مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 281 ـ 290
(281)
    من هذين البيانين اتضح مقصود القرآن الكريم من قوله : ( ليس كمثله شيء ).
    وقوله : ( ولم يكن له كفواً أحد ).
    كما اتضح أيضاً لماذا لا تكون الوحدة التي نصف بها الذات الإلهية ، وحدة عددية ، لأنّ مثل هذه الوحدة (أي العددية) إنّما تتصور إذا أمكن تصور فردين أو أفراد للشيء ، في حين لا يمكن تصور التعدّد في مورد اللامحدود ، لأنّ كل واحد من الفردين عند افتراض التعدّد ، غير الآخر ، ومنتهى حدود الآخر ، ولهذا يكون أي واحد منهما غير محدود ، وغير متناه في حين أنّنا افترضنا الأوّل غير محدود ، وغير متناه.
سؤال في المقام
    نرى في الكتاب العزيز مجيء وصف « القهار » عقيب وصف اللّه ب ـ « الواحد » مثل قوله : ( وَمَا مِنْ إِله إِلاَّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ). (1)
    ( سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ). (2)
    ( وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ). (3)
    1 ـ ص : 65.
    2 ـ الزمر : 4.
    3 ـ الرعد : 16.


(282)
    وهنا ينطرح سؤال عن وجه الارتباط بين وصفي الوحدانية والقهارية؟
    الجواب :
    الحق أنّ « القهارية » دليل على وحدانية اللّه ، لأنّ الشيء المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، وعلامة المقهورية هي أن يصح سلب أُمور منه ، مثلاً يصح أن يقال في شأنه :
    هذا الجسم ليس هناك أو أنّه لم يكن في ذلك الوقت.
    وعلى هذا فإنّ المقهورية هي سبب المحدودية.
    وأمّا إذا كان الشيء « قاهراً » من كل الجهات ، فلا تتحكم فيه الحدود قطعاً ، واللامحدودية تستلزم الوحدانية والتفرّد ، ولأجل ذلك قورنت صفة الوحدانية بوصف القاهرية ، وقال : ( الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ).
    وفي الحقيقة يمكن اعتبار هذا النوع من الوصف (أي الوصف بالقهارية) إشارة إلى ذلك الدليل العقلي الذي ذكرناه في هذه الإجابة.
    وهكذا يتضح وجه الارتباط بين وصفي « الوحدانية » و « القهّارية » اللّذين اجتمعا في بعض الآيات القرآنية.
    سؤال آخر :
    إذا كان وجود اللّه منزّهاً عن الوحدة العددية ، ففي هذه الصورة ماذا يكون معنى الآيات التي تصف اللّه بأنّه « الواحد » ، والواحد ، كما نعلم ، هو ما يقابل الاثنين والثلاث إلى غيرهما من الأعداد ، كقوله سبحانه :


(283)
( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (1)
    ( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) . (2)
    خاصة إذا عرفنا بأنّ هذه الآيات نزلت في مقام الرد على ما كان يذهب إليه المشركون من الاعتقاد ب ـ « تعدّد الآلهة » ، والذين كانوا يقولون : ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) . (3)
    الجواب : انّ الهدف من هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ هو استنكار ما كان يعتقده المشركون بأنّ لكل قبيلة وقوم إلهاً خاصاً بها كانوا يعبدونه ولا يعتقدون بآلهة الآخرين.
    فالمقصود من هذه الآيات هو إبطال إلوهية هذه الأوثان والآلهة المدّعاة وتوجيه الأذهان إلى « اللّه الواحد » بدل تلك الآلهة المتعددة.
    وأمّا أنّ وحدته كيف؟ وعلى أي وجه؟ ومن أي نوع من أنواع الوحدات الأربع تكون هذه الوحدة؟ فليست الآيات المذكورة ناظرة إليه ، بل يجب استفادة هذا الأمر من الإشارات التي وردت في القرآن إلى هذه الوحدة في مواضع أُخرى.

أحاديث أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) حول وحدانية اللّه
    لقد ورد هذان الموضوعان ، أعني : عدم تناهي ذاته سبحانه وعدم الوحدة العددية ، المذكوران في البرهان العقلي في أحاديث أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) أيضاً فهي
    1 ـ البقرة : 163.
    2 ـ العنكبوت : 46.
    3 ـ ص : 5.


(284)
صرّحت بنفي المحدودية والتناهي في الذات الإلهية ، و صرّحت أيضاً بعدم صدق « الوحدة العددية » في حقّه سبحانه.
    فقد قال الإمام الثامن علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء :
    « ليس له حد ينتهي إلى حده ، ولا له مثل فيعرف بمثله » (1).
    ومما يستحق الإمعان والدقة أنّ الإمام ( عليه السَّلام ) ـ بعد نفيه الحد عن اللّه ـ نفى المثيل له سبحانه لارتباط اللامحدودية وملازمتها لنفي المثيل على النحو الذي مر بيانه.
    ومن ذلك ما قاله الإمام علي ( عليه السَّلام ) في وقعة الجمل عندما كان بريق السيوف يشد إليها العيون ، وكانت ضربات الطرفين تنتزع النفوس والأرواح التفت إليه رجل من أهل العراق وسأله عن كيفية وحدانية اللّه ، فلامه أصحاب الإمام وحملوا عليه قائلين له : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب (أي تشتت الفكر واضطراب البال)؟!
    فقال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) :
    « دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ».
    ثم قال ـ شارحاً ما سأل عنه الأعرابي ـ :
    « وقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ».
    1 ـ توحيد الصدوق : 33.

(285)
    ثم أضاف ( عليه السَّلام ) قائلاً :
    « هو (أي اللّه) واحد ليس له في الأشياء شبيه ، كذلك ربنا » (1).
    وهكذا يصرح الإمام بأنّ الواحدية المذكورة هنا تعنى أنّه لا عديل له لا أنّه واحد على غرار قولنا : « هذا قلم واحد » الذي يكون مظنة لإمكان الاثنينية ، إذ في هذه الصورة يمكن أن يكون ذات مصاديق متعددة و أفراد متكثرة ، ولكنه انحصر في اللّه ، وهذا خلف ، وغير صحيح.

الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث
    بعد أن درسنا ـ بالتفصيل ـ الآيات المرتبطة بتوحيد اللّه ، يلزم أن نعرف نظر القرآن في حقيقة التثليث.
    الحقيقة أنّه قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها المسيحية.
    كما أنّه قلّما توجد مسألة في غاية الإبهام واللامعقولية كما تكون عليه مسألة « التثليث » في تلك العقيدة.
    لقد أدّى تقادم الزمن وتطور الحياة والتكامل الفكري وتضاؤل العصبيات المذهبية والتحولات الفكرية ، أدّت كل هذه الأُمور إلى ظهور « طبقة » جديدة بين مفكري المسيحية وعلمائها ، كما تسببت في وجود فجوة عميقة بين العلم والمنطق من جانب ، وبين معتقداتهم القديمة من جانب آخر بشكل لا يمكن ملؤها بأي نحو ، وأي شيء.
    غير أنّ هذه « الطبقة الجديدة » من العلماء المسيحيين اتخذت لملء هذه
    1 ـ توحيد الصدوق : 83.

(286)
الفجوة الفكرية وهذا الخلاء العقيدي طريقين :
    الطريق الأوّل : محاولة البعض منهم لتأويل تلك المعتقدات المسيحية الباطلة المرفوضة حتى في المنطق البشري الحاضر ، وإعطاء هذه الأفكار الخرافية صبغة منطقية عصرية كما نشاهد ذلك في تأويلهم لمسألة التثليث.
    الطريق الثاني : هو اجتناب التأويل واتباع قاعدة أتفه وهي قولهم : « بأنّ طريق العلم يختلف عن طريق الدين » وأنّه من الممكن أن يقول الدين بشيء أو يرتضي أصلاً لا يصدقه العلم فيه. وإنّه ليس من الضروري أن يطابق الدين مع العلم دائماً.
    وبالتالي قبول خرافة « الدين يخالف العلم ».
    ولكن هؤلاء غفلوا عن نقطة هامة جداً وهي أنّ القول بخرافة : « مضادة الدين للعلم » ستؤدي في الم آل إلى إبطال أصل الدين ، لأنّ اعتقاد البشر بأي دين من الأديان يتوقف على الاستدلالات العقلية والعلمية ، وفي هذه الصورة ، نعني : مضادة العلم للدين ، كيف يمكن إثبات صحة الدين بالاستناد إلى الأُسس العقلية والعلمية والحال أنّ بين الدين والعلم مباينة ـ حسب هذه النظرية ـ أو أنّ في الدين ما ربما يخالف العلم والعقل؟!!
    إنّ البحث في العقيدة النصرانية حول سيدنا المسيح يتركّز في مسألتين :
    1. التثليث وانّ اللّه سبحانه هو ثالث ثلاثة.
    2. كونه سبحانه اتخذ ولداً.
    والمسألتان مفترقتان من حيث الفكرة وإقامة البرهان ، ولأجل ذلك نعقد لكل واحدة منهما عنواناً خاصاً.


(287)
كيف تسربت خرافة التثليث إلى النصرانية؟
    ينقل الأُستاذ فريد وجدي نقلاً عن دائرة معارف « لاروس » :
    « أنّ تلاميذ المسيح الأوّليّين الذين عرفوا شخصه ، وسمعوا قوله ، كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنّه أحد الأركان الثلاثة المكونة لذات الخالق وما كان بطرس أحد حوارييه ، يعتبره إلاّ رجلاً موحى إليه من عند اللّه ، أمّا بولسن فإنّه خالف عقيدة التلامذة الأقربين لعيسى وقال : إنّ المسيح أرقى من إنسان وهو نموذج إنسان جديد أي عقل سام متولد من اللّه » (1).
    إنّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك والوثنية ـ تحت تأثير المضلّين ـ وبذلك كانوا ينحرفون عن جادة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لأنبياء اللّه ورسله.
    إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل وترك التوحيد الذي هداهم النبي العظيم موسى له ، لمن أفضل النماذج لما ذكرناه وهو ما أثبته القرآن والتاريخ للأجيال القادمة ، وعلى هذا فلا داعي للعجب إذا رأينا تسرب خرافة « التثليث » إلى العقائد النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح ( عليه السَّلام ) وغيابه عن أتباعه.
    إنّ تقادم الزمن قد رسخ موضوع « التثليث » وعمّقه في قلوب النصارى وعقولهم بحيث لم يستطع حتى أكبر مصلح مسيحي ونعني « لوثر » الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات وأسس المذهب البروتستانتي ، لم يستطع لوثر هذا من التخلّص من مخالب هذه الخرافة وأحابيلها.
    1 ـ دائرة معارف القرن العشرين مادة ثالوث.

(288)
رأي القرآن في التثليث
    يعتبر القرآن الكريم « قضية التثليث » مرتبطة بالأديان السابقة على المسيحية ويعتقد أنّ المسيح ( عليه السَّلام ) نفسه ما كان يدعو إلاّ إلى اللّه « الواحد » الأحد إذ يقول : ( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إنّ اللّهَ هُوَ المسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسرائيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبَّكُمْ إنّهُ مَنْ يُشْ ـ رِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) (1).
    ويعتقد القرآن أنّ النصارى هم الذين أدخلوا هذه الخرافة في العقائد المسيحية إذ يقول : ( وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (2).
    لقد أثبتت تحقيقات المتأخرين من المحققين صحة هذا الرأي القرآني بوضوح لا لبس فيه.
    فهذه التحقيقات والدلائل التاريخية جميعها تدل على أنّه أدخلت ـ في القرن السادس قبل الميلاد ـ إصلاحات على الدين البراهماني ، وفي النتيجة ظهرت الديانة الهندوسية.
    وقد تجلّ ـ ى الرب الأزلي الأبدي وتجسد ـ لدى البراهمة ـ في ثلاثة مظاهر وآلهة :
    1. برهما (الخالق).
    1 ـ المائدة : 72.
    2 ـ التوبة : 30.


(289)
    2. فيشنو (الواقي).
    3. سيفا (الهادم).
    ويوجد هذا الثالوث الهندوكي المقدس في المتحف الهندي ، في صورة ثلاث جماجم متلاصقة ، ويوضح الهندوس هذه الأُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :
    « براهما » : هو الموجد في بدء الخلق ، وهو دائماً الخالق اللاهوتي ، ويسمى الأب.
    « فيشنو » : هو الواقي الذي يسمى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.
    « سيفا » : هو المفني الهادم المعيد للكون إلى سيرته الأُولى.
    لقد أثبت مؤلف كتاب « العقائد الوثنية في الديانة النصرانية » في دراسته الشاملة حول هذه الخرافة وغيرها من الخرافات التي تعج بها الديانة النصرانية أثبت أنّ هذا « الثالوث » المقدس كان في الديانة البراهمانية ، وغيرها من الديانات الخرافية ، قبل ميلاد المسيح ( عليه السَّلام ) بمئات السنين.
    وقد استدل لإثبات هذا الأمر بكتب قيمة وتصاوير حية توجد الآن في المعابد والمتاحف يمكن أن تكون سنداً حياً ، ومؤيداً قوياً لرأي القرآن الكريم ، الذي ذكرناه عما قريب.
    ثم في هذا الصدد يكتب غوستاف لوبون :
    « لقد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأُولى من حياتها مع


(290)
أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوربية حوالي القرن الأوّل الميلادي ، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوناً من الأب والابن وروح القدس مكان التثليث القديم المكون من نروپي تر ، وژنون ونرو ». (1)
    لقد أبطل القرآن الكريم مسألة التثليث بالبرهان المحكم إذ قال : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعاً ) . (2)
    نعم لم يرد في هذه الآية كلام صريح عن التثليث بل تركز الاهتمام فيها على إبطال « إلوهية المسيح » ، ولكن طرحت ـ في آيات أُخرى ـ إلوهية المسيح في صورة إنكار « التثليث » ومن هذا الطرح يعلم أنّ إلوهية المسيح كانت مطروحة بصورة « التثليث » وتعدد الآلهة كما قال القرآن في موضع آخر : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَة وَمَا مِنْ إِله إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ ) (3).
    يقيم القرآن الكريم ـ في هذا المجال ـ برهانين في غاية الوضوح والعمومية ، وها نحن نوضحهما فيما يأتي :
    والبرهانان هما :
    1. قدرة اللّه على إهلاك المسيح.
    1 ـ قصة الحضارة.
    2 ـ المائدة : 17.
    3 ـ المائدة : 73.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس