مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 111 ـ 120
(111)
الفصل الثالث
اللّه وبراهين وجوده في القرآن


(112)
اللّه وبراهين وجوده في القرآن
    1. كثرة البراهين على وجود اللّه تعالى.
    2. دليل الفطرة.
    3. برهان الحدوث.
    4. برهان الإمكان.
    5. برهان الحركة.
    6. برهان النظم.
    7. برهان محاسبة الاحتمالات.
    8. برهان التوازن والضبط.
    9. الهداية الإلهية في عالم الحيوان.
    10. برهان الصدّيقين.
    11. براهين أُخرى.


(113)
كثرة البراهين على وجود اللّه تعالى
    من الأقوال المشهورة في أوساط العلماء تلك الجملة التي تقول :
    « الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق ».
    فهذه الجملة المقتضبة تشير إلى أنّ الأدلة على وجود اللّه جل شأنه ليست واحداً ولا اثنين ولا عشر ولا مائة ، بل هي بعدد أنفاس المخلوقات.
    وهذا الكلام وإن كان مثار عجب ودهشة عند من ليس لديه دراسة مفصلة وتعمّق في العلوم الإلهية .. إذ كيف يمكن ـ في نظر هؤلاء غير المتعمّقين في الإلهيات وغير الملمّين بعلوم التوحيد ـ .
    كيف يمكن أن تكون أدلّة وجود اللّه بعدد أنفاس الخلائق التي لا يحصيها عدد ولا يحصرها عد ؟!!
    ولكن لو أُتيح لنا أن نطّلع على ما ورد في كتب العقائد والفلسفة من الأدلّة على وجود اللّه ، لأدركنا أنّ هذا الكلام لم يكن مبالغاً فيه ، بل هو عين الحقيقة.
    لأنّ بعض هذه الأدلّة التي سنشير إلى « أُصولها » وأُمّهاتها ـ هنا ـ من السعة والشمولية بحيث يتّخذ من نظام كل ذرة في عالمنا دليلاً على وجود اللّه ، وطريقاً إلى إثباته.
    ومن المعلوم أنّه لا يعلم عدد ذرات هذا العالم إلاّ اللّه تعالى.
    وفيما يأتي نذكر أُصول وأُمهات هذه البراهين الرائجة :


(114)
1. دليل الفطرة
    دليل الفطرة ـ كما تحدّثنا عنه في الفصل الأوّل ـ طريق القلب ودليل الفؤاد لا العقل والاستدلال.
    فكل فرد ينجذب إلى اللّه ويميل إليه قلبياً وبصورة لا إرادية ، سواء في فترة من حياته ، أم في كل فترات حياته دون انقطاع.
    وهذا التوجّه القلبي العفوي الذي يكمن في وجود كل فرد فرد من أبناء البشر لهو إحدى الأدلّة القاطعة على وجود اللّه ، وهذا هو ما يسمّى بدليل « الفطرة ».

2. برهان الحدوث
    برهان الحدوث هو البرهان الذي يعتمد على « حدوث » الكون وما فيه.
    وملخّصه : أنّ لهذا الكون بداية ، وأنّه لذلك فهو مسبوق بالعدم ، ومن البديهي أنّ ما يكون مسبوقاً بالعدم (أي كان حادثاً) ، فإنّ له محدثاً بالضرورة ، لامتناع وجود الحادث دون محدث.
    ويعتمد المتكلّمون الإسلاميون ـ في الأغلب ـ على حدوث العالم لإثبات الصانع ، ربما باعتباره أقرب الأدلة إلى متناول العقول ، والأفهام.

3. برهان الإمكان
    يتوسّل الفلاسفة المسلمون ـ في الغالب ـ لإثبات وجود اللّه بتقسيم الأشياء إلى :
    واجب


(115)
    وممكن
    وممتنع
    وذلك لأنّ أيّة ظاهرة وأي شيء نتصوّره في عالم الذهن لا يخرج عن إحدى حالتين عندما ننسب إليه الوجود الخارجي فهو :
    إمّا أن يقتضي الوجود لذاته ، أي ينبع الوجود من ذاته ، فهو « واجب الوجود ».
    وإمّا يقتضي العدم لذاته ، بمعنى أنّ العقل يمنع الوجود عنه ، فهو « ممتنع الوجود ».
    وأمّا لو كان الوجود والعدم بالنسبة إليه على حد سواء (أي لا يقتضي لا الوجود ولا العدم بذاته) فحينئذ يحتاج اتصافه بأحد الأمرين ، أعني : العدم والوجود إلى عامل خارجي حتماً ، لكي يخرجه من حالة التوسط والتساوي ويضفي عليه طابع الوجود أو العدم ، وهذا النوع هو ما اصطلح على تسميته ب ـ « ممكن الوجود ».
    وعندما نتصور الأشياء والظواهر الكونية نجد أنّ العدم أو الوجود لم يكن جزءاً من ماهيتها ولا عينها ولا مزروعاً فيها في الأصل ، فإذا وجدناها تلبس ثوب الوجود ، فلابد أن يكون هناك عامل خارجي عن ذاتها هو الذي أسبغ عليها ذلك .. وهو الذي أخرجها من عالم المعدومات إلى حيز الموجودات ، أو بالعكس.
    وهذا العامل الخارجي إن كان هو أيضاً على غرار تلك الأشياء في كونها ممكنة الوجود إذن لاحتاج إلى عامل خارجي آخر يضفي عليه حلة الوجود ويطرد عن ساحته صفة العدم.


(116)
    وإن كان هذا العامل الثاني نظير العامل الأوّل « في صفة الإمكان » لاحتاج إلى عامل آخر ، وهكذا دواليك بحيث يلزم « التسلسل ».
    وأمّا لو كان العامل الخارجي الأوّل ـ في حين كونه موجداً وعلّة للأشياء ـ معلولاً وموجداً من قبل نفس تلك الأشياء لزم « الدور » المستحيل في منطق العقول.
    ولما كان التسلسل والدور باطلين عقلاً (1) لزم أن نذعن بأنّ كل الحادثات الممكنات تنتهي إلى موجد « غني بالذات » « قائم بنفسه » غير قائم بغيره ، وغير مفتقر في وجوده إلى أحد أو شيء على الإطلاق.
    وذلك الغني بالذات هو « الواجب الوجود » هو اللّه العالم ، القادر ، القيوم .. القائم بذاته القائم به ما سواه.
    وهذا هو دليل الإمكان.

4. برهان الحركة
    كان روّاد العلوم الطبيعية ـ في السابق ـ كأرسطوا وأتباعه ، يستدلّون ب ـ « حركة الأجسام والأجرام الفلكية » على وجود المحرّك ، وبذلك يثبتون وجود اللّه.
    فكانوا يقولون ما خلاصته : إنّه لا بد لهذه الأجرام المتحرّكة من محرّك منزّه عن الحركة ، وذلك استناداً إلى القاعدة العقلية المسلمة القائلة : « لابد لكل متحرّك من محرّك غير متحرّك ».
    1 ـ سيوافيك بيان جهة بطلان التسلسل والدور في الأبحاث القادمة.

(117)
5. برهان النظم
    لقد ظل النظام البديع العجيب الذي يسود كل أجزاء الكون من الذرة إلى المجرّة ، أحد العوامل المهمة التي هدت ذوي الألباب والفكر والمتذكرين (1) من البشر إلى اللّه ، إذ لم يكن من المعقول ـ أبداً ـ أن لا يخضع مثل هذا النظام البديع والمعقد لتدبير قوة عاقلة عليا ، وتدبير مدبّر حكيم.
    و الآيات القرآنية المتعرضة لبيان آثار اللّه تعالى في عالم الخلق إن كانت تهدف إلى إثبات الصانع ، فهي في الحقيقة إنّما تعتمد على « برهان النظم ».
    فإذا كانت ورقة من أوراق الشجرة ، أو ذرة من ذرات العالم ، دليلاً على حكمة اللّه تعالى وبرهاناً على إرادته ، فهي بطريق أولى دليل على « أصل وجوده ».
    إذ الوجود مقدّم على الصفات ، فما دلّ على الصفات فهو بالأحرى دال على الوجود.
    وسيأتي الحديث المفصّل عن هذا القسم في المستقبل.

6. برهان محاسبة الاحتمالات
    وهو برهان ابتكره علماء الغرب وزاده نضجاً وتوضيحاً العالم المعروف « كريسي موريسون » صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي لم يهدف من كتابته إلاّ بلورة وإيضاح هذا البرهان ـ أساساً ـ .
    1 ـ هذه الأوصاف الثلاثة مقتبسة من القرآن الكريم ، فهو عندما يذكر آثار قدرة اللّه وحكمته وعلمهتعالى يعقب كلامه بهذه العبارات : ( أُولو الألباب ) و ( لقوم يتفكّرون ) و ( لقوم يتذكّرون ).

(118)
    وإليك ملخّص هذا البرهان :
    يقول : لا شك أنّ ظهور الحياة بشكلها الحاضر على وجه الأرض ليس إلاّ نتيجة تضافر شرائط وتوفر علل وعوامل كثيرة بحيث لو فقد واحد منها لامتنع ظهور الحياة على الأرض ولاستحالت حياة الأحياء عليها.
    فلو أنّ ظهور الحياة كان نتيجة انفجار أو انفجارات في المادة الأُولى عن طريق المصادفة ، لكان من الممكن أن تتحقّق ملياردات الصور والكيفيات ويكون احتمال ظهور هذه الصورة واحداً من مليارات الصور ، وحيث إنّ صورة واحدة فقط هي التي تحققت دون بقية الصور ينطرح هذا السؤال :
    كيف تحقّقت هذه الصورة الحاضرة دون بقية الصور عقيب الانفجار ؟
    وكيف وقع الاختيار على هذه الصورة بالذات من بيان سائر الصور والحال كان المفروض أنّ جميعها متساوية في منطق المصادفة.
    إنّنا لا نجد جواباً معقولاً في هذا المجال إلاّ أن نعزي الأمر إلى غير المصادفة.
    وبعبارة أُخرى : انّ كثرة الشروط اللازمة لظهور الحياة على الكرة الأرضية تكون بحيث إنّ احتمال اجتماع هذه الشرائط بمحض المصادفة مرة في بليون مرة ، ولا يمكن لعاقل أن يفسر ظاهرة من الظواهر بمثل هذا الاحتمال غير العقلائي وغير المنطقي جداً.
    وننقل هنا نص ما قاله العالم المعروف تحت عنوان « المصادفة » :
    « إنّ حجم الكرة الأرضية وبعدها عن الشمس ، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة ، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء ، ومقدار ثاني أوكسيد


(119)
الكربون وحجم النتروجين وظهور الإنسان وبقاءه على قيد الحياة ، كل أولاء تدلّ على خروج النظام من الفوضى ، وعلى التصميم والقصد ، كما تدلّ على أنّه طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة ، « كان يمكن أن يحدث هكذا » ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد !!
    وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة وحين نعترف ـ كما ينبغي لنا ـ بخواص عقولنا التي ليست مادية فهل في الإمكان أن نغفل البرهان ، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم أنّنا وكل ما عدانا ، نتائج المصادفة.
    لقد رأينا أنّ هناك 999/999/999 فرصة ضد واحد ، ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة » (1).

7. برهان التوازن والضبط
    وهذا البرهان من فروع برهان النظم ، والمقصود منه هو ذلك « التعادل والتوازن والضبط » الذي يسود عالم الأحياء كلها من حيوانات ونباتات.
    ونذكر نموذجاً لذلك من باب المثال فنقول :
    يتبيّ ـ ن لنا من دراسة عالم الحيوان والنبات أنّ كلاً منهما مكمّل للآخر ، بحيث لو لم يكن في عالم الطبيعة إلاّ الحيوانات فحسب لفنيت الحيوانات وزالت من صفحة الوجود ، وهكذا لو لم يكن إلاّ النباتات فحسب لفنيت النباتات وزالت هي أيضاً.
    1 ـ العلم يدعو للإيمان : 195 ـ 196.

(120)
    وذلك لأنّ النباتات ـ على وجه العموم ـ تتنفس « ثاني أُكسيد الكاربون » فيما تطلق الأوكسجين في الفضاء.
    فأوراق الشجر بمنزلة رئة الإنسان مهمتها التنفس ، في حين أنّ الحيوانات تستهلك الأوكسجين وتدفع الكربون.
    وبهذا يبدو ـ جلياً ـ أنّ عمل كل واحد من هذين الصنفين من الأحياء مكمل لعمل الآخر ومتمم لوجوده ، وأنّ حياة كل منهما قائمة على الأُخرى.
    فلو كانت في الأرض : « النباتات » فقط لنفذ الكربون ... ولم يكن لها ما تتنفسه.
    ولو لم يكن في الأرض إلاّ « الحيوانات » فقط لفني الأوكسجين ولم يكن لها ما تتنفسه.
    ولكان معنى كل ذلك فناء النوعين بالمرة وزوالهما من وجه الأرض بسرعة.

8. الهداية الإلهية في عالم الحيوانات
    يعتبر « اهتداء » الحيوانات والحشرات إلى ما يضمن بقاءها ، واستمرار حياتها ، دليلاً آخر على وجود « هاد » لها فيما وراء الطبيعة هو الذي يقوم بهدايتها في مسيرة الحياة ، ويلهمها كل ما يفيدها ويساعدها على العيش والبقاء إلهاماً أسماه القرآن ب ـ « الوحي ».
    ولهذا البرهان جذور وأُصول قرآنية ، ولذلك سنتعرض له بالبحث ونتاوله بالتحقيق بنحو مبسوط في المستقبل ، كما سنبرهن على أنّه غير البرهان المعروف ببرهان « النظم في عالم الوجود ».
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس