ان ابقى الذكر في مقام التفسير على عمومه ولم يفسره بشيء قيل : ذكر الله الصلوات الخمس ، وعن الحسن جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله . وقيل : القرآن . وعن الكلبي الجهاد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله (1) .
وزاد في مجمع البيان قوله وقيل : ذكره شكره على نعمائه ، والصبر على بلائه ، والرضا بقضائه . ثم قال : وهو اشارة الى انه لا ينبغي ان يغفل المؤمن عن ذكر الله في بؤس كان او نعمة ، فان احسانه في جميع الحالات لا ينقطع (2) .
وقال في الصافي : اي لا يشغلكم تدبيرها والاهتمام به عن ذكره كالصلاة
____________
(1) الكشاف : 4 / 111 .
(2) مجمع البيان : 5 / 295 .

( 254 )

وسائر العبادات (1) .
والحق مع الزمخشري ، حيث ابقاه على حاله ، ولم يفسره بشيء ، ونعم ما فعل ، كذلك يفعل الرجل البصير ؛ لان الذكر يعم ، الثناء ، والدعاء ، والصلاة ، وقراءة القرآن ، والحديث ، وذكر الحلال والحرام ، واخبار الانبياء والاوصياء ـ عليهم السلام ـ والصالحين ، وهو اعم من ان يكون باللسان او الجنان او الاركان .
وبالجملة كلما كان لله سبحانه ، وهو غايته من الاعمال والتروك ، فهو ذكر ، حتى المباحات لو قصد فيها لله تعالى وفعل توصلاً الى عبادته ، انسلك سلك الذكر .
ولما كان لله تعالى مدخلية في كل الاشياء جواهرها واعراضها التي من فعل الله ، او فعل العباد من حيث الخلق او الاقدار ، والتمكين والحكم والامر والنهي ، كان كل شيء صالحاً لان يقع موقعاً لذكر الله ، فالاعتبار اذن بالقصد والملاحظة لله سبحانه او لغيره ، فتأمل واعتبر ولا تكن من الغافلين .
وعلى هذا فكيف يمكن تخصيص الذكر بصلاة الجمعة في مقام الاستدلال ؟ مع عدم النص والقرينة ، وهل هذا الا مجرد دعوى خال عن البينة والبرهان ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين .
____________
(1) الصافي : 5 / 180 .
( 255 )

( سورة الطلاق )

* الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علماً . [ الآية : 12 ]
هذه الآية الشريفة صريحة في ان الارض متعددة ، وانها سبع كالسموات .
وذهب بعضهم الى ان قوله « مثلهن » اي : في الخلق لا في العدد .
وهذا خلاف ما دلت عليه الاخبار والادعية المأثورة عنهم ـ عليهم السلام .
وقيل : انها سبع ارضين متصل بعضها ببعض ، وقد حالت بينهن بحار لا يمكن قطعها ، والدعوة لا تصل اليهم .
وقيل : انها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها ، وهذا يشبه قول الفلاسفة ، منها : طبقة هي ارض صرفة تجاوز المركز . ومنها : طبقة معدنية تتولد فيها المعادن . ومنها : طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها . ومنها : طبقة الابخرة والادخنة على اختلاف احوالها . ومنها : طبقة الزمهرير . وقد تعد هذه الطبقات من الهواء .
وقيل : انها سبع ارضين بين كل واحدة منها الى الاخرى مسيرة خمسمائة عام ، كما جاء في ذكر السماء وفي كل ارض منها خلق ، حتى قالوا في كل منها آدم وحواء ونوح وابراهيم ، وهم يشاهدون السماء من جانب ارضهم ، ويشهدون الضياء منها ، او جعل الله لهم نوراً يستضيؤون به .
وفي مجمع البيان : « مثلهن » اي في العدد لا في الكيفية ؛ لان كيفية السماء مخالفة لكيفية الارض . ثم قال وقال قوم : انها سبع ارضين طباقاً بعضها


( 256 )

فوق بعض كالسموات ؛ لانها لو كانت مصمتة لكانت ارضاً واحدة ، وفي كل ارض خلق خلقهم الله تعالى كيف شاء (1) .
____________
(1) مجمع البيان : 5 / 310 ـ 311 .
( 257 )

( سورة الجن )

* وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً . [ الآية : 9 ]
سماع الصوت هو كيفية تحدث في الهواء بتموجه المعلول للقرع ، والقرع انما يحصل بقرع الهواء المتموج تجويف الصماخ ، فحيث لا هواء كما في الفلك وكرة الاثير ، فلا تموج فلا صوت فلا مسموع .
فكيف يجوز ان يسمع الشياطين كلام الملائكة ، لصعودهم الى قرب كرة النار ولا هواء بينهما حتى تحدث فيه اصواتهم وتصل به اليهم ؟ مع ان البعد المفرط ايضا مانع منه .
فما افاده الشيخ البهائي في جواب من قال : ان كرة النار في طريقهم فكيف يتجازونها ولا يحرقون ؟ قال : وتقرير الجواب ان وجود كرة النار لم يقم عليه دليل يعول عليه ، ولو سلمنا فيجوز ان تسمع الشياطين كلام الملائكة بصعودهم الى قرب كرة النار ، ولا يتوقف سماعهم على الارتقاء في الصعود عن ذلك القدر (1) انتهى .
فبعد تسليه وجود كرة النار لا يتم جوابه هذا ، فان من قال بوجودها لا يقول بوجود الهواء فيها ولا فيما فوقها ، فاذا انتفى الهواء انتفى السماء والمسموع .
اللهم الا ان يمنع توقف حدوث الصوت وسماعه على وجود الهواء او
____________
(1) مفتاح الفلاح : 99 .
( 258 )

تموجه ، ومعه فشبهة البعد المفرط المانع من السماع باق بحاله .
والظاهر انه غير قابل للمنع ، والا فلا وجه لصعودهم الى قرب كرة الاثير ، على ان الطبقة الدخانية من الهواء المجاورة للنار لشدة حرارتها تحرق ما يصل اليها من الاجسام القابلة للاحتراق ، فكيف يمكنهم الصعود الى قرب كرة الاثير ، غاية ما يمكنهم ان يصلوا في صعودهم اليه هو طبقة الهواء القريب من الخلوص .
فالصواب في الجواب ان يمنع وجود كرة الاثير ، وتوقف حدوث الصوت وسماعه على وجود الهواء وتموجه ، ويقال : ان الشياطين لا يسمعون كلام الملائكة الا اذا انتهوا في صعودهم الى قرب السماء ، فاذا استرق الشيطان السمع وبادر الى النزول لحقه الشهاب فأحرقه .
مع ما ورد في اخبار كثيرة ان الشياطين كانوا يرتقون في صعودهم الى السماء ، وكانت لهم مقاعد في السماء الثالثة ، وكانوا يسترقون فيها الكلمات ، ثم يلقونها الى الكواهن ، فلما ولد سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ حجبوا منها ورموا بالشهب .
في كتاب الاحتجاج حديث طويل عن مولانا امير المؤمنين سلام الله عليه ، يذكر فيه مناقب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وفيه : ولقد رأى الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل ، وتسبح وتقدس ، وتضطرب النجوم وتتساقط ، علامة لميلاده .
ولقد هم ابليس بالظعن في السماء لما رأى من الاعاجيب في تلك الليلة ، وكان له مقعد في السماء الثالثة ، والشياطين يسترقون السمع ، فاذا هم قد رموا بالشهب جلالة لنبوته ـ صلى الله عليه وآله (1) .
وعن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ حديث طويل ، وفيه : واما اخبار السماء ،
____________
(1) الاحتجاج : 1 / 332 .
( 259 )

فان الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع ، اذ ذاك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم ، وانما منعت من استرقاق السمع ، لئلا يقع في الارض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء ، ويلبس على اهل الارض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجة ونفي الشبهة .
وكان الشيطان يسترق الكلمة الوحدة من خبر السماء ويلبس على اهل الارض ما جاءهم عن الله من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه ، فيتخطفها ثم يهبط بها الى الارض ، فيقذفها الى الكاهن ، فاذا قد زاد كلمات من عنده فيختلط الحق بالباطل .
فما اصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به ، فهو مما اداه اليه شيطانه مما سمعه ، وما اخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة .
فقال : كيف صعدت الشياطين الى السماء وهم امثال الناس في الخلقة والكثافة ، وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ من البناء ما يعجز عنه ولد آدم ؟
قال : غلظوا لسليمان لما سخروا وهم خلق رقيق غذاهم التنسم ، والدليل على ذلك صعودهم الى السماء لاستراق السمع ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء اليها الا بسلم او بسبب (1) .
____________
(1) نور الثقلين : 5 / 437 ح 5 ، الاحتجاج : 2 / 81 .