مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 391 ـ 400
(391)
زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و ذلك عند فراغ رسولاللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من عدوّه ، فأخبره الخبر ، و عنده عمر بن الخطاب فقال : مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله. فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه!
    وقد مشى عبدالله بن اُبيّ بن سلول إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين بلغه انّ زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه ، فحلف بالله : ما قلت ما قال ولاتكلمّت به ـ وكان في قومه شريفاً عظيماً ـ فقال من حضر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قدأوهم في حديثه ، ولميحفظ ما قال الرجل حَدَباً على ابن اُبيّ بن سلول ودفعاً عنه.
    ولكنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقف على أنّه إن لم يتّخذ خطة حازمة فقديستفحل الأمر ، لذلك أمر أن يؤذّن بين الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها ، وعند ذلك جاء أسيد بن حضير وقال : يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال : وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال : عبدالله بن اُبيّ قال : وما قال ؟ قال : زعم انّه أن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ، قال : فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثمّقال : يا رسول الله ، إرفق به ، فوالله فقد جاء نا الله بك ، وإنّ قومه لينظمون له الخَرز ليتوّجوه ، فإنّه ليرى أنّك قد أستلبته مُلكاً.
    ثمّ مشى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتّى آذتهم الشمس ، ثمّ نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً ، وإنّما فعل ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبدالله بن اُبيّ.
    حطّ المسلمون رحالهم بالمدينة ، وفي تلك الأثناء نزلت آيات تصدّق زيداً ،


(392)
وتكذّب عبدالله بن اُبي ، حيث قال سبحانه :
    ( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُون لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَواَتِ وَاْلأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رّجَعْنَآ إِلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاَْعَزُّ مِنْهَا الاَْذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَيَعْلَمُونَ ) ( المنافقون/7و8 ).
    فلمّا نزلت هذه الآيات حسب قوم أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) آمر بقتله لا محالة ، فعند ذلك ذهب إبنه عبدالله ـ وكان مسلماً حسن الإسلام ـ فقال : يارسول الله إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرْني به ، فأنا اَحمِلُ إليك راَسه ، فواللّهِ لقد علمتْ الخزرجُ ما كان لها من رجل أبرّبوالده منّي ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي اَنْظُر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر ، فأدخل النار. فقال رسولاللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته :
    وبعد ذلك كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم : كيف ترى يا عمر ، أما والله لو قتلته يوم قُلتَ لي اقتله ، لاُرعِدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال : قال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعظم بركة من أمري (1).
    وقال الطبرسي : وكان عبد الله بن اُبيّ بقرب المدينة ، فلمّا أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة. فقال : مالك ويلك ؟ قال : والله لا تدخلها إلاّ بإذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولتعلمنّ اليوم
1 ـ السيرة النبويّة لإبن هشام ج2 ص289 ـ 293.

(393)
مَنْ الأعزّ ومن الأذلّ ، فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأرسل إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن خلّ عنه يدخل ، فقال : أمّا إذا جاء أمرَ رسول الله فنعم (1).
    ولمّا نزلت الآيات المتقدّمة وبان كذب عبد الله قيل له : إنّه نزل فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك ، فلوى رأسه ثمّ قال : آمرتموني أن اُؤمن فقد آمنت ، وآمرتموني أن اُعطي زكاة مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلاّ أن أسجد لمحمد ، فعند ذلك نزلت الآيتان التالية :
    ( وَاِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا يَسْتَغْفِر لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رَؤُوسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِم اَسْتَغْفَرْتَ لَهُم اَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُم لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ اِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ) ( المنافقون/5و6 ).
    هذه قصة غزوة بني المصطلق ، وقد رواها أهل السير والمغازي والمفسّرون (2).
    والذي يهمّنا من إستعراض تلك الغزوة هو الدروس والعظات التي يمكننا أن نستخلصها ، ونستفيدها منها من خلال سيرة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإليك عرض تلك النتائج :

1 ـ التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية :
    لم يكن التخطيط لإجلاء المسلمين عن أوطانهم و أماكنهم والمقاطعة الاقتصادية شيئاً حديث النشأة في القرن العشرين ، وإنّما له جذور تمتد على مر التاريخ ، فهذا عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين يعد العدّة للتآمر على المسلمين ، ويسعى جاهداً لإجلائهم ، وفرض مقاطعة إقتصادية عليهم ، فلو شاهدنا ما يفعل بنا
1 ـ مجمع البيان ج10 ص444 ( طبع بيروت ).
2 ـ لاحظ تفسير الطبري ج28 ص70 ـ 75 ، و الدر المنثور ج5 ص222 ـ 226 ، إلى غير ذلك من المصادر.


(394)
نحن معاشر المسلمين على أيدى المستعمرين في بيت المقدس ، وسائر بقاع المسلمين الاُخرى في أيّامنا هذه ، فليس هناك محلاًّ للإستغراب والدهشة والتعجّب ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أدحض تآمرهم وأبطل أحدوثتهم وردّ كيدهم إلى نحورهم فأنقلبوا خاسئين.
    قال سبحانه : ( وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَ الأَرْضِ ) ( المنافقون/7 ) وقال سبحانه : ( وَلِلَّهِ العِرَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) ( المنافقون/8 ).
    ولكنّ ذلك مشروط بالتمسّك بعرى الإيمان ، والإنقطاع الكامل لله عزّ وجل ، والإنقياد المطلق لأوامره ونواهيه.
    قال سبحانه : ( وَاَنْتُمُ الاَعْلَوْنَ اِنْ كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران/139 ) وقال عزّ اسمه : ( اِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ اَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَاَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِى كُنْتُم تُوعَدُونَ ) ( فصّلت/30 ).

2 ـ تشتيت الشمل وبثّ التفرقة بين المسلمين :
    إنّ عبد الله بن أبيّ ذلك العدو اللدود للمسلمين ، أراد تشتيت شمل المسلمين ، بإثارة ظغائن طائفة من المسلمين على طائفة اُخرى ، حتّى يشتعل فتيل الفتنة ، ويحرق المسلمون بعضهم دمَ بعض بأيديهم ، وتكون الخاتمة لصالح أعدائهم ، حيث قال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ....
    غير أنّ هذا النهج التآمري لا زال معمولاً به إلى يومنا هذا ، وما انفك عنه أعداء الإسلام طرفة عين أبداً ، ومن الصور الجليّة الواضحة لهذا النهج العدائي في يومنا هذا ، بثّ السموم الفكرية في أذهان أبناء الشعوب الإسلامية ، وتأليب بعضهم على بعض ، تحت شعارات قومية ووطنية وعرقية ، فيحفّزون الجذور القومية للترك في قبال الجذور القومية العرقية العربية ، وهكذا بالنسبة لسائر القوميات المتعدّدة التي تدين


(395)
بالإسلام على امتداد رقعته الشاسعة.
    وبذلك تمكّنوا من الفتك والإجهاز على الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف ، والتي تمكّنت من الظهور بالمسلمين كدولة عظمى في العالم لها سيادتها ، وثقلها في تقرير الأوضاع السياسية في العالم.

3 ـ حنكة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في اجتياز الأزمة :
    في خضمّ ذلك الموقف الحرِج ، أمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يؤذّن في الناس بالرحيل في ساعة لم يألفوا الرحيل فيها ، مع انّ ابن اُبيّ أسرع بالمثول أمام يديه ، والتنكّر ممّا بدر منه ونسب إليه ، ولكن ذلك لم يؤثّر على قرار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالرحيل شيئاً ، بل انطلق بالناس يجوب الفيافي والقفار ، طيلة يومهم حتّى أمسوا ، وطيلة ليلتهم حتّى أصبحوا ، وصدر يومهم الثاني حتّى آذتهم الشمس ، فلمّا نزل الناس لم يلبثوا حتّى غلبهم النعاس ، ونسوا حديث ابن اُبيّ ، وهذا يعطي لكل قائد محنّك درساً من لزوم إمتصاص ما انتاب نفوسهم من أفكار خاطئة ، وإجتثاث جذورها بصرفها إلى اُمور اُخرى ، تستولي على منافذ فكرهم ، فتشذَّ أذها نهم عنهم إلى التشاغل باُمور اُخرى.ولو لم يقم بذلك لبقيت آثار تلك الرواسب الفكرية في أذهانهم ، ولأثرّت على مستقبل الدعوة ، ووحدة صف المسلمين.
     4 ـ سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه :
    لمّا أطلع زيد بن أرقم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما قاله عبد الله بن اُبيّ ، صدّقه في نقله ، ولمّا مثل ابن اُبيّ بين يديه ، وأنكر ما أبلغه زيد بن أرقم ، فلميكذّبه ، وربّما كانت هذا الظاهرة التي تمثّل بها النبي في ذلك الموقف ، أمراً مثيراً للتساؤل ، ولأجل ذلك انتهز المنافقون الفرصة لانتقاد النبي ، واتهامه بالتساهل والتواني في القضاء على خصومه ، ولكنّ المنافقين قد غفلوا عن أصل رصين ، واُسّ مكين تبتني عليه الحنكة القياديّة ، وقد قال أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) بهذا


(396)
الصدد : « آلة الرئاسة سعة الصدر » (1).
    وإنّ التسرّع في الحكم والقضاء ، وإن أصاب الواقع لا يخلو من نتائج غير محمودة ، خصوصاً إذا لم يتّضح الأمر بعد لعموم المسلمين ، فقد اختار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التريّث حتّى تنكشف حقيقة المسألة للجميع ، فيكون النبي معذوراً ومحقّاً إذا أخذ في حق ابن اُبيّ حكماً حاسماً.

5 ـ مقابلة الإساءة بالإحسان :
    لمّا أخبر زيد بن أرقم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما تقوَّل به عبد اللّه ابن اُبيّ ، اقترح عمر بن الخطاب على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يقتله ولكنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أجابه بقوله : « فكيف يا عمر ، إذا تحدّث الناس إنّ محمداً يقتل أصحابه » ، فقد أبدى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في جوابه هذا حنكة وسياسة رصينة أدحض بذلك المقولة التي تنص على « إنّ كل ثورة ستجتث جذور أبطالها ». وعدوّ الله عبد الله بن اُبيّ وإن لم يكن في واقع أمره مسلماً واقعيّاً ، ولكنّه كان معدوداً منهم ، ومن أشرافهم ، فلو قتله النبي لتسرّب الريب إلى سائر نفوس المسلمين.
    وقد جازى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الإساءة بالإحسان ، عند ما جاء ابنه إلى النبي ، وقال : « إنّه بلغني انّك تريد قتل عبد الله بن اُبيّ ، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فامرني به ... ».
    ولكنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أجابه بقوله : بل نترفّق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا.
    اُنظر إلى هذه السماحة النبويّة ، وروعة عفوها وجلالها ، فهو يترفّق بمن ناصبه العداء ، واَلّب قلوب أهل المدينة عليه ، فيكون رفقه وعفوه أبعد أثراً عن عقوبته ، لو أنه
1 ـ نهج البلاغة قسم الحكم برقم176.

(397)
عاقبها به ، وعند ذلك توجّه النبي إلى عمر بن الخطاب : كيف ترى يا عمر ، أما واللّه لو قتلته يوم قلت لي : اقتله لارعدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.
    قال عمر : والله علمت لأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعظم بركة من أمري.
    وفي الختام انظر إلى كلام ابن عبدالله ، فهو على إيجازه يعبّر عن حالة نفسية اصطدمت فيها روح الإنشداد إلى الدين ، والذوبان في كيانه العظيم ، مع وشائج الارتباط العاطفي بوالده ، فلا يمكن له الجمع بينهما ، ولكنّه يعلم أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يصدر إلاّ عن الوحي ، ولا يأمر إلاّ بالحق ، وعند ذلك طلب من النبي أن يقوم بنفسه بقتله لو استحقّ القتل ، ولا يفوّض القيام به إلى الغير ، خوفاً من أن تحمله العواطف ، والوشائج إلى قتل قاتل أبيه ، وفي قتل المسلم دخول النار والعذاب المقيم.

6 ـ العزّة لله ولرسوله :
    إنّ عبد الله بن اُبيّ أوهم الناس بأنّ العزّة للمشركين والمنافقين ، والذل والهوان للمسلمين والمؤمنين ، ولكنّ الوحي أبطل أوهامه تلك ، بقوله :
    ( وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون ).
    فصدق الخبر المخبر ، حتّى وقف ابن عبد الله بن اُبيّ على باب المدينة ، فقال لأبيه : والله لا تدخلها إلاّ بإذن رسول الله ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ ، ومن الأذلّ ، فشكى عبد الله ابنه إلى رسول الله ، فأرسل إليه رسول الله : أن خلّي عنه يدخل فقال : أمّا إذا جاء أمر رسول الله فنعم.
    هذه هي الدروس التي نتلقّاها من وحي سيرة الرسول على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.


(398)
خاتمة المطاف :
    ثمّ إنّ بني المصطلق أسلموا ، فبعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، حتّى يأخذ الصدقات منهم ، فلمّاسمعوا به ركبوا إليه ، فلمّا سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول الله ، فأخبره : إنّ القوم قد هموا بقتله ، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم. فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همَّ رسول الله بأن يغزوهم ، فبينماهم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله ، فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فانشمر راجعاً ، فبلغنا انّه زعم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّا خرجنا إليه لنقتله ، ووالله ما جئنا لذلك ، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم : ( يَاَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَاء فَتَبَيَّنُوا اَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا اَنَّ فِيكُم رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُم فِى كَثِير مِنَ الاَمْرِ لَعَنِتُّمْ ... ) ( الحجرات/6و 7 ) (1).
1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ج2 ص296 ، و تفسير الطبري : ج26 ص79 ، و الدر المنثور : ج7 ص556 ـ 558 ..

(399)
5 ـ صلح الحديبيّة
    إنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا و حسبوا أنّهم داخلوا مكّة عامهم ذلك ، و هي السنة السادسة من الهجرة. ثمّ استنفر العرب و من حوله من أهل البوادي ليخرجوا معهم لإداء فريضة العمرة ، لزيارة بيت اللّه ، و تعظيماً له ، لا لقتال أو جهاد ، فساق معه الهدي و أحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، و كانت الهدي سبعين بدنة ، و كان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفرات.
    خرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتّى إذا كان بعسفان (1) لقيه « بشر بن سفيان الكعبي » فقال : يا رسول اللّه هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، و لقد لبسوا جلود النمور ، و نزلوا بذي طوى (2) يعاهدون اللّه لاتدخلها عليهم أبداً ، و هذا « خالد بن الوليد » في خيلهم قد قدّموها إلى كراع الغميم (3) ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ما ذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، و إن اظهر نبي اللّه عليهم دخلوا في الإسلام و افرين ، و إن لم يفعلوا قاتلوا و بهم قوّة ، فما تظن قريش ؟ فو اللّه لاأزال اُجاهد على الذي بعثني اللّه به ، حتّى يظهره اللّه ، أو تنفرد هذه السالفة (4).
    ثمّ قال : مَنْ رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟
1 ـ عسفان ، منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة و مكّة ، و هي من مكّة على مرحلتين.
2 ـ موضع قرب مكّة.
3 ـ واد أمام عسفان بثمانية أميال.
4 ـ صفحة العنق ، و كنى بإنفرادها عن الموت.


(400)
    فعندئذ قال رجل من « أسلم » : أنا يا رسول اللّه. فسلك بهم طريقاً وعراً كثير الحجارة بين شعاب ، فلمّا خرجوا منه ، و قد شقّ ذلك على المسلمين ، و أفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي. أمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : اسلكوا ذات اليمين في طريق ، و قد أدّى بهم ذلك الطريق إلى مهبط الحديبيّة. فلما رأت خيل قريش غبار جيش الإسلام ، قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش. و خرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و سلك حتّى بركت ناقته ، فقالت الناس : خلأت الناقة. قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما خلأت و ما هو لها بخلق ، و لكن حبسها حابس الفيل عن مكّة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إيّاها ، ثمّ أمر الناس بالإنزال. قيل : يا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته ، فأعطاه رجلاً من أصحابه ، فنزل به في قليب من تلك القلب ، فغرزه في جوفه حتّى ارتفع بالرواء.

1 ـ رجال خزاعة بين الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و قريش
    نزل رسول اللّه أرض الحديبيّة ، و بينما هو فيها إذ أتاه « بديل بن ورقاء الخزاعي » في رجال من خزاعة ، فكلّموا النبي و سألوه. فقال : إنّه لم يأت يريد حرباً ، و إنّما جاء زائراً للبيت ، و معظّماً لحرمته ، ثمّ قال لهم نحواً ممّا قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنّكم تعجلون على محمد ، انّ محمداً لم يأت لقتال ، و إنّما جاء زائراً لهذا البيت ، فاتهموهم و أهانوهم. و قالوا : وإن كان جاء و لايريد قتالاً ، فو اللّه لايدخلها علينا عنوة أبداً ، و لاتحدّث بذلك عنّا العرب.
     2 ـ مكرز رسول قريش إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )
    ثمّ بعثت قريش إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكرز بن حفص ، فلمّا رآه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : هذا رجل غادر ، فلمّا انتهى إلى
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس