مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 441 ـ 450
(441)
    فأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى إذا حاذى رسول الله ناداه : يا رسول الله اُمرت بقتل قومك ؟ زعم سعد ومن معه حين مرّبنا قال : يا أبا سفيان : « اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذلّ الله قريشاً » وإنّي انشدك الله في قومك فأنت أبّر الناس ، وأرحم الناس ، وأوصل الناس. قال عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان : يا رسول الله ما نأمن سعداً إن يكون منه في قريش صولة. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعز الله فيه قريشاً ، ثمّ أمر بدفع الراية إلى علي بن أبي طالب فأخذ عليّ اللواء وذهب بها حتى دخل بها مكة فغرزها عند الركن. وقال أبوسفيان : ما رأيت مثل هذه الكتيبة ، ثم قال : لقد أصبح يا أبالفضل ملك ابن أخيك عظيماً. فقال العباس : ليس بملك ولكنّها نبوّة (1).
    ثم إنّ رسول الله لما نزل مكّة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت ، فطاف ربّه سبعاً على راحلته. قال الواقدي : « طاف رسول الله بالبيت على راحلته ، آخذ بزمامها ، محمد بن مسلمة ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً مرصّصة بالرّصاص ، وكان هبل أعظمها ، وهو وُجاة الكعبة على بابها ، وإيساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح ، فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلّمامر بصنم منها ، يشير بقضيب في يده ويقول :
    « جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا » فيقع الصنم لوجهه (2).
    فلمّا قضى طوافه وقف على باب الكعبة ، وقد اجتمع له الناس في المسجد فقال : « لااله إلاّ الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب
1 ـ المغازي للواقدي : ج2 ص819 ـ 822 ، يعرب ذلك أنّه ما أسلم و إنّما تفوّه بما تفوه خوفاً على نفسه و حربه و بقى على هذه الحالة إلى أن لفظت نفسه و هو ابن ثمانية و ثمانين و له كلام عند ما أخذ عثمان بيده زمام الحكم. يعرب عن كفره المستتر. لاحظ تاريخ الخلفاء للسيوطي ، و شرح النهج لابن ابي الحديد.
2 ـ المغازي : ج2 ص832.


(442)
وحده ، ألاكل مأثرة ، أو دم ، أو مال يدعى ، فهو تحت قدمي هاتين إلاّ سِدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وفي قتيل الخطأ شبه العمد ، بالسوط والعصا ، ففيه الديّة مغلّظة ، مائة من الإبل ، أربعون منها في بطونها أولادها.يا معشر قريش إنّ الله قدأذهب عنكم نخوة الجاهلية.و تعظّمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية : ( يَا اَيُّهَا النَّاسِ اِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَر وَاُنْثَى وَجَعَلْنَاكُم شَعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعَارَفُوا انّ اَكْرَمَكُم عِنْدَ اللَّهِ اَتْقَاكُم ... ) ( الحجرات/13 ) ، ثم قال : يا معشر قريش ما ترون إنّي فاعل فيكم ؟قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم. قال : اذهبوا فانتم الطلقاء.
    ثمّ جلس رسول اللّه في المسجد فقال : أين عثمان بن طلحة ، فدعى له ، فقال : هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر و وفاء ، ثمّ دخل البيت فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم فرأى إبراهيم ( عليه السلام ) مصوّراً في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال : قاتلهم اللّه جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن إبراهيم و الأزلام : ( مَاكَانَإِبْرَاهِيمَ يَهُودِيّاً وَلاَنَصْرَانِيّاً وَ لكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران/67 ) ، ثمّ أمر بتلك السور كلّها فطمست (1).
     مبايعة النساء للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
    صالح رسول اللّه بالحديبية مشركي مكّة على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم ، فجاءت ( سبيعة ) بنت الحرث ، مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، و النبي بالحديبية.
    فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم ، و كان كافراً : يا محمد اُردد عليّ امرأتي ، فإنّك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك ، و هذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزل قولهسبحانه :
    ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَتْكُمُ المُؤْمِنَاتُ مِهَاجِرات فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ
1 ـ السيرة النبوية : ج2 ص413 ، و المغازي : ج2 ص835. و في الأخير أورد صلة للخطبة.

(443)
بِإِيْمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَات فَلاَتَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لاَهُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لاَهُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ مَا أَنْفَقَوا وَ لاَجُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ اُجُورَهُنَّ وَلاَتُمْسِكُوا بَعِصَمِ الكَوَافِرِ وَ اسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقَوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الممتحنة/10 ).
    و يستفاد من الآية عدّة أحكام :
    1 ـ حرمة إرجاع المؤمنات إلى أزواجهنّ الكافرين كما هو صريح الآية.
    2 ـ لزوم إعطاء مهورهنّ لأزواجهنّ كما هو مفاد قوله : ( وَ آتُوهُمْ مَا أَنْفَقَوا ) أي ما أنفقوا عليهنّ من المهر.
    3 ـ حرمة العقد على الكافرة كما هو مفاد قوله : ( وَ لاَتُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ ) و القدر المتيقّن كما هو مورد الآية كونها عابدة الوثن.
    4 ـ جواز طلب المهور من الكفار إذا ارتدّت امرأة و رجعت إلى الكفّار ، كما هو مفاده من قوله : ( وَ اسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ ) أي إذا لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفّار مرتدّة ، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر كما يسألونكم مهور نسائهم إذا هاجرن إليكم.
    ثمّ إنّ النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمّا فرغ من بيعة الرجال و هو على الصفا جاءته النساء يبايعنه ، فنزلت عليه الآية ، فشرط اللّه تعالى في مبايعتهنّ أن يأخذ عليهنّ الشروط الستة المذكورة في الآية ، قال سبحانه :
    ( يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ :
    1 ـ عَلَى أَنْ لاَيُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً.
    2 ـ وَ لاَيَسْرِفْنَ.
    3 ـ وَ لاَيَزْنِينَ.
    4 ـ وَلاَيَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ.


(444)
    5 ـ وَ لاَيَأْتِينَ بِبُهْتَان يَفْتَرِيْنَهُ بَيْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ.
    6 ـ وَ لاَيَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوف.
    7 ـ فَبَايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الممتحنة/12 ).
    روى المفسّرون : إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بايعهنّ و كان على الصفا ، و كان عمر أسفل منه ، و هند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة مع النساء خوفاً أن يعرفها رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال : اُبايعكنّ على أن لاتشركن باللّه شيئاً. فقالت هند : إنّك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال ، و ذلك انّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام و الجهاد فقط ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ولاتسرقن. فقالت هند : إنّ أباسفيان رجل ممسك و إنّي أصبت من ماله هنات فلاأدري أيحلّ لي أم لا ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيماغبر فهو لك حلال ، فضحك رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و عرفها فقال لها : وإنّك لهند بنت عتبة. قالت : نعم فاعف عمّا سلف يا نبي اللّه عفا اللّه عنك. فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : و لاتزنين. فقالت هند : أوتزني الحرّة ؟. فتبسّم عمر لما جرى بينه و بينها في الجاهلية ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ولاتقتلن أولادكنّ. فقالت هند : ربيّناهم صغاراً ، و قتلتموهم كباراً ، و أنتم و هم أعلم ، و كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى و تبسّم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولمّاقال : و لاتأتين ببهتان. فقالت هند : و اللّه إنّ البهتان قبيح ، و ما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق ، و لمّا قال : ولايعصينك في معروف. فقالت هند : ماجلسنا مجلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك في شيء (1).
1 ـ مجمع البيان : ج5 ص276.

(445)
8 ـ غزوة حنين
    لمّا فتح رسول اللّه مكّة سارت أشراف هوازن بعضها إلى بعض ، و ثقيف بعضها إلى بعض ، و قالوا : و اللّه ما لاقى محمد قوماً يحسنون القتال ، فاجمعوا أمركم ، فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم ، فاجمعت هوازن أمرها و تولّى قيادة حشودها « مالك ابن عوف النصرى » و هو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلمّا اجمع « مالك » المسير بالناس إلى رسول اللّه ، أمر الناس أن يجيئوا بأموالهم و نسائهم و أبنائهم حتى نزلوا باوطاس ، و اجتمع الناس به ، فعسكروا و أقاموا بها ، و الإمداد تأتيهم من كل ناحية.
    فلمّا سمع بهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث إليهم « عبداللّه الأسلمي » ، و أمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبرهم ، فجاء الرجل بخبر اجتماعهم على حرب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاجمع رسول اللّه السير إلى هوازن ليلقاهم ، و ذكر له أنّ عند صفوان ابن اُميّة أدراعاً له و سلاحاً ، فأرسل إليه و هو يومئذ مشرك ، فاستعار منه مائة درع ليتقوّى بها على حرب الكفّار ، فأجابه إلى ذلك.
    ثمّ خرج رسول اللّه معه ألفان من أهل مكّة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ، و فتح اللّه بهم مكّة فكانوا اثنى عشر ألفاً ، و استعمل رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عتّاب بن اسيد على مكّة أميراً على من تخلّف عنه من الناس ، ثمّ مضى رسول اللّه يريد لقاء هوازن ، و صادف في الطريق شجرة عظيمة خضراء ذات أنواط يأتيها الناس كل سنة فيعلّقون أسلحتهم عليها ، و يذبحون و يعكفون عندها ، قال الرواي : فتنادينا من جنبات الطريق يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اللّه أكبر قلتم و الذي نفس


(446)
محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى : ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهَاً كَمَا لَهُمْ إلَهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) إنّها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم.
    يقول الواقدي : « خرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في اثني عشر ألفاً من المسلمين عشرة آلاف من أهل المدينة ، و ألفين من أهل مكّة ، فلمّا ابتعد عن مكّة ، قال رجل من أصحابه : « لو لقينا بني شيبان ما بالينا و لايغلبنا اليوم أحد من قلّة » و لكن لم تغن هذه الكثرة شيئاً ، و هزم المسلمون و فرّوا عن ساحة المعركة ، كما يوافيك ذكره عمّا قريب.
    بعث مالك بن عوف عيوناً من هوازن إلى معسكر رسول اللّه ، فأتوا بخبر كثرة جيش رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأراد اصطناع خديعة تمكّنه منهم ، فعبّأ أصحابه في وادي حنين ، و هو واد أجوف ذو شعب و مضائق ، و فرّق الناس فيه و أوعز إليهم أن يحملوا على محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و أصحابه حملة واحدة عند ما ينحدرون من مضيق الوادي.
    يقول جابر بن عبد اللّه لمّا استقبلنا وادي حنين ، انحدرنا في واد من أودية تهامة في عماية الصبح ، و كان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه ومضائقه ، و قد أجمعوا و تهيّئوا فماعدوا فو اللّه ما راعنا و نحن إلاّ الكتائب قدشدّوا علينا شدّة رجل واحد و انهزم الناس راجعين لايلوي أحد على أحد ، و انطلق الناس و قد بقي مع النبيّ نفر من المهاجرين و الأنصار و أهل بيته.
    بقى رسول اللّه على دابّته لم ينزل ، إلاّ أنّه جرّد سيفه ، و قد ذكر التاريخ أسماء الذين صمدوا مع رسول اللّه ، أمثال علي و العباس و الفضل بن العباس و أبي سفيان ابن الحارث ، و ربيعة بن الحارث و أيمن بن عبيد الخزرجي ، و اُسامة بن زيد.
    قال البرّاء بن عازب : و اللّه الذي لا إله إلاّ هو ماولّى رسول اللّه و لكنّه وقف واستنصر ثمّ نزل و هو يقول :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب


(447)
    و كان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء فيها رأس رمح له طويل أمام الناس إذا أدرك طعن ، قد أكثر في المسلمين القتل ، فشدّ عليه عليّ و أبو دجانة فقطع عليّ يده اليمنى ، و أبو دجانة يده الاُخرى ، و أقبلا يضربانه بسيفيهما فسقط صريعاً.
    و زاد الهول مصيبة شماتة أبي سفيان و غيره بالمسلمين ، فقد تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغائن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لاتنتهي هزيمتهم دون البحر ، و انّ الأزلام لمعه في كنانته.
    و صرخ في تلك الاثناء جبلة بن حنبل : ألا بطل السحر اليوم.

الانتصار بعد الهزيمة :
    أمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في تلك الآونة عمَّه العباس أن يصرخ و يقول : يا معشر الانصار يا معشر أصحاب السمرة (1) فصار ذلك سبباً لرجوع الفارين من أصحاب الرسول إليه و القتال بين يديه ، فاجتمع جمع غفير حوله ، حاموا رسول اللّه و قاتلوا العدو بضراوة ، فنظر رسول اللّه إلى ساحة المعركة ، و أصحابه يقاتلون ، فقال : الآن حمى الوطيس ، و صارت الحرب طاحنة حتى رأى العدو جمعاً غفيراً من الأسرى مكتّفين عند رسول اللّه ، فعند ذلك انقلبت كفّة النصر لصالح المسلمين.
    و من لطيف ما قيل في تلك الفترة ما انشدته امرأة مسلمة بقولها :
غلبت خيل اللّه خيل اللات و خيله أحق بالثبات
    ثمّ إنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طلب من العباس ، ليناوله حفنة من الحصى ، فألقى بها في وجوه العدو قائلاً : شاهت الوجوه ، و قد استنهض بذلك
1 ـ السمرة : شجرة الرضوان.

(448)
عزائم أصحابه إلى حد ما لبث هوازن و لاثقيف حتى فرّوا منهزمين لايلوون على شيء تاركين ورائهم نساءهم و أبناءهم غنيمة للمسلمين ، و قد ذكر أصحاب السير احصاء الغنائم وعدّتها التي استولى عليها المسلمون ، فمن الإبل اثنان و عشرون ألف بعير ، و من الشياء أربعون الفاً ، و من الفضة أربعة آلاف اُوقية ، و قد بلغ عدد الأسرى ستة آلاف ، وقد أمر رسول اللّه أن تنقل إلى وادي الجعرانة حتى يأمن المسلمون من مطاردة العدو لهم (1).

نظرة تحليلية على انهزام المسلمين بادئ بدء :
    إنّ انهزام المسلمين في بادئ الأمر كان ناجماً عن غرور المسلمين بكثرتهم أوّلاً ، و اسطحاب ألفين من المسلمين الجدد الذين أسلموا توّاً في فتح مكّة ولميرسخ إيمانهم بعد ، فانّ فرارهم عن ساحة الحرب ثبّط عزائم المسلمين القدامى.
    أضف إلى ذلك انّهم لم يتّبعوا الخطط العسكرية من إرسال الطلائع والعيون مقدمة الزحف لا ستطلاع أحوال العدو ومواقعه ، كيف وهم دخلوا في مضيق حنين في غلس الصباح ، والعدو ترصّد في ثكنات خاصة ، ففاجأوهم بالهجوم عليهم من مكامنهم ، وهم على غفلة من أمرهم ، فلو كانوا قد استعانوا بالعيون والجواسيس لما وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكان ذلك ناتجاً عن تقصير من اُمراء السرايا ، وحمَلَة اللواء ، وقصور منهم في أداء وظائفهم التي أو كلها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليهم الذي كان يرقب الاُمور عن كثب في مؤخّرة الجند ، وإلى ما أشرنا لك يشير قوله سبحانه : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَة وَيَوْمَ حُنَيْن اِذْ اَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الاَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُدْبِرِينَ * ثُمَّ اَنْزَلَ اللَّهُ سَكِيْنَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَاَنْزَلَ جُنُودَاً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ
1 ـ المغازي : ج3 ص889 ـ 899 ، البداية و النهاية : ج4 ص352.

(449)
رَحِيمٌ ) ( التوبة/25 ـ 27 ).

محاصرة الطائف :
    لمّا انهزم العدو بعد انتصار مؤقّت ، التجأ البقية الباقية من جماعة مالك بن عوف إلى حصن لبني ثقيف بالطائف ، وكان حصناً منيعاً يصعب اختراقه ، فتعقّبهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى ذلك الحصن ، وأحاط بهم غير أنّ رجال ثقيف المتحصّنين كانوا من مهرة الرماة ، فتمكّنوا من إصابة جمع من المسلمين بلغ عددهم ثمانية عشر رجلاً ، فأمر النبي قوّاته بالتراجع عن مرمى النبل ، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة ، وقد أجهد النبي نفسه في خلال تلك المدة في اعمال فنون الحرب المختلفة لاختراق الحصن بالنحو التالي :
    1 ـ أمر أصحابه نقب جدار الطائف بالاحتماء بالدبابات المصنوعةً من جلود البقر ، لكن تلك المحاولة لم تتكلّل بالنجاح ، لأنّ ثقيف ألقت بحمم من الحديد على تلك الدبابات فأحرقتها ، ففرّ من كان تحتها من المسلمين ، فرشقتهم ثقيف بالنبل ، فقتلوا منهم رجالاً.
    2 ـ نصب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المنجنيق بإشارة من سلمان الفارسي بقوله : يا رسول اللّه أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، وقد عمل المنجنيق بيده ، فنصبه النبي تجاه حصن الطائف ، أو قدّم المنجنيق يزيد بن زمعة إلى النبي بعد مضي أربعة أيام من قبيلة بني دوس ، إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكّة ، فرماهم من دون جدوى لأنّهم قد أعدّوا حصونهم إعداداً يقاوم كل أمثال تلك الأسلحة.
    3 ـ أمر رسول الله بقطع شجر الكروم ( العنب ) ، وقد كانت قبيلة ثقيف تفتخر بكروم أرضها على جميع العرب ، فانّها جعلت الطائف واحة كأنّها الجنة وسط هذه الصحارى ، كل ذلك رجاء أن يستسلموا ويتركوا التحصّن في حصونهم ، فلمّا رأى ذلك رجال ثقيف نادوا : يا محمد لِمَ تقطع أموالنا ، فأمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا ،


(450)
وأمّا أن تدعها لله وللرحم ، فتركها ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    4 ـ نادى منادى رسول الله أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ ، فخرج من الحصن بضعة عشر رجلاً ، وعلم منهم انّ بالحصون من الذخيرة والمؤنة مايكفل أمداً طويلاً ، فاستشار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نوفل بن معاوية الديلي في المقام عليهم فقال : يا رسول الله : ثعلب في حجر ، إنْ أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرّك ، فأذن الرسول بالرحيل ، وقيل : إنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رأى أنّ الحصار سيطول أمده وانّ الجيوش تود الرجوع لا قتسام الفيء الذي كسبوه والذي تركوه في الجعرانة ، والأشهر الحرم قد أذنت ولا يجوز فيها قتال ، لذلك آثر أن يرفع الحصار بعد شهر من وقعه ، وكان ذو القعدة قد هلّ ، فرجع بجيشه معتمِراً وذكر انّه متجهّز إلى الطائف إذا انتهت الأشهر الحرم.

وفد هوازن في الجَعرِّانة
    وأقفل راجعاً إلى مكة حتى نزل هو والمسلمون الجَعرّانة لإقتسام الغنائم ، وفي تلك الأثناء أتتهم وفد من هوازن وقد أسلموا فقالوا : إنّا أصل وعشيرة وقد أصابنا مالميخف عليك ، فامنن علينا منّ الله عليك ، وقال زهير : يا رسول الله إنّ بين الاُسارى عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك ، ولو إنّا أرضعنا الحرث بن أبي شمر الغساني ، أو النعمان بن المنذر ليرجونا عطفه وأنت خير المكفولين ، فخيّرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين نسائهم وأبنائهم ، وبين أموالهم ، فاختاروا نساءهم وأبناءهم.
    فقال : أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، فإذا أنا صلّيت بالناس ، فقولوا : إنّا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله ، في أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم وأسأل فيكم ، فلمّا صلّى الظهر فعلوا ما أمرهم به ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما كان لي
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس