مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 171 ـ 180
(171)
    وفي هذا الاستدلال استدلّ القرآن بوجود المصنوع (كالمزارع الخضراء وحفظها وصيانتها من الجفاف) على وجود الصانع.
    وقد جاء عين هذا الاستدلال في القسم الثالث والرابع أيضاً ، فنزول المطر من السحاب ـ وهو أمر حادث ـ لا بد له من محدث ..
    وإذا ساعدت بعض العوامل على ذلك ، كتبخر مياه البحار بسبب الشمس ، فإنّه لا محيص ـ في الم آل ـ من أن يعتمد الموضوع على إرادة قادر متعال ، هو الذي أوجد تلك العوامل ، وهو الذي نسّقها ، ونظّمها ، وساعدها على التأثير وصانها من أي تلوث و أُجوج كما يقول : ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْنَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) (1).
    في هذا المورد استدل الكتاب الكريم بوجود ظاهرة هطول المطر ، وظاهرة السحاب وصيانتها عن الأُجوج والتلوث ، على وجود الصانع.
    وعلى هذا النمط والغرار يكون أمر تواجد النار تلك الظاهرة العجيبة جداً.
    فالإنسان لا يقوم في مسألة النار إلاّ بدور الناقل فحسب.
    فهو ـ كما نلاحظ ـ لا يفعل إلاّ إيصال شعلة الكبريت إلى الحطب في المطبخ لا أكثر.
    لهذا فلا يكون للإنسان أي دور في نشأة هذه الظاهرة(النار) وتكوّنها ، اللّهم إلاّ عملية الإشعال والوري.
    1 ـ الواقعة : 68 ـ 70.

(172)
    ولذلك نسب القرآن الكريم عملية « الوري » إلى البشر ، إذ قال : ( أفرأيتم النار التي تورون ).
    ولكن الوري والإيقاد وحده لا يكفي في تكوّن هذه الظاهرة ، أعني : النار ، بل لابد من قادر أوجد بقدرته هذه المواد الاحتراقية في الشجر يابسه ورطبه حتى يتأتّى ـ ضمن شروط وفي ظروف خاصة معينة ـ أن تشتعل.
    ترى هل يمكن لأحد أن ينكر تأثير قدرة عليا في ظهور هذه الأشجار التي تختزن المواد الاحتراقية؟
    بالطبع لا.
    ولذلك يقول الكتاب العزيز : ( ءَأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ).
    وفي هذه الأقسام الأربعة استدلّ بوجود المصنوع على وجود الصانع القادر العالم.
    وفي الختام نعترف ـ ثانية ـ بأنّه مع أنّ هذه الآيات تستدل على وجود اللّه بطريق الإن ، غير انّ مقصودها الأصلي ليس إثبات أصل وجود اللّه ، بل المقصود والهدف هو الاستدلال على إمكان وقوع المعاد وبعث الإنسان بعد موته ، ونشور الكون بعد انعدامه ، وإنّما ذكرت البراهين الدالة على وجود اللّه وخالقيته كمقدمة لإثبات إمكان إعادة الخلق بعد الموت.
    لأنّنا حيث نعلم أنّ الفاعل والمدبّر لهذه الظواهر الكونية هو اللّه القادر فلماذا ننكر إمكانية المعاد الإنساني؟!


(173)
    وبتعبير القرآن : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ). (1)
    فالآية تقول :
    الآن وأنتم ترون آثار تلك القدرة الإلهية ظاهرة في عالم الخلق ساطعة في دنيا الطبيعة ، فلم تستبعدون قدرته على إحياء الموتى وإعادة الكون والإنسان يوم القيامة ولماذا تنكرون المعاد ؟
    وعلى كل حال لو كان مبدأ البرهان في هذه الآيات أنّ هذه الأشياء كانت فاقدة الوجود من ذي قبل ، ولذلك فهي محتاجة في اتصافها بالوجود إلى علة فالآيات حينئذ ، ناظرة إلى « برهان الإمكان ».
    وإن كان مبدأ البرهان هو التنبيه إلى النظام السائد في هذه الأشياء ، فإنّ البرهان المشار إليه هنا هو « برهان النظم ».
    وإن كان مبدأ البرهان هو التركيز على سبق العدم على وجود الأشياء ، فهو يعتمد على الاستدلال بالحدوث على وجود المحدث.
    1 ـ الواقعة : 62.

(174)
التوحيد الاستدلالي : البرهان التاسع
بطلان المصادفة وبرهان محاسبة الاحتمالات
اجتماع شرائط الحياة على النسق الموجود
يبطل نظرية المصادفة
    ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ * وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ * وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ لآيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ ). (1)
    في هذه الآية يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى ظاهرة الحياة ، وعشرات بل مئات وآلاف العوامل الخفيّة والبارزة التي ساعدت على وجود ظاهرة الحياة على هذا الكوكب الترابي ، وكأنّها تقول : هل يمكن اجتماع كل هذه العوامل والشرائط بمحض المصادفة ، ودون وجود خالق هو الذي أوجدها ورتّبها ونظمها ، فحدثت ظاهرة الحياة على الصورة الموجودة ؟
    وبهذا كما يمكن أن تكون هذه الآية دليلاً على وجود الصانع الخالق من
    1 ـ البقرة : 164.

(175)
باب دلالة النظام على المنظم ، كذلك يمكن أن تكون دلالتها على ذلك من باب بطلان نظرية المصادفة و برهان محاسبة الاحتمالات.
    ويجدر بالذكر أنّ برهان محاسبة الاحتمالات وبطلان فرضية المصادفة من الأدلة الحديثة التي توصّل إليها العلماء الغربيون المعاصرون ، وبلورهما العالم المعروف كريسي موريسون صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي كتبه خصيصاً لإبطال نظرية المصادفة ، تلك النظرية التي تمسّك بها بعض الملحدين لإنكار وجود الخالق.
    ولأجل أن نعرف معنى المصادفة ، وكيفية بطلانها علميّاً وحسابيّاً لابد أن نعطي شرحاً لذلك ثم نشير إلى بعض الأدلة التي أشار إليها العلامة السالف الذكر ، وغيره من العلماء في هذا المجال.
ما هو المقصود من المصادفة ؟
    ليس المقصود من المصادفة هو بروز حادثة وظاهرة معينة دون علّة خارجية ، لأنّ هذا التفسير للتصادف يتنافى مع قانون العلية الذي يقرّ به ويعترف كل العلماء في العالم ، فليس بين العلماء والفلاسفة من ينكر قانون العلية هذا ، اللّهم إلاّ « هيوم » الفيلسوف الانجليزي المعروف ، على أنّه إنّما أنكر هذا القانون الكلّ ـ ي لأجل أنّه أراد أن يثبته عن طريق التجربة ، وكان يرى التجربة أعجز من أن تثبت أصالة لهذا القانون.
    أمّا لماذا كان يرى أنّ التجربة أعجز من أن تثبت ذلك فلسنا بصدده الآن. ولو كان هيوم مطّلعاً على القوانين والمقدمات الفلسفية لهذا الأصل ، لما كان يحدث له أي شك في ذلك.


(176)
    إنّما المقصود من المصادفة ـ عند الماديين وفي منطقهم ـ هو أن تتسبب سلسلة من التفاعلات الطويلة والحركات المتتالية في ظهور ظاهرة أو ظواهر منظمة ، دون أن يكون وراء ذلك أيُّ تخطيط وأيّة محاسبة ، ودون أن يكون وراء ذلك أيُّ موجد منظم ومخطط ، كأن يلعب طفل بآلة كاتبة ـ طويلاً ـ حتى تظهر قصيدة منظمة ، أو تنحدر صخرة وتسقط عدة مرّات من فوق جبل ، وتتحول فجأة ـ وبعد اصطدامها المكرر بالصخور ـ إلى تمثال إنسان معين ، وهكذا.
    هذا هو رأي الماديين حول وجود الكون وظهور النظام الكوني ، ولكن برهان محاسبة الاحتمالات الذي سندرسه في هذا الفصل يبطل وجود الكون المنظم عن طريق المصادفة ، وإليك توضيح ذلك.
ظاهرة الحياة
    سواء اعتبرنا الحياة ظاهرة مادية مائة بالمائة وأثراً كيمياوياً لتفاعلات المادة ، أم اعتبرناها ظاهرة مجرّدة ، فإنّه لابد من الإذعان ـ حتماً ـ بأن تحقّق الحياة في هذه الكرة أو في غيرها من الكرات يحتاج إلى عوامل وشرائط كثيرة ، حتى يتسنّى أنّ تتحقق الحياة على الأرض بسببها ، ومن المعلوم أنّ اجتماع هذه الشرائط والعوامل الكثيرة ، بمحض المصادفة بعيد إلى درجة أنّه لا يمكن عدّه في عداد الاحتمالات المعقولة ، والعقلائية.
    وعندما يلزم ، لتحقق ظاهرة مادية من الظواهر ، توفر عوامل متعددة فإنّ كل عامل من هذه العوامل سيكون جزءاً من العلة ، يستوجب وجوده وجود الظاهرة ، وفقدانه فقدانها ، قطعاً.
    وبالنسبة إلى ظاهرة الحياة فإنّ عدد العوامل والظروف الموجبة لتحققها على


(177)
الأرض من الكثرة بحيث لا يمكن أن يحيط بها فكر البشر ، وبحيث إنّ احتمال اجتماعها عن طريق التصادف ما هو إلاّ احتمال واحد من بين مليارد من الاحتمالات ، ومن غير الممكن لعاقل أن يعتمد في تفسير وجود الظاهرة على مثل هذا الاحتمال من بين ذلك الركام الهائل من الاحتمالات ، والفروض.
    ولهذا يقول العالم الكندي المتخصص في الطبيعة البيولوجية حول نظرية المصادفة :
    « إنّ ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة » (1).
    كما لهذا السبب أيضاً قال العالم الجليل : « كريسي موريسون » في كتابه : « العلم يدعو للإيمان » :
    « إنّ جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن أن يوجد على كوكب واحد في وقت واحد بمحض المصادفة » (2).
    وقال في موضع آخر من نفس الكتاب :
    « إنّ للحياة فوق أرضنا هذه شروطاً جوهرية عديدة بحيث يصبح من المحال حسابياً أن تتوافر كلّها بالروابط الواجبة بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت » (3).
    ثم يضرب العالم المذكور مثلاً لذلك بالغازات التي نستنشقها ونتنفسها
    1 ـ راجع « اللّه يتجلّ ـ ى في عصر العلم » : 5 ، مقال : هل العالم مصادفة؟
    2 ـ العلم يدعو للإيمان : 195.
    3 ـ المصدر السابق : 24.


(178)
قائلاً :
    « إنّ الاوكسجين والهيدروجين وثاني أوكسيد الكاربون والكاربون سواء أكانت منعزلة أم على علاقاتها المختلفة ـ بعضها مع بعض ـ هي العناصر البيولوجية الرئيسية وهي عين الأساس الذي تقوم عليه الحياة. غير أنّه لا توجد مصادفة من بين عدة ملايين ، تقضي بأن تكون كلها في وقت واحد وفي كوكب سيار واحد ، بتلك النسب الصحيحة اللازمة للحياة! وليس لدى العلم إيضاح لهذه الحقائق.
    أمّا القول بأنّ ذلك نتيجة المصادفة فهو قول يتحدّى العلوم الرياضية » (1).
    ولكي يتضح هذا البحث نشير إلى بعض هذه الظروف والشرائط التي يكون لكل واحد منها دور مهمّ ومؤثر في نشأة الحياة واستمرارها على هذا الكوكب الترابي ، بحيث لو فقد لانتفت هذه الحياة ، ولامتنع وجودها بالمرة.
    1. يحيط بالكرة الأرضية غلاف جوّي غليظ من الغازات يقدر العلماء ضخامته ب ـ « 800 » كيلومتر ، وهو بمثابة ترس واق يحفظ سكان هذه الكرة من خطر عشرين مليوناً من الشهب القاتلة والصخور الفضائية المتناثرة كل يوم في الفضاء والتي يبلغ سرعة الواحد منها50 كيلومتراً في الثانية ، حيث يحول هذا الغلاف دون وصول تلك الصخور إلى الأرض.
    ولو كان هذا الغلاف الواقي أرق وألطف مما هو عليه لاخترقت النيازك ـ كل يوم ـ غلاف الأرض الجوي الخارجي ، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها.
    1 ـ المصدر السابق : 73.

(179)
    فهذه النيازك والصخور الفضائية الطائرة في الجو تواصل رحلتها بسرعة 6 إلى 40 ميلاً في الثانية ، ونتيجة لهذه السرعة العظيمة فإنّها ستحرق كل شيء تصطدم به وتحدث فيه انفجاراً هائلاً.
    ولو كان سرعتها أقل من ذلك ، أي كان بسرعة رصاصة ، وكانت تصل كلّها إلى الأرض ، لأحدثت فيها خراباً لا يتحمل ، وحولتها إلى غربال.
    إنّ للغلاف الهوائي للأرض ـ مضافاً إلى الخاصية المذكورة ـ دوراً آخر وهو حفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة.
    2. انّ الماء لهو من عوامل الحياة على وجه الأرض ، فلكي تستمر الحياة في المحيطات والبحار والأنهر ، خلال فصول الشتاء الطويلة فقد خلق هذا العنصر الحياتي وهذه المادة الحيوية بشكل خاص بحيث ينجمد إذا بلغت درجة الحرارة ما يقارب الصفر ، وبذلك يحدث ويوجد غطاء يمنع من خروج الحرارة من داخل المياه ، ونتيجة لذلك تبقى المياه في أعماق البحار والأنهر وما شابه على حالة السيولة والميعان ، إذ في غير هذه الصورة لا يعني إلاّ أن تنجمد مياه المحيطات والبحار والأنهر ويستحيل على أثر ذلك بقاء الحياة والأحياء.
    ولا يخفى أنّ وزن الثلج ، الخاص به يساعد على ذلك ، إذ من البيّ ـ ن أنّ وزن الثلج أخف من الماء السائل ، ولذلك يطفو الماء المنجمد على السطح ولا ينزل إلى الأعماق.
    3. انّ الأرض هي أيضاً من عناصر الحياة ومقوّماتها كالماء تماماً ، فهي تحتوي على مواد معدنية خاصة ، تجذبها وتمتصها النباتات وتصنع منها الأغذية التي تحتاج إليها الحيوانات.


(180)
    إنّ وجود المعادن والفلزات في باطن الأرض وعلى مسافة قريبة من متناول أيدي البشر هو سبب ظهور وجوه متنوعة من الحضارات الإنسانية والتي من أبرزها الحضارة التكنولوجية التي نعاصرها.
    4. لقد خلقت الأرض بجاذبية خاصة وعلى قطر خاص بحيث تجذب بها المياه والهواء نحو مركزها وتحافظ عليها.
    فلو أنّ قطر الأرض كان ربع قطرها الفعلي لعجزت جاذبيتها عن الاحتفاظ بالماء والهواء على سطحها ولارتفعت درجة الحرارة إلى حد الموت.
    ولو أنّ الأرض بعدت عن الشمس بمقدار ضعف ما هي عليه الآن لانخفضت درجة حرارتها (أي حرارة الأرض) إلى ربع حرارتها الحالية ، ولتضاعف طول مدة الشتاء فيها ، ولانجمدت كل الأحياء فيها.
    ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليه الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة أمثال ، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحالي ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.
    فهل يمكن ـ ترى ـ أن تكون كل هذه الشرائط والعوامل قد اجتمعت واتفقت وجعلت الحياة ممكنة ، عن طريق التصادف في حين أنّ الاجتماع التصادفي لها كان من الممكن أن يؤول إلى آلاف الصور الأُخرى وتجعل الحياة في الم آل غير ممكنة.
محاسبة أُخرى
    تدور الأرض حول نفسها في كل 24 ساعة دورة واحدة ، وهي في دورتها
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس