مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 591 ـ 600
(591)
    وقال تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّهِ أَو أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين * بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَونَ ما تُشْرِكُونَ ). (1)
    وقال تعالى : ( وَأَنَّ الْمَساجِدَ للّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ). (2)
    وقال تعالى : ( لَهُ دعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيء إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلى الماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الكافِرينَ إِلاّ في ضَلال ). (3)
    وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر ، وهو يتضمن دعاء العبادة ، لأنّ السائل أخلص سؤاله للّه ، وذلك من أفضل العبادات ، وكذلك الذاكر للّه والتالي لكتابه ونحوه طالب من اللّه في المعنى فيكون داعياً عابداً.
    فتبيّن بهذا من قول شيخ الإسلام أنّ دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ، كما أنّ دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة (4)
    فمن هذا البحث الضافي حول الدعوتين وكون إحداهما مسألة عبادية ، والأُخرى مسألة غير عبادية ، تتضح أُمور :
    الأوّل : كيف استفاد ابن تيمية من الآية : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخِفْيَةً ) والآية : ( وانّ المَساجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) إنّ طلب الحاجة من أحد تكون دعوة عبادة للمدعو.
    1 ـ الأنعام : 40 ـ 41.
    2 ـ الجنّ : 18.
    3 ـ الرعد : 14.
    4 ـ فتح المجيد : 166.


(592)
    فإذا كانت لفظة « ادعوا » في قوله سبحانه : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ) ولفظة ( لا تَدْعُوا ) في قوله سبحانه ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ ) بمعنى المناداة ، فكيف تكون الدعوة الطلبية مستلزمة للدعوة العبادية؟
    إنّ هاتين الآيتين ـ على فرض دلالتهما ـ (ولا دلالة لهما) لا تدلان على أكثر من النهي عن دعوة غير اللّه ، وأمّا أنّ دعوته تكون مستلزمة لعبادته فلا يدل ظاهر الآية عليه أبداً ، إذ أنّ النهي عن الشيء ليس دليلاً على كون المنهي عنه مصداقاً للعبادة.
    الثاني : انّ الدعوة الطلبية إنّما تستلزم الدعوة العبادية إذا اعتقد الداعي بإلوهية المدعو على مراتبها ، ففي هذه الموارد تستلزم الدعوة الطلبية ، الدعوة العبادية ، بل هي الدعوة العبادية عينها ، وليست مستلزمة لها ، وتكون مثل هذه الدعوة عبادة لا أنّها مسلتزمة للعبادة.
    ولكن إذا دعا الداعي أحداً ، مجرّداً عن الاعتقاد المذكور ، فلا تكون دعوت ـ حينئذه ـ عبادة له.
    ثالثاً : من الغريب جداً أنّ تصح الاستغاثة بالأحياء وتكون مشروعة ـ على الإطلاق ـ غافلاً عن أنّه لو كان مطلق الاستغاثة بغير اللّه (حتى إذا لم تكن مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أو مالكية المستغاث) شركاً لما كان لموت المدعو وحياته أيُّ أثر في هذا القسم.
    وما ورد عن النبي الأكرم من أنّ الدعاء مخ العبادة ، فالمراد هو الدعوة الخاصة ، أعني : ما إذا كانت مصحوبة بالاعتقادبإلوهية المدعو.
    وبتعبير آخر ، أنّ المقصود بالدعاء في الحديث المذكور إنّما هو دعاء اللّه ، فيكون دعاء اللّه مخ العبادة.


(593)
    فأيّ ربط لهذا الحديث بدعوة الصالحين التي لا تكون مقرونة بأيّ شيء من الاعتقاد بإلوهية المدعو ؟!!
    نعم يبقى هنا سؤال وهو أنّ دعوة الغير وإن لم تكن عبادة له على ما أوضحناه ، ولكنها أمر محرّم بحكم هذه الآيات ، فدعوة الصالحين من الأموات من الدعوات المحرّمة ، لأنّها دعوة غيره سبحانه ، ودعوة الغير منهية عنه ، نعم لا تشمل الآيات دعوة الأحياء لأنّه أمر جائز بالضرورة ، فيستنتج منها حرمة دعوة الصلحاء الماضين وإن لم يكن شركاً.
    والجواب عنه واضح بعد الاحاطة بما ذكرناه ، لأنّ الآيات ناظرة إلى دعوة خاصّة صادرة من المشركين ، وهي دعوة آلهتهم وأربابهم المزعومة ، والنهي عن هذه الدعوة المخصوصة لا توجب حرمة جميع الدعوات حتى فيما لم تكن بهذه المنزلة.
    وأوضح دليل على ما ذكرناه هو ما اعترف به السائل من عدم شمول الخطابات لدعوة الأحياء وطلب الحاجة منهم ، فإنّ خروج هذا القسم ليس خروجاً عن حكم الآيات حتى يكون تخصيصاً ، بل خروج عن موضوعها وعدم شمولها له من أوّل الأمر ، وليس الوجه لخروجه عن الآيات إلاّ ما ذكرناه من أنّ الآيات ناظرة إلى الدعوة التي كان المشركون يقومون بها طيلة حياتهم ، وهي دعوة الأصنام والأوثان بما هي آلهة ، بما هم يملكون لهم النفع والضر والشفاعة والغفران ، وهذا الملاك ليس بموجود في دعوة الصلحاء.
    ولأجل هذه العقيدة في حق الآلهة يقول سبحانه في الإله الذي صنعه السامري : ( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ) (1).
    1 ـ طه : 88 ـ 89.

(594)
    ومما يدل على ما ذكرناه هو تكرار كلمة « من دونه » في الآيات ، فإنّها ليست لتعميم كل دعوة متوجهة إلى غيره سبحانه ، حتى نحتاج إلى إخراج بعض الأقسام ، أعني : دعوة الأحياء لطلب الحوائج ، أو دعوة الأموات لا لطلب الحاجة ، بل للتوسل والاستشفاع ، بل جيء به لتبيين خصوصية هذه الدعوة ، وهي دعوة الغير بظن أنّه يقوم بالفعل مستقلاً من دون اللّه كما هو المزعوم للمشركين في آلهتهم.
    وأمّا طلب الحاجة ممّن لا يقوم (في زعم الداعي) إلاّ بأمره سبحانه ومشيئته بحيث لا تكون دعوته منفكة عن دعوة اللّه سبحانه فلا يصدق عليه قوله تعالى : ( والَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ بِشَيْء ). (1)
    وغيره من الآيات.
بناء المساجد على القبور
    قد سبق (2) منا أنّ التبرّك بآثار الأولياء وعباد اللّه الصالحين خصوصاً التبرك بآثار النبي كان أمراً رائجاً بين المسلمين ، وعلى ذلك فبناء المساجد على القبور بعنوان التبرّك ممّا لا إشكال فيه ، هذا ، ويظهر من بعض الآيات أنّ أهل الشرائع السماوية كانوا يبنون المساجد على قبور أوليائهم أو عندها ، ولأجل ذلك لما كشف أمر أصحاب الكهف تنازع الواقفون على آثارهم ، فمنهم من قال وهم المشركون : ( ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) (3) ، وقال الآخرون وهم المسلمون : ( لَنَتَّخِذَنَّ
    1 ـ الرعد : 14.
    2 ـ من كتابنا هذا ص 535.
    3 ـ الكهف : 21.


(595)
عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ). (1)
    قال الزمخشري في تفسير قوله : ( ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ) : أي ابنوا على باب كهفهم لئلاّ يتطرّق إليهم الناس ضنّاً بتربتهم ومحافظة عليها ، كما حفظت تربة رسول اللّه بالحظيرة.
    وقال في تفسير قوله : ( قَالَ الَّذِينَ غُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) ، أي قال المسلمون وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم : لنتخذنّ على باب الكهف مسجداً ، يصلي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم. (2)
    وقال في تفسير الجلالين : فقالوا ـ أي الكفّار ـ : ابنوا عليهم أيّ حولهم بنياناً يسترهم ، ربّهم أعلم بهم ، قال الذين غلبوا على أمرهم : أمر الفتية وهم المؤمنون : لنتخذن عليهم ـ حولهم ـ مسجداً يصلّى فيه. (3)
    وعلى الجملة : فقد اتفق المفسرون على أنّ القائل ببناء المسجد على قبورهم كان هم المسلمون ، ولم ينقل القرآن هذه الكلمة منهم إلاّ لنقتدي بهم ونتّخذهم في ذلك أُسوة.
    ولو كان بناء المسجد على قبورهم أو قبور سائر الأولياء أمراً محرماً لتعرض عند نقل قولهم بالرد والنقد لئلا يضل الجاهل.
    وأمّا ما روي عن النبي من قوله : « لعن اللّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (4) ، فالمراد منه هو السجود على قبور الأنبياء واتخاذها قبلة في
    1 ـ الكهف : 21.
    2 ـ الكشاف : 2/254.
    3 ـ تفسير الجلالين : 2/3.
    4 ـ صحيح البخاري : 2/111 ، كتاب الجنائز.


(596)
الصلاة وغيرها ، والمسلمون بريئون من ذلك ، وقد أوضحه القسطلاني في كتابه « إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ».
اقتراح على كتّاب الوهابية
    إنّ كثيراً من كتّابهم خلطوا في البحث بين العناوين التالية : الشرك ، البدعة ، المحرم.
    فتجب عليهم الدقة في تطبيق هذه العناوين على أفعال المسلمين فربّما يكون شيء محرماً ولا يكون بدعة ، وربما يكون محرماً وبدعة ولا يكون شركاً ، فليس كل حرام بدعة ، وليس كل بدعة شركاً ، غير أنّهم لا يميّزون بين هاتيك العناوين ويطلقون على كل حرام ـ في زعمهم ـ شركاً وبدعة.
    وفي الختام نذكّر القارئ أنّ التوسع المشهود في هذا الفصل لم يكن إلاّ لتوضيح الحقيقة والإصحار بها مع التحفظ على الأدب الإسلامي في نقل الكلمات ونقدها ، فإن صدر هناك شيء فلم يكن ذلك إلاّ لأجل الصراحة في القول لا للقسوة في الحجاج ، وإلاّ فيجمعنا التآخي في اللّه والدين : ( إنَّما المُؤْمِنُونَ إخوَة ) (1) فنحن كما قال شاعر الأهرام :
إنا لتجمعنا العقيدة أمة ويؤلّف الإسلام بين قلوبنا ويضمنا دين الهدى أتباعاً مهما ذهبنا في الهوى أشياعاً
    بقيت هنا أبحاث طفيفة ملأت كتب الوهابية :
    1. التوسّل إلى اللّه بالأنبياء.
    1 ـ الملك : 14.

(597)
    2. الإقسام على اللّه بمخلوق ، أو بحق مخلوق ، ونحوه مثل أن تقول : أقسم عليك بفلان ، أو بحقه.
    3. الحلف بغير اللّه ، الذي ملأ القرآن ذلك الحلف كما في سورة الشمس ، فقد ورد في القرآن قرابة أربعين حلفاً بغير اللّه ، وقد نبهنا آنفاً أنّ ورود شيء في القرآن يدل على جوازه وكونه أُسوة.
    4. النحر والذبح باسمه سبحانه وإهداء الثواب إلى الأموات.
    5. بناء القبور وعقد القباب فوقها.
    6. الدعاء والصلاة عند قبر النبي والإسراج عنده.
    7. شدّ الرحال لزيارة القبور.
    ونرجئ البحث عن هذه العناوين إلى محل آخر ، وقد أوضحنا حالها في بعض تآليفنا.
    على أنّنا لا نحب أن نعبّر عن هذه الطائفة بالوهابية غير أنّ اشتهارهم بهذا واستعمالهم هذه الكلمة في حقّهم سوّغ لنا هذا الأمر ، كيف ، وقد نشرت الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة كتاباً باسم « الحركة الوهابية » ، طبع عام 1396 هـ رداً على مقال للدكتور محمد البهي.


(598)

(599)
الفصل العاشر
اللّه والتوحيد في التقنين والتشريع


(600)
التوحيد في التقنين والتشريع
    1. حاجة المجتمع إلى القانون.
    2. شرائط المشرّع.
    3. لا تتوفر هذه الشروط إلاّ في اللّه.
    4. الآيات الدالة على التوحيد في التشريع.
    5. الصنف الأوّل الدال على عدم جواز التشريع لغير اللّه.
    6. الصنف الثاني الدال على تقريع من يحلون حرامه ويحرمون حلاله.
    7. إجابة على سؤال.
    8. الصنف الثالث الدال على أنّ الأنبياء بعثوا مع نظم كاملة للحياة.
    9. ما هي معاني الشريعة والملة والدين؟
    10. الصنف الرابع الدال على المنع من التحاكم إلى الطاغوت.
    11. الصنف الخامس الآيات التي تذم النصارى على إعطاء الأحبار حق التشريع.
    12. الصنف السادس الآيات الحاثّة على اتّباع الرسول.
    13. ماذا يراد من الشرك في التشريع؟
    14. سؤال واجابة.
    15. الشيعة وفكرة حق التشريع للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والأئمّة ( عليهم السَّلام ) .
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس