مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: 611 ـ 620
(611)
    وهم فاسقون ، لأنّهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة اللّه.
    ثم هل هناك عبارة أصرح في انحصار حق التقنين في اللّه وانتفائه عن غيره ، من قوله تعالى :
    أ. ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ ).
    ب. ( لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ).
    وهذا المنهاج والشرعة هو نظام الحياة لكل الأُمم ، لكل أُمّة حسب استعدادها وحسب حاجتها.
    وحيث لا يمكن للنظام الإلهي أن يكون ناقصاً وعاجزاً ليكمل عن طريق النظام البشري ، لذلك ليست هناك حاجة مطلقاً إلى النظام البشري مع وجود النظام الإلهي والقانون الربّاني.
    ج. ثم يعود القرآن مرة أُخرى يؤكد بقاطعية ، أنّ أي اتباع لغير أحكام اللّه ما هو إلاّ اتباع للهوى ، والهوس إذ يقول : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ).
    د. وبالتالي يعتبر القرآن كلَّ حكم وتشريع لا ينبع عن الوحي (حكماً جاهلياً) فيقول بصراحة متناهية : ( أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ).
إجابة عن سؤال
    يمكن أن يقال إنّ الرجوع إلى غير الحكم الإلهي إنّما لا يجوز إذا كان هناك حكم إلهي ، أمّا إذا لم يكن هناك حكم للّه في مورد من الموارد ، فلم لا يجوز حينئذ


(612)
لفرد أو لشورى أن يسن قانوناً ، ويجعل حكماً لكيلا تقف حركة الأُمّة ، ولا يتعرقل تقدمها؟
    إنّ السؤال إنّما يتوجّه إذا وجد مورد مثلما قاله ، غير أنّ كون المنهاج إلهياً يوجب كونه في غاية الكمال والجامعية ولذلك لا مجال لتدخّل أيِّ أحد في أمر التشريع وبعبارة أُخرى : انّ القرآن يقسم القوانين الحاكمة على البشر على قسمين : إلهي وجاهلي ، وبما أنّ كل ما كان من صنع الفكر البشري لم يكن إلهياً ، فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.
    وقد أشار إلى هذه الحقيقة الهامة الإمام محمد بن علي الباقر ( عليه السَّلام ) ، إذ قال :
    « الحكم حكمان : حكم اللّه ، وحكم أهل الجاهلية ، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم أهل الجاهلية ». (1)
    إنّ القرآن الكريم يعتبر نفسه مبيّناً لكل ما يحتاج إليه البشر في تنظيم حياته ومعيشته ، إذ يقول : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ) . (2)
    وفي آية أُخرى يجعل بيانه وتوضيح مقاصده على عاتق الوحي ، قال سبحانه : ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبْعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ). (3)
    وفي آية أُخرى يعتبر القرآن ، النبي الأكرم مبيّناً له ، لا مقتصراً على القراءة ،
    1 ـ وسائل الشيعة : 18/18 ، كتاب القضاء.
    2 ـ النحل : 89.
    3 ـ القيامة : 18 ـ 19.


(613)
كما يقول : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1)
    إنّ للنبي ـ بحكم هذه الآية والآيات الأُخر ـ وظيفتين :
    الأُولى : تلاوة القرآن وقراءته على الناس حسبما نزل به الروح الأمين على قلبه ، قال سبحانه : ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْث ) (2) ، وقوله سبحانه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ). (3)
    الثانية : بيان أهدافه ومقاصده ، ويشير إليه قوله تعالى : ( لتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) ، ولا منافاة بين أن يكون بيان القرآن على عاتق الوحي ، كما يفيده قوله : ( ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) وبين أن يكون بيانه من وظيفة النبي ، لأنّ ما يبينّه الرسول مستند إلى الوحي والتعليم الإلهي.
    كما أنّه لا منافاة بين أن يكون النبي مبيّناً لمقاصد القرآن ، وأن تكون طائفة من الآيات معلومة عند أهل اللسان ، مع قطع النظر عن بيان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، كيف لا ، و القرآن نزل بلسان عربي مبين ، قال سبحانه : ( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (4) ، وقال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرْوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَان عَرَبِّي مُبِين ) (5) ، وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ). (6)
    نعم لا منافاة بينهما لأنّ القرآن مشتمل بالضرورة على المجملات في كثير من
    1 ـ النحل : 44.
    2 ـ الإسراء : 106.
    3 ـ القيامة : 16 ـ 19.
    4 ـ النحل : 103.
    5 ـ الشعراء : 193 ـ 195.
    6 ـ القمر : 17.


(614)
آيات الأحكام ، فما هو المبين راجع إلى غير هذه المجملات كالصلاة والصوم وغيرهما ممّا بيّنها الرسول بأعماله وأقواله ، وقال : صلّوا كما رأيتموني أُصلّي ـ مثلاً ـ كما أنّه لا منافاة بين أن يكون بعد من أبعاد آية واحدة واضحاً جليّاً في حين يكون البعد الآخر منه خفيّاً محتاجاً إلى بيان الرسول وخلفائ هـ صلوات اللّه عليهم ـ .
    وبذلك يظهر أنّه لا منافاة بين هذه الطوائف من الآيات التي نقلنا نماذج منها.
    إذا وقفت على ذلك تعرف أنّ ما ورد عن النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حجّة ملزمة واجبة الاتّباع بحكم كونه مبيّناً للقرآن ، لأنّه يرجع إلى بيان الأحكام التي وردت أُصولها وكليّاتها في القرآن كالآيات المرتبطة بالعبادات والمعاملات والسياسات.
    يبقى أن نعرف أنّ أقوال الأئمّة المعصومين مأخوذة ـ بحكم حديث الثقلين (1) وحديث سفينة نوح (2) ـ من النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ومنتهية إليه.
    وبملاحظة هذه الأُمور كلّها يتضح موضع القرآن وأقوال الرسول وأهل بيته المعصومين ، ويتجلّى لنا موقعهم في النظام الإسلامي.
    هذا مضافاً إلى أنّ ما يدل على حجية قول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا ينحصر في ما ذكرنا ، بل هناك آيات أُخرى تشهد بحجية قول النبي وفعله ، كقوله تعالى :
    ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ). (3)
    ( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) . (4)
    وغيرها من الآيات التي تدارسها المحققون في مبحث العصمة.
    1 ـ حديث الثقلين هو : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي » وهو مشهور.
    2 ـ حديث السفينة هو : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » وهو مشهور أيضاً.
    3 ـ النجم : 3 و 4.
    4 ـ الحشر : 7.


(615)
الصنف الثالث
    إنّ الآيات في هذا الصنف تدل ـ بجلاء تام ـ على أنّ الأنبياء عامة ورسول الإسلام خاصة بعثوا مع نظام إلهي.
    وإليك فيما يلي الآيات المرتبطة بهذا الصنف : ( إِنَّ هَذَا الْقُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) . (1)
    إنّ المقصود ب ـ ( لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) هو شريعة الإسلام التي ذكرت في آية أُخرى بلفظة « الشريعة » ، إذ قال اللّه سبحانه : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْها ) . (2)
    كما أنّ لفظة « أقوم » التي هي صيغة التفضيل من « القائم » كناية عن صحة أحكام القرآن واستقامتها قاطبة ، بحيث تنطبق مع الطبيعة ، وتكون معها على وفاق كامل.
    إنّ أحكام الإسلام توفر للإنسان السعادة والحياة الكريمة ، وتسوقه إلى الكمال في حين لا يصدق مثل هذا بالنسبة إلى النظم البشرية.
    فهي رغم كونها مفيدة للبشر من بعض النواحي ، إلاّ أنّها مضرة به وبحياته من جهات أُخرى هامة ، وعديدة.
    وتؤكد هذه الحقيقة آيات أُخرى مثل قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ). (3)
    1 ـ الإسراء : 9.
    2 ـ الجاثية : 18.
    3 ـ الأنعام : 161.


(616)
    في هذه الآية ذكر الإسلام أُصولاً وفروعاً بقوله :
    1. ديناً قيماً.
    2. ملّة إبراهيم.
    وفي آية أُخرى عبّر عن أحكام الإسلام بلفظة الشريعة ، إذ يقول : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ). (1)
    في هذه الآية يتراءى للقارئ أمران :
    1. أنّ النبي الأكرم أُرسل مع شريعة لتربية الناس وهدايتهم ، وإيصالهم إلى ذرى الكمال.
    وحيث إنّ الشريعة تعني الطريقة ، فلابد للطريقة ، من هدف يقصد ، ومقصود يراد ، وغاية تطلب ، وما ذاك إلاّ الكمال الإنساني المنشود ، اللائق بالإنسان أكرم المخلوقات.
    2. أنّ اتّباع الأحكام غير الإلهية وغير المستمدة من الوحي الإلهي ـ مهما كانت الأدمغة التي صنعتها ـ ليس إلاّ اتباع للهوى.
    ومن ذلك يتضح لنا موضوع (التوحيد في التقنين والتشريع) فإنّ حق التقنين مختص باللّه سبحانه ومسلوب من المجتمع البشري ، وعلى ذلك فلو أشركنا في هذا الحق أحداً غير اللّه لعدلنا عن جادة التوحيد.
    ثم إنّ الآية التالية تؤكد مضمون هذا الصنّف وتؤيده ، إذ تقول : ( لِكُلِّ أُمَّة جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعنَّكَ فِي الأمْرِ وَ ادْعُ إلَى رَبِّكَ
    1 ـ الجاثية : 18.

(617)
إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيم ). (1)
    والمنسك الوارد في الآية ليس إلاّ الشريعة الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى على كل أُمّة حسب احتياجاتها وظروفها ، ثم كان يحدث فيها التغيير مع مرور الزمن وتقدّم الأُمم وتوسع نطاق حاجاتها وتكاملها ، حتى أكملها اللّه وأتّمها في نهاية المطاف ، وإن كان كل شريعة منها كاملة بالنسبة إلى الظروف والأُمم التي أُرسلت إليها.

ما هي معاني : الدين ، الشريعة ، الملّة؟
    حيث وردت في الآية 161 من سورة الأنعام لفظة الدين والملّة ـ كما لاحظنا ـ يجدره بنا أن نوضح الفرق بين هاتين اللفظتين ولفظة الشريعة.
    إنّ الدين حسب اصطلاح القرآن هو الطريقة الإلهية العامّة التي تشمل كل أبناء البشر في كل زمان ومكان ولا تقبل أيَّ تغيير وتحويل مع مرور الزمن وتطور الأجيال ، ويجب على كل أبناء البشر اتباعها ، وهي تعرض على البشرية في كل أدوار التاريخ بنحو واحد دونما تناقض وتباين.
    ولأجل ذلك نجد القرآن لا يستعمل لفظة الدين بصيغة الجمع مطلقاً ، فلا يقول : « الأديان » وإنّما يذكره بصيغة المفرد ، كما يقول : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلاَمُ ). (2)
    ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ). (3)
    1 ـ الحج : 67.
    2 ـ آل عمران : 19.
    3 ـ آل عمران : 85.


(618)
    في حين أنّ « الشريعة » تعني مجموعة التعاليم الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن ينالها التغيير مع مرور الزمن وتطور المجتمعات وتكامل الأُمم ، ولذلك لا يضير استعمال هذه اللفظة في صورة الجمع فيقال « شرائع » وقد صرح القرآن بتعدّد الشريعة.
    فهو رغم تصريحه بوحدة الدين ـ كما مر في الآية السابقة ـ يخبر عن وجود شريعة لكل أُمّة ويكشف بذلك عن تعدد الشريعة ، إذ يقول : ( لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ). (1)
    وعلى هذا فإنّ البشرية دُعيت في الحقيقة إلى دين واحد وهو الإسلام الذي كان متحد الأُصول في كل الأدوار والأزمنة ، وكانت الشرائع في كل زمن وظرف طريقاً للوصول إلى الدين الواحد ولم تكن الشرائع إلاّ طرقاً للأُمم والأقوام ، لكل قوم حسب مقتضيات عصره ومدى احتياجه.
    وأمّا الملّة ، فهي بمعنى السنن التي بها تتقوّم الحياة البشرية وتستقيم ، تلك السنن التي أودع في مفهومها « الأخذ والاقتباس من الغير ».
    ولذلك يضيف القرآن الكريم هذه العبارة ـ لدى استعمالها ـ إلى الرسول والأقوام ، إذ يقول ـ مثلاً ـ : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ). (2)
    ( إِنّي تَرَكْتُ مِلّة قَوْم لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ). (3)
    وعلى هذا تكون الملّة والشريعة متحدتين معنى ومفاداً ، مع فارق واحد ، هو
    1 ـ المائدة : 48.
    2 ـ البقرة : 135.
    3 ـ يوسف : 37.


(619)
أنّ الملّة تضاف إلى غير اللّه ، فيقال « ملّة محمد » و « ملّة إبراهيم » ، ولا تضاف إلى اللّه تعالى فلا يقال ملّة اللّه.

الصنف الرابع
    في هذا الصنف نجد الآيات تحذر من التحاكم إلى الطغاة والأخذ بقوانينهم ، كما يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُريدُ الْشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعْيداً ). (1)
    بل انّ القرآن يحذر المجتمع الإسلامي أساساً من أيِّ ركون إلى النظم الطاغوتية والابتعاد عن سنن اللّه وشرائعه ، إذ يقول : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى الْنُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الْطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . (2)
    ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
    1 ـ النساء : 59 ـ 60.
    2 ـ البقرة : 256 ـ 257.


(620)
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ). (1).
    ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ). (2).
    ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى ). (3).
    أجل انّ القرآن ـ كما رأيت ـ يحذر من الركون إلى الطاغوت والميل إليه ، فضلاً عن طاعته وتسليم المقدّرات إليه.
    إنّ هذه الحقيقة تتجلّى من ملاحظة الآيتين الأُوليين ، المذكورتين في مطلع هذا الصنف ، فالآية الأُولى تأمر باتّباع اللّه ورسوله وأُولي الأمر في المجتمع الإسلامي ، وأنّه إذا حدث حادث يجب ردّه إلى اللّه والرسول لا إلى غيرهم ، ثم يندد بالذين يتحاكمون إلى الطاغوت رغم ادّعائهم الإيمان بالكتب السماوية.
    ويا للأسف هل سلك مجتمعنا الإسلامي ـ في القرن الأخير ـ غير هذا الطريق الوبي؟ وهل اتبع غير الأنظمة البشرية ، وحل مشكلاته ومنازعاته إلاّ وفق القوانين الطاغوتية التي ما أنزل اللّه بها من سلطان؟
    ويمكن أن يسأل : أنّ القوانين الإسلامية بين ثابت وأبدي لا يقبل التغيير مع تطوّر الظروف وبين متغير ومتطوّر ، فما هو موقف السلطة التشريعية تجاه القسم الثاني؟
    أمّا الجواب : فنقول : إنّ التغيّر والتطوّر ليس في جوهر القانون وصلبه ، وإنّما هو في شكله وصورته ، والذي يجب صيانته وحفظه إنّما هو جوهره وصلبه ، لا
    1 ـ النساء : 51 ـ 52.
    2 ـ النحل : 36.
    3 ـ الزمر : 17.
مفاهيم القرآن ـ جلد الأول ::: فهرس