مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 351 ـ 360
(351)
بالمسلمين من محنة وبلاء ، وتقرّق وتشتّت ، وهبوط معنوّياتهم ، وخوار عزائمهم ، فاستمع إلى هذا النص الّذي يرويه لنا ابن هشام حيث يقول :
    إنتهى أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيداللّه ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال : مايجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . قال : فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على مامات عليه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم استقبل القوم ، فقاتل حتّى قتل ، وبه سمّي أنس بن مالك (1).
    قد كان يوم أحد يوم بلاء ومحنة وتمحيص. أكرم اللّه تعالى فيه من أكرم بالشّهادة ، ومحص فيه من لم يكن له ثبات عزم ، وقّوة شكيمة في الدّفاع عن حريم الإسلام.
    ولأجل فرار المسلمين ، وجلائهم ساحة المعركة رشق العدو بالحجارةوجه النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاثقلوه جراحاً ، فشجوا وجهه ، وكسروا رباعيته ، ولولا أنّ هنالك رجلاً مخلصين لنجدته ، لقضي الأمر ، ولكنّه سبحانه كتب على نفسه نصر المؤمنين ، وإعزاز الرّسول ، وتمكين دعوته.
    إنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مشى وحوله لفيف من أصحابه إلى فم الشعب ، فلمّا استقرّ به الحال جاء علي بماء غسل عن وجه النبيّ الدّم ، وصب على رأسه وكان النبيّ يقول : إشتدّ غضب اللّه على من أدمى وجه نبيّه ، ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرّّسول ، فسقطت ثنيّتاه. ولمّا وقف المسلمون على أمر النبيّ ، وعلموا موضعه تقاطروا عليه تترى من كل جانب ، والتفّوا حوله.
    وأمّا قريش فطارت بنصرها سرورا ، وحسبت نفسها أنّها انتقمت لبدر أشدّ الإنتقام ، حتّى بعد ما وقفوا على أنّ النبيّ حي لم يقتل ، وحينما أراد أبوسفيان الإنصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته فقال : إنّ الحرب سجال يوم بيوم
1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ج1 ص83.

(352)
أعْل هبل ـ أي أظهر دينك ـ فأمر رسول اللّه أصحابه أن يقولواً : اللّه أعلى وأجلّ لاسواه ، قتلانا في الجنّة ، وقتلاكم في النار.
    وقال أبوسفيان : « إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم ».
    فأمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يجيب أصحابه ويقولوا : « اللّه مولانا ولا مولى لكم ».
    ثُمَّ رجعت قريش إلى أثقالهم ، وركّبوا الأثقال ، فتركوا ساحة المعركة. فخرج المسلمون يتبّعون قتلاهم ، فلم يجدوا قتيلاً إلاّ مثلوا به ، إلاّ حنظلة كان أبوه مع المشركين فترك له ، و وجدوا حمزة بن عبد المطّلب عم النبيّ قد بقر بطنه ، وحملت كبده ، إحتملها وحشي ، وهو قتله ، يذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباهايوم بدر. وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم ثُمَّ رجعوا إلى المدينة. فلمّا دخل النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أزقّتها إذا النوح والبكاء في الدور. فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذه نساء الأنصار يبكين على قتلا هنّ. وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين سمع البكاء : لكّن حمزة لا بواكي له ، واستغفر له. فسمع ذلك سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، ومعاذ بن جبل ، وعبد اللّه بن رواحة ، فمشوا في دورهم ، فجمعوا كل نائحةو باكية كانت بالمدينة للبكاء على حمزة.
    و عند ذلك بدت شماتة اليهودو قالوا : لو كان نبيّاً ما ظهروا عليه ، ولا اُصيب منه ما اُصيب. وقال المنافقون للمسلمين : لو كنتم أطعتمونا ما أصاب الذي أصابوا منكم.
    ثُمَّ قدم رجل من أهل مكّة على رسول اللّه ، فاستخبرهم عن أبي سفيان وأصحابه ، فقال : نازلتهم ، فسمعتهم يتلاومون يقول بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئاً أصبتم شوكة القوم وحدّهم ، ثمّ تركتموهم و لم تبروهم ، فقد بقى منهم رؤوس يجمعون لكم ، فلمّا كان الغد من يوم اُحد أذّن مؤذّن النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المسلمين بطلب العدو ، و استنفرهم لمطاردته على أن لايخرج إلاّ من حضر الغزوة ، و خرج المسلمون ، فوقع في روع أبي سفيان أنّ أعداءه جاؤا من المدينة بمدد


(353)
جديد ، فخاف لقاءهم ، و بلغ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حمراء الأسد (1) فأقام بها ثلاثة أيّام. فكان أبو سفيان و أصحابه بالروحاء ، فمرّ به معبد الخزاعي ، وكان قد مرّ بالنبيّ و من معه ، فسأل عن شأنهم ، فقال : إنّ محمداً قدخرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرّقون عليكم تحرّقاً ، قداجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق شيء لم أر مثله.فلمّا سمع أبو سفيان مقالة معبد ، خاف على نفسه و أصحابه ، فشدّ عزيمته على الرجوع قول صفوان بن اُميّة حيث قال : إنّ محمداً و أصحابه قدغضبوا ، وقدخشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان ، فارجعوا ، فرجعوا إلى مكّة.
    و قد قتل من المسلمين في ساحة اُحد تسعة و أربعون رجلاً ، و قتل من المشركين ستّة عشر رجلاً (2).
    هذه إطلالة سريعة على غزوة أحد تعرّضنا لذكرها ليكون معيناًعلى فهم ما ورد حول هذه الغزوة من آيات الذكر الحكيم ، فانّ ما ورد في المغازي و السّيرة بمثابة القرائن التي يستعان بها على رفع إجمال الآيات و ما اُبهم معناه منها. و إليك إستعراض ما ورد في الذكر الحكيم مع الاشارة إلى ما يستفاد منها من عبر و عظات :

1 ـ حنكة النبيّ العسكريّة :
    قد أوضحت الخاتمة التي آل إليها مصير المسلمين قيمة ما ألزم به النبيّ الرماة حيث قال : « إحموا لنا ظهورنا فإنّا نخاف أن نؤتى من ورائنا ، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه وإن رأيتمونا نهزمهم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ، ولا تدفعوا عنّا ، اللّهم إنّي اُشهدك عليهم ، واُرشقوا خيلهم بالنّبل ».
1 ـ موضع على ثمانية أميال من المدينة.
2 ـ لاحظ السيرة النبويّة لابن هشام ج1 ص85 ـ 105 ، ومغازي الواقدي ج1 ، 239 ـ 249 ، و دلائل النبوة ص212 ـ 219 و غيرها.


(354)
    و لكنّ ياللأسف إنّ الرماة خالفوا الرّسول وعصوه ، فبقيت ثلّة منهم في موقفهم ، ونزل كثير منهم من الجبل للنّهب وجمع الثروة ، حتّى جاء خالد بن الوليد ، فقتل من بقي منهم ، ثّم دخل ساحة المعركة من دون مقاومة تذكر ، فأعمل السيف فيهم.
    وهذا إن دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على حنكة النبيّ العسكريّة أوّلاً ، وعلى وجود حالة عدم الرضوخ التامّ بين أصحابه لأوامره ثانياً ، حيث أوّلوا أمره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتأويلات لغاية إشباع نهم شهواتهم بجمع المال ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :
    ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ اِذْ تَحُسُّونَهُم بِاِذْنِهِ حَتَّى اِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاَمْرِ وَعَصَيْتُم مِنْ بَعْدِ مَا اَرَاكُم مَا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُم عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُوفَضْل عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران/152 ).
    وإليك تحليل ما تضمّنته هذه الآية :
    أقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ اِذْ تَحُسُّونَهُم بِاِذْنِهِ ) يدل على أنّه سبحانه وعدهم بالنصر ، ولعلّ النصر هو ما ورد في قوله سبحانه :
    ( بَلَى اِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِنْ فَوْرِهِم هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِنَ المَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) ( آل عمران/125 ).
    نعم وعد سبحانه بالإنتصار بشر طين لا مطلقاً ، وقد ألمحت الآية إليهما في قوله :
    1 ـ ( إِنْ تَصْبِرُوا ).
    2 ـ ( وَتَتَّقُوا ).
    و لكنّ الرماة المستقرّين على الهضبة لم يصبروا ، ولم يتّقوا مغبّة مخالفة الرّسول ، فآثروا حطام الدّنيا على الآخرة.


(355)
    ب ـ قوله سبحانه : ( حَتَّى اِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُم فِى الاَمْرِ وَعَصَيْتُم مِنْ بَعْدِ مَا اَرَاكُم مَا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا ... ) يدلّ على أنّه طرأ الفشل عليهم ، وتنازعوا في أمر البقاء والمغادرة ، وعصوا أمر الرّسول ، وكان منهم من يطمح في نيل حطام الدّنيا ، ومنهم من آثر الآخرة وطاعة الرّسول على نيل شهوات الدّنيا.
    ج ـ ولكنّ رحمته الواسعة شملتكم ، فكفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتّنازع والمعصية ، وعفى عن عصيانكم كما يدلّ عليه قوله :
    ( ثُمَّ صَرَفَكُم عَنْهُم لِيَبْتَلِيَكُم وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ).
    د ـ ليبتليكم : أي كان هذا الخلاف مَحَكّاً قَويّاً لتمييز الطالب للدّنيا عن طالب الآخرة ، بل لتمييز المؤمن عن المنافق ، والمؤمن الراسخ في إيمانه الثّابت على عزيمته ، من المتلوّن السريع الزوال ، ومع ذلك فإنّ اللّه سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال :
    ( وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُم وَاللَّهُ ذُو فَضْلِ عَلَى المُؤْمِنِينَ ).

2 ـ تصدّع جيش المسلمين وإنحلال زمامه :
    لقد مَرَّبك أنّ خالد بن الوليد باغت المسلمين من ورائهم ، وقد وضعوا سيوفهم على الأرض ، والتهوا بجمع الغنائم ، فعند ما رأواسيوف العدو على رؤوسهم ، وبريق أسنّة رماحهم أصابهم الذهول ، و تفرّقوا في كلّ حدب وصوب ، فتركوا ما كان بأيديهم ، وصعدوا الجبل من دون أن يلتفتوا ورائهم إلى النبيّ والمؤمنين ، وأنّهم تركوه أثناء المعركة الطاحنة ، مع أنّ النبيّ كان يدعوهم بقوله : إليّ عباد اللّه ، إليّ عباد اللّه ، إليّ عباد اللّه ، وهم لا يلتفتون ، فعند ذلك ملأت قلوبهم الهموم بعضها أشّد من بعض ، همّ الإنتكاسة غير المرتقبة ، ثمّ همّ فقد الأحبّة والأعزّة ، ثم تعالى صوت الناعي بقتل النبيّ الأكرم ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :
    ( اِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلوُونَ عَلَى اَحَد وَالرَّسُولُ يَذْعُوكُم فِى أُخْرَاكُم فَاَثابَكُم غَمّاً


(356)
بِغَمّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَافَاتَكُم وَلاَ مَا اَصَابَكُم وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران/153 ) وإليك تحليل ما تضمّنته الآية :
    في قوله سبحانه : ( اِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى اَحَد ) تلويح بفرارهم عن ساحة الحرب كما أنّ قوله : ( والرَّسُولُ يَذْعُوكُم فِى اُخْرَاكُم ) إشارَة إلى النداءات الّتي تعالت من فم النبيّ في تلك الأثناء ، تدعوهم للصمود والثّبات في المعركة :
    وقوله : ( فَاَثَابَكُم غَمّاً بِغَمّ ) إشارة إلى تراكم الغموم والهموم والآلام على قلوب المسلمين ، وقوله : ( لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَافَاتَكُم وَلاَ مَا اَصَابَكُم ) إشعار بأنّ الغموم بلغت حدّاً نسوا معه مافاتهم من الغنائم.

3 ـ على أعتاب الردّة
    لم تكن زلّة القوم منحصرة بالفرار وإخلاء ساحة المعركة ، وترك النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين يدي المشركين ، ومخالفة الرماة أوامره ، بل بلغ أمرهم إلى أبعد من ذلك غوراً ، حيث طرأ على قلوبهم ظنون أهل الجاهليّة ، فظنّوا من الظنون الّتي لا يليق بتصوّرها إلاّ أهل الجاهلية ، حيث إنتابتهم حالة من الشكّ ، وإلى ذلك ونحوه يشير قوله سبحانه : ( ثُمَّ اَنْزَلَ عَلَيْكُم مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُم وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُم اَنْفُسُهُم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَالحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الاَمْرِ مِنْ شَىْء قُلْ إِنَّ الاَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِى اَنْفُسِهِم مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاَمْرِ شَىْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِى بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلقَتْلُ اِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( آل عمران/154 ).
    ولأجل الوقّوف على المزيد ممّا تضمنّته الآية الشريفة السابقة نتناول التعرّض لها جملة بعد جملة.
    1 ـ ( ثُمَّ اَنْزَلَ عَلَيْكُم مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُم ).


(357)
    النّعاس ما يسبق النوم من فتور واسترخاء ، وربّما يسمّى بالنّوم الخفيف ، وقدنزل النّعاس ، وغشى طائفة من القوم ولم يعمّ الجميع بقرينة قوله : ( يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُم ) ، وكان هذا النّعاس بمثابة الرحمة بعد الغمّ الذي اعتراهم ، فأزال عنهم الخوف بغلبة النوم ليستردّوا ما فقدوا من القوّة ، وما عرض لهم من إلا رهاق والتّعب والضعف.
    وكلمة ( نُعَاساً ) يدلّ من قوله ( اَمَنَةً ) للملازمة بين الأمنة والنوم ، وقد قيل : الأمن منوّم والخوف مسهّر ، وأمّا من هؤلاء الّذين غشيهم النّعاس دون غيرهم ؟ فيحتمل أن يكونوا هم الّذين رجعوا إلى رسول اللّه بعد الإنهزام والإ نكسار لمّا ندموا وتحسّروا ، فهؤلاء بعض القوم ، وهم النادمون على ما فعلوا ، الراجعون إلى النبيّ ، المحتفّون به ، وكان ذلك حينما وصل النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى فم الشعب ، ووقفت تلك الطائفة على أنّ النبيّ لازال على قيد الحياة لم يقتل ، فرجعوا إليه يتقاطرون تترى.
    2 ـ ( وَطَائِفَةٌ قَدْ اَهَمَّتْهُم اَنْفُسُهُم ) وهذه طائفة اُخرى من المؤمنين لا من المنافقين ، فإنّهم فارقوا النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن معه في أثناء الطريق وانخذلوا ، ولهم شأن آخر سينبّئ اللّه سبحانه بهم بعد ذلك ، وهذه الطائفة الثانية الموصوفة ب ـ ( اَهَمَّتْهُم اَنْفُسُهُم ) لم يكرمهم اللّه بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو ، وإثابة الغمّ ثمّ الأمنه والنّعاس ، بل وكّلهم إلى أنفسهم ، ونسوا كلّ شيء ، ولم يهتمّوا إلاّ بأنفسهم.
    وهذه الطائفة قد استولى عليهم الخوف ، وذهلوا عن كلّ شيء سواهم ، ولمّا لم يكن الوثوق باللّه ووعده رسوله وصل إلى قرارة أنفسهم ، لأنّهم كانوا مكذّبين للرّسول في قلوبهم لا جرم عظّم الخوف لديهم ، وحقّ عليهم ما وصفهم اللّه به :
    أ ـ ( يَظُنُّونَ باِللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) فكانوا يبطنون في قرارة أنفسهم : « لوكان محمد نبيّاً حقّاً ما سلّط اللّه عليه الكفّار » وهذه مقالة لا يتفوّه بها إلاّ من دان بالكفر.


(358)
    ب ـ ( يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الاَمْرِ مِنْ شَىْء ) والظّاهر أنّ المراد من الأمر هو الظّفر والنّصر في كلا الموردين ، والمقصود من الضمير في ( لَنَا ) هؤلاء بما أنّهم يشكّلون جزءاً من المسلمين وإن لم يكونوا منهم حقيقة ، والمعنى :
    يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار والإستهجان : « هَلْ لَنَا مِنَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ والظّفر نصيب » ؟! يعنون أنّه ليس للمسلمين ( لنا ) من ذلك شيء ، وإنّ اللّه سبحانه لا ينصر محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبما أنّ النّصر وكون الدّين حقّاً كانا متلازمين عندهم ، فاستنتجوا أنّ الدعوة المحمّديّة ليست حقّاً.
    ثمّ إنّه سبحانه أجابهم في معرض تناول ذكرهم بقوله :
    ( اِنَّ الاَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) أي كلّ الاُمور بيده سبحانه حتّى النّصر والهزيمة ، وإليه دعى محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو معتقد المسلمين ، ولكن بمقتضى حكمته وسننه الّتي وضعها لتسيير شؤون الخلق ، وربط فيها الأسباب بالمسبّبات ، فهو وإن وعد رسله بقوله :
    ( كَتَبَ اللَّهُ لاََغْلِبَنَّ اَنَا وَرُسُلِى اِنَّ اللَّهَ قَوِىُّ عَزِيزٌ ) ( المجادلة/21 ).
    وقال : ( وَاِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ ) ( الصافّات/173 ).
    ولكنّ تحقّق هذا الوعد مرهون بتوفّر الأسباب الكفيلة بالنصر ، فإنّه سبحانه هو الذي وضع سنّة الأسباب والمسبّبات ، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ والباطل والخير والشر والهداية والضلالة والعدل والظلم ، ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر ، والمحبوب والمبغوض ، ومحمد وأبي سفيان ، ولأجل ذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين وظهور المؤمنين كان النصر حليفهم ، وحيث لم تتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّ أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين ، وكذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع النّاس.
    وإنّكم أيّها المنضوون تحت لواء المسلمين قد عصيتم أمر الرسول ،


(359)
ولم تأتمروا بأمره ، فأخليتم مواقعكم عاصين لأمره وآثرتم حطام الدّنيا والأدنى الخسيس ، ومع ذلك تترقّبون النصر لكم والهزيمة للعدو! فكيف يقتطف الثمرة من لميغرس شجرتها أو غرسها ولم يقم بأمرها ؟
    ثم إنّه سبحانه بعد هذه الإجابة يأخذ بتبيين ما كان يخامرهم من الأفكار الفاسدة.
    ج ـ ( يُخْفُونَ فِى اَنْفُسِهِم مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاَمْرِ شَىْءٌ مَاقُتِلْنَا هَيهُنَا ).
    الظّاهر أنّ قولهم : ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ ... ) تفسير للموصول في ( مَا لاَ يُبْدُونَ ) والفرق بين ما كانوا يظهرونه وما يضمرونه واضح ، فقد كانوا يتظاهرون بالاستفسار في قولهم : « هل لنا من الأمر شيء » لغاية التشكيك ، وهي وإن كانت فكرة خاطئة ولكن لمّا غلّفت بطابع الإستفسار لم تكن ذات بأس شديد.
    ولكنّهم كانوا يخفون قولهم : ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاَمْرِ شَىْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا ) يريدون بذلك الإستدلال على بطلان الدعوة المحمّدّية بحجّة الإنكسار لأنّ النبيّ الأكرم كان يقول : الأمر بيد اللّه وأنا رسوله ، فلو كان ما يدّعيه حقّاً بأنّ الأمر كان بيد اللّه لا بيد الآلهة والأرباب المعبودة بين الناس وكان محمّد من جانبه لعمّنا النصر ، ولكنّه النهاية كانت على العكس من ذلك ، فكيف يمكن أن يكون الأمر بيد اللّه غير مقسّم على الآلهة والأرباب المدبرّة للاُمور بزعمهم.
    ولأجل انّ تلك الفكرة كانت فكرة أهل الشرك والوثنيّة سمّاها سبحانه ( ظَنَّالجَاهِلِيَّة ).
    ولكنّهم تناسوا ماجرت عليه سنّته الحكيمة ، فإنّ الأمر بيد ا لله ولكنّها تجري وفق الأسباب والمسبّبات ، فمن لم يأخذ بأسباب النصر لم يكن حليفه.
    ثم إنّه سبحانه أجاب عن تلك الفكرة بوجوه ثلاثة :


(360)
    الأوّل : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِى بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ اِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) فالآجال محدودة والأعمار مؤقتّة بوقت لا تتعدّاه ، فإن قتل من قتل منكم في المعركة ليس دليلاً على عدم كون الأمر بيد اللّه أو أنّ الدعوة المحمّديّة ليست على حق ، بل لأجل القضاء إلالهي الّذي لا مناص من الوقوع في نفوذه وإمضائه ، فقد كان في قضائه إضطجاع هؤلاء في هذه المضاجع ، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي إذاحان لا يتقدّم ساعة ولا يتأخّر.
    الثاني و الثالث : ( وَ لِيَبْتَلِىَ اللّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ ) أي وقع ماوقع في غزوة اُحد لظهور ما انطوت عليه سريرة كلّ نفس حتّى يتميّز المؤمن من المنافق و المجاهد من المتقاعد ، و قدجرت سنّة اللّه على عموم الإبتلاء والتمحيص وهي حاكمة على جميع الاُمم لغاية التمحيص.
    نعم ليست الغاية من إبتلائه سبحانه لعباده هو التعرّف لما يكمن في ضمائرهم فإنّه سبحانه عليم بالسرائر مطّلع على الضمائر لايعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولافي السماء ، بل الغاية هي الإبتلاء و التمحيص و وصول كلّ ما بالقوّة إلى الفعل من الكفر و الإيمان ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( وَ اللّهُ عَلَيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ).
    و حصيلة البحث : أنّ هذه الآية تشير إلى فريقين من المسلمين و المؤمنين الملتفّين حول الرسول المتنكّبين عَن المنافقين.
    ( أحدهما ) : طائفة وهبهم اللّه عزّ و جلّ بعد الغمّ نعاساً أمنة منه لإزالة ما انتابهم من الروع و الخوف و التفّوا حول الرسول بعد الندم.
    ( ثانيهما ) : طائفة شغلتهم أنفسهم لايتجاوز تفكيرهم نطاق ذاتهم من دون أن يتوجّهوا قيد طرفة صوب قائدهم و نبيّهم ، و قد اعترتهم هواجس الجاهليّة الاُولى ، فتارة يتفوّهون بها علانية بنحو من الشك و الترديد و الإستفسار بقولهم : ( هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْء ) و اُخرى بصورة الجزم و القطع و اليقين بنحو الإخفاء و الاسرار بقولهم :
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس