مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 571 ـ 580
(571)
أيضاً ، كما قال تعالى : ( وَمَنْ يَغْفِرُ الْذُنُوبَ إِلاَّ اللّه ). (1).
    وقال : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2).
    وكما قال تعالى : ( يا أَيُّها النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِق غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ الْسَّمَاءِ والأرْضِ ). (3).
    وكما قال تعالى : ( وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ). (4).
    وقال : ( ألاّ تَنْصُرُوه فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَروا ثَانِي اثنِين إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (5). (6)
    فقد غفل ابن تيمية عن أنّ بعض هذه الأُمور يمكن طلبها من غير اللّه مع الاعتقاد بعدم استقلال هذا الغير في تحقيقها ، وهذا لا ينافي طلبها من اللّه مع الاعتقاد باستقلاله وغناه عمن سواه في تحقيقها.
    نعم لاتقع هذه الاستعانة مفيدة إلاّ إذا ثبتت قدرة غير اللّه سبحانه على إنجاز الطلب ، ولكنّه خارج عن محط بحثنا ، فإنّ البحث مركز على كون هذا العمل شركاً أو لا ، وأما كون المستعان قادراً أو لا فالبحث عنه خارج عن هدفنا.
    1 ـ آل عمران : 135.
    2 ـ القصص : 56.
    3 ـ فاطر : 3.
    4 ـ آل عمران : 126.
    5 ـ التوبة : 40.
    6 ـ مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية الرسالة الثانية عشرة : 482.


(572)
    وربّما يتوهم أنّها لا تنفع أيضاً إلاّ إذا ثبتت مأذونية الغير من قبله سبحانه في الإعانة ، كما يتوقف على ذلك جواز أصل طلب العون ، وإن كان غير شرك.
    ولكنه مدفوع ، بأنّ إعطاء القدرة دليل على المأذونية في أعمالها في الجملة ، إذ لا معنى لأن يعطيه اللّه القدرة ويمنعه عن الأعمال مطلقاً ، أو يعطيه القدرة ويمنع الغير عن طلب أعمالها.
    ويكفي في الجواز ، كون الأصل في فعل العباد ، الجواز والإباحة ، دون الحظر والمنع إلاّ أن ينطبق على العمل أحد العناوين المحرمة في الشرع.
    وأخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلّف المنار حيث إنّه لم يتصور للاستعانة بالأرواح إلاّ صورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك ، فقال :
    ومن هنا تعلمون : انّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم وتيسير أُمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم ، وهلاك أعدائهم ، وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون ، وعن ذكر اللّه معرضون (1).
    ولا يخفى عدم صحته إذ الاستعانة بغير اللّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على نوعين :
    أحدهما عين التوحيد والآخر موجب للشرك ، أحدهما مذكر باللّه والآخر مبعد عن اللّه.
    إنّ حد التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية إنّما هو الاستقلال وعدم الاستقلال ، هو الغنى والفقر ، هو الأصالة وعدم الأصالة.
    1 ـ تفسير المنار : 1/59.

(573)
    إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلة المستندة إلى اللّه ، التي لا تعمل ولا تؤثر إلاّ بإذنه تعالى ليس فقط غير موجبة للغفلة عن اللّه ، بل هو خير موجه ، ومذكر باللّه ، إذ معناها : انقطاع كل الأسباب وانتهاء كل العلل إليه.
    ومع هذا كيف يقول صاحب المنار : « أُولئك عن ذكر اللّه معرضون » ولو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.
    على أنّ الأعجب من ذلك هو شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نص كلمات عبده دون زيادة ونقصان ، وختم المسألة بذلك ، وأخذ بظاهر الحصر في ( إيّاك نستعين ) غافلاً عن حقيقة الآية وعن الآيات الأُخرى المتعرضة لمسألة الاستعانة. (1)
نقد نظر ثالث
    وهناك رأي آخر يتوسط بين الرأيين وهو أنّه تجوز الاستعانة بالأسباب الطبيعية في الحوائج الحيوية ، ولا تجوز الاستعانة بالأسباب غير العادية إلاّ إذا كان بصورة التوسل والاستشفاع إلى اللّه سبحانه.
    وهذا القول وإن كانت عليه مسحة من الحق ولمسة من الصدق إلاّ أنّه ليس عينه.
    فإنّ المنع عن الاستعانة بالأسباب غير العادية لماذا؟ إن كان لأجل كونه مستلزماً للشرك ، فالمفروض عدمه ، إذ المستعين إنّما يستعين ، باعتقاد أنّ المستعان إنّما يعين بالقدرة المعطاة له من اللّه سبحانه ، ويعملها بإذنه ومشيئته ، وطلب
    1 ـ راجع تفسير شلتوت : 36 ـ 39.

(574)
العون مع هذا الاعتقاد لا يستلزم الشرك ، ومع فرضه فأي فرق بين الممنوع (طلب العون) والمجاز وهو التوسل والاستشفاع؟
    وإن كان المنع لأجل عدم وجود القدرة فيهم على الإعانة ، فهو مناقشة ، وهو في الصغرى خارج عن موضوع بحثنا ، فإنّ البحث إنّما هو على فرض قدرتهم.
    وإن كان المنع ، لأجل كون الأصل في فعل المكلّف ، هو المنع حتى يثبت الجواز ، فهو محجوج بأصالة الإباحة ما لم يمنع عنه دليل قاطع ، وعدم ورود تلك الاستعانة في الأدعية وغيرها على فرض صحته لا يدل على المنع.
    ولو كان المنع لأجل أنّ قوله سبحانه : ( وإيّاك نستعين ) شامل لهذه الاستعانة التي لا تنفك عن الاستعانة به سبحانه كما أوضحناه ، فلا يمكن تخصيصه بالتوسل والاستشفاع ، لأنّ لسانه آب عن التخصيص وغير قابل له.
4. هل دعوة الصالحين عبادة لهم؟
    تبيّن من البحوث السابقة أنّ طلب الحاجة من غير اللّه مع الاعتقاد بأنّه لا يملك شيئاً من شؤون المقام الالوهي ، ولم يفوض إليه شيء ، بل لو قام بشيء لا يقوم به إلاّ بإذن اللّه سبحانه ، لا يكون شركاً.
    وبقي في هذا المجال مطلب آخر وهو : انّ القرآن الكريم نهى ـ في موارد متعددة ـ عن دعوة غير اللّه سبحانه غير أنّ الوهابية استنتجت من هذه الآيات مساوقة الدعوة للعبادة.
    وإليك فيما يأتي الآيات المتضمّنة ، بل المصرحة بهذا المطلب :


(575)
    ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) . (1).
    ( لَهُ دَعْوَةَ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبونَ لَهُمْ بِشَيء ). (2).
    ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ). (3)
    ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) . (4).
    ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) . (5).
    ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا ). (6).
    ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) . (7).
    ( وَ لاَ تَدْعُ مِنْ دِونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكََ ) . (8).
    ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ). (9).
    ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (10).
    1 ـ الجن : 18.
    2 ـ الرعد : 14.
    3 ـ الأعراف : 197.
    4 ـ الأعراف : 194.
    5 ـ فاطر : 13.
    6 ـ الإسراء : 56.
    7 ـ الإسراء : 57.
    8 ـ يونس : 106.
    9 ـ فاطر : 14.
    10 ـ الأحقاف : 5.


(576)
    فقد جعل دعاء الغير ـ في هذه الآيات ـ مساوياً مع دعاء اللّه ويستنتج من ذلك أنّ دعاء الغير عبادة له ، ومن هذه الآيات يستنتج الوهابيون كون دعوة الأولياء والصالحين ـ بعد وفاتهم ـ عبادة للمدعو.
    وملخص كلامهم : أنّ من قال متوسّلاً : يا محمد ، فنداؤه ودعوته بنفسها عبادة للمدعو.
    يقول الصنعاني في هذا الصدد :
    وقد سمّى اللّه الدعاء : عبادة بقوله ( إِدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) ومن هتف باسم نبي أو صالح بشيء ، أو قال : اشفع لي إلى اللّه في حاجتي ، أو استشفع بك إلى اللّه في حاجتي أو نحو ذلك ، أو قال : اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك ، فقد دعا ذلك النبي والصالح والدعاء عبادة بل مخّها ، فيكون قد عبد غير اللّه ، وصار مشركاً ، إذ لا يتم التوحيد إلاّ بتوحيده تعالى في الإلهية باعتقاد أنّ لا خالق ولا رازق غيره ، وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض العبادات وعباد الأصنام إنّما أشركوا لعدم توحيد اللّه في العبادة (1).
    ولكن لا مرية في أنّ لفظة الدعاء تعني في لغة العرب : النداء لطلب الحاجة ، فلا يتحقّق مفهوم الدعوة إلاّ بطلب الحاجة ، ولو استعملت في مورد في مطلق النداء ولم يكن معه طلب حاجة ، فإنّما هو لأجل أنّ المنادي يطلب توجّه المنادى إلى نفسه ، بينما تعني لفظة العبادة معنى آخر (وهو الخضوع النابع من الاعتقاد بالإلوهية والربوبية على ما مر تفصيله) (2) ، ولا يمكن اعتبار اللفظتين
    1 ـ تنزيه الاعتقاد للصنعاني كما في كشف الارتياب : 272 ـ 274.
    2 ـ راجع ص 455 ـ 468 من كتابنا هذا


(577)
مترادفتين ، ومشتركتين في المفاد والمعنى بأن يكون معنى الدعاء هو العبادة لأسباب عديدة هي :
    أوّلاً : انّ القرآن استعمل لفظة الدعوة والدعاء في موارد لا يمكن أن يكون المراد فيها العبادة مطلقاً مثل : ( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ) . (1).
    فهل يمكن أن نقول إنّ مراد نوح ( عليه السَّلام ) هو أنّه عبد قومه ليلاً ونهاراً؟!
    وأيضاً مثل قوله تعالى حاكياً عن الشيطان قوله : ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ). (2).
    فهل يحتمل أن يكون مقصود الشيطان هو أنّه عبد أتباعه؟ في حين أنّ العبادة ـ لو صحت وافترضت ـ فإنّما تكون من جانب أتباعه له لا من جانبه تجاه أتباعه.
    ومثل هاتين الآيتين ما يأتي من الآيات : ( وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ). (3).
    ( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ ) . (4).
    ( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُوا ). (5).
    1 ـ نوح 5.
    2 ـ إبراهيم : 22.
    3 ـ غافر : 41.
    4 ـ الأعراف : 193.
    5 ـ الأعراف : 198.


(578)
    ( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ) . (1).
    ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) . (2).
    ففي هذه الآيات وأمثالها استعملت لفظة الدعاء والدعوة في غير معنى العبادة ، ولهذا لا يمكن أن نعتبرهما مترادفتين ، ولذلك فلو دعا أحد ولياً أو نبياً أو رجلاً صالحاً ، فإنّ عمله ذلك لا يكون عبادة له ، لأنّ الدعاء أعم من العبادة وغيرها (3).
    ثانياً : أنّ المقصود من الدعاء في مجموع الآيات (المذكورة في مطلع البحث هذا) ليس هو مطلق النداء ، بل نداء خاص يمكن أن يكون ـ مآلاً ـ مرادفاً للفظ العبادة.
    لأنّ مجموع هذه الآيات وردت حول الوثنيين الذين كانوا يتصوّرون بأنّ أصنامهم آلهة صغار قد فوّض إليها بعض شؤون المقام الالوهي ، ويعتقدون في شأنها بنوع من الاستقلال في التصرف والفعل.
    ومعلوم أنّ الخضوع والتذلّل أو أي نوع من القول والعمل أمام مخلوق باعتقاد أنّه إله كبير أو إله صغير لكونه رباً أو مالكاً لبعض الشؤون الإلهية ، يكون عبادة.
    1 ـ المؤمنون : 73.
    2 ـ آل عمران : 61.
    3 ـ النسبة بين الدعاء والعبادة عموم وخصوص من وجه : ففي هذه الموارد يصدق الدعاء ولا تصدق العبادة ، وأمّا في العبادة الفعلية المجردة عن الذكر كالركوع والسجود فتصدق العبادة ، لأنّها تقترن مع الاعتقاد بالوهية المسجود له ولا يصدق الدعاء لخلوّه عن الذكر اللفظي.
    ويصدق كلا المفهومين : « الدعاء والعبادة » في أذكار الصلاة ، لأنّها دعوة بالقول ناشئة عن الاعتقاد بالوهية المدعو.


(579)
    لا شك أنّ خضوع الوثنيين ودعاءهم واستغاثتهم أمام أوثانهم كانت بوصف أنّ هذه الأصنام آلهة أو أرباب أو مالكة لحق الشفاعة ، وباعتقاد أنّها آلهة مستقلة في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة ، ومن البديهي أنّ أية دعوة لهذه الموجودات وغيرها مع هذه الشروط ، عبادة لا محالة.
    وتدل طائفة من الآيات : على أنّ دعوة الوثنيين كانت مصحوبة بالاعتقاد بالوهية الأصنام أو مالكيتها لمقام الشفاعة والمغفرة ، وإليك بعضها : ( فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْء ) (1).
    ففي هذه الآية يتضح جلياً بأنّهم كانوا يعبدونها متصوّرين ومعتقدين بأنّها تغنيهم من شيء كما يمكن للإله الحقيقي أن يفعل ذلك.
    ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ) . (2).
    ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ) . (3).
    ( فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ) . (4).
    فالآيات المذكورة (في مطلع هذا الفصل) لا ترتبط بموضوع بحثنا مطلقاً ، إذ الموضوع هو الدعوة دون الاعتقاد بإلوهية ، ولا مالكية لشيء ولا استغناء ، واستقلاله في التصرف في أُمور الدنيا والآخرة ، بل لأجل أنّ المدعو عبد من عباد اللّه المكرمين ، وأنّه ذو مقام معنوي استحق به منزلة النبوة ، أو الإمامة ، ولأنّه وعد المتوسّلون به بقبول أدعيتهم ، وإنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا اللّه عن طريقه ، كما
    1 ـ هود : 101.
    2 ـ الزخرف : 86.
    3 ـ فاطر : 13.
    4 ـ الإسراء : 56.


(580)
ورد في حق النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) . (1).
    ثالثاً : يمكن أن يقال أنّ المراد من الدعاء في هذه الآيات هو القسم الخاص منه ، أعني ما كان ملازماً للعبادة لا بمعنى أنّ الدعاء مستعمل في مفهوم العبادة ابتداء ، بل بمعنى أنّها مستعملة في معناها الحقيقي ، غير أنّها لما كانت في موارد الآيات مقرونة باعتقاد الدعاة بالوهيتهم يكون المنهي عنه ذلك القسم من الدعوة لا مطلقاً ، وتكون عقيدة الدعاة في حق المدعوين قرينة متصلة على أنّ المقصود ذلك القسم المعين لا جميع أقسامها ومن المعلوم أنّ الدعاء مع هذه العقيدة يكون مصداقاً للعبادة.
    والدليل على أنّ المراد من الدعوة في هذه الآيات هو القسم الملازم للعبادة أنّه ربّما وردت في إحدى الآيتين ذاتي مضمون واحد لفظة الدعوة ووردت في الآية الأُخرى لفظة الدعاء ، مثل قوله : ( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعاً ). (2).
    بينما يقول في الآية الأُخرى وهي : ( قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنْفَعُنا وَلاَ يَضُرُّنَا ) . (3).
    ويقول أيضاً في الآية 12 من سورة فاطر :
    1 ـ النساء : 64.
    2 ـ المائدة : 76.
    3 ـ الأنعام : 71.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس