بيان : هذا الحديث الشريف فيه مخالفة لما اشتهر بين الأصحاب وصرّحوا به : من أن الآيات التي يستنبط منها الأحكام الشرعية خمسمائة آية تقريباً .
ولما ذهب إليه أكثر القرّاء (1) من أنّ سور القرآن بأسرها مائة وأربعة عشر سورة ، وإلى أنّ آياته ستة الآف وستمائة وستة وستون آية ، وإلى أنّ كلماته سبع وسبعون ألف وأربعمائة وثلاثون كلمة ، وإلى أنّ حروفه ثلاثمائة ألف واثنان وعشرون الف وستمائة وسبعون حرفاً ، وإلى أنّ فتحاته ثلاث وتسعون ألف ومائتان وثلاث وأربعون فتحة ، وإلى أن ضماته أربعون ألف وثمانمائة وأربع ضماّت ، وإلى أنّ كسراته تسع وثلاثون ألفاً وخمسائة وستة وثمانون كسرة ، وإلى أنّ تشديداته تسعة عشر ألف ومائتان وثلاث وخمسون تشديدة ، وإلى أنّ مداته ألف وسعمائة وإحدى وسبعون مدة .
وأيضاً ، يخالف ما روياه بإسنادهما عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول : نزل القرآن أثلاثاً : ثلث فينا وفي عدوّنا ، وثلث سنن وأمثال ، وثلث فرائض وأحكام .
وما رواه العياشي بإسناده عن خيثمة عن أبي جعفر عليه السّلام قال : القرآن نزل أثلاثاً : ثلث فينا وفي أحبائنا ، وثلث في أعدائنا وعدوّ من كان قبلنا ، وثلث سنن ومثل ، ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثم مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكل قوم آية يتلونها من خيرٍ أو شرٍ » .
ثم قال رحمه الله : « ويمكن رفع التنافي بالنسبة إلى الأول : بأنّ القرآن الذي
____________
(1) وكذا جاء أيضاً في « الوافي » و « مرآة العقول » نقلاه عن « المحيط الأعظم في تفسير القرآن » للسيد حيدر الآملي ، من علماء القرن الثامن ، عن أكثر القراء .
( 129 )

انزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أكثر مما في أيد أيدينا اليوم وقد اسقط منه شيء كثير ، كما دلّت عليه الأخبار المتضافرة التي كادت أن تكون متواترة ، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا : منية المحصّلين في حقيّة طريقة المجتهدين .
وبالنسبة إلى الثاني : بأنّ بناء التقسيم ليس على التسوية الحقيقيّة ولا على التفريق من جميع الوجوه ، فلا بأس باختلافه بالتثليث والتربيع ، ولا بزيادة بعض الأقسام على الثلث والربع أو عنهما ، ولا دخول بعضها في بعض ، والله العالم » (1) .
أقول : ذكرنا أهمّ تلك الأخبار فيما مضى ، مع النظر فيها من حيث السّند والدلالة ، وأمّا دعوى تواترها فقد تقدّم بيان الحال فيها في فصل ( الشبهات ) .
ترجمة الشيخ المازندراني ورأيه
5 ـ الشيخ محمد صالح بن أحمد المازندراني .
قال الحرّ العاملي : « فاضل عالم محقّق ، له كتب منها شرح الكافي ، كبير حسن ... » (2) وقال الخونساري : « كان من العلماء المحدّثين والعرفاء المقدّسين ، ماهراً في العقول والمنقول ، جامعاً للفروع والاصول » (3) .
فإنّه يستفاد من كلام له في ( شرح الكافي ) أخذه بظواهر ما ورد فيه ، وربما ذكر الوجوه والمعاني الاخرى التي ذكرها المحدّثون لتلك الأخبار على وجه الإحتمال ، بل رأينا منه أحياناً تكلّفاً لإبقاء بعضها على ظاهره .
____________
(1) مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار 2 : 294 ـ 295 .
(2) أمل الآمل 2 : 276 .
(3) روضات الجنات : 319 .

( 130 )

قال رحمه الله في شرح حديث الكليني عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي (1) « وكأنّ هذا المصحف المدفوع إليه هو الذي جمعه أمير المؤمنين عليه السّلام بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخرجه وقال : هذا هو القرآن الذي أنزله سبحانه ، وردّه قومه ولم يقبلوه ، وهو الموجود عند المعصوم من ذرّيّته كما دلّت عليه الأخبار » .
ثم قال : « وفي هذا الخبر دلالة على وجود مصحف غير هذا المشهور بين الناس ، وعلى وجود التحريف والتغيير والحذف فيما أنزله الله تعالى من القرآن على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم .
ورفعه لا يضر ، لاعتضاده بأخبار اخر من طرقنا ، وهي كثيرة مذكورة في كتاب الروضة وغيره » .
قال ـ وهو يقصد تقوية ذلك بأحاديث أهل السنّة ـ : « وقد دلّت الاخبار من طرقهم أيضاً على وقوع التغيير » (2) .
النظر في كلامه
وفي كلامه مواقع للنظر :
1 ـ قوله : « كأن هذا المصحف المدفوع إليه هو الذي جمعه أمير المؤمنين »
____________
(1) الكافي 2 : 461 ، ونصّ الحديث :
عن البزنطي ، قال : دفع إليّ أبو الحسن عليه السّلام مصحفاً وقال : لا تنظر فيه ، ففتحته وقرأت فيه : لم يكن الّذين كفروا فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم ، قال : فبعث إليّ : إبعث إليّ بالمصحف .
(2) شرح الكافي 11 : 71 ـ 72 .

( 131 )

إستظهار منه ولا دليل عليه ، وإن تم فقد تقدم الكلام على ذلك في فصل ( الشبهات ) على ضوء أقوال أكابر الطائفة .
2 ـ قول : « وفي هذا الخبر دلالة » فيه : إنّ دلالته غير تامّة ، كيف والمحدّثون أنفسهم يفسرونه بمعان اخر كما تقدّم ؟!
3 ـ قوله : « ورفعه لا يضر » إعتراف منه بأنّ حديث البزنطي هذا مرفوع كما تقدم ، وعدم إضراره محل بحث وخلاف .
4 ـ قوله : « لاعتضاده بأخبار اخر من طرقنا » فيه : أنّ تلك الأحاديث في الأغلب بين ضعيف ومرسل وشاذ نادر ، وهل يعتضد الحديث المرفوع بالضعيف أو بالنادر ؟!
5 ـ قوله : « وهي كثيرة » فيه : أنّه لو سلّم فإنّ الكثرة من هذا القبيل لا تجدي نفعاً ، ولا تفيد لإثبات معتقدٍ أو حكم .
6 ـ قوله : « مذكورة في كتاب الروضة وغيره » فيه : أنّ مما ذكر في كتاب الروضة هو الحديث الذي يفيد عدم نقصان القرآن في ألفاظه بوضوح ، وقد استشهد به المحدّث الكاشاني وغيره كما تقدّم .
7 ـ قوله : « وقد دلّت الأخبار من طرقهم أيضاً » فيه : أنّ تلك الأحاديث ليست حجة قاطعة علينا ، على أن علماء الشيعة يردّون أو يؤوّلون أحاديثهم الدالّة على ذلك ، فكيف بأحاديث أهل السنّة ؟!
وبعد ، فإنّا نستظهر من كلام الشيخ المازندراني أنّه من القائلين بنقصان القرآن أخذاً بظواهر الأخبار ، ولكن حكى السيد شرف الدين والشيخ الاُوردبادي أنه قال في شرح الكافي : « يظهر القرآن بهاذ الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر ويشهر به » فإن كان هذا القول له حقاً عدّ في الطائفة الاولى ، والله العالم .


( 132 )

رأي الشيخ النوري
8 ـ الشيخ ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي ، المتوفي سنة 1320 ، من أعلام القرن الرابع عشر ، ومن مشاهير محدّثي الشيعة الإمامية ، توجد ترجمته في كتب الشيخ آغا بزرك الطهراني ، والشيخ عباس القمي وغيرهما من أصحاب التراجم والرجال .
وهو المشتهر بهذا القول في المتأخرين ، وله فيه كتاب ( فصل الخطاب ) الذي سبّب تنديد بعض الجهلة والأعداء بالشيعة والتهويس عليهم ، ذاهلين عن أنّه رأي شخصي من هذا المحدّث الغظيم وليس رأي الطائفة ، فإن أساطين هذه الطائفة في القرون المختلفة يذهبون إلى صيانة القرآن عن كلّ أشكال التلاعب ، وقد أوردنا طرفاً من كلماتهم في الفصل الأول .
ويؤكّد ما ذكرناه ـ من أنّه رأي شخصي ـ أنّ علماء الشيعة المعاصرين له والمتأخرين عنه تناولوا كتابه بالرّد والنقد ، كالسيّد محمد حسين الشهرستاني والشيخ محمود العراقي وغيرهما ، وللشيخ البلاغي بعض الكلام في هذا الباب في مقدّمة تفسيره ( آلاء الرحمن ) ... بل إنّ الشيخ النوري نفسه يعترف بصراحة بتفرّده في هذا القول ، كما لا يخفى على من راجع كتابه (1) .
محدّثون لا وجه لنسبة القول بالتحريف إليهم
وهم المحدّثون الذين أوردوا في مصنّفاتهم جميع ما رووه أو طرفاً منه ، مع
____________
(1) فصل الخطاب : 35 .
( 133 )

عدم الإلتزام بالصحة سنداً ومتناً ودلالة ، فهم يروون أحاديث نقصان القرآن كما يروون أحياناً أحاديث الغلو والجبر والتفويض والتجسيم ، وما شاكل ذلك مما لا يعتقدون به لا يذهبون إليه ، وقد ذكرنا أنّ الرواية أعمّ من الإعتقاد .
وعلى أساس الامور الأربعة التي ذكرناها من قبل ـ مع الإلتفات إلى كلام الصدوق ابن بابويه ... وغير ذلك ـ نقول بعدم صحة نسبة القول بالتحريف إلى هذه الطائفة من الرواة فضلاً عن نسبته إلى الطائفة إستناداً إلى رواية هؤلاء لتلك الإخبار ، مضافاً إلى نقاط متعلقة بهم أو بأخبارهم سنشير إليها .
العيّاشي
ومن هذه الطائفة :
1 ـ الشيخ محمد بن مسعود العياشي ، صاحب التفسير المعروف ، ترجم له الشيخ النجاشي فقال : « ثقة صدوق ، عين هذه الطائفة ، وكان يروي عن الضعفاء كثيراً ، وكان في أول عمره عامّي المذهب ، وسمع حديث العامة فأكثر » (1) وقال الشيخ الطوسي : « أكثر أهل المشرق علماً وأدباً وفضلاً وفهماً ونبلاً في زمانه ، صنّف أكثر من مائتي مصنّف ، ذكرناها في الفهرست ، وكان له مجلس للخاصّي ومجلس للعامي ، رحمة الله » (2) وقال شيخنا الجدّ المامقاني : « وربما حكي من بعض شرّاح التهذيب ـ والظاهر أنّه المحقق الشيخ محمد نجل الشهيد الثاني ـ أنه قدح في توثيقه بكونه في أول عمره عامياً ، فلا يعلم أن الجرح
____________
(1) رجال النجاشي : 247 .
(2) رجال الشيخ الطوسي : 497 .

( 134 )

والتعديل للرجال الذي ينسب إليه هل كان قبل التبصّر أو بعده » (1) .
فهو ـ وإن كان ثقة في نفسه ـ يروي عن الضعفاء كثيراً ، وأخبار تفسيره مراسيل كما هو معلوم ، ويتلخص عدم صحة نسبة القول بالتحريف إليه ، وعدم جواز الإعتماد على أخبار تفسيره في هذا المضهار .
الصفّار
2 ـ الشيخ محمد بن الحسن بن فروخ الصفار القمي ، الثقة الثبت المعتد عند جميع علماء الرجال ، ولا حاجة إلى نقل نصوص كلماتهم .
روى هذا الشيخ بعض الأخبار المذكورة سابقاً في كتابه ( بصائر الدرجات ) ولكن لا وجه لنسبة القول بالتحريف إليه ، وقد تكلّمنا هناك على تلك الأخبار سنداً ومتناً على ضوء كلمات علماء الحديث والرجال ، ومن الضروري النظر في أسانيد أخبار كتابه ( بصائر الدرجات ) ومعانيها كسائر الكتب الحديثيّة .
الكشي
3 ـ الشيخ أبو عمرو محمد بن عمر الكشي صاحب كتاب ( الرجال ) .
قال النجاشي « كان ثقة عيناً ، روى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي ، وأخذ عنه وتخرّج عليه في داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم ، له كتاب
____________
(1) تنقيح المقال 3 : 183 .
( 135 )

الرجال كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة » (1) وقال الشيخ أبو علي الرجالي : « ذكر جملة من مشايخنا أن كتاب رجاله المذكور كان جامعاً لرواة العامة والخاصة ، خالطاً بعضهم ببعض ، فعمد إليه شيخ الطائفة ـ طاب مضجعه ـ فلخّصه وأسقط منه الفضلات » (2) .
وعلى ضوء ما تقدم ليس الشيخ الكشي من القائلين بالتحريف ، ولا يجوز الإستناد إلى الأخبار الواردة في ( رجاله ) لأنه كا يروي عن الضعفاء كثيراً على ما نصّ عليه النجاشي ، وكان من أصحاب العياشي ، والمتخرجين عليه كما نصوا عليه ، وقد تقدّم أن العياشي ـ وإن كان ثقة جليلاً ـ كان يروي عن الضعفاء كثيراً أيضاً ، فلا اعتبار بكلّ أخبار هذا الكتاب حتى بعد تهذيب الشيخ إيّاه ، لكون نظر إلى الرجال المذكورين فيه لا الأخبار المرويّة في غضونه .
النعماني
4 ـ الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني : الثقة الجليل عند علماء الرجال والجرح والتعديل (3) .
له في كتابه ( الغيبة ) رواية صريحة في مخالفة القرآن على عهد الإمام المهدي عليه السّلام للقرآن الموجود الآن ، وقد بيّنا في محلّه وجه التعارض بين روايته تلك مع روايتين اخريين له ، ... ثم نقلنا حديثاً عن ( الإرشاد ) و ( روضة الواعظين ) يوضح المراد من تلك الأحاديث الثلاثة .
____________
(1) رجال النجاشي : 263 .
(2) رجال أبي علي . وانظر مقباس الهداية : 121 .
(3) تنقيح المقال 3 : 55 حرف الميم .

( 136 )

وذكرنا هناك أن سند ذلك الحديث الصريح غير قوي ، كما بيّنّا في الكلام على الشبهة الثالثة أنه لا يمكن الإعتماد على ما ظاهره مخالفة القرآن في عهد الإمام المنتظر عجّل الله فرجه لهذا القرآن .
والحق أنه لا سبيل إلى نسبة القول بالتحريف إليه ، وكلامه في مقدمة كتابه لا يدل على التزامه بالصحّة وإن توهم ذلك ، فليراجع .
أبو منصور الطبرسي
5 ـ الشيخ أحمد بن علي الطبرسي ، المتوفى سنة 548 صاحب كتاب ( الاحتجاج على أهل اللجاج ) من مشايخ ابن شهر آشوب ، ومن أجلاء أصحابنا المتقدمين ، عالم فاضل محدّث ثقة (1) .
روى في كتابه المذكور ما يفيد التحريف ، ومن ذلك ما رواه في احتجاجات سيّدنا أمير المؤمنين عليه السّلام مع المهاجرين والأنصار ، المتضمن مخالفة مصحفه الذي جمعه مع المصحف الذي اتخذوه ، وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على الشبهة الثانية .
وكتاب ( الاحتجاج ) وإن كان من الكتب الجليلة إلاّ أن أكثر أخباره مراسيل كما صرّح بذلك الشيخ المجلسي في مقدمة ( البحار ) ، والشيخ الطّهراني في ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) .
وعلى هذا ، فلا يصلح ما رواه في هذا الباب للإعتماد ، ولا دليل على أن ينسب إليه هذا الإعتقاد ، وإن جاء في كلام بعض علمائنا الأمجاد .
____________
(1) انظر : معالم : ص 25 ، أمل الآمل 2 : 17 ، روضات الجنات 1 : 19 ، تنقيح المقال 1 : 69 ، الكنى والألقاب 2 : 404 .
( 137 )

السيد البحراني
6 ـ السيّد هاشم البحراني ، من مشاهير محدّثي الإمامية ، وكان على جانب عظيم من الجلالة ، يضرب به المثل في الورع والتقوى ، وله تصانيف كثيرة ، منها ( البرهان في تفسير القرآن ) ، توفي سنة 1107 (1) .
روى هذا المحدّث الجليل في كتابه المذكور طائفة من الأخبار الظاهرة في نقصان القرآن عن العياشي وأمثاله ، لكن تفسيره المذكور يشتمل على أنواع الأخبار وأقسامها ، وكأنّه ـ رحمه الله ـ قصد من تصنيفه جمع الروايات الواردة في تفسير الآيات ووضع كلّ حديثٍ في ذيل الآية التي يناسبها ، بل كانت هذه طريقته في جميع كتبه ، فقد قال المحدّث البحراني ما نصه : « وقد صنّف كتباً عديدة تشهد بشدة تتبعه وإطلاعه ، إلاّ أنّي لم أقف له على كتاب فتاوى في الأحكام الشرعية بالكلية ولا في مسألة جزئية ، وإنما كتبه مجرّد جمع وتأليف ، ولم يتكلّم في شيء منها مما وقفت عليه على ترجيح في الأقوال أو بحث أو إختيار مذهب وقول في ذلك المجال ، ولا أدري أن ذلك لقصور درجته عن رتبة النظر والإستدلال أم تورّعاً من ذلك ... » (2) .
تحقيق حول رأي الكليني
وإن أشهر رواة الأحاديث التي ذكرناها وغيرها وأعظمهم هو الشيخ محمد
____________
(1) انظر : لؤلؤة البحرين : 63 ، أمل الآمل 2 : 341 ، الكنى والألقاب 3 : 93 .
(2) لؤلؤة البحرين : 63 .

( 138 )

ابن يعقوب الكليني المتوفى سنة 329 . روى تلك الأخبار في كتابه ( الكافي ) الذي هوأهم الكتب الأربعة المشهورة بين الشيعة الإمامية .
لقد كان ـ وما زال ـ التحقيق حول رأي الشيخ الكليني في المسألة موضع الإهتمام بين العلماء والكتّاب ، لما له ولكتابه من مكانة مرموقة متّفق عليها بين المسلمين ، فنسب إليه بعض المحدّثين من الشيعة القول بالتحريف إعتماداً على ظاهر كلامه في خطبة كتابه « الكافي » ، ونفي ذلك آخرون ، وحاول بعض الكتّاب القاصرين نسبة القول بذلك إلى الطائفة عامة والتشنيع عليها ـ بزعمه ـ بعد وصف « الكافي » بـ ( الصحيح ) لكنها محاولة يائسة كما سنرى .
لقد تقدّم في الفصل الثاني من هذا البحث ذكر أهم الأخبار التي رواها الكليني في « الكافي » وبيّنّا ما في كلّ منها من مواقع النظر أو وجوه الجواب ، بحيث لا يبقى مجال للقول بأنها تدل على تحريف القرآن .
والتحقيق حول رأي الكليني وما يتعلّق بذلك يتم بالبحث في عدة جهات :
ترجمته وشأن كتابه
لقد ترجم علماء الشيعة للكليني بكلّ ثناء وإطراء وتعظيم وتفخيم ، فقد قال أبو العباس النجاشي : « شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم ، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم ، صنّف الكتاب الكبير المعروف بالكليني ، يسمى ( الكافي ) في عشرين سنة » (1) وقال الشيخ الطوسي : « عالم بالأخبار ، له كتاب
____________
(1) رجال النجاشي : 266 .
(2) الفهرست للطوسي : 161 .

( 139 )

( الكافي ) يشتمل على ثلاثين كتاباً » (1) وقال المامقاني : « أمر محمد بن يعقوب في العلم والفقه والحديث والثقة والورع وجلالة الشأن وعظيم القدر وعلوّ المنزلة وسموّ المرتبة أشهر من أن يحيط به قلم ويستوفيه رقم » (2) .
وقال الشيخ بهاء الدين العاملي في ( الوجيزة ) : « ولجلالة شأنه عدّه جماعة من علماء العامة كابن الأثير في كتاب جامع الاصول من المجددين لمذهب الإمامية على رأس المائة الثالثة ، بعد ما ذكر أن سيدنا وإمامنا أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السّلام هو المجدّد لهذا المذهب على رأس المائة الثانية » .
أما كتابه « الكافي » فهو أهم كتب الشيعة الإثني عشرية وأجلّها وأعظمها في الاصول والفروع والمعارف الإسلامية ، وإليه يرجع الفقيه في استنباطه للأحكام الشرعية ، وعليه يعتمد المحدّث في نقله للأخبار والأحاديث الدينية ، ومنه يأخذ الواعظ في ترهيبه وترغيبه .
إلاّ أنّه تقرر لدى علماء الطائفة ـ حتى جماعة من كبار الأخباريين ـ لزوم النظر في سند كلّ خبر يراد الأخذ به في الاصول والفروع ، إذ ليست أخبار الكتب الأربعة ـ وأوّلها الكافي ـ مقطوعة الصدور عن المعصومين ، بل في أسانيدها رجال ضعّفهم علماء الفن ولم يثقوا برواياتهم ، ومن هنا قسّموا أخبار الكتب إلى الأقسام المعروفة ، واتّفقوا على اعتبار « الصحيح » وذهب أكثرهم إلى حجّية « الموثّق » وتوقف بعضهم في العمل بـ « الحسن » . وأجمعوا على وجود الأخبار « الضعيفة » في الكتب الأربعة المعروفة ، وقد ذكرنا هذه الحقيقة في الامور الأربعة ببعض التفصيل .
____________
(1) معالم العلماء : 154 .
(2) تنقيح المقال 3 : 201 .

( 140 )

ونزيد تأكيداً هنا بذكر مثالين أحدهما : أنّ الكليني روى في « الكافي » أن يوم ولادة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل ـ ولذا نسب إليه القول بذلك ـ ولم يوافقه احد من علماء الشيعة عليه فيما نعلم ، بل ذهبوا إلى أنّه اليوم السابع عشر منه . والثاني : أنّ الكليني روى في « الكافي » كتاب ( الحسن بن العباس بن حريش ) في فضل « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وقد ضعف الشيخ أبو العباس النجاشي والشيخ ابن الغضائري وغيرهما الرجل وذمّوا كتابه المذكور (1) .
وسواء صح ما ذكروا أو لم يصح فإنّ الغرض من ذكر هذا المطلب هو التمثيل لما ذكرناه من رأي أكابر العلماء في روايات الكليني .
وعلى الجملة ، فإنّه ليست أخبار « الكافي » كلها بصحيحةٍ عند الشيعة حتى يصح إطلاق عنوان « الصحيح » عليه ، بل فيها الصحيح والضعيف وإن كان « الصحيح » قد لا يعمل به ، و « الضعيف » قد يعتمد عليه ، كما هو معلوم عند أهل العلم والتحقيق ... وهذه هي نتيجة البحث في هذه الجهة .
هل الكليني ملتزم بالصحّة ؟
قد ينسب الى الكليني القول بتحريف القرآن بدعوى اعتقاده بصدور ما رواه عن المعصومين عليهم السّلام ، لكن هذه الدعوى غير تامّه فالنسبة غير صحيحة ، إذ أن الكليني لم ينصّ في كتابه على اعتقاده بذلك أصلاً ، بل ظاهر كلامه يفيد عدم جزمه به ، وإليك نصّ عبارته في المقدّمة حيث قال : فاعلم يا أخي ـ
____________
(1) انظر تنقيح المقال 1 : 286 .
( 141 )

أرشدك الله ـ أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السّلام برأيه إلاّ على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله : أعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه . وقوله عليه السلام : دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم ، وقوله عليه السلام : خذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه .
ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه السلام : بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم .
وقد يسّر الله ـ وله الحمد ـ تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخيت » وأشار بقوله هذا الأخير إلى قوله سابقاً :
« وقلت : إنك تحبّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين » .
هذا كلامه ـ يرحمه الله ـ وليس فيه ما يفيد ذلك ، لأنه لو كان يعتقد بصدور جميع أحاديثه ـ لما أشار في كلامه إلى القاعدة التي قررها أئمة أهل البيت عليهم السلام لعلاج الأحاديث المتعارضة ، وهي عرض الأحاديث على الكتاب والسنّة ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل .
واستشهاده ـ رحمه الله ـ بالرواية القائلة بلزوم الأخذ بالمشهور بين الأصحاب عند التعارض دليل واضح على ذلك ، إذ هذا لا يجتمع مع الجزم بصدور الطرفين عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الامام عليه السّلام .
وقوله ـ رحمه الله ـ بعد ذلك : « ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقله ، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السّلام » ظاهر في


( 142 )

عدم جزمه بصدور أحاديث كتابه عن المعصوم عليه السّلام .
نعم قد يقال : إنّ أحاديث « الكافي » إن لم تكن قطعية الصدور فلا أقل من صحتها إسناداً ، ذلك لأنّ مؤلّفه قد شهد ـ نتيجة بذله غاية ما وسعه من الجهد في التحري والإحتياط ـ بصحّة جميع أحاديث كتابه حيث قال في المقدمة : « وقلت : إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلّم ، ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام ، والسنن القائمة التي عليها السلام العمل وبها يؤدّى فرض الله عزّ وجلّ وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم » .
فإن ظاهر قوله « بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام » إعتقاده بصحّة ما أورده في كتابه .
ولكنّ هذا ـ بغض النظر عما قالوا فيه (1) ـ لا يستلزم وثوق الشيخ الكليني بدلالة كلّ حديث موجود في كتاب حتى ينسيب إليه ـ بالقطع واليقين ـ القول بمداليل جميع رواياته ، ويؤكد هذا قوله : « ونحن لا نعرف من جميع ذلك » بل ويؤكّده أيضاً ملاحظة بعض أحاديثه .
توضيح ذلك : أنّه ـ رحمة الله ـ روى ـ مثلاً ـ أحاديث في كتاب الحج من فروعه تفيد أنّ الذبيح كان ( إسحاق ) لا ( إسماعيل ) ، ومن تلك الأحاديث ما رواه عن أحدهما عليهما السلام : « وحج إبراهيم عليه السّلام هو وأهله وولده ، فمن زعم أن الذبيح هو إسحاق فمن هاهنا كان ذبحه » .
____________
(1) مفاتيح الاصول ، معجم رجال الحديث ، وغيرهما ، وقد جاء في المفاتيح : 332 عن المحدث الجزائري وغيره التصريح بأنّه ليس في كلام الكليني ما يدلّ على حكمه بصحة أحاديث كتابه .
( 143 )

قال الكليني : « وذكر عن أبي بصير أنّه سمع أبا جعفر وأبا عبدالله عليهما السّلام يزعمان أنّه إسحاق . فأمّا زرارة فزعم أنّه إسماعيل » (1) .
قال المحدّث المجلسي : « وغرضه ـ رحمة الله ـ من هذا الكلام رفع الإستبعاد عن كون إسحاق ذبيحاً ، بأنّ إسحاق كان بالشام والذي كان بمكة إسماعيل ، فكون إسحاق ذبيحاً مستبعد .
فدفع هذا الإستبعاد بأنّ الخبر يدلّ على أن ابراهيم عليه السّلام قد حجّ مع أهله وولده ، فيمكن أن يكون الأمر بذبح إسحاق في هذا الوقت » (2) .
وروى ـ رحمه الله ـ في خبر طويل عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السّلام :
« ... قال : فلما قضت مناسكها فرقت أن يكون قد نزل في ابنها شيء ، فكأني أنظر إليها مسرعة في الوادي واضعة يدها على رأسها وهي يقول : رب لا تؤاخذ بما عملت بامّ إسماعيل .
قال : فلما جاءت سارة فأخبرت الخبر قامت الى إبنها تنظر فإذا أثر السكين خدوشاً في حلقه ، ففزعت واشتكت ، وكان بدء مرضها الذي هلكت فيه » (3) .
قال المحدّث الفيض الكاشاني هنا : « يستفاد من الخبر أن الذبيح إسحاق ، لأن سارة كانت أمّ إسحاق دون إسماعيل ، ولقولها : لا تؤاخذني ... » (4) .
وروى ـ رحمة الله ـ في باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد عن أبي
____________
(1) الكافي 4 : 205 ـ 206 .
(2) مرآة العقول 3 : 256 ، بحار الأنوار 12 : 135 .
(3) الكافي 4 : 208 ـ 209 .
(4) الوافي 1 : 548 .

( 144 )

الحسن عليه السّلام في حديث قوله : « وامر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى » (1) .
قال السيد الطباطبائي في حاشية : « وهو خلاف ما تضافرت عليه أخبار الشيعة » .
فهل هذا الأحاديث صحيحة في رأي الشيخ الكليني ؟ وإذا كانت صحيحة ـ بمعنى الثقة بالصدور ـ فهل يثق ويعتقد بما دلّت عليه من كون الذبيح إسحاق ؟ وإذا كان كذلك فماذا يفعل بالأحاديث التي رواها وهي دالة على كونه إسماعيل ؟ وهب أنّه من المتوقّفين في المقام ـ كما قال المجلسي في نهاية الأمر ـ فهل يلتئم هذا مع الإلتزام بالصحّة في كلّ الأحاديث ؟
ونتيجة البحث في هذه الجهة : عدم تمامية نسبة القول بالتحريف إلى الكليني إستناداً إلى عبارته في صدر « الكافي » .
جواز نسبة القول بعدم التحريف إليه
وبعد ، فإن من الجائز نسبة القول بعدم التحريف إلى الشيخ الكليني رحمه الله لعدة وجوه :
1 ـ إنّه كما روى ما ظاهره التحريف فقد روى ما يفيد عدم التحريف بمعنى الإسقاط في الألفاظ ، وهو ما كتبه الإمام عليه السّلام إلى سعد الخير « وكان من نبذهم الكتاب أن اقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية » الحديث . وقد
____________
(1) الكافي 1 : 151 .
( 145 )

استدلّ به الفيض الكاشاني على أنّ المراد من أخبار التحريف هو تحريف المعاني دون الألفاظ ، فيكون هذا الخبر قرينة على المراد من تلك الأخبار . ولو فرضنا التعارض كان مقتضى عرض الخبرين المعارضين على الكتاب ـ عملاً بالقاعدة التي ذكرها الكليني ، ولزوم الأخذ بالمشهور كما ذكر أيضاً ـ هو القول بعدم وقوع التحريف في القرآن .
2 ـ إنّ عمدة روايات الكليني الظاهرة في التحريف تنقسم إلى قسمين :
الأول ـ ما يفيد اختلاف قراءة الأئمة مع القراءة المشهورة .
الثاني ـ ما ظاهره سقوط أسماء الأئمة ونحو ذلك .
أما القسم الأول فخارج عن بحثنا .
وأما القسم الثاني ـ فمع غض النظر عن الأسانيد ـ فكلّه تأويل من أهل البيت عليهم السلام ، والتأويل لا ينافي التفسير ، وإرادة معنى لا تضاد إرادة معنى آخر ، وقد روى الكليني ما هو صريح في هذا الباب عن الصادق عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ : ( الّذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) : « إنّها نزلت في رحم آل محمد . وقد يكون في قرابتك ـ ثم قال ـ ولا تكوننّ ممن يقول في الشيء أنّه في شيء واحد » .
ومقتضى القواعد التي ذكرها الكليني أن لا يؤخذ بظواهر الأخبار من القسم الثاني .
3 ـ إنّ كلمات الأعلام والأئمة العظام من الشيعة الإمامية ـ كالصدوق والمفيد والمرتضى والطبرسي ـ الصريحة في أن المذهب هو عدم التحريف ، وان القائلين بالتحريف شذاذ من « الحشوية » تقتضي أن لا يكون الكليني قائلاً بالتحريف ، لا سيمّا كلام الصدوق الصريح في « أن من نسب إلينا ... فهو كاذب » .


( 146 )

وإلاّ لم يقولوا كذلك ، إذ لم ينسوا شأن الكليني وعظمته في الطائفة .
4 ـ إنّ دعوى الإجماع من جاعة من أعلام الطائفة ـ كالشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيره ـ ترجّع القول بأن الكليني من نفاة التحريف ، وإلاّ لما ادّعوه مع الإلتفات إلى شخصية الكليني .
5 ـ إنّ الكليني رحمة الله روى الأخبار المفيدة للتحريف في ( باب النوادر ) ، ومن العلوم أنّ النوادر هي الأحاديث الشاذة التي تترك ولا يعمل بها كما نص على ذلك الشيخ المفيد (1) .
وعن الشيخ في التهذيب بعد حديث لحذيفة : « إنّه لا يصلح العمل بحديث حذيفة ، لأن متنه لا يوجد في شيء من الأصول المصنّفة بل هو موجود في الشواذ من الأخبار » .
ثم إن الشيخ المامقاني بعد أن أثبت الترادف بين « الشاذ » و « النادر » عرّف الشاذ بقوله : « وهو على الاظهر الأشهر بين أهل الدراية والحديث هو ما رواه الثقة مخالفاً لما رواه الجماعة ولم يكن له إلاّ إسناد واحد » (2) .
فجعله تلك الأحاديث تحت العنوان المذكور يدل على تشكيكه بصحتها وطرحه لها . قال السيّد محمد تقي الحكيم : « ولعل روايتها في ( النوادر ) من كتابه دليل تشكيكه بصدورها ورفضه لها ، وكأنّه أشار بذلك لما ورد في المرفوعة من قوله عليه السّلام : دع الشاذ النادر » (3) .
وقال السيّد حسين مكي العاملي : « ولأجل ما هي عليه من الضعف
____________
(1) معجم رجال الحديث 1 : 45 ، مقباس الهداية : 45 .
(2) مقباس الهداية : 45 .
(3) الاصول العامّة المقارن : 110 .

( 147 )

وندرتها وشذوذها وغرابتها مضموناً جعلها الإمام الكليني من الأخبار الشاذّة النادرة ، فسطرها تحت عنوان ( باب النوادر ) . وهذا دليل على أنّه خدش في هذه الأخبار وطعن فيها ولم يعتبرها ، إذ لم يغب عن ذهنه ـ وهو من أكابر أئمة الحديث ـ ما هو معنى النادر الشاذ لغة وفي اصطلاح أهل الحديث .
فالحديث الشاذ النادر عندنا ، معشر الإمامية الإثني عشرية ، هو الحديث الذي لا يؤخذ به ، إذا عارضه غيره من الروايات المشهورة بين أهل الحديث أو خالف مضموناً ، كتاباً أو سنّة متواترة أو حديثاً مشهوراً بين أهل الحيدث ... » .
قال : « وأما البحث في حكم النادر الشاذ من الأحاديث فهو : أنّه إذا خالف الكتاب والسنّة أو كان صحيحاً في نفسه ، ولكنه معارض برواية أشهر بين الرواة لا يعمل به ، كما قرره علماؤنا ... » (1) .
____________
(1) عقيدة الشيعة في الإمام الصادق عليه السّلام : 165 .
( 148 )

خاتمة الباب الأول


لقد استعرضنا في الباب الأول كلّ ما يتعلق بـ « الشيعة والتحريف » ، حيث ذكرنا كلمات أعلام الشيعة في نفي التحريف ، وأدلّتهم على ما ذهبوا إليه من الكتاب والسنّة والإجماع وغيرها ، وأجوبتهم عن الروايات الواردة في كتبهم المفيدة بظاهرها لنقصان القرآن ، وعن الشبهات التي قد تثار حوله على ضوء تلك الروايات .
ولقد لا حظنا أنّ الروايات الموهمة للتحريف منقسمة إلى ما دلّ على اختلاف قراءة أهل البيت مع القرّاء في قراءة بعض الآيات ، وما دلّ على تأويلات لهم لبعضٍ آخر ، وما دلّ على سقوط كذا آية من السورة وكذا آية من تلك .
أمّا القسم الأوّل فلا ينكر أنّ الأئمة عليهم السلام يختلفون مع القرّاء في قراءة كثير من الآيات والكلمات ، غير أنّهم أمروا شيعتهم بأن قرأوا كما يقرأ الناس ، وهذا القسم خارج عن بحثنا .
وأما القسم الثاني فإنّه راجع إلى التأويل ، ولا ريب في أن أهل البيت عليهم السّلام أدرى بحقائق القرآن ، معاني آياته من كلّ أحد ، والأدلة على ذلك لا تحصى ، وقد روي عن أبي الطفيل أنّه قال : « شهدت علياً يقول : سلوني ، والله لا تسألوني إلاّ أخبرتكم ، سلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلم


( 149 )

بليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل » (1) .
وعن ابن سعد : « سمعت علياً يقول : والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت ، إنّ ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً ناطقاً » (2) .
ولذا رووا عن ابن مسعود أنّه قال : « ما من حرف إلاّ وله ظهر وبطن ، وإنّ علياً عنده من الظاهر والباطن » (3) .
وروى ابن المغازلي : أنّ الذي عنده علم الكتاب هو علي بن أبي طالب عليه السّلام (4) .
ومتى وردت رواية معتبرة تحكي تأويلاً أو تفسيراً عنهم لآية وجب الآخذ بها ، إمتثالاً لأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأحاديث المتواترة بين المسلمين بالرجوع إليهم والإنقياد لهم والأخذ عنهم والتعلّم منهم .
وأما القسم الثالث فإنّ ما تمّ منه سنداً نادر جداً ، على أنّ أهل السنّة يشاركون الشيعة في نقل مثل هذه الروايات كما سنرى .
ومن هنا لا حظنا أنّ أكثر من 90% من علماء الشيعة ـ الذين عليهم الإعتماد وإليهم الإستناد في اصولهم وفروعهم ـ ينفون النقصان عن القرآن نفياً قاطعاً ولم يقل بنقصانه إلاّ أقل من الـ 5% منهم ... وهي آراء شخصيّة لا تمثل رأي الطائفة .
وتلخّص : أنّ مذهب الشيعة عدم تحريف القرآن بمعنى النقيصة في ألفاظه ،
____________
(1) طبقات ابن سعد 2 : 238 ، الاصابة 4 : 503 ، المستدرك 2 : 466 ، الصواعق 1 : 127 ، كنز العمال 6 : 405 ، فيض القدير 3 : 46 ، الرياض النضرة 2 : 188 .
(2) طبقات ابن سعد 2 : 228 ، كنز العمال 6 : 396 ، الصواعق : 12 .
(3) حلية الأولياء 1 : 65 .
(4) المناقب : 314 .

( 150 )

وقد اعترف بذلك الشيخ عبدالعزيز الدهلوي (1) والشيخ رحمة الله الهندي (2) وغيرهما من أعلام أهل السنّة ، وهذا هو الذي ينسب إلى أئمتنا عليهم السّلام وعلى رأسهم أمير المؤمنين الذي قال : « إنا لم نحكّم الرجال وإنّما حكّمنا القرآن ، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين ، لا ينطق بلسان ولا بدّ له من ترجمان » .
فلننظر ما هو رأي غيره عليه السّلام من الصحابة ، وما رأي شيعتهم المنعكس في صحامهم ومسانيدهم وكتبهم المعتبرة ، في الباب الثاني .
____________
(1) التحفة الاثنا عشرية : 139 .
(2) إظهار الحق 2 : 89 .