مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 461 ـ 470
(461)
التذلّل ، بل هي من خصائص من بيده شؤون الإنسان كلها ، أو شأناً من شؤونه مما به قوام حياته عاجلاً أو آجلاً من الموت والحياة ، والخلق والرزق ، والسعادة والشقاء ، والمغفرة والشفاعة ، فيدير شؤونه ويخطط مصيره حسب ما يليق به.
    غير أنّ هذه الجمل ليست بتفصيلها داخلة في « مفهوم » العبادة. ولكنّه يشار إلى تلك الخصوصية الكامنة والضيق الموجود فيها ، بهذه الجمل والتفاصيل ، وحاشا أن تؤخذ هاتيك الجمل فيها بطولها.
    وعلى ذلك فيصح أن يقال : العبادة قسم خاص من التواضع والخضوع لفظياً أو عملياً ، (يؤتى به لتعظيم ما يعتقده العابد بإلوهيته) ، وما وقع بين الهلالين وإن كان خارجاً عن مفهوم العبادة ، إلاّ أنّه يبيّن ماهو المقصود من القسم الخاص من الخضوع في أوّل العبارة.
    ولذلك نظائر في العرف والعادة ، مثلاً :
    1. يعرف القوس بأنّه قطعة من الدائرة ، ولا شك أنّه من باب زيادة الحد على المحدود ، إذ لا يعتبر في صدق القوس كونه قطعة من الدائرة ، بل هو يصدق وإن لم يكن قطعة منها (أي من الدائرة) ، إذ هو (أي القوس) عبارة عن سطح يحيط به خيط مستدير ينتهي طرفاه بنقطتين ، من غير اعتبار كونه بعضاً من الدائرة.
    إلاّ أنّ أخذ هذا القيد ، (أعني : كونه بعض الدائرة ، من باب بيان الخصوصية الموجودة فيه بحيث لو انضم إليه قوس آخر لتحقّقت الدائرة.
    2. إنّ اللغويين يفسرون الصهيل بأنّه صوت الفرس ، والزقزقة بأنّها صوت العصفور ، فليس الفرس والعصفور داخلين في مفهومهما البسيطين ، وإنّما جيء


(462)
بقيد الفرس والعصفور ، للإشارة إلى تعيين صوت خاص.
    إلى هنا اتضح أنّ الحق في التعريف هو أن يقال : العبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بإلوهية المعبود ، وإلى ذلك يشير آية اللّه الحجة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي ، في تفسيره المسمّى ب ـ « آلاء الرحمن » في معرض تفسيره وتحليله لحقيقة العبادة : العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالإلوهية. (1)
    لقد صب العلاّمة البلاغي ما يدركه فطرياً للعبادة في قالب الألفاظ والبيان. و الآيات المذكورة تؤيد صحة هذا التعريف واستقامته.
التعريف الثاني
    العبادة هي الخضوع أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته وآجله وعاجله.
    وتوضيح ذلك : انّ العبودية من شؤون المملوكية ومن مقتضياتها ، فعندما يحس العابد في نفسه بنوع من المملوكية ، ويحس في الطرف الآخر بالمالكية ، يفرغ إحساسه هذا ـ في الخارج ـ في ألفاظ وأعمال خاصة ، وتصير الألفاظ والأعمال تجسيداً لهذا الإحساس ، ويكون كل عمل أو لفظ مظهراً لهذا الإحساس العميق عبادة ، ولا شك أنّ المقصود بالمالكية ليس مطلق المالكية ، فالاعتقاد بالمالكية القانونية والاعتبارية لا يكون ـ أبداً ـ موجباً لصيرورة الخضوع عبادة ، إذ أنّ البشر
    1 ـ آلاء الرحمن : 57 طبعة صيدا ، وقد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.

(463)
في عصور : « العبوديات الفردية » بالأمس ، وكذا في عصر : « العبودية الجماعية » الحاضر لا يعد امتثاله لأوامر أسياده عبادة ، فلابد أن يكون المقصود من المملوكية ـ هنا ـ هي القائمة على أساس الخلق والتكوين وأنّ شأناً من شؤون حياته في قبضته.
    وإليك بيان مناشئ أنواع المالكيات الحقيقية :
    1. قد يوصف بالمالكية لكونه خالقاً ، ولذلك يكون اللّه سبحانه مالكاً حقيقياً للبشر ، لأنّه خالقه ، وموجده من العدم ، ولهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات الشاعرة ـ مثلاً ـ عبيداً للّه ، ويصفه تعالى بأنّه مالكها الحقيقي وذلك لأنّه خلقها إذ يقول : ( إِن كُلُّ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ) . (1)
    ولأجل ذلك أيضاً نجده يأمرهم بعبادة نفسه معلّلاً بأنّه هو ربّهم الذي خلقهم دون سواه ، إذ يقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ). (2)
    ( ذَلِكُمْ اللّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ ). (3)
    2. وقد يوصف بالمالكية لكونه رازقاً ومحيياً ومميتاً ، ولذلك يحس كل بشر سليم الفطرة بمملوكيته للّه تعالى ، لأنّه مالك حياته ومماته ورزقه ، ولهذا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية اللّه لرزق الإنسان وانّه تعالى هو الذي يميته ، وهو
    1 ـ مريم : 93.
    2 ـ البقرة : 21.
    3 ـ الأنعام : 102.


(464)
الذي يحييه ، ليلفته من خلال ذلك إلى أنّ اللّه هو الذي يستحق العبادة فحسب ، إذ يقول : ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ). (1)
    ( هَل لَكُمْ مِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِن شُرَكَاءُ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ). (2)
    ( هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ). (3)
    3. وقد يوصف بها لكون الشفاعة والمغفرة بيده ، وحيث إنّ اللّه تعالى هو المالك للشفاعة المطلقة : ( قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (4) ، ولمغفرة الذنوب ( وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) (5) ، بحيث لا يملك أن يشفع أحد لأحد من العباد إلاّ بإذنه ، لذلك يشعر الإنسان العادي في قرارة ضميره بأنّ اللّه سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأُخروية ، وإذا أحس إنسان بمملوكية كهذه ومالكية مثل تلك ثم جسد هذا الإحساس في قالب اللفظ أو العمل فإنّه يكون بذلك عابداً له دون ريب.
    وإلى ذلك يرجع ما ربما يفسر العبادة بأنّها الخضوع أمام من يعتقد بربوبيته ، فمن كان خضوعه العملي أو القولي أمام أحد نابعاً من الاعتقاد بربوبية ذلك الطرف كان بذلك عابداً له.
    قال آية اللّه السيد الخوئي في تفسير العبادة بأنّه : إنّما تتحقّق العبادة
    1 ـ الروم : 40.
    2 ـ الروم : 28.
    3 ـ يونس : 56.
    4 ـ الزمر : 44.
    5 ـ آل عمران : 135.


(465)
بالخضوع لشيء على أنّه ربٌّ يعبد. (1)
    فالمقصود من لفظة « الرب » في التعريف هو المالك لشؤون الشيء المتكفّل لتدبيره وتربيته ، وقد أوضحنا معنى الرب في الفصل الثامن.
    وعلى ذلك تكون لفظة العبودية في مقابل لفظة الربوبية ، أي مالكية تربية الشيء وتدبيره ، ومصيره عاجلاً وآجلاً.
    ويدل على ذلك أنّ قسماً من الآيات تعلّل الأمر بحصر العبادة في اللّه وحده بأنّه الرب لا غير ، وإليك بعض هذه الآيات : ( وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) . (2)
    ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ). (3)
    ( إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) . (4)
    وقد ورد مضمون هذه الآيات ، أعني : جعل العبادة دائرة مدار الربوبية ، في آيات أُخرى هي :
    يونس : 3 ، الحجر : 99 ، مريم : 36 ، 65 ، الزخرف : 64.
    ولأجل ما ذكرناه فسّر آية اللّه الخوئي العبادة على النحو الذي مرّ عليك.
    وعلى كل حال فإنّ أوضح دليل على هذا التفسير للفظ العبادة هو الآيات التي سبق ذكرها.
    1 ـ البيان : 503 طبعة عام1394 هـ .
    2 ـ المائدة : 72.
    3 ـ الأنبياء : 92.
    4 ـ آل عمران : 51.


(466)
سؤال وجواب
    أمّا السؤال فهو : لا شك أنّ « العبادة » مفهوم بسيط وجداني ، فكيف يفسر هذا المفهوم البسيط بهذا التعريف المفصّل؟ وبعبارة أُخرى : لو قلنا بدخول مفهوم « الرب » في مفهوم العبادة ، يلزم تتابع إدراج مفاهيم متعددة في مفهوم بسيط وجداني ، فيدخل في مفهومها مفهوم الرب ، والمالكية ، والقسم الخاص من المالكية مما يليق بشأنه تعالى ... وهذا مما لا يقبله الوجدان السليم.
    أمّا الجواب : فقد تقدم توضيحه في التعريف الأوّل ، أي تعريف العبادة بالخضوع الناشئ عن الاعتقاد بالإلوهية ، وقلنا : ليس المراد من التعريف أخذ هذه المفاهيم الكثيرة في مفهوم العبادة التي لها مفهوم بسيط ، بل المراد هو إيضاح القسم الخاص من الخضوع الذي يتبادر من لفظ العبادة ، إذ لا شك أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع بل القسم الخاص منها ، ولتوضيح هذه الخصوصية نتشبث بهذه الجملة وأشباهها.
التعريف الثالث
    ويمكننا أن نصب إدراكنا للعبادة في قالب ثالث ، فنقول :
    إنّ العبادة هي الخضوع ممن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله ، أمام من يكون مستقلاً ، وقد وصف اللّه سبحانه نفس هـ في غير موضع من كتاب هـ بالقيوم ، فقال عزّ وجل : ( اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ). (1)
    1 ـ البقرة : 255 و آل عمران : 2.

(467)
    وقال سبحانه : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ ). (1)
    ولا يراد منه سوى كونه قائماً بنفسه ، وليست فيه أيّة شائبة من الفقر والحاجة إلى الغير ، بل كل ما سواه قائم به.
    وعلى ذلك فلو خضع واحد منا أمام موجود زاعماً بأنّه مستقل في ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة ، بل لو طلب فعل اللّه سبحانه من غيره كان هذا الطلب نفسه عبادة وشركاً ، فإنّ الطلب في هاتيك الموارد لا ينفك عن الخضوع ، فالذي يجب التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل اللّه سبحانه ، ونميّزه عن فعل غيره حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شيء من الأنبياء والأولياء وغيرهم من الناس فنقول :
    إنّ من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل اللّه من غيره ، والمعلوم أنّ فعل اللّه ليس هو مطلق الخلق والتدبير والرزق سواء أكان عن استقلال أم بإذن اللّه ، لأنّه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن ، بل هو القيام بالفعل مستقلاً من دون استعانة بغيره فلو خضع أحد أمام آخر بما أنّه مستقل في فعله سواء أكان الفعل فعلاً عادياً كالمشي والتكلم ، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيحعليه السَّلام (2) ، مثلاً ، يعد الخضوع عبادة للمخضوع له.
    توضيحه : انّ اللّه سبحانه غني في فعله ، كما أنّه غني في ذاته عما سواه فهو
    1 ـ طه : 111.
    2 ـ كما في الآية 49 من آل عمران : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهِيْئةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ).


(468)
يخلق ويرزق ويحيي ويميت من دون أن يستعين بأحد (1) ، أو يستعين في خلقه بمادة قديمة غير مخلوقة له ، بل اللّه سبحانه يخلق الجميع بنفسه من دون استعانة بأحد أو بشيء ، فهو يخلق المادة ويصورها كيف شاء ، فلو اعتقدنا أنّ أحداً مستغن في فعله العادي ، وغير العادي عمّن سواه ، وإنّه يقوم بما يريد من دون استعانة أو استمداد من أحد حتى اللّه سبحانه ، فقد أشركناه مع اللّه واتخذناه نداً له تعالى.
    وصفوة القول هي : إنّ ملاك البحث في هذا التعريف هو : « استقلال الفاعل » في فعله وعدم استقلاله ، والتوحيد بهذا المعنى مما يشترك فيه العالم والجاهل.
    نعم ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود وعدمه في العابد على ضوء الأدلة العقلية والكتاب العزيز مما يدركه غيره أيضاً بفطرته التي خلق عليها ، وعقليته التي نما عليها ، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل بهذه الطبقة (أي المتألهين البصيرين) حرمان العرب الجاهليين من فهم معاني العبادة ومشتقاتها الواردة في القرآن ومحاوراتهم العرفية ، فالعبادة بهذا المعنى (أي باعتقاد كون المعبود مستقلاً) يشترك فيه العالم والجاهل ، والكامل وغير الكامل ، غير أنّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أُعطي من الفهم والدرك كما قال سبحانه : ( فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ). (2)
    غير أنّ الدارج في ألسن المتكلّمين هو « التفويض » فلنشرح مقاصدهم.
    1 ـ نعم قد سبق منا عند البحث عن التوحيد في الربوبية أنّ كون اللّه سبحانه لا يستعين ـ في فعله بأحد لا يلازم أن يقوم بنفسه بكل الأُمور ، وبأن تكون ذاته مصدراً للخلق والرزق والإحياء والإماتة من دون أن يتسبب في كل ذلك بالأسباب ، بل معناه أن يكون في فعل هـ سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية ـ مستغنياً عن غيره ، وإن كانت أفعاله جارية عبر نظام الأسباب والعلل.
    2 ـ الرعد : 17.


(469)
4
ماذا يراد من التفويض؟
    اتّفقت كلمة الموحدين على أنّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشرك ، وأنّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يعد عبادة للمخضوع له ، والتفويض يتصور في أمرين :
    1. تفويض اللّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء ، ويسمّى بالتفويض التكويني.
    2. تفويض الشؤون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع ، والمغفرة والشفاعة ممّا يعد من شؤونه سبحانه ، ويسمّى بالتفويض التشريعي.
أمّا القسم الأوّل
    فلا شك أنّه موجب للشرك ، فلو اعتقد أحد بأنّ اللّه فوض أُمور العالم وتدبيرها من الخلق والرزق والإماتة ونزول الثلج والمطر وغيرها من حوادث العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده ، فقد جعلهم أنداداً له سبحانه ، إذ لا يعني من التفويض ، إلاّ كونهم مستقلين في أفعالهم ، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون وما


(470)
يريدون.
    وبالجملة : فتفويض التدبير إلى العباد قسم من استقلال العبد في فعله وعمله عمّن سواه ، سواء أكان ذاك الاستقلال في الأفعال الراجعة إلى نفسه كمشيه وتكلّمه ، أم في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم والحوادث الواقعة فيه ، غير أنّه لما كان زعم الاستقلال في أفعال الإنسان العادية بحثاً فلسفياً بحتاً لم يتوجه إليه مشركو الجاهلية ، لذلك خصوا البحث بالاعتقاد باستقلالهم في تدبير العالم.
    وإن أصبح الأوّل أيضاً مثار بحث ونقاش في العهود الإسلامية الأُولى ، بحيث قسّم الباحثين إلى جبري وتفويضي.
    والخلاصة : أنّ الأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال والانقطاع عن اللّه سبحانه ، أو كونه ذا شأن بأمره تعالى وإذنه ومشيئته ، وليس التفويض أمراً ثالثاً ، بل هو داخل في القسم الأوّل.
    وأمّا الاعتقاد بأنّ القدّيسين من الملائكة والجن ، أو النبي والولي مدبّرون للعالم بإذنه ومشيئته ، وأمره وقدرته من دون أن يكونوا مستقلين فيما يفعلون ، أو مفوّضين فيما يصدرون فلا يكون ذاك موجباً للشرك ، بل أمره دائر ـ حينئذ ـ بين كونه صحيحاً مطابقاً للواقع كما في الملائكة ، أو غلطاً مخالفاً للواقع كما في النبي والولي ، فإنّ الأنبياء والأولياء غير واقعين في سلسلة العلل والأسباب ، بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم وحياتهم عند اختلال تلك النظم ، ومعلوم أنّه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركاً إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية والنظم المادية ، وليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل والأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركاً.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس