مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 21 ـ 30
(21)
التوحيد في الولاية
    ولا نعني من الولاية « الولاية التكوينية » أي الربوبية والتدبير ، بل المراد « الولاية التشريعية » وتنظيم شؤون الفرد والمجتمع في عامّة مجالات الحياة.
    والولاية بهذا المعنى تعني الأمارة ، ولها مظاهر ثلاثة :

1. التوحيد في الحاكمية
    ولقد وجّه القرآن الكريم عناية خاصة إلى « التوحيد في الحاكمية » بحيث يتبيَّن بوضوح أنّ الحكم والولاية في منطق القرآن ليس إلاّ للّه تعالى وحده ، وانّه لا يحق لأحد أن يحكم العباد دونه ، وأنّه لا شرعية لحاكمية الآخرين إلاّ إذا كانت مستمدة من الولاية والحاكمية الإلهية وقائمة بأمره تعالى ، وفي غير هذه الصورة لن يكون ذلك الحكم إلاّ حكماً طاغوتياً لا يتصف بالشرعية مطلقاً ولا يقرّه القرآن أبداً.
    على أنّنا حينما نطرح هذا الكلام ونقول : بأنّ الحكم محض حق للّه وأنّ الحاكمية منحصرة فيه دون سواه فليس يعني ذلك أنّ على اللّه أن يباشر هذه الحاكمية بنفسه ، ويحكم بين الناس ويدير شؤون البلاد دونما واسطة ، ليقال إنّ ذلك محال غير ممكن ، أو يقال إنّ ذلك يشبه مقالة الخوارج إذ قالوا للإمام علي ( عليه السَّلام ) رافضين حكمه و إمارته :
    « أن الحكم إلاّ للّه ، لا لك يا علي ، ولا لأصحابك » (1).
    بل مرادنا هو : أنّ حاكمية أيِّ شخص يريد أن يحكم البلاد والعباد لا بد أن
    1 ـ كان هذا شعار الخوارج يردّدونه في المسجد وغيره.

(22)
تستمد مشروعيتها من : « الإذن الإلهي » له بممارسة الحاكمية.
    فما لم تكن مستندة إلى هذا الإذن لم تكن مشروعة ولم يكن لها أي وزن ، ولا أي قيمة مطلقاً.
    ونفس هذا الكلام جار في مسألة الشفاعة أيضاً.
    فعندما يصرح القرآن بوضوح قائلاً : ( قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1) لا يعني أنّه لا يشفع إلاّ اللّه ، إذ لا معنى لأن يشفع اللّه لأحد.
    بل المفاد والمراد من هذه الآية هو أنّه ليس لأحد أن يشفع إلاّ بإذن اللّه ، وأنّه لا تنفع الشفاعة إذا لم تكن برضاه ومشيئته (2).
    وإن شئت قلت : إنّ أمر الشفاعة بيد اللّه تعالى من حيث الشافع والمشفع واللام في قوله ( للّهِ ) يدل على اختصاص خاص وهو أنّ أمر التصرّف باختياره تعالى كقوله : ( وَللّهِ غَيْبُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ ) (3).

2. التوحيد في الطاعة
    كما أنّ الحاكمية على العباد مختصة باللّه سبحانه ، كذلك لا يجوز لأحد أن يطيع أحداً غير اللّه ، فالطاعة هي أيضاً حق منحصر باللّه سبحانه لا يشاركه فيها ولا ينازعه أحد.
    وأمّا لو شاهدنا القرآن يأمرنا ـ في بعض الموارد ـ بطاعة غير اللّه ، مثل
    1 ـ الزمر : 44.
    2 ـ بحث المؤلف الشفاعة في كتاب مستقل باسم « الشفاعة بين يدي القرآن والسنّة والعقل ».
    3 ـ هود : 123.


(23)
الأنبياء والأولياء ، فليس لأنّ طاعة هؤلاء واجبة بالذات ، بل لأنّ وجوب طاعتهم من جهة أنَّها « عين » طاعته سبحانه ، وبأمره.
    وبتعبير أجلى : حيث إنّ اللّه تعالى « أمر » بطاعة هؤلاء ، لهذا وجبت إطاعتهم واتّباع أوامرهم والانقياد لأقوالهم امتثالاً لأمر اللّه وتنفيذاً لإرادته ، فلا يكون هناك حينئذ إلاّ « مطاع واحد » في واقع الحال ، وهو اللّه جل جلاله. وأمّا إطاعة الآخرين (أي غير اللّه) فليست إلاّ في ظل إطاعة اللّه تعالى شأنه ، وفرع منها.

3. التوحيد في التقنين
    إنّ حق التقنين والتشريع ـ هو الآخر ـ مختص باللّه في نظر القرآن الكريم ، تماماً مثل الأُمور السالفة الذكر.
    فليس لأحد سوى « اللّه » حق التقنين والتشريع وجعل الأحكام وسن القوانين للحياة البشرية.
    ولذلك فإنّ الذين أعطوا مثل هذا الحق للأحبار والرهبان خرجوا من دائرة التوحيد في التقنين ، ودخلوا في زمرة المشركين.
    ويمكن إدراج هذا القسم (أي التوحيد في التقنين) تحت قسم ( التوحيد الافعالي) ولكن من الأفضل أن نفرد له قسماً خاصاً ، وبحثاً مستقلاً ، لأنّ المقصود بالأفعال في « التوحيد الافعالي » هو الأفعال التكوينية أي المرتبطة بعالم الخلق والتكوين والطبيعة ، في حين أنّ التقنين والتشريع نوع من الأُمور الاعتبارية والجعلية العقلائية ، فليس التحليل والتحريم أمرين تكوينيين ، بل من الملاحظات العرفية القائمة بذهن المعتبر واعتباره ، ولهذا يكون من الأنسب التفريق بين هذين القسمين.


(24)
    وهكذا بالبحث في :
    التوحيد في الحاكمية
    والتوحيد في الطاعة.
    والتوحيد في التقنين.
    أقول : بالبحث في هذه الأُمور تتضح صيغة الحكومة ونظام الحكم في الإسلام ، وتتجلّ ـ ى لنا الصورة الواقعية للحكومة الإسلامية.
    لأنّ على هذا الأساس لن تكون الحكومة الإسلامية من نوع « حكم الفرد على الشعب » ولا من نمط « حكم الشعب على الشعب » على إطلاقه ، بل هي من نوع « حكومة اللّه على المجتمع بواسطة المجتمع » (1) أو بعبارة أُخرى : حكومة القانون الإلهي على المجتمع.
    وأمّا بقية الصيغ الأُخرى للحكم التي سوف نستعرضها فيما بعد فلا توافق الصيغة القرآنية على صعيد نظام الحكم مطلقاً.
    ففي كثير من الصيغ المطروحة لنظام الحكم يشار فيها ـ في العادة ـ إلى هذه الأُصول الثلاثة وهي :
    1. السلطة التشريعية.
    2. السلطة القضائية.
    3. السلطة التنفيذية.
    1 ـ على النحو الذي سيأتي بيانه موسعاً فيما بعد.

(25)
    وكل هذه السلطات الثلاث محترمة في نظر الإسلام ، إلاّ أنّ مهمة « السلطة التشريعية » في الحكومة الإسلامية ليست إلاّ « التعريف بالقانون » والتخطيط وفق موازين الشريعة الإسلامية وليس سن القوانين ، لأنّ في النظام الإسلامي يختص حق التقنين باللّه ، فلا مكان لمقنّن آخر فيه سوى اللّه الذي سن جميع ما يحتاجه البشر من القوانين وأبلغها إليهم عن طريق الأنبياء والمرسلين.
    من هنا لا بد لتكميل « البحوث التوحيدية » ـ بالإضافة إلى دراسة مراتب التوحيد الأربع ـ من البحث في هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد على ضوء القرآن.
    على أنّنا لا ندعي بتاتاً بأنّ مراتب التوحيد وأقسامها تنحصر في هذهالمراتب السبع وتقف عند هذا الحد ، بل يمكن أن يكون للتوحيد مراتبأُخرى ذكرها القرآن (1) ولكن بحثنا سيدور فعلاً حول هذه الأقسام السبعة.
    ولكي نحيط إحاطة كاملة بالكثير من المسائل المرتبطة « بالتوحيد والشرك » من وجهة نظر القرآن الكريم يتعين علينا أن نتعرف على نظر القرآن الكريم في المباحث التالية التي هي موضع عناية القرآن :
    1. اللّه والفطرة.
    2. اللّه وعالم الذر.
    1 ـ مثل « التوحيد في الهداية » و « التوحيد في المالكية » و « التوحيد في الرازقية » و « التوحيد في الشفاعة » مما يمكن إدخال بعضها أو جميعها في قسم « التوحيد الافعالي ».

(26)
    3. اللّه وبراهين وجوده في القرآن (1).
    4. اللّه وسريان معرفته في الوجود بأسره.
    5. اللّه و التوحيد في الذات.
    6. اللّه وبساطة ذاته وعينيّة صفاته لذاته.
    7. اللّه و التوحيد في الخالقية (2).
    8. اللّه و التوحيد في الربوبية (التدبير) (3).
    9. اللّه و التوحيد في العبادة.
    10. اللّه و التوحيد في التقنين.
    11. اللّه و التوحيد في الطاعة.
    12. اللّه و التوحيد في الحاكمية.
    1 ـ ليس من الصحيح أن يؤخذ علينا استدلالنا بالقرآن على وجود اللّه بظن أنّ هذا يستلزم الدور الصريح بأن يقال :
    إنّ القرآن حجة فيما يقول لو ثبت الوحي والرسالة ، والوحي والرسالة لا يثبتان إلاّ بعد ثبوت الموحي المرسل ، فالاستدلال بالقرآن لثبوت الموحي المرسل استدلال بالشيء على نفسه.
    أقول : لا يصح أن يؤخذ علينا إشكال كهذا ، لأنّنا إنّما نستدل بالقرآن ، لأنّه لا يعرض ما يتعلق بالعقائد الدينية إلاّ مع الأدلة العقلية القاطعة ، وهذا وحده أمر يستدعي الاهتمام بغض النظر عن كون القرآن وحياً إلهياً وكتاباً سماوياً.
    فاستشهادنا واستهداؤنا بالقرآن إذن هو من قبيل استهداء التلميذ بأُستاذه الذي يريه الطريق ، أي بصرف النظر عن كون القرآن كلام اللّه بل بالنظر إلى كونه مبيناً للأدلّة والبراهين العقلية ومشيراً إلى الأدلّة التي تستدعي من عقولنا التأمل.
    2 ـ الخالقية والتدبير (اللّذين فتحنا لهما فصلين مستقلين) هما في الحقيقة من فروع التوحيد في الأفعال ، ولكن لكثرة مباحثهما بحثنا عن كل واحد بالاستقلال.
    3 ـ الخالقية والتدبير (اللّذين فتحنا لهما فصلين مستقلين) هما في الحقيقة من فروع التوحيد في الأفعال ، ولكن لكثرة مباحثهما بحثنا عن كل واحد بالاستقلال.


(27)
    وسنبحث في هذا الكتاب وفق هذا الجدول الذي يؤلف فصول هذا الكتاب الرئيسية ، وسيكون مستندنا الوحيد ـ طوال هذا البحث ـ هو (آيات القرآن الكريم ) ومداليل هذه الآيات ومفادها.
    كما أنّنا لمزيد التوضيح ربّما استعنا ـ خلال البحث ـ بالأدلة العقلية الواضحة والتحليل الفلسفي ، وربّما نستشهد ببعض الأحاديث التي رواها السنّة والشيعة عن النبي الكريم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وآله ( عليهم السَّلام ) ومن اللّه نسأل العون والسداد.


(29)
الفصل الأوّل
اللّه و الفطرة


(30)
معرفة اللّه والفطرة
    1. هزيمة التكنولوجيا والحياة الآلية.
    2. اعترافات علماء الاجتماع بأصالة التديّن.
    3. هل وجود اللّه أمر بديهي؟
    4. تعاليم الدين ـ بأُصولها ـ أُمور فطرية.
    5. تجلّ ـ ي الفطرة عند الشدائد.
    6. هل وحدانية اللّه أمر فطري وإن لم يكن الاعتقاد بذاته فطرياً؟
    7. الإجابة عن هذا السؤال.
    8. ما هو الفرق بين التوحيد الفطري و الاستدلالي؟
    9. كيف نميز بين الفطري وغير الفطري؟
    10. علامات الفطرية الأربع.
    11. البعد الرابع أو غريزة التدين.
    12. سلوك الماركسيين تجاه أُصولهم.
    13. المعنى الآخر لفطرية الإيمان باللّه.
    14. الفطرة في الأحاديث.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس