مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 31 ـ 40
(31)
الَّذينَ كَفرُوا يَفتَرُونَ علَى اللّهِ الكَذِبَ وَاكْثرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) ( المائدة/103 ).
    والآية تعرب من أنّهم كانوا ينسبون أحكامهم في هذه الحيوانات والأنعام الأربعة إلى اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك وصف سبحانه تلك النسبة بالإفتراء عليه ، وثلاثة منها أعني « البحيرة » و « السائبة » و « الحامي » من الإبل ، و الوصيلة من الشاة ، وقد اختلف المفسّرون في تفسير هذه الكلمات ، ولكن الجميع يشتركون في أنّ الأحكام المترتبة عليها كانت مبنية على تحريرها والعطف عليها ، ونحن نذكر تفسيراً واحداً لهذه الكلمات ، ومن أراد التبسّط والتوسّع فليرجع إلى كتب التفسير.
    1 ـ البحيرة : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، وكان آخرها ذكراً ، شقُّوا اُذنها شقّاً واسعاً وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولا تطرد عن ماء ، ولا تمنع عن مرعى ، فإذا لقيها المعيي لم يركبها.
    2 ـ السائبة : وهي ما كانوا يسيبونه من الإبل ، فإذا نذر الرجل للقدوم من السفر أو للبرء من علّة أو ما أشبه ذلك ، قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ، ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى.
    3 ـ الحامي : وهو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن ، قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
    4 ـ الوصيلة : وهي في الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت اُنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم ، فإن ولدت ذكراً واُنثى ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم (1).
    وقد أشار القرآن إلى أنّ الدافع لإتّباع هذه الأحكام حتّى بعد نزول الوحي هو تقليد الآباء ، وقد أشار إليه بقوله : ( وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوُا إلى مَا أنْزَلَ اللّهُ وَإلى الرَّسولِ
1 ـ مجمع البيان ج2 ص352 ، و لم نذكر سائر التفاسير لاشتراك الجميع في أنّ الأحكام كانت مبتنية على تسريحها و إظهار العطف لها.

(32)
قَالُوا حَسبُنَا مَا وجَدنَا عَلَيهِ آباءَنَا أوَلَوْْ كانَ ا باؤُهُمْ لاَ يَعْلَمونَ شَيئاً ولاَيَهْتَدونَ ) ( المائدة/4 ).
    ثمّ إنّ هذه الأحكام وإن كانت لغاية تسريحها وإظهار العطف عليها لكنّها كانت تؤدّي بالمآل إلى موتها وهلاكها عن جوع وعطش ، لأنّ تسريحها في البوادي والصحاري من دون حماية راع ولا رائد كان ينقلب إلى هلاكها.
    ب ـ إنّ القرآن الكريم يحكي عن العرب المعاصرين لنزول الوحي خرافة أُخرى في مجال الأطعمة إذ قال سبحانه :
    ( وَجَعَلُوا للّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَ الاَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَيَصِلُ اِلَى اللّهِ وَ مَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ اِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( الأنعام/136 ).
    و الآية تحكي من أنّ المشركين كانوا يخرجون من الزرع و المواشي نصيباً للّه ونصيباً للأوثان ، فما كان للأصنام لايصل إلى اللّه ، وما كان للّه فهو يصل إلى الأصنام.
    و قد إختلف المفسّرون في كيفيّة هذا التقسيم الجائر فنذكر تفسيراً واحداً.
    قالوا : إنّهم كانوا يزرعون للّه زرعاً ، و للأصنام زرعاً ، و كان إذا زكى الزرع الذي زرعوه للّه ، و لم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام ، جعلوا بعضه للأصنام و صرفوه إليها ، و يقولون : إنّ اللّه غني ، و الأصنام أحوج ، و إن زكى الزرع الذي جعلوه للأصنام ، و لم يزك الزرع الذي زرعوه للّه ، لم يجعلوا منه شيئاً للّه ، و قالوا : هو غنيّ ، وكانوا يقسّمون النعم فيجعلون بعضه للّه ، و بعضه للأصنام ، فما كان للّه أطعموه الضيفان ، و ما كان للصنم أنفقوه على الصنم (1).
    ج ـ و من تقاليدهم : إنّه إذا ولدت الأنعام حيّاً يجعلونه للذكور و يحرمون النساء منه ، و إذا ما ولد ميّتاً أشركوا النساء و الرجال ، و إليه يشير قوله سبحانه :
1 ـ مجمع البيان ج2 ص370.

(33)
    ( وَ قَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَ مُحَرَّمٌ عَلَى اَزْوَاجِنَا وَ اِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ اِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ( الأنعام/139 ).
    و على ضوء الآية فأجنّة البحائر و السيب كانت مختصّة بالرجال إذا ولدت حيّة ، و إذا ولدت ميّتةً أكله الرجال و النساء ، فما وجه هذا التقسيم غير التفكير الخرافي ؟
    د ـ كانوا يقسّمون الأنعام إلى طوائف ، فطائفة يجعلونها لآلهتهم و أوثانهم ، وطائفة يحرّمون الركوب عليها ، و هي السائبة و البحيرة و الحامي ، و طائفة لايذكرون اسم اللّه عليها.
    كل ذلك تقاليد باطلة ردّها الوحي الإلهي بقوله : ( وَ قَالُوا هذِهِ اَنْعَامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لاَيَطْعَمُهَا اِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ اَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَ اَنْعَامٌ لاَيَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( المائدة/138 ).
    و الحجر بمعنى الحرام و هو ما خصّوه بآلهتهم و لايطعمونه إلاّ من شاؤوا.
    هذا بعض ما وقفنا عليه من تقاليد العرب الخرافية الباطلة قبل الإسلام و حين ظهوره ممّا جاء ذكره في القرآن الكريم.

5 ـ ثقافة قومه
    يصف القرآن الكريم قوم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل القاطنين في اُمّ القرى و من حولها بالاُمّية و يقول :
    ( هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الاُمِّيِّينَ رُسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَ الحِكْمَةَ ) ( الجمعة/2 ).
    و قال : ( ... وَ قُلْ لِلَّذِينَ اُوتُوا الكِتَابَ وَ الاُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَاِنْ اَسْلَمُوا


(34)
فَقَدِاهْتَدَوْا ... ) ( آل عمران/20 ).
    و قدبلغت الاُمّيّة عند العرب إلى حد اشتهروا بذلك حتّى وصفهم أهل الكتاب بها كما يحكي عنه سبحانه بقوله :
    ( ... وَ مِنْهُمْ مَنْ اِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَار لاَيُؤَدِّهِ إِلَيْكَ اِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الاُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) ( آل عمران/75 ).
    و الاُمّيّون جمع الاُمّي و هو المنسوب إلى الاُم ، قال الزجّاج : الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب ، قال عليه الصلاة و السلام : إنّا اُمّة اُمّيّة لانكتب ولانحسب (1).
    فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون و لايقرؤن و النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان كذلك ، فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّيّاً (2).
    و قال البيضاوي : الاُمّي من لايكتب و لايقرأ.
    قال ابن فارس : الاُمّي في اللّغة ، المنسوب إلى ما عليه جبلّة الناس لايكتب فهو في أنّه لايكتب على ما ولد عليه (3).
    و الزمخشري يفسّر قوله تعالى : ( وَ مِنْهُمْ اُمِّيُّونَ لاَيَعْلَمُونَ الكِتَابَ اِلاَّ أَمَانِىَّ وَاِنْ هُمْ اِلاَّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة/78 ). بأنّهم لايحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة و يتحقّقوا ما فيها.
    هذا هو معنى الاُمّي و قدأصفقت عليه أئمّة اللّغة في جميع الأعصار إلى أن جاء الدكتور عبد اللطيف الهندي فزعم للاُمّي معان اُخرى لاتوافق ما اتّفقت عليه أئمّة اللّغة ، و سنذكر أراءه الساقطة في معنى « الأُمّي » عند البحث عن أوصاف النبي ، و منها أنّه « اُمّي » فانتظر.
1 ـ ايعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه ج1 ص327 عن النبي أنّه قال : إنّا اُمّة ...
2 ـ مفاتيح الغيب ج4 ص309.
3 . مقاييس اللغة ج1 ص218.


(35)
    و العرب في اُمّ القرى و ما حولها كانت اُمّيّة لاتقرأ و لاتكتب ، و قدنشأ النبيّ بينهم ، و يؤيّد ذلكَ ما ذكره الإمام البلاذري في « فتوح البلدان » حيث أتى بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة و الكتابة فما تجاوز عن سبعة عشر رجلاً في مكّة ، و عن أحد عشر نفراً في يثرب (1).
    وعلى ضوء ذلك فالسائد على تلك المنطقة كانت هي الاُمّيّة المطلقة إلاّ من شذّ.
    نعم ، ما ذكرنا من سيادة الاُمّيّة على العرب لاينافي وجود الحضارة في عرب اليمن حيث كانوا على أحسن ما يكون من المدنيّة ، فقدبنوا القصور المشهورة ، وشيّدوا الحصون ، و كانت لهم مدن عظيمة ، قال في كتابه الكريم :
    ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَأ فِى مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جنَّتَانِ عَنْ يَمِين وَ شِمَال كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ ) ( سبأ/15 ).
    و كان لهم ملوك و اقيال دوّخوا البلاد ، و استولوا على كثير من أقطار الأرض ، و لكن تلك الحضارة زالت و بادت بسيل العرم ، قال سبحانه :
    ( فَاَعْرَضُوا فَاَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ اُكُل خَمْط وَ اَثْل وَ شَىْء مِنْ سِدْر قَلِيل * ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِى اِلاَّ الكَفُورَ ) ( سبأ/16و17 ).
    و أمّا بنو عدنان و من جاورهم من عرب اليمن فقد اختلّ أمرهم و تغيّر حالهم بعد أن فرّقهم حادث سيل العرم ، فمن ذلك اليوم فشى الجهل بينهم ، و قلّ العلم فيهم ، و أضاعوا صنائعهم و تشتّتوا في الأطراف و الأكناف ، و وقع التنازع و التشاجر بين القبائل ، و تكاثرت البغضاء بينهم ، فلم يبق عندهم علم منزل ، و لاشريعة موروثة من نبي ، و لا العلوم كالحساب و الطب ، و انحصر عملهم بما سمحت قرائحهم من الشعر و الخطب ، أو ما حفظوه من أنسابهم و أيامهم ، أو ما احتاجوا
1 ـ فتوح البلدان ص457.

(36)
إليه في دنياهم من الأنواء و النجوم و صنع آلات الحرب و غير ذلك. (1)
    فالمثقّف عندهم من جادت قريحته بالشعر ، أو قدر على إلقاء الخطب والوصايا إرتجالاً ، أو من عرف أنساب الناس ، أو عرف أخبار الاُمم و بالأخص أيام العرب.
    نعم كان عند بعض العرب علم الفراسة و الكهانة و العرافة ، و يراد من الأوّل من يستدل بهيئة الإنسان و أشكاله و ألوانه و أقواله على أخلاقه و سجاياه و فضائله ورذائله ، و لعلّه إليه يشير قوله سبحانه :
    ( تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) ( البقرة/273 ).
    ( وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القَوْلِ ) ( محمد/30 ).
    و يراد من الثاني من يتنبّأ بما سيقع من الحوادث في الأرض.
    و العرّافة هو قسم من الكهانة ، لكنّها تختصّ بالاُمور الماضية و كأنّه يستدل ببعض الحوادث الغابرة على الحوادث القادمة.
    هذا هو عرض خاطف عن ثقافة قوم النبي عصر نزول القرآن أتينا به ليكون دليلاً واضحاً على انقطاع شريعة النبي عن تعاليم بيئته وتقاليدها.
    والقرآن الكريم يصف ذلك العصر في غير واحد من الآيات بالجاهليّة ، يقولسبحانه : ( اَفَحُكمَ الجَاهِليَّة يَبغُونَ ) ( المائدة/50 ).
    ويقول سبحانه : ( يظُنُّونَ بِاللّهِ غيرَ الحَقِّ ظَنّ الجَاهِليَّة ) ( آل عمران/154 ).
    ويقول سبحانه : ( وَلاَ تَبرَّجنَ تَبَر ُّجَ الجَاهِليَّة الأُولَى ) ( الأحزاب /33 ).
    ويقول تعالى : ( إِذْ جَعَلَ الَّذينَ كَفَروا فِي قُلُوبِهِمُ الحَميَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِليَّةَ ) ( الفتح/26 ).
1 ـ بلوغ الارب ج3 ص80 ـ 81 ، و من أراد أن يقف على ثقافة العرب عامّة ، قحطانيهم وعدنانيهم ، فليرجع إلى ذلك الكتاب.

(37)
    وأغلب المفسّرين يفسّرون الجاهليّة بفساد العقيدة في جانب الدين فقط ، ولكنّه تخصيص بلا جهة ، فكان القوم يفقدون العلم الناجع كما يفقدون الدين الصحيح.

6 ـ الإنهيار الخلقي
    طبيعة العيش في الصحراء تفرض على الإنسان نزاهة خاصّة في الخلق ، تصون نفسه عن الإنهيار الخلقي ، و لأجل ذلك نرى أنّ الفساد في المناطق المتحضّرة أكثر منها في البدو وسكّان الصحاري.
    وقد كان من المترقّب من سكنة أُمّ القرى وما حولها النزاهة عن المجون والفساد ، غير أنّ في الآيات القرآنية أخباراً عن شيوع الفساد الخلقي بينهم.
    فهذا القرآن الكريم يركّز على النهي عن الفحشاء ظاهره وباطنه ، والفحشاء وإن فسّر بما عظم قبحه من الأفعال والأقوال الذميمة ولكنها منصرفة إلى الزنا وكناية عنها ، قال سبحانه :
    ( إلاّ اَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَة مُبيَّنة ) ( النساء/19 ).
    وقال سبحانه : ( وَاللاَّتِى يأْتينَ الفَاحِشةَ مِنْ نسائكُمْ ) ( النساء/ 15 ).
    وقال سبحانه : ( وَلاَ يَخرجْن إلاّ أنْ يأْتينَ بِفَاحِشة مُبَيِّنَة ) ( الطلاق/1 ).
    وكل هذا يعرف عن شيوع هذا العمل الشنيع المنكر بينهم.
    فإنّنا نرى أنّ اللّه سبحانه ينهي عن إتخاذ الخدن ويقول :
    ( وَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعَرُوفِ مُحصنَات غَيْرَ مُسافِحَات وَلا مُتَّخِذَاتِ اَخدان ... ) ( النساء/25 ).
    ويقرب منها قوله في سورة المائدة ، الآية 5.
    و « الأخدان » جمع « خدن » وهو يطلق على الصاحب و الصاحبة بأن يكون


(38)
للمرأة صاحب أو خليل يزني بها سرّاً ، وهكذا في جانب ا لرجل ، فالخدن يطلق على الذكر والأُنثى ، وكان الزنا في الجاهلية على قسمين : سرّ وعلانية ، عامّ وخاصّ.
    فالخاص السري هو أن يكون للمرأة خدن يزني بها سرّاً ، ولا تبذل نفسها لكلّ أحد.
    والعام الجهري هو المراد بالسفاح كما قال ابن عبّاس وهو البغاء.
    وكان البغاء من الإماء وكنّ ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن وبيوتهن.
    روى ابن عبّاس : إنّ أهل الجاهلية كانوا يحرّمون ما ظهر من الزنا ، ويقولون : إنّه لوم ، وييستحلّون ما خفي ويقولون : لا بأس به ، ولتحريم القسمين يشير قوله سبحانه :
    ( ولاَ تَقْرَبُوا الفَواحِشَ مَا ظَهر منْهَا ومَا بَطَن ) ( الأنعام/151 ) (1).
    وممّا يعرب عن رسوخ الإنحلال الخلقي فيهم ما نقله « تميم بن جراشة » وهو ثقفي ، قال قدمت على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وفد ثقيف ، فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط ، فقال : اكتبوا ما بدالكم ، ثمّ ائتوني به ، فسألناه في كتابه أن يحلّ لنا الربا والزنا ، فأبى عليّ ( رضي الله عنه ) أن يكتب لنا ، فسألناه خالد بن سعيد بن العاص ، فقال له عليّ : تدري ما تكتب ؟ قال : اكتب ما قالوا ورسول اللّه أولى بأمره ، فذهبنابالكتاب إلى رسول اللّه ، فقال للقارئ إقرأ ، فلمّا انتهى إلى الربا ، فقال : ضع يدي عليها في الكتاب ، فوضع يده ، فقال : ( يَا ايُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَروا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ... ) ( البقرة/278 ). ثمّ محاها ، وألقيت عليها السكينة فما راجعناه ، فلمّا بلغ الزنا ، وضع يده عليها ، وقال :
1 ـ المنار ج5 ص22 ، و زاد في المصدر قوله : و هذان النوعان معروفان الآن في بلاد الافرنج والبلاد التي تقلّد الافرنج في شرور مدنيّتهم كمصر و والاستانة و بعض بلاد الهند ، و يسمّي المصريون الخدن الرفيق ، و من هؤلاء الافرنج و المتفرنجون من هم كأهل الجاهلية يستحسنون الزنا السريّ ، و يستقبحون الجهري.

(39)
    ( ولاَ تَقرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( الاسراء/32 ).
    ثمّ محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا (1).
    وممّا يدل على الإنحلال الخلقي في أمر النساء قوله سبحانه :
    ( وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ علَى البِغَاءِ إنْ أرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبَتَغَوا عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيَا ... ) ( النور/33 ).
    فالآية تعرب عن الإنهيار الخلقي الذي كان يعاني منه بعضهم حتّى بعد هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة ، وقد رووا : إنّ عبد اللّه بن أُبي كان له ستّ جوار كان يكرههنّ على الكسب عن طريق الزنا ، فلمّا نزل تحريم الزنا ، أتين رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فشكين إليه ، فنزلت الآية (2).

7 ـ معاقرة الخمور وإرتياد نواديها
    كان الاستهتار بمعاقرة الخمور رائجاً بين العرب منذ زمن بعيد ، وقد بلغ شغفهم بها حتّى أنّهم جعلوها أحد الأطيبين مع أنّ النبي الأكرم كان قد حرّم الخمر حتّى قبل هجرته إلى المدينة ، ولكنّه لم يتحقّق ما أمر به إلاّ بعد مضي سنوات من هجرته ، ونزول آيات مختلفة الاُسلوب متنوّعة البيان وإليك بيان هذا التدرّج :
    1 ـ قال سبحانه : ( وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخيلِ وَالأعنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُُ سَكَراً ورِزْقاً حَسَناً إنّ فِي ذَلكَ لاََيَةً لَقوم يَعْقِلُونَ ) ( النحل/67 ) والآية مكّيّة نزلت في ظروف قاسية لا تتحمّل إنذاراً أكثر وأشد من هذا ، ولهذا اكتفى فيه بعد اتّخاذ السكر ضد الرزق الحسن.
1 ـ اُسد الغابة ج1 ص216 ترجمة تميم بن جراشة.
2 ـ مجمع البيان ج4 ص141.


(40)
    2 ـ قال سبحانه : ( يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمرِ والمَيْسرِ قُلْ فِيْهِمَا إثْمٌ كَبيِرٌ وَمَنافِعُ للِنَّاسِ وَإِثمُهُما أكبَرُ مِن نَفعِهمَا ) ( البقرة/ 219 ).
    فالآية تشير إلى أنّه لو كان هناك لذّة وطرب لشارب الخمر ، أو مال للاعب الميسر حيث يفوز به من غير كدّ ولا مشقّة ، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما.
    فلأجل ذلك يجب ترك النفع القليل في مقابل الضرر الكبير ، والآية مدنيّة كافية في التحريم ، وذلك لأنّها تصرّح بوجود الإثم في الخمر والميسر ، وقد حرّم الوحي الإلهي الإثم على وجه القطع واليقين قبل هجرة النبي ، قال سبحانه :
    ( إنّمَا حرَّمَ ربِّيَ الَفواحِشَ مَا ظَهرَ مِنْهَا وَما بَطنَ والإثْمَ وَالبَغْيَ ) ( الأعراف/33 ).
    وأي بيان أوضح لتحريم الخمر إذا قرنت الآيتان : الواحدة إلى الأُخرى ؟ فالآية الأُولى تحقّق الصغرى وهو أنّ الخمر إثم ، والآية الثانية تصرّح بالكبرى ، وهي أنّ اللّه سبحانه حرّم الإثم ، فيستنتج منهما أنّه سبحانه حرم الخمر.
    والعجب إنّ القوم ( مع أَنَّ الآية الثانية التي تحرّم الإثم على وجه الحتم والبت نزلت بمكّة ) ، لم يتنزّهوا من هذا العمل المزيل للعقل ، والمضاد للكرامة الإنسانية ، فكانوا يشربون الخمر في نواديهم حتّى وافاهم الوحي الإلهي بتحريم الصلاة وهم في حال السكر ، إذ قال سبحانه :
    ( يَا أيُّها ا لَّذينَ آمَنُوا لاَ تَقْربُو ا الصّلاة وأنتُم سُكارى حَتَّى تَعْلمُوا مَاتَقولُونَ ) ( النساء /43 ).
    وهذه الآيات الثلاث التي تعرّفت عليها تلقّاها بعض الصحابة بأنّها ليست بياناً وافياً ، فظلّ يترصّد البيان الأوفى حتّى وافى الوحي الإلهي ، وقال سبحانه : ( اِنَّما الخَمْرُ والمَيسرُ والاَنصَابُ وَالازلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيطانِ فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفلِحونَ * اِنَّمَا يُريدُ الشَّيطانُ اَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الَعداوَةَ وَالبغْضاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسرِ ويَصدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَن الصَّلاةِ فَهَلْ اَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) ؟ ( المائدة/90 و91 ).
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس