مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 1 ـ 10
مفاهيم القرآن
الجزء الأوّل
تفسير موضوعي يبحث حول الآيات
الواردة في التوحيد والشرك
محاضرات الأستاذ العلامة المحقّق
جعفر السبحاني
بقلم
جعفر الهادي


(5)
مقدمة الطبعة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
القرآن
كتاب القرون والأجيال
    الحمد للّه الذي نزّل القرآن تبياناً لكلّ شيء ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الذي نزل القرآنُ على قلبه ليكون من المنذِرين ، وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيش العلم وموت الجهل.
    أمّا بعد ، فانّ القرآن كتاب أبديّ خالد ينطوي على أبعاد مختلفة وبطون لا يمكن للبشر أن يكتشف جميعها جملة واحدة ، وإنّما يكتشف في كلّ عصر بعداً من أبعاده ، وحقيقة من حقائقه.
    وقد استخرج المحقّقون بفضل جِدّهم ومثابرتهم حقائق في غاية الأهمية لم يخطر على بال القدامى من المحقّقين ، وهذا دليل واضح على أبعاد القرآن اللامتناهية ، وإليها يشير ابن عباس بقوله : إنّ القرآن يفسره الزمان (1).
    وهذه حكمة بالغة نطق بها حبر الأُمّة تلميذ الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) ، وأثبتتها التجارب على مرّ الزمان.
    1 ـ راجع النواة في حقل الحياة ، تأليف مفتي الموصل الشيخ العبيدين.

(6)
    والحقّ يقال : انّ السير التكاملي للعلوم على مرّالزمان لم يمنع علماء الطبيعة فحسب من إمكانية استنباط حقائق هامة وجديدة من القرآن في حقول العلوم الطبيعية ، بل وأتاح للمفسرين أيضاً إمكانية استخراج حقائق قرآنية هامة لم تكن معروفة من ذي قبل ، و ذلك بفضل تطور المناهج العلمية المتداولة.
    إنّ القرآن الكريم صدر من لدن حكيم خبير لا يحد ولا يتناهى ، ومقتضى السنخية بين الفاعل والفعل أن يكون في فعله أثر من ذاته ، فإذا كانت ذاته لا متناهية ولا أوّل لها ولا آخر ، فاللازم أن ينعكس شيء من كمالات الذات على الفعل أيضاً ، وإلى ذلك يشير رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في كلامه إذ يتحدّث حول أبعاد القرآن و أغواره ، فيقول :
    « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فانّه شافع مشفّع ، وماحل مصدَّق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم ، وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلّص من نشب ، فانّ التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ». (1)
    كما أشار أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) إلى هذه الأبعاد اللا متناهية ، وقال في معرض كلامه عن القرآن : « ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحراً لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ». (2)
    1 ـ الكافي : 2/599 ، كتاب فضل القرآن.
    2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة رقم 198.


(7)
    إنّ هذه الميزة (البعد اللا متناهي للقرآن) لم تكن أمراً خفياً على بلغاء العرب في صدر الرسالة ، وهذا هو الوليد بن المغيرة ريحانة العرب ، يشيد بالقرآن ويصفه بقوله :
    واللّه لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وانّ له لحلاوة ، وانّ عليه لطلاوة ، وانّ أعلاه لمثمر ، وانّ أسفله لمغدق ، وانّه ليعلو وما يعلى عليه. (1)
    إنّه سبحانه خصَّ نبيّه بتلك المعجزة الخالدة ، وما هذا إلاّ لأنّ الدين الخالد يستدعي معجزة خالدة ، ودليلاً وبرهاناً أبدياً لا يختص بعصر دون عصر ، والنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وإن جاء بمعاجز ودلائل باهرة لم ترها عيون الأجيال المتعاقبة ولكن عوضهم اللّه سبحانه بمعجزة هي كشجرة مثمرة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها ، وينتفع كلّ جيل من ثمارها حسب حاجاته ، وإلى هذا يشير الإمام علي بن موسى الرضا عليمها السَّلام حين سأله السائل ، وقال : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلاّغضاضة؟ فقال الإمام : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة ». (2)

اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز
    ارتحل النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وترك بين الأُمة تركتين ثمينتين ، إحداهما : الكتاب ، والأُخرى : العترة.
    وقد أكبّ المسلمون بعد رحيله على قراءة القرآن وتجويده وكتابته ونشره بين الأُمم. وأسّسوا علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم ، كما أنّهم وراء ذلك اهتموا
    1 ـ مجمع البيان : 5/387 ، طبع صيدا ، وقد سقط عن النسخة لفظة « عليه » من قوله : « وما يعلى ».
    2 ـ البرهان في تفسير القرآن ، للسيد البحراني : 1/28.


(8)
بتفسير غريب القرآن و تبيين مفرداته ، ومجازاته وتفسير جمله وتراكيبه ، وردّ متشابهه إلى محكماته ، وتمييز ناسخه عن منسوخه ، وتفسير آيات أحكامه ، وإيضاح قصصه وحكاياته ، وأمثاله وأقسامه ، واحتجاجاته ومناظراته ، إضافة إلى بيان أسباب نزوله ، وكلّ ذلك يعرب عن الأهمية الفائقة التي يحظى بها القرآن الكريم.
    وفي ظل هذه الجهود المضنية ظهرت تفاسير في كلّ قرن وعصر لو جمعت في مكان واحد لشكلت مكتبة ضخمة لا يستهان بها.

التفسير الترتيبي والتفسير الموضوعي
    إنّ التفسير الرائج في الأجيال الماضية هو تفسير القرآن حسب السور والآيات الواردة في كلّ سورة ، فمنهم من سنحت له الفرصة أن يفسر آيات القرآن برمتها ، ومنهم من لم يسعفه الحظ إلاّبتفسير بعض السور ، وهذا النوع من التفسير الذي يطلق عليه اسم التفسير الترتيبي ، ينتفع به أكثر شرائح المجتمع الإسلامي ، وكلّ حسب استعداده وقابلياته.
    بيد انّ هناك لوناً آخر من التفسير يطلق عليه اسم التفسير الموضوعي الذي ظهر في العقود الأخيرة ، واستقطب قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميته ، وهو تفسير القرآن الكريم حسب الموضوعات الواردة فيه بمعنى جمع الآيات الواردة في سور مختلفة حول موضوع واحد ، ثمّ تفسيرها جميعاً والخروج بنتيجة واحدة ، وقد أُطلق على هذا اللون من التفسير بالتفسير الموضوعي.
    وأوّل من طرق هذا الباب لفيف من علماء الشيعة عند تفسيرهم آيات الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلف في حياته الفردية والاجتماعية فانّ النمط السائد على تآليفهم في هذا الصعيد هو جمع الآيات المتفرقة الراجعة إلى موضوع واحد في مبحث واحد ، فيفسرون ما يرجع إلى الطهارة في القرآن في باب واحد ، كما


(9)
يفسرون ما يرجع إلى الصلاة في مكان خاص ، وهكذا سائر الآيات ، و هذا ككتاب « منهاج الهداية في شرح آيات الأحكام » للشيخ جمال الدين ابن المتوج البحراني (المتوفّى عام 820 هـ) ، و« آيات الأحكام » للشيخ السيوري الأسدي الحلي المعروف بالفاضل المقداد(المتوفّى عام 826) ، إلى غير ذلك مما أُلف في هذا الصدد ، وهذا على خلاف ما كتبه أهل السنة في تفسير آيات الأحكام كالجصاص وغيره ، فانّهم فسروا آيات الأحكام حسب السور ، وقد اعترف بذلك الشيخ الذهبي في كتابه « التفسير والمفسرون »
    يقول الذهبي عند ما يتطرق إلى تفسير « كنز العرفان في فقه القرآن » : يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط ، وهو لا يتمشى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكراً ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصاص وابن العربي مثلاً ، بل طريقته في تفسيره : انّه يعقد فيه أبواباً كأبواب الفقه ، ويدرج في كلّ باب منها الآيات التي تدخل تحت موضوع واحد ، فمثلاً يقول : باب الطهارة ، ثمّ يذكر ما ورد في الطهارة من الآيات القرآنية ، شارحاً كلّ آية منها على حدة ، مبيناً ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإمامية الاثنا عشرية. (1)
    ثمّ إنّ أوّل من توسع في التفسير الموضوعي هو شيخنا العلاّمة المجلسي ، فقد اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب موسوعته النادرة « بحار الأنوار » حيث جمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسرها تفسيراً سريعاً ، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة ، لكنّها جليلة في عالم التفسير ، وقد قام بذلك مع عدم وجود المعاجم القرآنية الرائجة في تلك الأعصار.
    وبما أنّ القرآن الكريم بحث في أُمور ومواضيع كثيرة لا يحيط بها أحد ، لذا
    1 ـ التفسير والمفسرون : 2/465.

(10)
فقد آثرنا دراسة الجانب العقائدي من هذه المواضيع الكثيرة جداً ، لأهميته في ترسيم معالم الإيمان وترسيخه في حياة الإنسان. وتؤلّف قضايا التوحيد والشرك حجر الأساس في العقيدة الإسلامية ، بل حجر الأساس في كلّ الشرائع السماوية.
    فبإلقاء نظرة سريعة على الآيات القرآنية يتضح انّ القرآن الكريم بذل حيال مسألة التوحيد الأُلوهي و الربوبي من العناية ما لم يبذل مثلها حيال أية مسألة أُخرى من المسائل العقائدية والمعارف العقلية. بل حتى قضية « المعاد » والبعث في يوم القيامة التي تعد من القضايا المهمة جداً في نظر القرآن بحيث لا يمكن لأي دين أن يتجلى في صورة « عقيدة سماوية » ومنهج إلهي دون الاعتقاد بها ، كما لا يمكن لذلك المنهج أن ينفذ إلى الأعماق والافئدة بدونها.
    ويجدر بالذكر انّ عناية القرآن تركزت أساساً على ابلاغ وبيان « أُصول الدين »و بذر بذورها في الأفئدة ، والعقول أكثر من العناية ببيان المسائل الفرعية العملية.
    ويشهد على ذلك أنّ الآيات التي وردت في القرآن حول موضوع « المعاد » تتجاوز (2000) آية ، في حين يقارب مجموع الآيات الواردة حول الأحكام المبينة لفروع الدين (288) آية أو يتجاوزها بقليل.
    وهذا هو بذاته يكشف عن الاهتمام الواسع والعناية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للمسائل الفكرية والقضايا الاعتقادية.
    وعلى هذا الأساس قد خصصنا الجزء الأوّل للتوحيد والشرك بمختلف مراتبهما ، ولما انتهى بحثنا في آخر الجزء إلى التوحيد في الحكومة التي هي للّه سبحانه فقط ، آثرنا أن نركز في الجزء الثاني على معالم الحكومة الإسلامية ، ثمّ تدرّجنا في البحث في سائر الأجزاء إلى الجزء العاشر الذي اهتم بالعدل والإمامة ، وما يمت لهما بصلة.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس