مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 301 ـ 310
(301)
    وحيث إنّ البحث هنا هو حول التوحيد الذاتي ، فنرجئ البحث عن التوحيد في العبادة مطلقاً وبطلان معبودية المسيح خصوصاً إلى الفصل التاسع.
    غير أنّ التدبر في هذه الآية و الآيات المشابهة لها يوضح لنا نقطة مهمة وهي : أنّ الدافع الأساسي لاتخاذ شخص أو شيء معبوداً إنّما هو لأجل الاعتقاد بمالكية ذلك المعبود لضرهم ونفعهم.
    وعلى هذا فكل خضوع وخشوع ينبع من هذه النقطة المهمة يمكن أن يكون مصداقاً للشرك في العبادة.
    وأمّا إذا خضع أحد أمام إنسان آخر دون هذا الدافع فإنّ عمله لا يكون حينئذ إلاّ احتراماً ، وتكريماً وليس عبادة.
    وسوف يأتي مفصل هذا القسم في الفصل التاسع إن شاء اللّه.
    وبالتالي فإنّ القرآن الكريم يبدي نظره حول « السيد المسيح » وهو ـ في الحقيقة ـ الرأي الصحيح البعيد عن أية مبالغة أو غمط حق ، وهو قوله سبحانه : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) . (1)
    فلقد وصفت هذه الآية السيد المسيح بأفضل ما يمكن أن يكون مبيناً لحقيقة شخصية رفيعة الشأن جليلة المقام ، وكان هذا الوصف والتعريف رفيعاً ومؤثراً جداً بحيث جعل النجاشي (ملك الحبشة) الذي سأل جعفر بن أبي طالب أن يبين له رأي القرآن في المسيح فقرأ عليه هذه الآية.
    1 ـ النساء : 171.

(302)
    أقول : جعل النجاشي يعمد ـ بعد سماعه الآية ـ إلى عود من الأرض ، ويقول :
    « ما عدا [أي ما تجاوز ] عيسى عما قلت هذا العود » (1).
    إنّ الأوصاف التي وصف بها عيسى في هذه الآية هي :
    1. ( إِنَّما الْمَسِيحُ ) ، وتعني لفظة المسيح : المبارك وقد وصف عيسى في آية أُخرى بهذا النحو : ( وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (2).
    2. ( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ، فقد وصف في هذا المقطع بكونه « ابناً لمريم » ومع هذا كيف يجوز أن يعتبره النصارى إلهاً ، أو ابناً للّه؟
    3. ( رَسُولُ اللّهِ ) حيث وصف بالرسالة والنبوة ، فلا هو إله ولا هو رب كما ادّعى النصارى.
    4. ( كَلِمَتُهُ ) ، وهنا لا بد أن نقول : إنّ الكون بأجمعه وإن كان كلمة للّه وإنّ النظام البديع وإن كان يحكي عن علمه ويخبر عن حكمته ويعبَّر عن قداسته كما تعبر الألفاظ والكلمات عن معانيها ، ولكن حيث إنّ هذه الكلمة (أعني : المسيح) خلق دون توسط أسباب وعلل ، لذلك أطلقت عليه لفظة الكلمة بخصوصه لإبراز أهميته الخاصة من بين كلمات اللّه الأُخرى.
    5. ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) ، أي من جانب اللّه.
    1 ـ الكامل لابن الأثير : 2/55.
    2 ـ آل عمران : 45.


(303)
التثليث في نظر العقل
    بعد أن فرغنا من البحث حول التثليث من وجهة نظر القرآن ، يتعين علينا أن نعرضه على المعايير العقلية لنرى مدى انطباقه على تلك المعايير.
    تحكي كلمات المسيحيين ـ في كتبهم الكلامية ـ عن أنّ الاعتقاد بالتثليث ـ عندهم ـ من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي ، لأنّ التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهم هذا المطلب ، كما أنّ المقايسات التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث لأنّ حقيقت هـ حسب زعمهم ـ فوق القياسات المادية.
    ثم يقولون : حيث إنّ تجارب البشر مقصورة بالمحدود ، فإذا قال اللّه بأنّ طبيعته غير المحدودة تتألف من ثلاثة أشخاص ، لزم قبول ذلك ، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك ، وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه ، بل يكفي في ذلك ورود الوحي على أنّ هؤلاء الثلاثة يؤلِّفون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة »!! وانّهم رغم تشخص كل واحد منهم وتميّزه عن الآخرين ليس بمنفصل ولا متميز عن الآخر رغم انّه ليست بينهم أية شركة في الالوهية ، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الالوهية!!! (1).
    فالأب مالك ـ بانفراد هـ لتمام الالوهية وكاملها متحقق فيه دون نقصان.
    والابن كذلك مالك ـ بانفراد هـ لتمام الالوهية وكامل الالوهية متحقق فيه دون نقصان.
    1 ـ انظر إلى التناقض الواضح بين تشخص كل واحد من جانب وعدم تميز كل واحد عن الآخر ، ولأجل ذلك جعلوا منطقة التثليث منطقة محرمة على العقل.

(304)
    وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراد هـ لكامل الالوهية وانّ الالوهية بتمامها متحققة فيه دون نقصان.
    هذه العبارات وما يشابهها من التوجيهات للتثليث المسيحي توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال والبرهنة العقلية ، وأنّها بالتالي « منطقة محرمة » على العقل ، فلا يمكن الاستدلال الصحيح عليها ، بل مستند ذلك هو الوحي والنقل ليس غير.
    ولهذا ينبغي ـ قبل أي شيء ـ أن نبحث أوّلاً في الأدلة النقلية ، وهم وان كانوا يستندون في هذه الفكرة إلى النقل ولكن ليس للتثليث أي مستند نقلي معتبر.
    وأمّا « الأناجيل » الأربعة الفعلية فليست بمعتبرة إطلاقاً ، إذ لا تشبه الوحي بل تدل طريقة كتابتها على أنّها من بقايا أدب القرن الأوّل والثاني الميلاديين ، وهذا يعني عدم كونها متعلقة بفجر المسيحية حقيقة.
    ثمّ إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يمكن أن يقاس بالأُمور المادية المألوفة ولكنّه ليس بمعنى أنّ ذلك العالم فوضى وخلو من المعايير ، بل لكل مقياسه الخاص ، والدليل على ذلك انّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل تحكم في عالم المادة ، وعالم ما وراء المادة سواء كمسألة احتياج كل معلول إلى علة وكمسألة (امتناع اجتماع النقيضين).
    إلى غير ذلك من القواعد العامة الحاكمة في عالمي المادة والمعنى.
    وعلى ذلك إذا أبطلت البراهين العقلية مسألة التثليث لم يعد مجال للاستناد بالأدلة النقلية ، بل يتعين أن نعترف ببطلان النصوص هذه ، ونذعن بأنّها ليست من كلام اللّه ووحيه إذ كيف يجوز للوحي أن يخالف ما هو مسلم عقلاً.
    إذا عرفت هذا ، حان الوقت لأن نعرف حقيقة الأمر من وجهة نظر العقل.


(305)
هل يمكن واحد وثلاثة في آن واحد؟
    يتعين علينا أن نعرف أوّلاً ما هو المقصود من التثليث الذي ربما يعبرون عن الموصوف به ب ـ « الثالوث المقدس » وهم يقولون في تفسير فكرة « التثليث » :
    إنّ الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر أي الأب والابن وروح القدس.
    والأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن ، والابن هو الفادي ، وروح القدس هو المطهر وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة ، وعمل واحد (1).
    والأقنوم ـ لغة ـ يعني : الأصل ، والشخص ، فإذن يصرح المسيحيون بأنّ هذه الآلهة الثلاثة ذات رتبة واحدة ، وعمل واحد وإرادة واحدة ، بموجب هذا النقل.
    ونحن نتساءل ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة؟ والواقع إنّ للتثليث صورتين لا يناسب أي واحد منهما المقام الربوبي :
    1. أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخص ووجود خاص ، فكما أنّ لكل فرد من أفراد البشر وجوداً خاصاً ، كذلك يكون لكل واحد من هذه الأقانيم ، أصل مستقل ، وشخصية خاصة ، متميزة عما سواها.
    غير أنّ هذا هو نظر « الشرك » الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية في
    1 ـ قاموس الكتاب المقدس.

(306)
صورة تعدد الآلهة ، وقد تجلّ ـ ى في النصرانية في صورة التثليث !
    ولكن دلائل « التوحيد » قد أبطلت أي نوع من أنواع « الشرك » من الثنوية والتثليث في المقام الالوهي والربوبي.
    وقد وافتك تلك الأدلة حول التوحيد في الذات وسيأتي ما يدل على التوحيد في الربوبية في الفصل الثامن ، والعجيب ـ حقاً ـ أنّ مخترعي هذه البدعة من رجال الكنيسة يصرون ـ بشدة ـ على أن يوفقوا بين هذا « التثليث » و « التوحيد » بالقول بأنّ الإله في كونه ثلاثة ، واحد ، وفي كونه واحداً ثلاثة ، وهل هذا إلاّ تناقض فاضح؟! إذ لا يساوي الواحد مع الثلاثة في منطق أي بشر !! وليس لهذا التأويل من سبب غير أنّ ـ هم لما واجهوا ـ من جانب ـ أدلة التوحيد اضطروا إلى الإذعان بوحدانية اللّه تعالى.
    ولكنهم من جانب آخر لما خضعوا للعقيدة الموروثة (أي عقيدة التثليث ) التي ترسخت في قلوبهم أيما رسوخ ، حتى أنّهم أصبحوا غير قادرين من التخلص منها ، والتملص من حبائلها ، التجأوا إلى الجمع بين التوحيد و التثليث وقالوا : إنّ الإله واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد!!

أقانيم ثلاثة أم شركة مساهمة؟!
    هناك تفسير آخر للتثليث وهو : أنّ يقال انّ الأقانيم الثلاثة ليست بذات لكل منها وجود مستقل ، بل هي بمجموعها تؤلف ذات إله الكون الواحد ، فلا يكون أي واحد من هذه الأجزاء والأقانيم بإله بمفرده ، بل الإله هو المركب من هذه الأجزاء الثلاثة.


(307)
    ويرد على هذا النوع من التفسير أنّ معنى هذه المقالة هو كون اللّه « مركباً » محتاجاً في تحقّقه وتشخصه إلى أجزاء ذاته (أي هذه الأقانيم الثلاثة) بحيث ما لم تجتمع لم يتحقق وجود اللّه.
    وفي هذه الصورة سيواجه أرباب الكنيسة والنصارى إشكالات أكثر وأكبر من ذي قبل :
    ألف. أن يكون إله الكون محتاجاً في تحقّق وجوده إلى الغير (وهو كل واحد من هذه الأقانيم باعتبار أنّ الجزء غير الكل) في حين أنّ المحتاج إلى الغير لا يمكن أن يكون إلهاً واجب الوجود ، بل يكون حينئذ ممكناً مخلوقاً محتاجاً إلى من يرفع حاجته كغيره من الممكنات.
    بل يلزم كون الأجزاء الممكنة مخلوقة للّه سبحانه من جانب ويلزم أن يكون الإله المتكون منها مخلوقاً لها من جانب آخر.
    ب. إمّا أن تكون هذه الأجزاء ممكنة الوجود أو واجبة ، فعلى الأوّل يلزم احتياج الواجب (أعني : الكل) إلى الأجزاء الممكنة ، وعلى الثاني يلزم تعدد واجب الوجود ، وهو محض الشرك ، وعندئد فلا مناص من أن يكون ذلك الإله الخالق بسيطاً غير مركب من أجزاء وأقانيم.
    ج. انّ القول : بأنّ في الطبيعة الإلهية أشخاصاً ثلاثة ، وأنّ كل واحد منها يملك تمام الالوهية ، معناه أن يكون لكل واحد من هذه الثلاثة وجوداً مستقلاً مع أنّهم يقولون : إنّ طبيعة الثالوث لا تقبل التجزئة.
    وبتعبير آخر ، إنّ بين هذين الكلامين ، أي استقلال كل اقنوم بالطبيعة الالوهية وعدم قبول طبيعة الثالوث للتجزئة ، تناقضاً صريحاً.


(308)
    د. إذا كانت شخصية الابن إلهاً (أي أحد الآلهة) فلماذا كان يعبد الابن أباه؟ وهل يعقل أن يعبد إله إلهاً آخر مساوياً له ، وأن يمد إليه يد الحاجة ، أو يخضع أحدهما للآخر ويخفض له جناح التذلل والعبودية وكلاهما إلهان كاملا الالوهية؟!
    هذا حق المقال حول التثليث ومن العجب أنّ أحد القسيسين القدامى وهو « أوغسطين » قال : أؤمن بالتثليث لأنّه محال. (1)
    1 ـ راجع مقارنة الأديان المسيحية للكاتب أحمد شلبي.

(309)
الفصل السادس
اللّه وبساطة ذاته تعالى
« وعينية صفاته لذاته »


(310)
بساطة ذاته تعالى
    1. التوحيد الذاتي وبساطة الذات.
    2. ذات اللّه منزّهة عن التركيب الخارجي.
    3. ذاته منزهة عن التركيب العقلي.
    4. صفات اللّه عين ذاته.
    5. الدليل على وحدة الصفات والذات.
    6. تعدد الصفات وبساطة الذات كيف؟
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس