مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: 501 ـ 506
(501)
الهداية العامّة
    الهداية العامّة من اللّه سبحانه تعمّ كل الموجودات عاقلها و غير عاقلها ، و هي على قسمين :
    أ ـ الهداية العامة التكوينيّة : و المراد منها خلق كل شيء و تجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها ، قال سبحانه حاكياً كلام النبي موسى ( عليه السلام ) : ( رَبُّنَا الَّذِى أَعْطى كُلَّ شَىْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه/50 ).
    و منح كلّ موجود إمكانية توصله إلى الكمال ، فالنبات مجهّز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتح طاقاته; فالحبّة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية و عوامل خارجية كالماء و النور إلى أن تصير شجرة مثمرة معطاءة. و مثله الحيوان و الإنسان ، فهذه الهداية عامّة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض و تمييز.
    قال سبحانه : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلى * الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَ الَّذِى قَدَّرَ فَهَدى ) ( الأعلى/1 ـ 3 ).
    و قال سبحانه : ( أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ * وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) ( البلد/8 ـ 10 ).
    و قال سبحانه : ( وَ نَفْس وَ ما سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْوَايها ) ( الشمس/7و8 ).
    إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي ترجع حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من الأجهزة و الإلهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة و الطريق المَهْيع ، من غير فرق بين المؤمن و الكافر. قال سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِى فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَ لكِنْ أَكْثَرَ النّاسِ لايَعْلَمُونَ ) ( الروم/30 ).


(502)
    فهذا الفيض الإلهي الذي يأخذ بيد كل ممكن في النظام ، عام لايختص بموجود دون موجود ، غير أنّ كيفية الهداية و الأجهزة الهادية لكل موجود تختلف حسب اختلاف درجات وجوده. و قد أسماه سبحانه في بعض الموجودات « الوحي » و قال سبحانه : ( وَ أَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَحْلِ أَنْ اتَّخِذِى مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِى مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل/68و69 ).
    و من الهداية التكوينية في الإنسان العقل الموهوب له ، الذي يرشده إلى معالم الخير و الصلاح ، و ما ورد في الذكر الحكيم من الآيات الحادثة على التعقّل و التفكّر و التدبّر خير دليل على وجود هذه الهداية العامّة في أفراد الإنسان و إن كان قسم منه لايستضيء بنور العقل و لايهتدي بالتفكّر و التدبّر.
    ب ـ الهداية العامّة التشريعية : إذا كانت الهداية التكوينية العامّة أمراً نابعاً من ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من أجهزة تسوقه إلى الخير و الكمال ، فالهداية التشريعية العامّة عبارة عن الهداية الشاملة للموجود العاقل المدرك ، المفاضة عليه بتوسّط عوامل خارجة عن ذاته ، و ذلك كالأنبياء و الرسل و الكتب السماوية و أوصياء الرسل و خلفائهم و العلماء و المصلحين و غير ذلك من أدوات الهداية التشريعية العامّة التي تعمّ جميع المكلّفين. قال سبحانه : ( وَ إِنْ مِنْ أُمَّة إِلّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) ( فاطر/24 ).
    و قال سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ ) ( الحديد/25 ).
    و قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِى الأمْرِ مِنْكُم ) ( النساء/59 ).


(503)
    و قال سبحانه : ( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلّا رِجالاً نُوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاتَعْلَمُونَ ) ( الأنبياء/7 ). و أهل الذكر في المجتمع اليهودي هم الأحبار ، و المجتمع المسيحي هم الرُهْبان.
    إلى غير ذلك من الآيات الواردة في القرآن الكريم التي تشير إلى أنَّه سبحانه هدى الإنسان ببعث الرسل ، و إنزال الكتب ، و دعوته إلى إطاعة أُولي الأمر و الرجوع إلى أهل الذكر.
    قال سبحانه مصرّحاً بأنَّ النبي الأكرم ( صلى اللّه عليه و آله و سلّم ) هو الهادي لجميع أُمّته : ( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِى إِلى صِراط مُسْتَقِيم ) ( الشورى/52 ).
    و قال سبحانه في هداية القرآن إلى الطريق الأقوم : ( إِنَّ هَذا القُرآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِى أَقْوَمُ ) ( الأسراء/9 ).
    هذا ، و إنّ مقتضى الحِكْمَة الإلهية أن يعمّ هذا القسم من الهداية العامّة جميع البشر ، و لايختصّ بجيل دون جيل و لاطائفة دون طائفة.
    و الهداية العامّة بكلا قسميها في مورد الإنسان ، ملاك الجبر و الإختيار ، فلو عمّت هدايته التكوينية و التشريعية في خصوص الإنسان كل فرد منه لارتفع الجبر ، و ساد الإختيار ، لأنَّ لكل إنسان أن يهتدي بعقله و ما حَفَّهُ سبحانه به من عوامل الهداية من الأنبياء و الرسل و المزامير و الكتب و غير ذلك.
    و لو كانت الهداية المذكورة خاصّة بأُناس دون آخرين ، و أنَّه سبحانه هدى أُمّة و لم يهدِ أُخرى ، لكان لتوّهم الجبر مجال و هو وَهْم واه ، كيف و قدقال سبحانه : ( وَما كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ( الأسراء/15 ). و قال سبحانه : ( وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ فِى أُمِّها رَسُولاً ) ( القصص/59 ). و غير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنَّ نزول العذاب كان بعد بعث الرسول و شمول الهداية العامّة للمُعَذّبين و الهالكين ، و بالتالي يدلّ على أنَّ من لم تبلغه تلك الهداية لايكون مسؤولاً إلّا بمقدار ما يدلّ عليه عقله و يرشده إليه لبّه.


(504)
الهداية الخاصّة
    و هناك هداية خاصّة تختصّ بجملة من الأفراد الذين استضاؤا بنور الهداية العامّة تكوينها و تشريعها ، فتشملهم العناية الخاصّة منه سبحانه.
    و معنى هذه الهداية هو تسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة ، و توفيقهم للتزوّد بصالح الأعمال ، و يكون معنى الإضلال في هذه المرحلة هو منعهم من هذه المواهب ، و خذلانهم في الحياة ، و يدلّ على ذلك ( إنَّ هذه الهداية خاصة لمن استفاد من الهداية الاُولى ) ، قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) ( الرعد/27 ). فعلّق الهداية على من اتّصف بالإنابة و التوجّه إلى اللّه سبحانه.
    و قال سبحانه : ( اللّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) ( الشورى/13 ).
    و قال سبحانه : ( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) ( العنكبوت/29 ). فمن أراد وجه اللّه سبحانه يمدّه بالهداية إلى سبله.
    و قال سبحانه : ( وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) ( محمد/17 ).
    و قال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُو بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً * وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّمواتِ وَ الأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً ) ( الكهف/13و14 ).
    و كما أنَّه علّق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهب العناية الخاصّة ، علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال و الحرمان من الهداية الخاصّة.
    قال سبحانه : ( وَ اللّهُ لا يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( الجمعة/5 ).
    و قال سبحانه : ( وَ يُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ ) ( إبراهيم/27 ).


(505)
    و قال سبحانه : ( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلّا الفَاسِقِينَ ) ( البقرة/26 ).
    و قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ) ( النساء/168و169 ).
    و قال سبحانه : ( فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ لايَهْدِى القَوْمَ الفاسِقِينَ ) ( الصف/5 ).
    فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية و التوفيق الخاص ، لأنّهم كانوا ظالمين و فاسقين ، كافرين و منحرفين عن الحق. و بالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية و الضلالة يظهر أنَّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالاً إلّا ما كان مسبوقاً بظلم من العبد أو فسق أو كفر أو تكذيب و نظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصّة و حِرمانه منها.
    إذا عرفت ما ذكرنا ، تقف على أنَّ الهداية العامّة التي بها تناط مسألة الجبر و الإختيار عامّة شاملة لجميع الأفراد ، ففي وسع كل إنسان أن يهتدي بهداها. و أمّا الهداية الخاصة و العِناية الزائدة فتختصّ بطائفة المنيبين و المستفيدين من الهداية الاُولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية و الضلالة على مشيئته سبحانه ناظرٌ إلى القسم الثاني لا الأوّل.
    أمّا القسم الأوّل فلأنّ المشيئة الإلهية تعلّقت على عمومها بكل مكلّف بل بكل إنسان ، و أمّا الهداية فقد تعلّقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف ، و لم تكن مشيئته مشيئة جزافية ، بل المِلاك في شمولها لصنف خاص هو قابليته لشمول تلك الهداية ، لأنَّه قداستفاد من الهدايتين التكوينية و التشريعية العامّتين ، فاستحقّ بذلك اللطف الزائد.
    كما أنَّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلّا لأجل اتّصافهم بصفات رديئة لايستحقّون معها تلك العِناية الزائدة.


(506)
    و لأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه بعد ما يقول : ( فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشاءُ وَ يَهْدِى مَنْ يَشاءُ ) ، يذيّله بقوله : ( وَ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم/4 ) ، مشعراً بأنَّ الإضلال و الهداية كانا على وفاقا الحكمة ، فهذا استحقّ الإضلال و ذاك استحقّ الهداية.
    بقي هنا سؤال ، و هو إنَّ هناك جملة من الآيات تعرب عن عدم تعلّق مشيئته سبحانه بهداية الكل ، قال سبحانه : ( وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلى الهُدى فَلاتَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ( الأنعام/35 ).
    و قال سبحانه : ( وَ لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) ( الأنعام/107 ).
    و قال سبحانه : ( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِى الاَْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) ( يونس/99 ).
    و قال سبحانه : ( وَ عَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) ( النحل/9 ).
    و قال سبحانه : ( وَ لَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْس هُداها ) ( السجدة/13 ).
    و الجواب : إنَّ هذه الآيات ناظرة إلى الهداية الجبرية بحيث تسلب عن الإنسان الإختيار و الحرية فلايقدر على الطرف المقابل ، و لمّا كان مثل هذه الهداية الخارجة عن الإختيار منافياً لحكمته سبحانه ، و لايوجب رفع منزلة الإنسان ، نفى تَعَلُّق مشيئته بها ، و إِنَّما يُقَدَّرُ الإيمان الذي يستند إلى اختيار المرء ، لا إلى الجبر.
    بلغ الكلام هنا صبيحة يوم الثلاثاء ثاني ربيع الأوّل عام 1410ه ـ ق بيد مؤلّفه « جعفر السبحاني » ابن الفقيه الشيخ « محمد حسين السبحاني » عاملهما اللّه بلطفه الخفي.
مفاهيم القرآن ـ جلد السادس ::: فهرس